فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


الم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل
بينات من الايات

[1] كثيرة عبر التاريخ التي لا تزال آياتها مرسومة على صفحات الزمن و في ذاكرة الأجيال ، ولكن قليل هم الذين ينسلون من ضوضاء حاضرهم الى كهف التاريخ ليدرسوه بإمعان ، و يعبروا بحوادثه ، و كانت قصة الفيل الذي أناخ بالمغمس من أطراف مكة ففزعت منه قريش ، ولاذت بالجبال فرارا ، كانت لا تزال عالقة في أذهان أهل مكة ، حتى قيل : أن بعض من رافقوا حملة أبرهة المشؤوم كانوا لا يزالون أحياء ، بيد أن قريشا التي أمنها الله من تلك الداهية كفرت بأنعم الله ، و جحدت آياته ، و جاء الوحي يذكرهم قائلا :

[ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ]

قد تكون الحادثة التاريخية شديدة الوضوح الى درجة تكاد ترى ، و لا تحتاج منا الى ان نتوجه اليها بأعين بصيرة ، و هكذا يبدو أن الرؤية هنا جاءت بمعنى العلمبها ، و النظر الى آثارها ، و سماع أنبائها مما يجعلك كأنك قد رأيتها .

و قد تجلت عظمة الله في ردع أكبر حملة قادها الأعداء ضد مكة ، و بفعل خارج عن ظاهر السنن الجارية ، حيث دمرهم بطير أبابيل .

[2] لقد عبؤوا طاقاتهم ، و جندوا اثني عشر ألفا بأفضل عتادهم - حسب التواريخ - و كان الفيل الذي استقدموه لإثارة الهيبة سلاحا جديدا في محيط الجزيرة العربية . زعمت العرب الا قبل لهم به ، و لكن الله أضل كيدهم ، و أفشل خطتهم ، فلم يحققوا به الغاية المطلوبة .

[ ألم يجعل كيدهم في تضليل ]

قال بعضهم : تضليل كيدهم بمعنى فشلهم في هدم الكعبة ، و تصفية آثار الحنفية الإبراهيمية ، و توجيه العرب الى بيت جديد كان أبرهة قد بناه في اليمن .

و لكـن السؤال : كيف أضل الله كيدهم ؟ هل بفعل طير الأبابيل فقط أم بأمر آخر ؟ يبدو أن الآية تشير الى حادثة أخرى لم يذكرها المفسرون ، و لعلهم ابتلوا بأمراض فتاكة كالجدري ، أو وقعت بينهم الفتنة ، أو ضلوا السبل أو ما أشبه ، أو أصيب فيلهم بعاهة بسبب اختلاف المناخ ، وقد أشارت الروايات التاريخية الى بعض هذه القضايا .

[3] ولا ريب ان أخطر ما أصابهم وقضى على حملتهم ، كانت الطير التي قدمت عليهم - حسب التاريخ - من ناحية البحر لم تعرفها المنطقة ، فرمتهم بحجارة قاتلة .

[ و أرسل عليهم طيرا أبابيل ]


لم تخطأهم الطير بل اتجهت مباشرة اليهم ، و كانت تتلاحق عليهم أسرابا فأسرابا ، و هذا ما فسرت به كلمة أبابيل ، قالوا : تعني مجتمعة ، و قيل : متتابعة ، و قيل : متفرقة ، تأتي من كل ناحية ، و أصل الكلمة من قولهم : فلان يؤبل على فلان أي يعظم عليه و يكثر، و اشتقاقها من الأبل .

[4] بعد ان انتشرت فوقهم الطير كسحابة سوداء ، أخذت تمطرهم بحجارة قاتلة ، قالوا : كان كل طير يحمل ثلاث أحجار : واحدة في منقاره و اثنتان بين أرجلها ، و كانت الحجارة إذا أصابت جانبا من أبدانهم فرقته و خرجت من الطرف الآخر ، فاذا أصابت بيضة الرأس أخترقتالدماغ و خرجت من الدبر ، وقال بعضهم ، إذا أصاب الحجر أحدهم من الجدري لم ير قبل ذلك ، وقال ابن عباس : كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده ، فكان ذلك أول الجدري .

[ ترميهم بحجارة من سجيل ]

قالوا : الحجارة من طين ، طبخت بنار جهنم ، وقال بعضهم : السجيل : أصله السجين ، و أبدلت النون لاما ، ولا يبعد لك إذا كانت الكلمة معربة للتساهل فيما عربت من الكلمات ، وقال بعضهم ، بل السجيل من السجل حيث كتب عليهم ذلك ، و الأول أقرب .

ولعل الحجارة كانت مسمومة أو تحمل جراثيم أمراض فتاكة كالجدري ، حسبما نقرء في التفاسير كما جاء في حديث مأثورعن الامام الباقر - عليه السلام - عن قوم كانوا يقطعون السبيل ، و يأتون المنكر : " ... مع كل طير ثلاثة أحجار : حجران في مخالبه ، و حجر فيمنقاره ، فجعلت ترميهم بها حتى جدرت أجسادهم ، فقتلهم الله عز وجل بها ، وما كانوا قبل ذلك رأوا شيئا منذلك الطير ولا من الجدر " (1) .

[5] يبــدو أن مرض الجدري قضى على خلايا جسدهم ، حتى غدوا كالقشور البالية .

[ فجعلهم كعصف مأكول ]

قالوا : جعلهم الله كورق الزرع إذا أكلته الدواب فرمت به من أسفل ، ذلك أن العصف عندهم : ورق الزرع ، كجلب القمح و الشعير ، و قال بعضهم : العصف المأكول : الورق الذي أكل لبه و رمي قشره .


قصة أصحاب الفيل :

اهتمت قريش بقصة أصحاب الفيل ، حيث أنها كانت تتخذ من هذه الواقعة ذريعة لسيطرتهــا على أهل الجزيرة ، و لذلك جعلوها بداية لتاريخهــم ، و قد كانت ولادة النبــي - صلى الله عليه وآله - في ذات السنة حسب أشهر الروايات ، فأضفى عليها صبغة شرعية ، وقد ذكرواتفاصيل كثيرة فيها اختلافا واسعا ، و نذكرها : جاء في مجمع البيان ما نصفه :

أجمعت الرواة على ان ملك اليمن الذي قصد هدم الكعبة هو أبرهة بن الصباح الأشرم ، و قيل : أن كنيته ابو يكسوم ، ثم أن أبرهة بني كعبة باليمن ، و جعل فيها قبابا من ذهب ، فأمر أهل مملكته بالحج اليها يضاهي بذلك البيت الحرام ، وأن رجلا من بنـي كنانة خرج ، حتى قدم اليمن ، فنظر اليها ، ثم قعد فيها - يعني لحاجة الانسان - فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة فيها ، فقال : من اجترأ علي بهذا و نصرانيتي ، لأهدمن ذلك البيت حتى لا يحجه حاج أبدا ، و دعا بالفيل ، و أذن قومه(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 672 .


بالخروج ومن أتبعه من أهل اليمن ، و كان أكثر من أتبعه منهم عك و الاشعرون و خثعم ، ثم خرج يسير حتى إذا كان ببعض طريقه بعث رجلا من بني سليم ليدعوا الناس الى حج الذي بناه ، فتلقاه ايضا رجل من الحمس من بني كنانة فقتله ، فازداد بذلك حنقا ، و حث السير و الإنطلاق ، و طلب من أهل الطائف دليلا ، فبعثوا معه رجلا من هذيل يقال له : نفيل : فخرج بهم يهديهم ، حتى إذا كانوا بالمغمس نزلوه و هو من مكة على ستة أميال ، فبعثوا مقدماتهم الى مكة ، فخرجت قريش عباديد في رؤوس الجبال ، و قالوا : لا طاقة لنا بقتال هؤلاء ، و لم يبق بمكة غير عبد المطلب بن هاشم أقام على سقايته ، و غير شيبة بن عثمان بن عبد الدار أقام على حجابة البيت ، فجعل عبد المطلب يأخذ بعضادتي الباب ثم يقول :

لا هم ان المرء يمنع رحله فأمنع حلالك

لا يغلبو بصليبهم و محالهم عدوا محالك (1)

لا يدخلوا البلد الحرام إذا فأمر ما بدا لك

ثم أن مقدمات أبرهة أصابت نعما لقريش فاصابت فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، فلما بلغه ذلك خرج حتى أتى القوم - و كان حاجب أبرهة رجلا من الاشعرين و كانت له بعبد المطلب معرفة - فاستأذن له على الملك ، و قال له : أيها الملك ! جاءك سيد قريش الذي يطعم أنسها في الحي و وحشها في الجبل ، فقال له : ائذن له - و كان عبد المطلب رجلا جسيما جميلا - فلما رآه أبو يكسوم أعظمه ان يجلسه تحته ، و كره ان يجلسه معه على سريره ، فنزل من سريره ، فجلس على الارض ، و أجلس عبد المطلب معه ، ثم قال : مـــا حاجتك ، قال :
حاجتي مائتا بعير لي أصابتها مقدمتك ، فقال أبو يكسوم : والله لقد رأيتك فأعجبتني ، ثم تكلمت فزهدت فيك ، فقال : ولم أيها الملك ؟ قال : لأني جئت الى بيت عزكم و منعتكم(1) الحلال : القوم الحالون في المكان و المحال : التدبير و القوة .


من العرب و فضلكم في الناس ، و شرفكم عليهم ، و دينكم الذي تعبدون فجئت لأكسره و أصيبت لك مائتا بعير فسألتك عن حاجتك فكلمتني في إبلك ولم تطلب إلي في بيتكم ! فقال له عبد المطلب : أيها الملك ! أنا أكلمك في مالي و لهذا البيت رب هو يمنعه ، ليست أنا منه في شيء ، فراع ذلك أبا يكسوم ، و أمر برد إبل عبد المطلب عليه ، ثم رجع و أمست ليلتهم تلك الليلة كالحة نجومها ، كأنها تكلمهم كلاما لاقترابها منهم ، فأحست نفوسهم بالعذاب ، و خرج دليلهم حتى دخل الحرم و تركهم ، و قام الاشعرون و خثعم فكسروا رماحهم و سيوفهم ، و برؤا الى الله ان يعينوا على هدم البيت ، فباتوا كذلك بأخبث ليلة ، ثم أدلجوا بسحر ، فبعثوا فيلهم يريدون أن يصبحوا بمكة ، فوجهوه الى مكة ، فربض ، فضربوه ، فتمرغ ، فلم يزالوا كذلك حتى كادوا أن يصبحوا ، ثم إنهم أقبلوا على الفيل ، فقالوا : لك الله ان لا نوجهك الى مكة ، فانبعث فوجهـوه الــى اليمن راجعا ، فتوجه يهرول ، فعطفوه حين رأوه منطلقا ، حتى إذا ردوه الى مكانه الأول ربض ، فلما رأوا ذلك عادوا الى القسم ، فلم يزالوا كذلك يعالجونه حتى إذا كان مع طلوع الشمس طلعت عليهم الطير معها الحجارة ، جعلت ترميم و كل طائر في منقارة حجر ، و في رجليه حجران ، وإذا رمت بذلك مضت و طلعت أخـــرى ، فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلا خرقه ، ولا عظم إلا أوهاه و ثقبه ، و ثاب أبو يكسوم راجعا قد أصابته بعض الحجارة ، فجعل كلما قدم أرضا انقطع له فيها أرب ، حتى إذا انتهى الى اليمن لم يبق شيء إلا باده ، فلما قدمها تصدع صدره و انشق بطنه فهلك ، و لم يصيب من الاشعريين و خثعم أحد ، و كان عبد المطلب يرتجز و يدعوا على الحبشة يقول :

يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكاان عدو البيت من عاداكا انهم لم يقهروا قواكا (1)(1) مجمع البيان / ج 10 - ص 540 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس