أرأيت الذي يكذب بالدين
بينات من الآيات [1] تلك الصفات التي تسوقها سورة الماعون هل تؤخذ مفردة أم جميعا ؟ نقل عن بعضهم الثاني ، فالمكذب بالدين هو الذي يجمع الصفات الثلاث ، وهذا هو الظاهر ؛ لان صفات الشر تتداعى كما تتداعى صفات الخير ، و هكذا تعرفنا السورة الكريمة بالذين يكذبون بالدين من هم ، حتى نتقي تلك الصفات وما يؤول اليها من التكذيب بالدين .
[ أرايت الذي يكذب بالدين ]
هل رأيته بشخصه و عرفته بصفاته ؟ و الدين هو الجزاء ، و قيل : بل الاسلام و القرآن ، و لكن محور اي دين هو الايمان بالجزاء ، الذي ينعكس على النفس بالإحساس بالمسؤولية ، وهو معنى الدين بمعناه الشامل .
[2] الايمان بالدين يزكي نفس الانسان ، و يخرجها من شحها و ضيقهاو جهلها ، و يستثير فيها فطرة الحب ، و بواعث الخير ، و حوافز المعروف ، و يجليها بالعواطف الجياشة تجاه المستضعف و المحروم ، بينما الذي يكذب الدين تراه يدع اليتيم ، ذلك الطفل البريء الذي حرم حب والده ( او والدته ) و حنانه و عواطفه .
[ فذلك الذي يدع اليتيم ]
قالوا : الدع : الطرد و الدفع بعنف وقوة ، وهو يكشف عن قسوة القلب ، و تبلد العاطفة ، و قد لا يطلب اليتيم منهم شيئا سوى الترحم حتى يستعيض به ما فقده من بركات والده ، و لكن القلب القاسي الذي يتمحور حول المصالح لا يجد باعثا لاستقبال اليتيم ، لانه لا يتوقع من ورائه مصلحة دنيوية عاجلة .
وقد حض الاسلام على احترام اليتيم و ايوائه ، حتى روي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - : " من ضم يتيما من المسلمين حتى يستغني فقد وجبت له الجنة " (1) .
[3] من أسوء ما يبتلى به الذي يكذب الدين مسخ الشخصية ، و انتكاسة الفطرة ، فتراه لا يتأثر بمنظر المسكين الذي يتضور جوعا ، ولا يحض أحدا على توفير نصيبة من الطعام ، انه لم يعد انسانا ينبض قلبه بحب نظرائه من البشر .
[ و لا يحض على طعام المسكين ]
قالوا : الحض بمعنى الترغيب ، و قال بعضهم ، الطعام هنا بمعنى الإطعام ، و قال بعضهم : بل الطعام بمعنى ما يستحقه اليتيم من الطعام ، إشارة الى انه من حقهم و من مالهم ، كما قال ربنا سبحانه : " و الذين في أموالهم حق معلوم للسائل و المحروم " (2) .
(1) القرطبي / ج 20 - ص 211 .
(2) المعارج / 25 .
و هكذا لا يعتبر اطعام المسكين سوى رد حقه اليه ، و على المجتمع ان يكون شاهدا على ذلك و رقيبا ، كما يراقب وضع السلطة و الأمن و الاقتصاد ، و كما يشهد على سائر الحقوق ان ترد الى أهلها ، ومن لم يقم بشهادته ، و ترك المسكين يتضور جوعا فانه يستحق القعاب ،لانه ساهم في إفساد المجتمع ، و نشر الفقر في أرجائه ، كالذي يرى الطاعون ينتشر بين الناس فلم يمنعه وهو قادر على المنع ، او يترك الأسد ينهش طفلا فلا يردعه ، او يترك الصبي يتردى ، و الأعمى يصطدم و لا يحرك ساكنا .
ومن هنا يصبح الحض على طعام المسكين واجبا بحد ذاته و تركه حراما ، وهو واجب يشترك في مسؤوليته القادر على إطعام المسكين و غير القادر عليه .
[4] و طعام المسكين أبرز مصاديق الزكاة ، و الزكاة عدل الصلاة ، و عادة ما يذكران معا في القرآن ، بيد ان الصلاة ليست مظهرا خارجيا من مظاهر الدين ، بل هي قبل ذلك صلة العبد بالرب ، فالذي يفسد هذه الصلة بالرياء ، و يستخدم أقدس مقدساته في أمور الدنيا فانله الويل و اللعنة .
[ فويل للمصلين ]
الذين اتخذوها وسيلة الدنيا ، وهي معراج الآخرة ، و هكذا تساهلوا فيها .
[5] فتراهم ينشطون الى الصلاة في الملأ ، و يسهون عنها في الخلاء ، و الصلاة حقا هي التي تبتلك عن الخلق الى الخالق ، وعن الدنيا الى الآخرة ، وعن الجسد الى الروح ، و المؤمن ينبعث اليها في الخلوات في رحم الظلام عند سبات الطبيعة ، حينما تحلو المؤانسة معخير الذاكرين ، و المناجاة مع رب العالمين ، بينما المنافق يسهو عنها عندئذ و يخلو الى الغفلة و اللذة و وساوس ابليس .
[ الذين هم عن صلاتهم ساهون ]
ومن أبعاد السهو عن الصلاة تأخيرها عن وقتها لغير عذر ، هكذا روي في حديث مأثور عن الامام الصادق - عليه السلام - قال : " تأخير الصلاة عن أول وقتها لغير عذر " (1) .
و روي عن الامام أمير المؤمنين - عليه السلام - " ليس عمل أحب الى الله عز وجل من الصلاة ، فلا يشغلنكم عن أوقاتها شيء من أمور الدنيا ، فان الله - عز وجل - ذم أقواما فقال : " الذين هم عن صلاتهم ساهون " يعني انهم غافلون ، استهانوا بأوقاتها " (2)
[6] و الصلاة تمد المسلم بزاد الايمان الذي يحتاج اليه في كل شؤون الحياة ، و من اتخذها هزوا ، أو عملها رياءا فقد أفنى زاده و هلك .
[ الذين هم يراءون ]
[7] و الصلاة الحقيقية تحرر الانسان من شح ذاته ، فتكون يده سخية ، ينصر المظلوم ، و يعين المحروم ، بينما الذي يرائي في صلاته يمنع أبسط الحقوق المفروضة عليه .
[ و يمنعون الماعون ]
قالوا الماعون : أصله المعنى وهو القليل ، ومعناه كل ما فيه منفعة ، وقالوا : انه ما يتعاوره الناس بينهم من الدلو ، و الفاس و القدر ، و مالا يمنع كالماء و الملح (3) .
(1) الميزان / ج 20 - ص 368 .
(2) المصدر / ص 369 .
(3) جاء في مجمع البيان انه روي مرفوعا عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - المصدر / ج 10 - ص 548 .
و جاء في الحديث عن الامام الصادق - عليه السلام - انه قال : " هو القرض تقرضــه ، و المعــروف تصنعه ، و متاع البيت تعيره ومنه الزكاة " ( قال الراوي ) فقلت : ان لنا جيرانا إذا أعرناهم متاعا كسروه و أفسدوه ، فعلينا جناح ان نمنعهم ؟ فقال : " لا . ليس عليك جناح ان تمنعهم إذا كانوا كذلك " (1)و بالرغم من أنهم ذكروا اثنتي عشر قولا ، فان الأقوال تعود جميعا الى أمر واحد هو المعروف كله ، و لكن يبدو انه المعروف الذي يعتبر الذي يمنعه خسيسا و منبوذا اجتماعيا ، لانه من النوع الذي يقارن فيه الناس عادة ، مثل إعارة الظروف ، و إعطاء النار و الملحو ما أشبه .
و السورة - عموما تدل على ان مكارم الاخلاق ميراث التصديق بالدين ، كما ان التكذيب بالدين يورث الرذائل التي يرفضها العقل و العرف ، فترى الساهين عن الصلاة يمنعون عن الآخرين حتى الماعون الذي يتبادله الناس بينهم .
(1) المصدر .
|