فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


لكم دينكم ولي دين
بينات من الآيات

[1] هناك حقائق تكفينا معرفتها و وعيها و العمل بها ، بينما لا يكفي ذلك في حقائق أخرى مثل نفي الشركاء إذ لابد في مثلها من البراءة عنهم ، والكفر الصريح بهم ، و تحدي سلطانهم الثقافي و السياسي و الاجتماعي حتى يخلص ايمان لعبد ، و لذلك جاءت بعض آيات التوحيد متوجة بكلمة " قل " التي تطالبنا بموقف واضح فاصل حاسم من الشركاء ، اي من القوى الجاهلية التي تتسلط على رقاب العباد ، و من القيم الفاسدة التي تتحس في النفس ، و من السلوك الفاسد الذي يصبغ حياة الناس .

[ قل ]

بكل وضوح ، لان كلمة الرفض قد تكون أشد من الرفض ذاته ، لانها تشجع الآخرين عليه ، الا ترى كيف ان الكثيرين قد يعارضون حكومة جبار في السر ،و لكن القليل منهم يعلنون لافضهم له إعلانا . و الله يأمرنا بإعلان الرفض وفي صيغة خطاب موجه الى الكافرين جميعا ، الغائبين منهم و الحاضرين .

[ يآ أيها الكافرون ]

انها الشهادة التي أمرنا بها ، و التي نرددها من أعلى المنابر ، في مواقيت الصلاة و عند خواتيم الفرائض ، الشهادة بالتوحيد التي تعني صراحة رفض الانداد و الشركاء ، كما تعني الحضور في ساحة المواجهة ضد هؤلاء الشركاء ثم الصراع الشامل معهم ، ذلك ان الشركاءليسوا اشباحا أو نظريات ، أنهم حقائق ثقيلة تمشي على الارض بالجبروت و الفساد ، فالشهادة على رفضهم تعني الحضور في سوح الصراع معهم .

[2] و رفض المجتمع الجاهلي ، و هدم كيانه الظالم لا يكون إلا برفض مقدساته و قيمه ، وما يعبدونه من دون الله ، رفض تقديس الآباء الذي يعني الجمود و التقليد و الاسترسال ، رفض تقديس الارض و المصالح العشائرية و الطائفية و الحزبية و الاقليمية و القومية ، رفض الثقافات و الشرائع الباطلة التي اضفوا عليها القداسة . كلا ..

[ لا أعبد ما تعبدون ]

ذكر الرواة : ان سادة قريش لقوا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالوا : يا محمد ! هلم فلنعبد ما تعبد ، و نشترك نحن و أنت في أمرنا كله ، فان كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شاركناك فيه و أخذنا بحظنا منه ، وان كان الذي بأيدينا خيرا ممابيدك كنت قد شركتنا في أمرنا و أخذت بحظك منه ، فأنزل الله عز و جل " قل يا أيها الكافرون " (1) و أضيف - في رواية أخرى - فيئسوا منه ،(1) القرطبي / ج 20 - ص 225 .


و آذوه و آذوا أصحابه .

و معروف : ان الآية أوسع دلالة من تلك الواقعة ، فان نفي عبادة الرسول لما يعبدون يشمل تحديه لمجمل قيهمه الجاهلية ، و كياناتهم الظالمة .

و كلمة " ما " في قوله : " ما تعبدون " يشمل كل شيء يعبد من دون الله ، سواء تمثل في أشخاص أو أصنام أو قيم وهكذا كان نفي " ما " أشد وضوحا و أشمل من نفي " من " و تدل على غير العاقل .

[3] هل يشترك الكافرون في أمر العبادة مع المؤمنين شيئا ؟ كلا .. انهم يعبدون إلها يختلف كليا عن رب العالمين الذي يعبده المؤمنون . أولئك يعبدون ربا عاجزا أمام قوة الشركاء ، محتاجا الى دعم الأنداد ، لا يهيمن على تدبير الكائنات ، بينما المؤمنون يعبدون ربا قويا مقتدرا ، لا يعجزه شيء ، ربا جبارا مهيمنا مدبرا .

فليس ما يعبده الكافرون هو ما يعبده المؤمنون ، بل إنه لمختلف جدا .

[ ولا أنتم عابدون ما أعبد ]

و أنى لقلب واحد ان يجتمع فيه معرفة الله المتكبر الجبار مع الايمان بالجبت و الطاغوت ، أو هل يجتمع النور و الظلام ؟!

[4] و الذي يعبد الجبت و الطاغوت و لا يتحدى سلطة المستكبرين ، و قيم الجاهلين لا يكون عابدا لله ، و حاشا رسول الله و لمن اتبع هداه ان يختاروا الكفر بعد الايمان ، و الضلال بعد الهدى ، حتى لو تعرضوا الألوان العذاب .

[ ولا أنا عابد ما عبدتم ]


ان من علامة صدق الايمان ، وأنه وقر مستقر في فؤاد صاحبه أنه يعقد عزمات قلبه على تحدي كل الضغوط في سبيله حتى يأتيه اليقين ، فيلقى ربه بايمان لا ظلم فيه ، و اسلام لا استكبار معه .

و إلا فان كل الناس حتى أسوأ الجاحدين يمرون عادة بلحظات ايمانية ، أوليسوا يولدون على فطرة الايمان ، أو لا ترى كيف يجأرون الى ربهم في البأساء و الضراء ؟ بلى . و لكنهم سرعان ما يشركون بربهم بسبب الشهوات ، أو ضغط الطغاة و المجتمع الفاسد .

[5] و كذلك يتمايز خط الايمان و الشرك و لن يلتقيا على محور واحد ، فلا ترى أحدا من الكفار بالله أبدا عابدا له ، كيف وأن أول ما يأمر به الله هو الكفر الطاغوت و مقاومة الجبت .

[ و لا أنتم عابدون ما أعبد ]

أي أنهم حال شركهم بالله ليسوا من الله في شيء ، لأن الشرك حجاب بين الانسان و ربه ، حجاب في القلب و حجاب في السلوك ، و إنما تتجلى قيمة الايمان في كبح جماح التكبر في النفس ، و كبح جماح المستكبرين في المجتمع ، ليتحرر الانسان من الجبت و الطاغوت ، و يعود الى نور عقله و صفاء فطرته ، و يمضي قدما في تسخير الطبيعة في الدنيا ، و ابتغاء مرضاة الله و نعيم الجنة .

أما المستسلم للضغوط ، المسترسل مع شهوات النفس و أهواء المتجبرين ، فإنه ليس بمؤمن بالله .

أوليس الايمان بالله يعطي الانسان بصيرة و عزما ، و حكمة و شجاعة ، عقلاو توكلا ؟ و هل يمكن لمن أوتي تلك الصفات المثلى ان يتبع هواه و يطيع الطغاة ؟

[6] و هكذا استبـان طريق الضلال عن سبيل الله ، و دين الكفار عن دين الحق .

[ لكم دينكم ولي دين ]

و الدين هو المنهج المتكامل الذي يلتزم به الانسان في حياته ، و لا يجتمع منهج الله مع منهج الشرك ، و قال بعضهم : الدين هنا بمعنى الجزاء ، فمعناه : أن لكل شخص جزاء عمله و عبادته . أن خيرا فخير وأن شرا فشر . و المعنى الأول أوفق مع السياق ؛ لأن جوهر الدين العبادة ، فمن عبد الله دان بدينه ، و من عبد الشركاء دان بدينهم .

و هذه البراءة الصريحة من دين الشرك هي التــي ميزت دين الله عن دين الأدعياء ، و ميزت عباد الله عن عبد الطاغوت ، و ميزت خط الرسالة الأصيل عن سبل الضلال .

ان المشركين و المستكبرين و المترفين حاولوا عبر التاريخ التقاطع مع المؤمنين الصادقين بالترغيب و الترهيب فلم يفلحوا ، و كان هدفهم استخدام اسم الدين و شعاراته لتمرير فسادهم و ظلمهم ، و إضفاء الشرعية على تجبرهم و استغلالهم ، ولقد بقي رجال الله المخلصون صامدين أمام تلك المحاولات بتوفيق الله ، و بالرغم من تعرضهم لشتى الوان الأذى .

و جاءت هذه السورة التي استفاضت على أهميتها النصوص الشرعية ، وثيقة براءة من المشركين ، و سدا منيعا أمام محاولاتهم التأثير في التجمع الايماني .


و انما تكررت آيات النفي لتأكيد هذه البراءة و ذلك الفصل ، و من عادة العرب التكرار للتأكيد و أنشدوا للشاعر :

يــا أقرع بن جامس يا أقرع إنــك إن يصــرع أخــوك تصـــرعو هكذا جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق - عليه السلام - عن سبب نزولها و تكرارها : " ان قريشا قالت لرسول الله تعبد آلهتنا سنة و نعبد إلهك سنة ، و تعبد آلهتنا سنة و نعبد إلهك سنة فأجابهم الله بمثل ما قالوا ، فقال قالوا : تعبد آلهتنا سنة " قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون " . و فيما قالوا : نعبد إلهك سنة : " ولا أنتم عابدون ما أعبد " و فيما قالوا تعبد آلهتنا سنة : " ولا أنا عابد ما عبدتم " و فيمــا قالوا : و نعبد إلهك سنة : " ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين " (1) .


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 688 .

فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس