سبح بحمد ربك و استغفره
بينات من الآيات [1] و تتظاهر القوى السياسية و الاقتصادية و الاعلامية ضد الرسالة و يحاصرونهم من كل صوب ، و تضيق بهم السبل ، و يلقي الشيطان وساوسه في أفئدتهم ، و يظنون بالله الظنون ، و يطول ليل الانتظار ، و ينادي الجميع : متى نصر الله ؟
و جاء نصر الله ، يسعى اليهم من ضمير الغيب ، حيث يعرف المؤمنون بوعيهم السياسي و الحركي ، و ببصائر قلوبهم العارفة أنهم كانوا أعجز من اقتناص النصر بقواهم الذاتية ، و انما هو نصر الله الذي هزم عدوهم بالرعب ، و أيدهم بالثبات و الاستقامة ، و ألف بين قلوبهم بالايمان .
و أتبع الله النصر بنصر آخر ، و تلاحقت الانتصارات حتى جاءهم الفتح المبين ، هناك بلغ المؤمنون أعظم أمانيهم ، حيث رأوا الناس يدخلون في دين اللهأفواجا .
ثم يعاني الداعية حين يرى الناس في ضلال مبين ، و يجد القوى الجاهلية تقف حاجزا دون انتشار هدى الدين الى القلوب المظلمة ، و ربما بلغ الحزن ببعض الدعاة ان يموتوا كمدا ، و لهذا ينهى الله رسوله من ذلك بقوله سبحانه : " فلعلك باخع نفسك على آثارهم انلم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " (1) .
و اليوم يعمهم الفرح حين يرون كيف تساقطت الحواجز و انتشر نور الهدى .
[ إذا جآء نصر الله و الفتح ]
قالوا عن هذا النصر : إنه نصر الله رسوله على قريش في المعارك التي دارت بينهم ، و قيل : بل نصره على سائر الكفار ، أما الفتح ، فقالوا : أنه فتح مكة ، وهذا يتناسب وما جاء في وقت نزول السورة ، حيث روي : أنها نزلت بعد فتح مكة ، و ذكر في حديث آخر : انها آخر سورة نزلت على الرسول ، فقد جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق - عليه السلام - انه قال : " أول ما نزل على رسول الله " بسم الله الرحمن الرحيم * إقرأ باسم ربك " و آخره " إذا جاء نصره الله " (2) و قيل : إنها نزلت بمنى في حجةالوداع (3) .
و قد كانت تسمى هذه السورة بسورة التوديع لانها - حسب الرواية التالية - نعت الى الرسول نفسه ، هكذا يقول ابن عباس : لما نزلت " إذا جاء نصر الله و الفتح " قال - صلى الله عليه وآله - نعيت الي نفسي بأنها مقبوضة في هذه السنة . (4)(1) الكهف / 6
(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 660 .
(3) المصدر نقلا عن تفسير علي بن ابراهيم .
(4) المصدر / ص 689 .
و ربما السبب في ذلك ان السورة قد أوحت اليه ان مسؤولية الرسول كمبلغ و داعية الى الله قد أكملت ، لذلك كان عليه ان يستعد للرحيل .
[2] النصر أو الفتح ليسا هدفا بذاتهما عند المؤمنين ، انما وسيلة الى هدف أسمى هو هداية الناس الى نور الرسالة .
[ و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ]
فعندما تهاوت حجب الضلال و رأى النـــاس نور الدين فوجدوه دين الفطرة و العقل ، دين الحكمة و السماحة دخلوا فيه فوجا بعــد فوج ، يقود كل فوج إمامهم و داعيتهم ، و السابق منهم اليه ، و قد قال المفسرون : انها نزلت في أهل اليمن الذين توافدوا على النبي - صلى الله عليــه و آله - افواجا ، تقـــول الروايــة المأثورة عن ابن عباس : ان النبي - صلى الله عليه وآله - قرأ " إذا جاء نصر الله و الفتح " و جاء أهل اليمن رقيقة أفئدتهم ، لينة طباعهم ، سخية قلوبهم ، عظيمة خشيتهم ، فدخلوا في دين الله أفواجا ( 1) .
و هكذا انتشر نور الاسلام بعد فتح مكة في كافة أرجاء الجزيرة العربية ، و بدأ المسلمون يتحفزون للإنبعاث الكبير في أرجاء الارض .
و تهـدينا بصائر هذه السورة و هدى سيرة النبي و عبر تاريخ الحركات الدينية : أن علينا ان نعقد العزم على تحطيم قلاع الكفر المتقدمة قبل نشر الرسالة ، فما دامت تلك القلاع تدافع عن قيم الجهل و التخلف ، و تمنع الناس بالترهيب و التضليل و الترغيب عن التغييرو الاصلاح ، لا ينفع التبليغ و التبشير كثيرا ، ومن أجل هذا قاتل كثير من الأنبياء و الربانيون ، ومن أجل هذا جاهد الرسول الأكرم ، و من(1) القرطبي / ج 20 - ص 230 .
أجل هذا ينبغي ان يجاهد و يقاتل كل مبلغ و داعية من يقف دون انتشار الدين .
[3] لان النصر من عند الله ينبغي ان نشكر الله عليه ، و نسبحه و نقدسه ، و نطهر بذلك أفئدتنا من تلك الوساوس الشيطانية التي أصابتها أيام المحنة ، فزعم البعض : ان الله تعالى قد أخلف وعده ، أو انه سبحانه لم يقدر على النصر أو ما أشبه ، مما يعبر عنه القرآن الكريم بالزلزلة حيث يقول : " و زلزلوا حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه متى نصر الله الا ان نصر الله قريب " (1) .
وها هـــو النصر قد أقدم ، فلنغسل بمياهه المتدفقة آثار الهزيمة ، و لنسبح الله .
ثم ان للنصر كما للهزيمة آثارا سلبية كالغرور و التكبر و التعالي و التطرف ، و عبر الايمان بالله ، و المزيد من اليقين يمكن السيطرة على تلك الصفات .. من هنا أمر الله بالتسبيح و الحمد و قال :
[ فسبح بحمد ربك ]
ثم ان المؤمن يتخذ من كل حادثة أو ظاهرة معراجا لروحه ، و وسيلة لتكامل نفسه ، و تنامي صفات الخير فيها ، و النصر واحد من أشد الحوادث أثرا في النفس البشرية ، و لذلك يتخذه المؤمن وسيلة للتعرف على ربه ، و التقرب إليه .
و التسبيح تقديس الله عن صفات المخلوقين وعن إحاطة علمهم به ، بينما الحمد نعت لله بالأسماء الحسنى وما فيها من صفات الجلال و الجمال ، و يقدم التسبيح على الحمد لان إثبات صفة لله قد يوحي ببعض آثاره السلبية ، فاثبات القدرة قد توحي بالظلم ، و إثبات الرحمة قد توحي بتجاوز الحكمة ، بينما ربنا مقتدر عدل و رحيم حكيم .
(1) البقرة / 214 .
[ و استغفره إنه كان توابا ]
و يبقـى طريق الكمال مفتوحا أمام الانسان ، و تبقى تطلعاته الى التسامي مشروعة ، و الاستغفار أقرب وسيلة الى تحقيقها ؛ لانه يوقف الانسان على نقاط ضعفه ، و مواقع عجزه ، و يحسسه من جهة بمدى حاجته الى الكمال . ومن جهة أخرى بإمكانية ذلك .
و حينما يحس الانسان بضعفه و عجزه و درجات قصوره و تقصيره يعتريه شعور عميــق باليأس من إصلاح نفسه لولا التوجه الى الله ، و التذكر بأنه تواب رحيم .
و حينما يستغفر المنتصر ربه لا يخضع لحب الانتقام من أعدائه الذين انتصر عليهم ، بل يتحلى بروح التسامح و العفو ، أوليس يطلب الغفران من ربه و العفو ، إذا فليعفو و ليغفر للمذنبين حتى يعفو عنه الله و يغفر له .
|