فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


تبت يدا أبي لهب و تب
بينات من الآيات

[1] كان من أشراف قريش ، انتقلت اليه زعامة بني هاشم بعد أخيه الراحل أبي طالب - عليه السلام - و كان عليه أن يجسد قيم آبائه و عشيرته الذين ورثوا حنفية إبراهيم الخليل - عليه السلام - و ان يدافع عن ابن أخيه حسب أعراف العرب العشائرية .

ولكنه - فيما يبدو - تحالف مع العشيرة المناوئة من بني أمية ، و ربما بسبب زوجته أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب ، او لانه كان ذا ثروة طائلة ، فمال الى الطبقة الأثرى في قريش ، أو لأي سبب آخر فقطع رحمه ، و انسلخ عن حسبه ، و عادى النبي بأشد ما تكون العداوة .

كان يمشي في طرقات مكة وراء النبي و يحذر الناس منه و مما يزعم .. انه ساحر ، و كان الناس يعلمون انه كبير بني هاشم و انه يصدق في أمرهم فيرجعوناليه ، و لكنه كان يخون موقعه ، و يتهم النبي بالكذب حينا و بالسحر حينا ، وقد يفحش له في القول و يقول : تبا له .

يقول بعض المفسرين : كان إذا وفد على النبي - صلى الله عليه وآله - وفد انطلق اليهم أبو لهب ، فيسألونه عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - و يقولون له : أنت أعلم به منا ، فيقول لهم أبو لهب : انه كذاب ساحر ، فيرجعون عنه ولا يلقونه ، فأتى وفد ، ففعل معهم مثل ذلك ، فقالوا : لا ننصرف حتى نراه و نسمع كلامه ، فقال لهم أبو لهب : إنا لم نزل نعالجه ، فتبا له و تعسا .

و كان هو و زوجته ينشدون شعرا بذيئا ضد النبي ، و يقولون :

مذمما عصينا و أمره أبينا و دينه قليناو في يوم الدار حيث جمع النبي عشيرته الأقربين لينذرهم حسب أمر الله له ، فلما طعموا و شربوا ، قال أبو لهب : سحركم محمد - صلى الله عليه وآله - إن أحدنا ليأكل الجذعة ( ولد الشاة فــي السنة الثانيـة ) و يشرب العس ( القدح الكبير ) من اللبن فلا يشبع ، وإن محمدا قد أشبعكم من فخذ شاة و أرواكم من عس لبن .

و في يوم الإنذار العام ، حينما صعد النبي - صلى الله عليه وآله - الصفا ، فهتف يا صباحاه ! فقالوا : من هذا الذي يهتف ؟ قالوا : محمد ، فاجتمعــوا اليه ، فقال لهم : " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟ " قالوا : ماجربنا عليك كذبا ، قال : " فاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " فقال أبو لهب ، تبا لك أما جمعتنا إلا لهذا ، ثــم قــام . هكذا أصبح عم النبي من أشد الناس عداوة له ، و أكثرهم إيذاء ، أوليس الناس يزعمون أنه أعرف بالنبي من غيره باعتباره عم النبي وسيد عشيرته ؟


و هكذا نزلت السورة الكريمة في شأنه أولا ليفصح للناس مدى عداوته للنبي ، فلا يعتبرونه خبيرا بشأنــه ، بل حسودا كنودا و عدوا لدودا ، و لا يأبهون بكلامه في حق النبي ، و ثانيا : لكي لا يزعم أحد ان قرابته للنبي تمنحه البراءة من النار ، و التحلل عن مسؤوليات الشريعــة ، فهذا عم النبي يختص بالتقريع ، و تنزل في ذمه سورة باسمه مما لا نجده في حق أي من أعداء النبي المعاصرين له .

[ تبت يدا أبي لهب ]

قالوا : تبت : أي هلكت ، أو خسرت ، أو خابت ، أو صغرت ، أو قطعت ، ولا بأس بتصور معنى جامع للكلمة تشتمل كل هذه المعاني .

و قالوا في كنية الرجل أنها كانت بديلا عن اسمه ، فلم يكن ذكر كنيته شرفا له بل ذما ، لأن اللهب يعني شرر النار ، و نعت أحد به لا يشرفه ، وقد جعله الله عليه لهبا يوم القيامة ، ثم ان اسمه كان عبد العزى ، و لم يكن مناسبا ذكر هذا الاسم في كتاب ربنا ، الذي يفيض بنور التوحيد و الحنفية الطاهرة .

[ و تب ]

هلك الرجل و خاب و خسر .

قالوا : الكلمة الأولى دعاء عليه ، و ذكر اليد إشارة الى الشخص ذاته ، و هكذا تكني العرب عن الشيء بجزء ، فتقول مثلا يد الرزايا ، أو يد الدهر ، أو ما أشبه ، قال الشاعر :

و لقــد مــررت علــى ديــارهم أطلالهـــا بيــد البــلا نهــبأما الكلمة الثانية " و تب " فهي خبر ، أي أن أبا لهب قد هلك فعلا ، و بذلكوقعت اللعنة المتوقعة عليه .

و يبدو لي ان الكلمة الأولى دعاء على صفقة يديه و ما تكسبه من فعل ، و الثانية عليه شخصيا ، او ان الثانية توضيح و تاكيد للاولى ، ذلك ان سبب هلاك الانسان ما تجنيه يده ، فاللعنة تتوجه اليها ، ثم اليه لانه المسؤول عن فعلهما ، و لعل في الآية الثانية إشارة الى ذلك .

[2] أبو لهب - كما سائر المستكبرين و المعاندين - يتكلون على أموالهم و إمكاناتهم في مواجهة الحق ، و لكن عندما يحين ميعاد الجزاء العادل لا يغني عنهم ذلك شيئا .

[ مآ أغنى عنه ماله وما كسب ]

فلا ثروته تغينه عن الله شيئا ، ولا ما اكتسبه بها و بغيرها من جاه و قوة ، و مكانة اجتماعية .

و هكــذا يكــون ما كسب أعم من المال ، لأن المال بدوره من مكاسب الفرد ، و قيل : ان " ما كسب " هو أولاده ، و لعل الولد يعتبر مما يكتسبه الانسان .

[3] كلا .. الناس تنتظره و سيصلاها ، ليتحسس مباشرة حرها و ألمها ، وإذا كان أبواه قد وجدوا في وجنتيه لهبا اجتذبهم حتى كنياه بأبي لهب ، فإن هذا الجمال الظاهري لم ينفعه ، بل تحول في العقبى الى نار لاهبة تحرقه .

[ سيصلى نارا ذات لهب ]

[4] و امرأة أبي لهب كانت أخت ابي سفيان ، و عمة معاوية ، و كانت - حسب الروايات - عوراء و لكنها سميت أم جميل ، و كانت بذيئة اللسان ،متكبرة ، و شديدة العداء للرسول و لدعوته ، كعداء أخيها أبي سفيان .

قالوا : أنها كانت بالغة الثراء ، و لكنها من بخلها و شحها كانت تحمل الحطب و لا تشتريه ، و ربما ألقت الأشواك في طريق النبي و سائر المسلمين إيذاءا لهم ، وهكذا ألحقها الله بزوجها .

[ و امرأته حمالة الحطب ]

و جاءت كلمة " حمالة الحطب " منصوبة للدلالة على ذمها ، وقد اختلفوا في تفسير الكلمة : هل نعتت بالبخل ، و كيف إنها تدعي الشرف ، و تحمل الحطب ؟ أو أنها ذمت لإلقائها الأشواك في طريق النبي ؟ أو لأنها كانت تمشي بالنميمة ، و العرب تسمي من يفعل ذلك بحامل الحطب لأنه يشعل نار الفتنة بين الناس ؟ و أنشدوا :

أن بني الادرم حمالوا الحطب هم الوشاة في الرضا و في الغضبو روي ان حمالة الحطب لما سمعت بنزول هذه السورة فيها و في زوجها ، قدمت على المسجد الحرام تقصد النبي الذي كان جالسا و معه ابن بكر بن أبي قحافة ، فقال : يا رسول الله ! هـــذه أم جميل محفظة ( أي مغضبة ) تريدك ، و معها حجر تريد ان ترميك به ، فقال - صلىالله عليه وآله - : " انها لا تراني " فقالت لأبي بكر : أين صاحبك قال : حيث شاء الله ، قالت جئته ولو أراه لرميته ، فانه هجاني ، و اللات و العزى إني لشاعرة ( و في رواية : إني لسيدة ) فقال أبو بكر : يا رسول الله ! لم ترك ؟ قال : " لا . ضرب الله بيني و بينها حجاب " (1) .

[5] وإن الفتاة لتتزين بقلادة من الدر و اللؤلؤ و سائر الأحجار الكريمة ، ولكنها(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 689 .


قد جعلت في عنقها حبلا من ليف النخل حينما احتملت حطبا و ألقته في طريق الرسول ، فهل يدل ذلك إلا على الخسة و الدناءة .

[ في جيدها حبل من مسد ]

قالــوا : الجيد : العنق ، و المسد : الليف ، و أنشدوا : ما مسد الخوص تعوذ مني .

و قال البعض : ان ذلك عذاب ، أوعدها الله أن يجعل في جيدها حبلا من ليف يوم القيامة ، لأنها أنفقت قلادة لها من جواهر في محاربة النبي .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس