فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


قل هو الله أحد
بينات من الآيات

[1] لا تستطيع الخروج من ظلمة الشرك لو لم تخرج من سجن الذات ، و معتقل هوى النفس ، وإذا أمعنت النظر لرأيت جذر كل كفر و شرك و عصيان حب النفس وهواها ، و حتى الذي يعبد الطغاة او الاصنام فانما يعبد هواه في صورة الطغاة ، و شهواته في هيكل الاصنام .

فاذا خرجت من حب الذات ، و تحديث ظلمات الهوى فانك تنطلق في رحاب التوحيد بإذن الله ، بلا قيود و بلا حدود .

كيف تخرج - إذا - من سجن الذات ؟ انما بتحدي إرهاب الطغاة ، و ضلالات المجتمع ، و خرافات الغابرين و ما لديهم من مقدسات زائفة .

و تاريخ الموحدين يختصر الصراع المرير بينهم و بين دعاة الشرك و الضلال .. ألم تقرأ نبأ النبيين و الصديقين كيف تحدوا ظلمات عصورهم بنور التوحيد .. كل ذلكالتاريخ الحافل تختصره في هذه السورة كلمة واحدة هي كلمة :

[ قل ]

ومن دون الاستجابة لهذا الأمر الصريح لن تستطيع التعالي في سماء التوحيد ، لان التوحيد ذاته كسر قيود الشرك ، و فك أغلال الضلال ، لابد ان تنهض إرادتك في ضميرك ، و تتبلور روح التحدي في عقلك ، و تنبعث فطرتك النقية الأولى من تحت ركام الجهل و الغفلة و النسيان ، لابد لك من ذلك كله إذا أردت معرفته ، و الزلفى اليه و رضوانه ، و جنته .

[ هو ]

انه الغيب الذي لا ولن تحيط به علما ، يكفيك من شعاع نوره قبس يغمر وجودك ثم لا تكاد تتحمله . انه الله الذي احتار فيه قلبك ، فهو قريب منه يراه في كل شيء ، و لكنه في ذات الوقت بعيد لا يعرف ذاته .

و جاء في حديث مأثور عن الامام الباقر - عليه السلام - في معنى " هو " قال : " اسم مشار ، و مكنى الى غائب ، فالهاء تنبيه عن معنى ثابت ، و الواو إشارة الى الغائب عن الحواس ، كما أن قولك " هذا " إشارة الى الشاهد عند الحواس " (1)

أنه الذي تهفوا اليه نفوسنا ، و تتعلق بحبه أفئدتنا و يهفوا الجميع الى قبسات وجهه الكريم ، و يتعطشون الى كأس محبته ، و ورد قربه .

أنه بكلمة واحدة " هو " نشير اليه دون أن نحدده أو نقيده ، أو ندعي معرفة(1) موسوعة بحار الانوار / ج 3 - ص 221 .


ذاته ، أو توهم إنيته و مائيته .

وقد روي أن عليا - عليه السلام - رأى خضرا - عليه السلام - في منامه قبل بدر بليلة يقول : " فقلت له : علمني شيئا أنصر به على الأعداء ، فقال : قل : يا هو ! يا من لا هو إلا هو ، فلما أصبحت قصصتها على رسول الله ، فقال لي : يا علي ! علمت الاسم الأعظم ، وكان على لساني يوم بدر " و أضافت الرواية : أن أمير المؤمنين - عليه السلام - قرأ " قل هــو الله أحــد " فلما فرغ قال : : يا هو ! يا من لا هو إلا هو ! إغفر لي ، و انصرني على القوم الكافرين " (1) .

[ الله ]

و كفى . الإله : المعبود الذي تسبح له السموات و الارض ، الذي يتحير فيه المتحيرون ، و يلجأ اليه المستجيرون .

و هكذا جاء في الحديث المأثور عن الامام علي - عليه السلام - : " الله معناه : المعبود الذي يأله فيه الخلق ، و يؤله اليه ، و الله هو المستور عن درك الأبصار ، المحجوب عن الأوهام و الخطرات " .

و روي عن الامام الباقر - عليه السلام - : " الله معناه : المعبود الذي إله الخلق عن درك مائيته ، و الاحاطة بكيفيته ، و يقول العرب : إله الرجل إذا تحير في الشــــيء فلـم يحط به علما ، و وله : إذا فزع الى شيء مما يحذره و يخافه " و أضاف : " فالإله هو المستور عن حواس الخلق " (2) .

و هكذا تكون كلمة " الله " حسب هذه الرواية مشتقة من إله ، التي تجمع(1) المصدر / ص 222 .

(2) المصدر .


معاني المعبود ، الذي يتحير فيه الناس ، و يلجأ اليه المتحيرون .

[ أحد ]

بالرغم من أن كلمة " أحد " مشتقة من واحد كما قالوا ، إلا أنها أبلغ دلالة على معنى الوحدانية ، و انه سبحانه لا نظير له و لا شريك ، ولا أعضاء فيه ولا أجزاء ، لا في الواقع و لا في العقل و الوهم سبحانه ، و ليس معنى الأحد و الواحد أنه ثاني اثنين ، او أنه نوع من الأنواع ، كلا .. إنه الواحد بلا عدد ، الأحد بلا مثل ولا شبه .

هكذا جاء في حديث مأثور عن الامام أمير المؤمنين - عليه السلام - عندما سأله اعرابي في يوم الجمل عن معنى واحد ، فحمل الناس عليه و قالوا : يا إعرابي ! أما ترى فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب - أي تشتته - فقال أمير المؤمنين : " دعوه ، فإن الذي يريده الإعرابي هو الذي نريده من القوم " ( من توحيد الله و معرفته حقا المراد ، من القوم اعداؤه ) ثم قال :

" ان القول في ان الله واحد على أربعة أقسام : فوجهان منها لا يجوز أن على الله - عز وجل - و وجهان يثبتان فيه ، فأما اللذان لا يجوز ان عليه فقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لان ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، اماإنه كفر من قال : أنه ثالث ثلاثة ، و قول القائل : هو واحد من الناس ، يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز ، لأن تشبيه ، وجل ربنا و تعالى عن ذلك ، وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه : فقول القائل : انه عز وجل أحدي المعنى ، يعني به : انه لا ينقسم في وجود ، ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربنا عز وجل " (1)(1) المصدر / ص 207 .


وهكذا تشترك الكلمة بيننا و بين ربنا ، فنقول : هذا واحد من الناس ، و نقول : الله واحد ، و لكن هيهات ما بينهما التقاء ، فأحدية ربنا ليست كخلقه . إنها أحدية شاملة ، بينما خلقه متكثر متشابه ، تعال نستمع في توضيح هذه البصيرة الى حديث عن الامام أبي الحسن - عليه السلام - وهو يحدد التشابه المستحيل . انه في المعاني لا في الأسماء فانها مشتركة ، قال :

" انما التشبيه في المعاني ، فأما في الأسماء فهي واحدة ، وهي دلالة على المسمى ، و ذلك ان الانسان و ان قيل واحد فانه يخبر انه جثة واحدة وليس بإثنين ، و الانسان نفسه ليس بواحد لان أعضاءه مختلفة ، و ألوانه مختلفة ، ومن ألوانه مختلفة غير واحد ، وهو أجزاء مجزأة ليست بسواء ، دمه غير لحمه ، و لحمه غير دمه ، و عصبه غير عروقه ، و شعره غير بشره ، و سواده غير بياضه ، و كذلك سائر جميع الخلق ، فالانسان واحد في الاسم و لا واحد في المعنى ، و الله جل جلاله هو واحد لا واحد غيره ، لا اختلاف فيه ، ولا تفاوت، ولا زيادة ، ولا نقصان ، فأما الانسان المخلوق المصنوع المؤلف من أجزاء مختلفة و جواهر شتى ، غير أنه بالاجتماع شيء واحد " (1)و تتجلى أحدية الله في معرفة هيمنته الشاملة على كل شيء ، وأنه الفعال لما يريد ، و ان له العبادة ، وأن ما يعبد من دونه ليس بشيء .

أما خرافات الجاهلية التي تزعم : أن هناك قوة أخرى مستقلة غير قوة الخالق فهي ناشئة من الجهل بالله ، وبأن خالق الكائنات يستحيل عليه العجز ، و الحد ، و القيد ، فكيف يكون ربنا مثلا عاجزا عن التخلص من ابليس - حتى أنه أنما خلق الخلق حتى يتخلص من الطينة الخبيثة التي لا زالت معه منذ الأزل ، والتي هي طينة ابليس ؟ ! كلا .. انه سبحانه هو خالق ابليس ، و مهيمن عليه ، فلا يجوز لنا عقلا(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 710 .


عبادة ابليس واحدا من إلهين .

و اسطورة النور و الظلمة ، و أنهمــا إلهان قديمان ، وإن الظلمة دخلت فــي النور ، او ان النور دخلها و جاء هذا الخلق من تركيبهما كما تقول المانوية . انها هي الأخرى ناشئة من الجهل بالله و بقدرته التي لا تحد و لا تقيد ، وكيف يعجز رب يوصف بالقدرة ، و تتجلـــى قدرته فـــي هذه الكائنات العجيبة ، كيف يعجز عن السيطرة على الظلام سبحانه ؟! بل هو الذي جعل النور و الظلمات بقدرته ؟

و هكذا الأساطير التي كانت وراء عبادة غير الله ، و التي دخلت في الديانات السماوية ايضا مثل : الاعتقاد بأن للكائنات آلهة صغارا ولدها الإله الأكبر ، هم بمثابة أبنائه و بناته سبحانه ، بعضهم أقرب اليه من بعض ، وان على الناس التقرب اليهم ، و اقامة تماثيل لهم ، و لتحل فيها ارواحهم ، وهذه هي منشأ خرافة عبادة الاصنام منذ كانت والى عصرنا الحالي .

ان كل هذه الأساطير نشأت من الجهل بمقام الألوهية وان خالق السموات و الارض ، وما فيهن و ما بينهن لن يكون عاجزا أو محدودا سبحانه !

و انه لو كانت معه طينة أبدية لكانت تلك هي الأخرى في مقام الربوبية ، مقتدرة عالمة ، ولكن كيف تجتمع قدرتان مطلقتان متضادتان ، لا تستطيع احداهما القضاء على الثانية .

و بالتفكر في صنع الله و عظيم قدرته تتلاشى هذه الأساطير الزائفة ، و تتجلى للانسان قدرة الله غير المحدودة ، التي تظهر في خلقه و في النظام الذي أجراه في العالم ، كما يظهر بوضوح ان هذا النظام و هذا الخلق ليسا بالإلهين من دونه ، يعبدان ، كما فعلت الجاهلية الحديثة التي استسلمت و عبدت المادة و قوانينها ، وهما من خلقالله ، و تتجلى بهما عظمته و قدرته سبحانه .

[2] ومن مظاهر الأحدية ، الصمدية التي تشير الى حقائق شتى تجمعها بصيرة واحدة هي ان الله بلا أعضاء و أجزاء ، ولا حالات تطرأ عليه سبحانه :

[ الله الصمد ]

هكذا فسر الامام الحسين بن علي - عليهمـــا الســــلام - كلمة الصمد حيث قال : " الصمد : الذي لا جوف له ، و الصمد : الذي قد انتهى سودده ، و الصمد : الذي لا يأكل و لا يشرب ، و الصمد : الذي لا ينام ، و الصمد : الدائم الذي لم يزل ولا يزال " (1) .

و روي عـــن الامـام الباقـــر - عليه السلام - انه قال : " كان محمد بن الحنفية - رضي الله عنه - يقول : الصمد : القائم بنفسه ، الغني عن غيره " (2) .

وقـــد ذكـر لكلمة الصمد زهاء عشرين معنى : إلا أن أمثلها الذي ترجع اليه سائرها : المصمت ، الذي لا جوف له ، و منه الصمود و الصامد ، ولأن السيد العظيم يوصف بالشجاعة فانه يسمى بالصمد لأنه لا يتزلزل .

و لان صفات الدوام و الأحدية وما أشبه ناشئة من صفة الصمد ؛ فانها ذكرت من معاني الصمد ، كما جاء في حديث مأثور عن الامام زين العابدين - عليه السلام - حينما سئل عن معنى الصمد فقال : " الذي لا شريك له ، ولا يؤوده حفظ شيء ، ولا يعزب عنه شيء "(3) .


(1) موسوعة بحار الأنوار / ج 3 - ص 223 .

(2) المصدر .

(3) المصدر .


و صفة الصمدية تتجلى ايضا في أنه لم يلد ولم يولد ، إذ ولادته دليل إضافة جزء اليه لم يكن فيه ، او انفصال جزء منه كان فيه , و الصمد الذي لا أجزاء له ، لا يتصور فيه زيادة ( بالتولد ) و لا نقيصة ( بالإيلاد ) .

من هنا فسر الامام الحسين - عليه السلام معنى الصمد في السورة بالآية التالية فقال : " الله أحد ، الله الصمد " ثم فسره فقال : " لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفـوا أحــد " " لم يلد " لم يخرج منه شيء كثيف كالولد و سائر الاشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين ، ولا شيء لطيف كالنفس ولا يتشعب منه البداوات (1) كالسنة و النوم ، و الخطرة و الهم ، و الحزن و البهجة ، و الضحك و البكاء ، و الخوف و الرجاء ، و الرغبة و السآمة ، و الجوع و الشبع ، تعالى ان يخرج منه شيء ، و ان يتولد منه شيء كثيف أو لطيف .

" و لم يولد " لم يتولد من شيء و لم يخرج من شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها ، كالشيء من الشيء ، و الدابة من الدابة ، و النبات من الارض ، و الماء من الينابيع ، و الثمار من الأشجار ، ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها كالبصر منالعين ، و السمع من الأذن ، و الشم من الأنف ، و الذوق من الفم ، و الكلام من اللسان ، و المعرفة و التمييز من القلب ، و كالنار من الحجر .

لا . بل هو الله الصمد ، الذي لا من شيء ، ولا في شيء ، ولا على شيء ، مبدع الأشياء و خالقها ، و منشئ الأشياء بقدرته ، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته ، و يبقى ما خلق للبقاء بعلمه .

فذلكم الله الصمد ، الذي لم يلد و لــم يولد ، عالم الغيب و الشهادة ، الكبير المتعال ، و لم يكن له كفوا أحد " (2) .


(1) لعل معناها الطوارئ من الحالات المختلفة .

(2) المصدر / ص 224 .


و هكذا استوحى الامام الحسين - عليه السلام - من كلمة الصمد معان لطيفة في التوحيد ، ولو تدبرنا في معنى الصمد اللغوي الذي قلنا : بأنه المصمت الذي لا جوف له عرفنا كيف أنها صفة يتمايز فيها الخلق عن الخالق ، فلا شيء من الخلق إلا وهو مركب من أجزاء في الواقع ، وفي العقل ، وفي الوهم ، و التصور إلا الله الذي جل عن تركيب الصفات في أي أفق من تلك الآفاق .

اننا حسب معلوماتنا المحدودة عن الجسم نعرف أن كل شيء مركب من ذرات صغيرة ، وأن في هذه الذرات فراغات هائلة ، بحيث لو تصورنا طنا من الخشب يقع في مساحة عدة أمتار مربعة ، ثم افترضنا اننا أعدمنا الفراغات في ذراتها لأصبحت في حجم صغير لا يقاس مع حجمها السابق ، ولكنها سوف تحتفظ بوزنها السابق أي ألـف كيلو غرام ، و يدل على ذلك ان المواد الثقيلة كاليورانيوم تحتوي على مثل ذرات الخشب و القطن إلا أن هذه الفراغات تردم ، فتثقل المعادن حتى أن ما مقدار عشرين سانتيمترا مكعبا من اليورانيوم يقدر وزنه بطن . و محدودايضا بأنه ليس بنافذ في كل أبعاد الشيء أليس كذلك ؟

بينما رب العزة لا يزيد أو ينقص لانه كامل ، ولو افترضنا فيه نقصا إذا ما الفرق بينه و بين الكائنات التي خلقها ، وإذا تساوى الخالق و المخلوق فلماذا أساسا نبحث عن خالق ؟ أليس أنما هدانا العقل الى الخالق لما رأينا من النقص و الحاجة في المخلوقين ، و أظهر مصاديق النقص : التركيب و التأليف ، و الزيادة و النقصان . فكيف نزعم وجود ذلك ايضا في الخالق ؟

من هنا ذكر الامام الباقر - عليه السلام - معاني عديدة استوحاها من كلمة الصمد ثم قال : " لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله - عز وجل - حملة لنشرت التوحيد و الاسلام و الايمان و الدين و الشرائع من الصمد " (1) .


(1) المصدر / ص 225 .


و نختم حديثنا عن الصمد برواية شريفة عن الامام علي - عليه السلام - جمعت الكثير من معاني الصمد قال :

" تأويل الصمد : لا اسم ولا جسم ، ولا مثل ولا شبه ، ولا صورة ولا تمثال ، لا حد ولا حدود ، ولا موضع ولا مكان ، ولا كيف ولا أين ، ولا هنا ولا ثمة ، ولا ملاء ولا خــلاء ، ولا قيام ولا قعود ، ولا سكون ولا حركة ، ولا ظلماني ولا نوراني ، ولا روحانيولا نفساني ، ولا يخلو منه موضع ولا يسعه موضع ، ولا على لون ولا على خطر قلب ، ولا على شم رائحة ، منفي عنه هذه الأشياء " (1) .

[3] حين عرفنا استحالة التركيب في خالق السموات و الارض ، و اهتدينا الى استحالة تولد شيء منه ، و كيف ينفصل عنه جزء وهو صمد لا يتصور فيه التأليف و التركيب و الأجزاء و الأعضاء ؟!

وإذا عرفنا أنه لم يلد ، نعرف أنه لم يولد ، أليس الذي ينقص منه شيء ، و يحتاج الى تكميله بجزء يضاف اليه ، و ربنا تعالى غني عن الإضافة فكيف بالولادة من غيره ؟!

[ لم يلد ولم يولد ]

لم يلد كما تلد الكائنات المخلوقة ، الكثيفة منها و اللطيفة ، وقد سبق توضيح ذلك آنفا في حديث الامام الحسين عليه السلام .

وهذه الآية تنسف أسس الخرافات الجاهلية التي تمثلت و بصور شتى في المذاهب و المبادىء المختلفة ، فانما تأسست على تصور ولادة الكائنات من رحم خالقها سبحانه ، فقال بعضهم : ان الخالق تأذى من طينة خبيثة ملازمة له فدخل(1) المصدر / ص 230 .


فيها و تكونت من امتزاجها الخلائق ؟ و قال آخرون : بل ان إبليس ( او الظلمة ) قفزت الى النور ( أي الله في ظنهم ) فأراد النور التخلص منها ، فكان كمن دخل الوحل كلما أراد الخروج منها ارتطم فيها أكثر ، فكانت الكائنات من تداخلهما .

و تطورت هذه الفلسفة عند البعض فقالوا : إن الخالق تنزل من عرشه فأصبح المخلوقات ، و قال بعضهم : ان الله سبحانه فاض بوجوده فكانت الكائنات و هكذا رققوا العبارات و لكنهم لم يغيروا من جوهر النظرية شيئا .

ان كل هذه الفلسفات قائمة على أساس التولد يقتضي تطورا في ذات الشيء و هو يتنافى و تعاليه سبحانه .

ولا فرق إذا أن تكون الولادة كثيفة كما الثمر من الشجر أم لطيفة كولادة الفكر من القلــــب ، أليس القلب تطور حتى يفرز الفكر ، كما ينفعل الشجر حتى يخرج الثمر ؟ كلا . أن الخالق سبحانه قد أنشأ الكائنات من دون كيفية ولا تعب ولا معالجة ولا تفاعلات في ذاته أو تطورات سبحانه ، و حين ينتفي التولد منه ينتفي تولده من غيره ، لأن ما لا ينقص لا يزيد ، او قل : لا يحتاج الى زيادة .

و نفي الولادة بكل جوانبها و معانيها يضع المخلوق في موقع العبودية المطلقة و ينفي أضفاء أي نوع من القداسة الذاتية على أي شيء أو شخص من خلق الله إلا قيم الوحي الناشئة من دين الله ، و هكذا يتساوى الخلق أمام الخالق ، و أمام دين الخالق ولا يجوز لأحد أنيتعالى على غيره بزعم أنه أقرب الى القدوس ذاتيا ، و تبطل كل المذاهب العنصرية الظاهرة منها و الخفية .

[4] وإذا اهتدينا الى أن الله صمد لا جزء له ، و لا تطور ، و لا ولادة ، فقد ارتفع الحجاب الأكبر الذي بيننا و بين الله ، حجاب التشبيه الذي ينشأ من جهل الانسانو نقص مداركه .

فلأن الانسان لا يرى إلا نفسه و المخلوقات ، يقيس خالقه بنفسه طورا ، و الكائنات أطوارا . غافلا على أن هذا القياس يتنافى و الاعتقاد بالخالق أصلا .

اما إذا تذكر الانسان هذه الحقيقة فان الشبهات تنماث من ضميره حتى يتطهر من أدرانها ، و يتهيأ قلبه لاستقبال نور المعرفة . و يبدو ان كلمات الذكر الاساسية تذكرنا بهذه الحقيقة ، أوليس التكبير هو تعظيم الله من الوصف . " الله اكبر من ان يوصف " والتسبيح هو تقديسه عما يخطر ببال البشر . من نقص و عجز ، و شبه و نظير ، و كذلك التهليل : نفي الشريك له ، و هكذا يقول ربنا في ختام سورة الاخلاص :

[ ولم يكن له كفوا أحد ]

فاذا أردت معرفته أسقط عن نفسك قياسه بخلقه ، و تسامى عن دائرة المخلوق الى أفق الخالق ، ومن محيط الشهادة الى أفق الغيب ، ومن البحث عن الذات الى تلقي نور الأسماء .

و نفي المثيل و النظير نفي لكل صفة عجز و حد و نقص في الخالق ، كما قال الامام أمير المؤمنين - عليه السلام - عندما سأله بعضهم عن معاني سورة الاخلاص قال : " قل هو الله أحد بلا تأويل عدد ، الصمد بلا تبعيض بدد ، لم يلد فيكون موروثا هالكا ، ولم يولدفيكون إلها مشاركا ، ولم يكن له من خلقه كفوا أحد " (1) .

و قال - عليه السلام - وهو يصف ربه لمن سأله عن ذلك و قال أين المعبود فأجابه عليه السلام :

" لا يقال له : أين ؟ لانه أين الأينية ، ولا يقال له : كيف ؟ لأنه كيف(1) مجمع البيان / ج 10 - ص 566 .


الكيفية ، ولا يقال له : ما هو ؟ لأنه خلق الماهية ، سبحانه من عظيم تاهت الفطن في تيار أمــواج عظمته ، و حصرت الألباب عن ذكر أزليته ، و تحيرت العقول في أفلاك ملكوته " (1) .

وقال عليه السلام " اتقوا ان تمثلوا بالرب الذي لا مثل له ، أو تشبهوه من خلقه ، أو تلقوا عليه الأوهام ، أو تعملوا فيه الفكر ، و تضربوا له الأمثال ، أو تنعتوه بنعوت المخلوقين ، فان لمن فعل ذلك نارا " (2) .


(1) موسوعة بحار الانوار / ج 3 - ص 298 .

(2) المصدر .

فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس