قل أعوذ برب الفلق
بينات من الآيات [1] كلمات نطلقها و نتعامل معها و لكنها تبقى غامضة لو لم نتخيل معانيها الخارجية و مصاديقها الواقعية ، أليست العبارات جسور المعاني ، و الكلمات إشارات الى الحقائق ، و كلمة الإستعاذة واحدة منها ، فمتى يستعيذ الانسان بشيء ؟ عندما يفقد ثقته بنفسه في مواجهة خطر داهم ، و يظن ان ما يستعيذ به قادر على أان ينجيه مما هو فيه ، فيلجأ اليه كما يلجأ الذي يطارده الوحش الى كهف أو حصن منيع .
و قد تكون الأخطار التي يخشى منها الناس مجرد أوهام و ظنون و وساوس شيطانية ، وقد دفعت الحاجة البشر الى التعوذ بالجن و السحر و الأصنام ، وكان عليهم الإستعاذة بالله الخالق كل شيء .
وهكذا أمر الله بأن نستعيذ بالله وحده ، نرفض الإلتجاء بالانداد و الشركاء ،و نعلن ذلك صراحة ، و قال :
[ قل ]
إذا كنتم أيها الكافرون تستعيذون بالناس و بالانداد ، بالسحرة و الكهنة و الجن وما أشبه ، فانني[ أعوذ برب الفلق ]
و نتساءل أولا : ماهي مفردات الإستعاذة و شروطها ؟ ثانيا : ما هو الفلق ؟ الإستعاذة حالة نفسية ، قوامها الخشية من الخطر ، و الثقة بمن يستعاذ به ، و هي الى ذلك ممارسة عملية بابتغاء مرضاة من نستعيذ به ، و هي - فوق ذلك - الثقة بأنه وحده القادر على درء الخطر ، و إنقاذ الانسان .
أما الفلق فقد اختلفوا فيه اختلافا كبيرا ، فمن قائل : أنه بئر في جهنم تحترق جهنم بناره . - أعوذ بالله منه - الى قائل : بأنه الصبح ، أو ما اطمأن من الأرض ، أو الجبال و الصخور و لكن القول الأمثل هو القول الأشمل الذي يقول : أن الفلق هو كل ما خلق الله، لأن الله يقول : " أولم ير الذين كفروا ان السموات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما " (1) .
و رب الفلق : هو الذي فلق الحبة ، و فلق الصباح ، و فلق الجبال بأنهر ، و فلق السموات و الأرض و كل شيء .
[2] هل ما خلق الله خير مطلق أم شر مطلق ، أم في كل شيء نسبة من هذا و ذاك ؟
(1) الأنبياء / 30 .
قال بعضهم : كيف يخلق الله شرا و هو سبحانه خير واسع ؟!
و قال آخرون : الوجود حالة غضب إلهي فهو شر مطلق ! و كلا القولين هراء ، يخالف وجداننا و فطرتنا .
صحيح ان الله سبحانه خلق الكائنات برحمته و خلق البشر ليرحمه ، و لكن المخلوق يبقى ذاته عدما و عجزا و نقصا ، و من ذلك العجز تعزيز السلبيات ، و لكن يبقى جانب الخير ، حيث تتعلق به تجليات الرب و عطاءه يبقى غالبا جانب الشر ، لأن رحمة الله أوسع من غضبه ،و فضله أعظم من عدله سبحانه .
و قد زود الله كل حي بما يجعله يختار جانب الخير ، و يحاذر جانب الشر من نفسه و من الخلق المحيط به ، و الانسان بدوره مزود بالوحي و العقل و الغريزة لكي يتجنب الشر ، و الإستعاذة بالله صورة من صور الحذر من الشرور .
[ من شر ما خلق ]
ولا ريب ان تنفيذ واجبات الشريعة أحد أهم و أبرز صور الفرار من الشر ، لأنها تهدينا الى سبل السلام و وسائل النجاة .
[3] الليل يهبط بظلامه و وسواسه و طوارقه ، و يتحرك في جنحه الهوام و بعض الوحوش ، و ينشط المجرمـــون و الكائدون ، و يستولي المرض و الهم على البعض ، و تشتد الغرائز و الشهوات في غيبة من الرقابة الاجتماعية ، و يحتاج الانسان الى مضاء عزيمة و ثقة ، حتى يتغلب عليه وعلى أخطاره ، و هكذا يستعيذ بالله منه .
[ ومن شر غاسق إذا وقب ]
قالوا : الغسق : شدة الظلام ، و الغاسق : هو الليل او من يتحرك في جوفه ،و الوقب : الدخول .
و قال بعضهم : الليل غاسق لانه أبرد من النهار ، و لان في الليل تخرج السباع من آجامها ، و الهوام من أماكنها ، و ينبعث أهل الشر على العبث و الفساد .
[4] هل للسحر حقيقة و ما حقيقته ؟ يبدو ان للسحر حقيقة ، و ان حقيقته غير معروفة تماما بالرغم من عوامل مختلفة تتداخل فيه مثلا بعض القوانين الطبيعية غير المعروفة للناس ، قد يكن وسيلة السحر تماما ، كالزئبق الذي وضعه سحرة فرعون فيما يشبه الحبال فتحركت بحرارة الشمس ، و قد تكون حقيقته قوة الروح عند الساحر ، او استخدامه للأرواح الشريرة ، و أنى كان فان الاستسلام للسحر و لتأثيراته لا يجوز ، بل ينبغي تحديه بالتوكل على الله و الإستعاذة منه .
[ ومن شر النفاثات في العقد ]
قديما كانت العجائز يمتهن السحر ، و يخدعن الناس و بالذات النساء ، و كانت هذه الحالة تبعث الخشية في نفوس الكثير مما اقتضى الإستعاذة بالله منهن .
و قد قال بعض المفسرين : ان المراد بالنفاثات في العقد : اللاتي ينفثن بأفكارهن السلبية في عقد العزيمة للرجال .
إلا أن أكثر المفسرين رأوا ان المراد بها الساحرات ، و هذا قريب من سبب النزول المذكور لهذه السورة ، على ان ما ورد من روايات في ذلك غير مؤكدة ، لأنها تخالف نزول السورة في مكة ، كما أنها تخالف عصمة الرسول ، وأنه بريء من السحر .
[5] قد تكون للأخطار التي تتوجه الى الانسان أسباب معقولة لو تنبه لها استطاع ان يتجنبها ، إلا الحسد فإن سببه حالة في نفس صاحبه ، و من الصعب تجنبهفي الوقت الذي يشكل سببا رئيسيا لمشاكل الانسان و للأخطار التي تحدق به ، ولكن هل يعني ذلك التراجع عن العمل وعن الانتفاع بنعم الله و التقدم و الرقي لمجرد أن هناك من يحسدني . كلا .. بل ينبغـي الإستعاذة بالله سبحانه و تعالى من الحاسد و بالذات عندما يحسد .
[ ومن شر حاسد إذا حسد ]
فقد يصرف الله الحاسد عن تحويل حسده الى عمل عدائي ، لان الحسد مرفوع عن الانسان إن لم يظهره بقول او بفعل ولا يخلو الانسان من حسد ، إلا أن أغلب الناس ينصرفون عن الحسد الى الغبطة والتنافس لما يعلمونه من ضرر الحسد على أنفسهم قبل من يحسدون ، حتى قيل : " ما رأيت ظالما أشبه بالمظلوم من الحاسد " (1)وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وآله - : " إذا حسدت فلا تبغ " (2)و الحسد كان سبب رفض إبليس السجود لادم ، كما أنه كان سبب أول جريمة وقعت على الارض إذ قتل قابيل أخاه هابيل حسدا .
نستعيذ الله من شره و شر من يحمله .
(1) وهو مضمون رواية .
(2) القرطبي / ج 20 - ص 259 .
|