فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الايات
[1] تتصور الفلسفات البشرية التي تتحدد بالجهل و العجز و ضيق الافق و شح النفس عند الانسان تتصور العالم الكبير و ما فيه من اختلاف و تسابق ركاما من القوى المتناقضة و المتصارعة ، و بالتالي حلبة لصراع الالهة و الشركاء المختلفين ، كلا .. انما العالم - في القرآن - ينضوي تحت راية العبودية لله .

[ يسبح لله ما في السماوات و ما في الارض ]

هكذا يسبح جميع ما في السماوات و الارض لرب العزة ، لان كل شيء عارف باستحقاق ربه للتنزيه عن كل نقص و عيب ، فهو وحده الكمال المطلق في ضمير الخلق و عقله . و فعل المضارعة من التسبيح يدل على الاستمرار في التسبيح ، و السبب ان الله تجلى لكل شيء بقدر وعيه، و اعطاه حسبما شاء من نوره ، فوله كل شيء بربه و سبحه و قدسه بقدره .

[ له الملك ]

وحده ، و انما يملك احد شيئا بتمليكه له ، و مع ذلك يبقى ملكه محدودا ، و ملك الله نافذ يسلبه متى شاء . و ربنا ليس متصرفا في الاشياء و حسب بل يملكها و يملك شهودها و ضميرها و مبدءها و مصيرها ، يملكها دون تملك هي منه شيئا ، بعكس البشر الذين لا يملكون شيئا الا بقدر ما يمتلك منهم ، لانهم و اياه سواء في حد العبودية و الضعف و العجز . و حري بالمملوك ان يخضع لمالكه المطلق و يتوجه له بالتسبيح دون سواه . و ان هذه الصفة كما صفة القدرة و غيرهما لا تدعوه سبحانه كما الملوك الى الظلم و القهر لمن تحت سلطانه ، فكل افعاله حميدة .


[ و له الحمد ]

مما ينزل عليهم من نعمه و يدفع عنهم من البلاء ، فسبحان الذي لا ياخذ اهل الارض بالوان العذاب .

و من تجليات حمده قدرته ، فهو ذو القدرة على كل ما يريد .

[ و هو على كل شيء قدير ]

وهذه البصيرة ( قدرة الله على كل شيء ) هي التي ينبغي ان يتحسسها الانسان ، لانها محور لكثير من الحقائق و العقائد التي منها الايمان بالآخرة ، فان الذي لا يؤمن بقدرة الله الثابتة يصعب عليه التصديق بحقيقة البعث و الجزاء . و هكذا تتصل هذه البصيرة بما يأتي من التذكرة بالبعث .

و تذكير الانسان بان الوجود كله يسبح لله يزرع في نفسه الشعور بالشذوذ اذا ما كفر بربه و خالف رسالته ، بل و يزرع في داخله الوازع الذي يدفعه للانتظام في المسيرة الحقة الواحدة حيث العبودية لله وحده و المعرفة به .

كما تهدينا هذه التذكرة الى حقيقة اخرى هامة و هي : ان الخليقة بكينونتها و السنن الحاكمة عليها تدعم المؤمن في مسيرته ، لانه يلتقي معها في المسيرة و الهدف ، و هذا ما يجعل اتباع الحق سهلا ميسورا و اتباع الباطل عسيرا في الدنيا و الاخرة ، و بهذا المضمون جاءت بعض الاخبار التي منها قول الامام علي - عليه السلام - : " و من ضاق به العدل فالجور عليه اضيق " (1) .

[2] و يتساءل الانسان : من اين اتيت ؟ و من الذي خلقني ؟ و الاجابة على(1) بح / ج 41 - ص 116


ذلك هي التي تحدد مبادىء الناس و مسيرتهم ، فيهتدي البعض و يضل اخرون ، و القرآن هنا يوجهنا الى الاجابة الحق ليضعنا على الصراط المستقيم في الحياة .

[ هو الذي خلقكم ]

و ليست الصدفة و لا الشركاء المزعومين من دونه . تلك الفلسفات التي تاهت بعقول الكثير و لا زالت حتى اليوم تضلها . و حيث ان الله هو الخالق فانه اهل الملك و الحمد و القدرة ، و لكنك مع ذلك ترى بين الناس من يكفر به سبحانه بالرغم من تجليات اسمائه و اياتهفي الطبيعة و في ضمير الانسان و عقله .

[ فمنكم كافر و منكم مؤمن ]

و كما يؤكد هذا المقطع حرية الانسان في اختيار مسيرته و مصيره فهو يبين مدى طغيان البشر الذين يكفرون بخالقهم بدل ان يشكروه على نعمة الخلق و سائر النعم . و تنسف الآية فلسفة الجبر التي تقول بان الكفر و الايمان امر تكويني يحدده الله ، فكما يخلق الاسود والابيض كذلك يخلق المؤمن و الكافر ، كلا .. ان الخلق منه تعالى بينما الكفر و الايمان رهين اختيار الناس و ارادتهم " فمنكم .. و منكم " .

[ و الله بما تعملون بصير ]

اذا فعمل الانسان هو الذي يحدد مذهبه و مصيره عند الله و ليس لونه او مجيؤه من و الدين كافرين او مؤمنين و لا اي شيء اخر . و في الآية تحذير من طرف خفي بان حريتك ايها الانسان ليست ابدية ، و ان الله لم يخلق الناس ليتركهم سدى ، او انه مغلولة يداه و محجوب عن الخلق ، انما هو رقيب و مهيمن عليهم ، و هكذا تنفي الآية التفويض كما تنفي الجبر لتثبت - بالتالي - امرا وسطا بين الأمرين .


و كلمة أخيرة في هذه الآية هي : أن اختلاف الناس الى مؤمن و كافر ، و مظلوم و ظالم ، و قاتل و مقتول ، تجعل البعث و الجزاء ضرورة فطرية في ضوء الايمان بالإله الملك الحميد الذي من مظاهر حمده العدل . وهذه من الأفكار الرئيسية في المبادئ الإسلامية .

[3] و نجد آية هادية الى الآخرة عند النظر الى الحياة مفردة مفردة ، فهي قائمة على أساس الحق بكل ما تعني هذه الكلمة من آفاق الواقعية و النظام السليم ، و أهم تلك الآفاق بالنسبة للانسان أن الحياة عرصة يجري الله فيها الحق .

[ خلق السماوات و الأرض بالحق ]

و الهدفية من الحق ، كما أن العبثية من الباطل . و إن الانسان حينما يلقي بنظره و فكره الى خلق الكون يراه بكل أجزائه حتى الذرة قد خلق بحكمة و هدف معين ، كما أنه عندما يعود الى نفسه من رحلة الآفاق يرى نفس الحقيقة ، فهو قد صور و خلق كل عضو منه لغرض محدد ، فالعين للإبصار ، و الأذن للسمع ، و الأنف للشم و التنفس و .. و ..

[ و صوركم فأحسن صوركم ]

فهل يعقل أن يكون الانسان ككل بلا هدف ؟! كلا .. بل له هدف معين هو أن يقوم بالحق وهذا يقتضي أن يكون هناك جزاء و مصير . و لأن الدنيا تقصر أن تكون محلا للجزاء الأوفى فلابد من دار ثانية يرجع فيها الناس الى ربهم .

[ و إليه المصير ]

[4] وهو تعالى لا يقضي للناس بمصائرهم اعتباطا ، إنما يجازي كل فرد و أمةالجزاء الاوفى القائم على علمه النافذ في كل دقائق الامور و لطائفها حتى النوايا المنطوية عليها الصدور ، و لايشغله علم عن علم ، و لاسمع عن سمع ، بل يعلم كل شيء في آن واحد .

[ يعلم ما في السماوات و الارض و يعلم ما تسرون و تعلنون ]خير او شر .

[ و الله عليم بذات الصدور ]

و تأكيد الله على علمه المحيط بحياة الانسان يتصل بمنهج الاسلام التربوي القائم على اساس زرع الوازع الديني في نفوس المؤمنين ، فان المتحسس لرقابة الله عليه لن يقتحم المحرمات و المعاصي ، و لن يتخلف في اداء الواجبات .. و هذه المنهجية ذاتها هي التي تضعنهاية للخداع الذاتي ( المنافقة ) ، حيث تضع الانسان امام يقين بعلم الله بذات صدره ، و ان جزاءه للناس لا يعتمد على اعمالهم و اقوالهم الظاهرة فحسب انما يعتمد على ما في القلوب من النوايا و الخلفيات ايضا .

[5] و يحثنا القرآن الى التفكر في واحدة من الآيات الكاشفة لحقيقة كون المصائر بيد الله ، و لحقيقة البعث و الجزاء في الاخرة ، و هي تاريخ الامم و الاقوام الذين كفروا بالحق فاستأصلهم الله بألوان من العذاب .

[ ألم ياتكم نبؤا الذين كفروا من قبل فذاقوا و بال امرهم ]في الدنيا ، و الوبال هو السوء ، و هنا بمعنى العاقبة السيئة ، و ما دام الانسان مسؤولا عن افعاله في الدنيا و هي دار امتحان فكيف لا يكون مسؤولا عنها في الاخرة ؟! و عموما : فاننا سوف نواجهه ان خالفنا عاجلا ام اجلا في الدنيا او في الاخرة .


[ و لهم عذاب اليم ]

ينتظرهم في الآخرة . و وصف الله للعذاب بانه " اليم " ينسف بعض الفلسفات التي حاولت تبرير الذنوب للناس بزعمها ان الانسان يوم القيامة لا يشعر بحرارة النار ، و مثلوا لذلك بالقول ان هناك بعض الحشرات تعيش في النار و لا تتاثر بها ! وهو زعم لا دليل عليه .

[6] اما السبب الذي انتهى بأولئك الى عذاب الدارين فهو تكبرهم على الرسل ، و كفرهم بهم ، و توليهم عنهم الى غيرهم .

[ ذلك بانه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات ]

اي الآيات الواضحة التي لا غموض فيها . اذن كانت الحجة قائمة و بالغة مما يجعل العقلاء يخضعون لها ، و لكن الكفار لم يتبعوا العقل ، انما اتبعوا الاهواء . لذلك لم يسلموا لقيادة الرسل .

[ فقالوا ابشر يهدوننا ]

انهم لم يجدوا ثغرة في رسالات الله لكي يعيبوها ، و لا نقصا في اخلاق الرسل و سلوكياتهم ، و لكنهم مع ذلك لم يكونوا مستعدين للخضوع لقيادة واحد منهم ، و لا لتحمل المسؤولية بأية صورة ، لذلك صاروا يبحثون عن تبرير يتخلصون به من المسؤولية ، فكان قولهم انالرسل بشر لا يصح الخضوع لهم ، و هذا ما يتشبث به الكفار عبر التاريخ .. فلماذا اذا يبعث الله الرسل من البشر انفسهم ؟ و الجواب : لامرين اساسيين :

الاول : ان الكفار ارادوا من ذلك تبرير انحرافهم و كفرهم ، فلو ان الله بعثملائكة او جنا لبحثوا لهم عن تبرير آخر ، و لو كان يهمهم الحق لا تبعوا الرسل الذين جاؤوهم بالبينات .

الثاني : ان الهدف من بعث الرسل هو تزكية الانسان و تطهره من امور النزعات السلبية التي فيه كالكبر و السمو به الى آفاق العبودية و التسليم للقيم و الحق ، و هذا يقتضـــي ان يكون الرسل من البشر انفسهم حيث ان التسليم لهم ابلغ اثرا في امتحان البشر ، و هلقد تخلصوا من نزعة الكبر ، و تعالوا الى سماء التواضع لله ، علما بان الصـراع على السلطة اعظم من اي صراع آخر ، و شهوة الرئاسة اشد من أية شهوة أخرى ، و ان الرسل جاؤوا ليحكموا بين الناس بالعدل ، و كان الطغاة يحكمونهم بالجور . و ترى كيف يتنازل الطغاة عن سلطانهم و يسلموا لامرهم و لامر من ينوب عنهم من اوصيائهم و اوليائهم ؟! انه حقا ابتلاء عظيم للطغاة و من ايدهم و اتبعهم ، و انها لفتنة عمياء سقطت فيها اكثرية النفوس الضعيفة ، و نجد صورة لها في امر الله ابليس بالسجود لادم و ليس لاعظم ملائكته مما أثار رفضهو تمرده ، مما يؤكد بان ظاهر القرآن الشريعة و باطنه الولاية ، حيث ان خضوع الانسان لبشر مثله باعتباره وليا عليه من عند الله امر صعب مستصعب ، و هكذا رفض الكفار ذلك .

[ فكفروا و تولوا ]

كفروا بالرسول و الرسالة و لم يشكروا هاتين النعمتين ، و حيث لا يمكن للانسان ان يعيش في الفراغ فانهــم حــولــوا وجهتهــم الــى القيــم الفاسـدة و القيــادات المنحرفة ( الضلال ) ، و لعل التولي هنا بهذا المفهوم ، اي تولوا الى غير الله بمعنى و لاية غير الله ، كما جاء في بعض تفاسير الآية الكريمة : " فهل عسيتم - ان توليتم - ان تفسدوا في الارض و تقطعوا ارحامكم " ، و قد يكون الكفر هو الموقف النفسي و المبدئي ، بينما التولي هو الموقف العملي السياسي .


[ و استغنى الله ]

اي انه تعالى كان يريد ان يظهر دينه و رسوله بهم فلما كفروا استغنى و اظهر غناه عنهم فنصر دينه بغيرهم من الناس و الملائكة ، كما قال سبحانه : " يا ايها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه " .

و هكذا يكون معنى الاستغناء فعل ما يظهر الغنى ، و ذلك على ضوء معرفتنا بربنا و انه لا يصدق عليه ما يصدق علينا من التحول و التبدل سبحانه ، فلم يكن لربنا حاجة فيهم و لكن اراد ان يتفضل عليهم بنصر دينه عبرهم فرفضوا ، حيث ان من نعم الله على عباده ان يجعلهم وسائل لنشر دينه و نصر رسله فيطلب منهم الدعوة او الجهاد او القرض و الانفاق و ما اشبه .. لا لحاجة منه اليهم انما ليتلطف بهم و ينعم عليهم بفضله !

[ و الله غني ]

بذاته ، و استغناء الله عن احد يعني قطع حبل رحمته عنه ، و هذا سبب هلاك الاقوام التي كفرت من قبل ، لانه انما يستقرضهم و يستنفقهم و يدعوهم للايمان لكي يرحمهم ، و لعل تاكيد الله على غناه و استغنائه يأتي لعلاج عقبة نفسية طالما منعت و لا زالت تمنع الكثير من الايمان بالرسالة و التسليم للرسول ، و هي عقبة الاحساس بالغنى عن الحق من جهة ، و حاجة الله و رسوله اليهم كما قال بعضهم : " ان الله فقير و نحن اغنياء " (1) من جهة اخرى .

[ حميد ]

و قد اضاف تعالى هذه الصفة للغنى لانه ليس كل غني حميد ، فقد يطغيه(1) آل عمران / 181 .


الغنى ، او تبطره النعم .

[7] ثم يبين السياق موقف الكفار الاساسي الذي انشطر عنه الاستكبار و الكفر و التولي ، و هو عدم ايمانهم بالاخرة ، و طبيعي ان من يكفر بالجزاء لا يبالي بتحمل المسؤولية .

[ زعم الذين كفروا ان لن يبعثوا ]

للجزاء بعد الموت ، و الزعم هو مجرد الادعاء الذي لا يقين للانسان به ، و حيث ان الكفار لم يجدوا دليلا ينفي الاخرة باعتبارها حقيقة واقعية فطرية فانهم لجأوا الى تأكيد زعمهم بكلمة " لن " تبريرا لكفرهم بالحقائق ، و لكن القرآن يكذب زعمهم بالتأكيد على البعث و الحساب و من ثم على الجزاء اذ يقول تعالى يخاطب رسوله - صلى الله عليه وآله - :

[ قل بلى و ربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم ]

و في هذه الآية تأكيدات عديدة و ذلك في مواجهة زعمهم الباطل ، فالتأكيد اللفظي يواجه بتأكيدات في الكلام اقوى منه . و امره تعالى الرسول و من خلال ذلك كل مؤمن يواجه شبهات الكفار " قل " لا يعني مجرد الدعوة للقول بل هو دعوة لاتخاذ موقف مضاد ،اذ ان القول هو ما يحكي ايمان الانسان ، و المؤمن مكلف ان يحكي ايمانه بالآخرة موقفا صريحا يتحدى موقف الاستهزاء و الانكار . ثم انهم نفوا البعث بينما نجد السياق يؤكده و يضيف بالتأكيد على الجزاء لانه محور القضية ، فهم زعموا ان لا بعث حتى يتحللوا من المسؤولية ، بينما القرآن أكد ان انكارهم البعث لا يخفف عنهم من العذاب شيئا و لا يهون لهم من المسؤولية امرا .

و في خاتمة الآية اشارة الى اهم عقبة نفسية عند الكفار امام ايمانهم بالاخرة و نسفها .

[ و ذلك على الله يسير ]

لانه تعالى قدير ، فهو ليس كما نحن البشر عاجزا او محدود القدرة ، بل هو صاحب المشيئة التامة فلا شيء يمتنع عنه او يصعب عليه . و قد نتلمس في الآية اشارة الى ان الكفار زعموا لله مجموعة من الصفات البشرية التي تجعله عاجزا عن بعث الناس بعد الموت في فكرهم، و ذلك امتداد لتصوراتهم و مقاييسهم البشرية التي دعتهم للكفر و التولي عن بينات الله و رسله .

[8] و لكي يتجنب الناس و بال الامر في الدنيا و العذاب الاليم في الآخرة ، و يفوزوا الفوز العظيم ، يرسم القرآن المعالم الاساسية لطريق النجاة و الفوز . انه في الايمان بالله و رسوله و النور المنزل من عنده .

[ فامنوا بالله و رسوله ]

الايمان بالله هو الاصل و لكنه لا يكتمل الا بالتسليم لرسوله حتى تتحول الرسالة الالهية الى واقع حضاري بالانتظام تحت راية القيادة الرسالية ، و لا بد ان تصير واقعا تفصيليا يضع لمساته على جوانب حياته و مفرداتها المختلفة ، و بعبارة : ان الايمان بالله والرسول ليس عقيدة مجردة في القلب ، و لا مظاهر و طقوس فقط ، انما هو منهج حياة يجب على الانسان ( فردا و امة ) ان يلتزم به .

[ و النور الذي أنزلنا ]

و القـــرآن نـور لانه يخرج الانسان من ظلمات الجهل و الكفر ، و يثير دفائن عقله ، و ينمي بواعث الخير في وجدانه ، و يرسم له مناهج الحياة . و اي نور اعظم من حبل الله و كتابه الذي يوصل البشرية بالله " نور السماوات و الارض " ؟!

و لقد مضى القول في سورة النور و في الصف عن ان القيادة الرسالية هي الاخرى مظهر و تجل لنور الله ، لانها صورة ناطقة لكتاب الله و مثل اعلى لرسالاته ، و ان اتباعها ينير للانسان دروب الحياة الفرعية المتداخلة ، و من هنا جاء في الحديث المأثور عن الامام الباقر - عليه السلام - : " لنور الامام في قلوب المؤمنين انور من الشمس المضيئة بالنهار " (1) .

و الاسلام الاصيل لا يرى الايمان مجرد الاعتقاد ( بالله و بالرسول و بالنور ) ، انما الايمان تسليم لله ، و اتباع للرسول ، و تطبيق للكتاب ، و بعبارة : الايمان هو العمل المستمر و المتقن و المخلص الذي يستمد جذوره من اليقين التام بهيمنة الله عز وجل ، وهذا ما نفهمه من النصوص الدينية و من قوله سبحانه في هذه الآية .

[ و الله بما تعملون خبير ]

فالمؤمن يقرأ في هذه الخاتمة ان عليه الاستمرار في الايمان و العمل به ، و ان يخلص فيه لوجهه تعالى ، بل و يتقن اداءه ، لانه في حضرة خالقه الذي لا يمكنه خداعه او التدليس عليه ، فهو الخبير باعمال الانسان بأشمل و ألطف مما عند الانسان نفسه .

و كلمة اخيرة : كما ان الرسالة نور و ان الرسول نور فان من يحمل رسالة الرسول اليوم و يكون امتدادا لقيادته الربانية و نائبا عن خلفائه الامناء - عليهم السلام - فانه هو الاخر نور . اوليس داعيا الى الله ؟ اوليس يحمل رسالات ربه الى العباد ؟ كذلك كان علماء امة محمد - صلى الله عليه وآله - كأنبياء بني اسرائيل . اوليسوا هم خلفاء الرسول ؟ و كذلك نقرأ في حديث النبـي يعــظ سلمان المحمــدي : " يا سلمــان .. و ان اكرم العباد الى الله بعد الانبياء العلماء ، ثم حملة القرآن ، يخرجون من الدنيا كما يخرج الانبياء ، و يحشرون من قبورهم مع الانبياء ، و يمرون


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 341 .

على الصراط مع الانبياء ، و يأخذون ثواب الانبياء ، فطوبى لطالب العلم و حامل القرآن مما لهم عند الله من الكرامة و الشرف " (1) .

[9] و تأكيد الله على ضرورة الايمان به و برسوله و بنوره المنزل باعتبار ذلك هو طريق النجاة يوم القيامة .

[ يوم يجمعكم ليوم الجمع ]

أي يجمــع اوصالكم التي تفرقت بعد الموت و يجمعكم الى بعضكم مؤمنين و كافرين ، و كذلك يجمع الناس مع الرسل ليشهدوا عليهم ، و سميت القيامة بيوم الجمع و في مواضع اخرى بيوم الحشر لانها اليوم الذي تجتمع فيه البشرية كلها من ادم حتى اخر مولود ادمي .

[ ذلك يوم التغابن ]

ماذا يعني التغابن ، و لماذا سمي يوم القيامة بيوم التغابن ؟

الجواب : ان الغبن في البيع او الشراء هو ظهور الخديعة و الغلبة ، غبن فلانا نقصه في الثمن و غيره ، فهو غابن و ذلك مغبون (2) ، و التغابن من التفاعل اي ان كل فرد او طرف يسعى لايقاع الغبن بالآخر ، و سميت الآخرة بذلك لامور أهمها :

1 - ان لكل انسان خلقه الله منزلين في الآخرة ، احدهما في الجنة و الآخر في النار ، فاذا افلح ان يكون اهلا للجنة ملك قصوره فيها و ورث اهل النار منزله فيها ، كما يرث منازل اهل النار التي كانت لهم في الجنة ، و ذلك قوله تعالى : " اولئك(1) بح / ج 92 - ص 18 .

(2) المنجد / مادة غبن بتصرف .


هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون " (1) ، و يومئذ يظهر الغبن لدى اهل النار بخسرانهم الجنة و وقوعهم في الخسارة العظمى بدخول جهنم ، و لان المؤمنين يرثون منازلهم في الجنة فكأنهم اوقعوا بهم الغبن .

2 - ان المؤمنين و الكافرين في صراع و تحد دائمين ، و كل فريق يحاول ايقاع الخسارة بالطرف الآخر عبر الانتصار عليه او تحطيمه ، و حيث ان الدنيا دار الابتلاء لكلا الفريقين فهي للكافرين على المؤمنين تارة ، و تارة للمؤمنين على الكافرين ، و الغبن فيها نسبيمحدود ، اما في الآخرة و هي دار الخلود فانها المصداق الاعظم للتغابن ، فالغابن فيها غابن حقا ، و المغبون فيها خاسر بتمام المعنى . صحيح ان اساس الغبن في الدنيا ، لان الدنيا هي دار العمل ، و لكن ظهوره لا يكون الا في الاخرة و لا يسمى الغبن غبنا الا بعد ان يظهر للناس جليا .

[ و من يؤمن بالله و يعمل صالحا ]

أي يترجم ايمانه الى العمل فان الايمان الحقيقي بالله اصل كل خير و الباعث على كل صلاح .

[ يكفر عنه سيئاته ]

أي الخطايا الجانبية .

[ و يدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ابدا ذلك الفوز العظيم ]و هذا مصير الطرف الغابن . و في الآية اشارة الى احد معاني الشفاعة و هي ان(1) المؤمنون / 10 - 11 .


تكون لدى الانسان حسنات كبيرة تذهب بالسيئات الصغيرة .

[10] و في نهاية الدرس الاول من سورة التغابن يضع القرآن بين ايدينا صورة للفريق المغبون ، و اي غبن و خسارة اعظم من الخلود في عذاب النار ؟!!

[ و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا اولئك اصحاب النار خالدين فيها و بئس المصير ]ان السبيل الى الفوز كان في الايمان بالله الذي بيده مصائر الناس ، و في اتباع رسله و القيادات الرسالية ، و في العمل بمنهج الفوز الذي تنطوي عليه آيات القرآن ، و قد نبذوها وراء ظهورهم فصاروا الى الخسران .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس