فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[11] ليس من تغير خيرا كان او شرا الا و يمر عبر تدبير الله و اذنه .

[ ما اصاب من مصيبة الا باذن الله ]

لانه تعالى الذي يمد كل شيء بنور الوجود و الاستمرار ، و لانه الذي وضع السنن في الخليقة و يجريها بسلطانه و ليست من مصيبة الا في سياق تلك السنن ، و له الارادة غير المحدودة بان يفعل ما يشاء و يغير ما يريد . و ما دامت المصائب تكون باذنه تعالى وهو الحميد العادل الحكيم فلن تكون بلا سبب و من دون حكمة ، بلى . و من حكمته و لطفه انه بين في كتابه كيف يتخلص الانسان من المصيبة ، و لكن انى للانسان ان يستفيد من كتابه دون ان يؤمن به ؟!

[ و من يؤمن بالله يهد قلبه ]

و لهداية القلب هنا معان ابرزها :

1 - ان الايمان بالله ، و بالتالي معرفة انه الفعال لما يشاء ، و انه المهيمن على العالم ، و انه لا تقع مصيبة الا باذنه ، معرفة هذه الحقائق جميعا تجعل الانسان يسمو الى سماء التسليم لله عز وجل ، مما يجعله قادرا على الاستقامة في طريق الحق رغم التحدياتو المشاكل . و تقديم هذا البيان هو تمهيد للامر القادم بطاعة القيادة الرسالية حيث يواجه المؤمنون في هذا الطريق الوان الفتن و المصائب ، و اذا كانت المصائب تسبب للكثير الانحراف عن سواء السبيل فهي لا تزيد المؤمن الا ايمانا و تسليما .

المؤمن كما الذهب يزداد صفاء كلما تعرض لفتنة النار ، و ان ايمانه بالله ليزيده صلة بربه عند المصائب ، لانه يعلم بانها لا تقع الا باذنه و لا تزول الا باذنه ، و ان خير وسيلة لتحديها هو المزيد من الاتصال به و التقرب اليه ، بل يزداد احساسه بالحاجة الىالله و ضرورة الاستعانة به ، كما قال تعالى : " الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله و انا اليه راجعون " (1) .

2 - و كما ان الايمان معراج الروح الى التسليم فهو معراج الفكر الى الصواب ، فان المصيبة تفقد اكثر الناس توازنهم النفسي لما تحمله من الضغوط ، فتزرع فيهم اليأس من التغيير ، و قد تشل عقولهم عن التفكر ، و لكن المؤمن يقف امامها كالجبل الاشم لا تخرجه عن طوره ، و هذا يبقيه مهتديا ، و قادرا على الوصول الى الصواب حتى في ظروف المصيبة ، بل انها تصبح مدخله لكثير من المعارف ، فالمرض يدفعه لمعرفة سنن الله في جسم الانسان ، و طغيان الظلمة يجعله يعرف سنن الله في المجتمع ، و هكذا ..

3 - اضف الى ذلك انه يجد الحل للمصيبة و الموقف السليم منها نتيجة الايمان ، فالايمان بالله اكثر من مجرد الاعتقاد . انه منهجية حياة شاملة ، و المؤمن عند المصيبة يتذكر بان الله حكيم لا يفعل شيئا الا لسبب فيبحث عن ذلك السبب ، و يتذكر ان الانسان بأعمالههو السبب الرئيسي لكل ما يجري عليه ، تسليما لقوله تعالى : " و ما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم " (2) ثم يسعى للتغيير ايمانا بقوله تعالى : " ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم " (3) ،(1) البقرة / 156 .

(2) الشورى / 30 .

(3) الرعد / 11 .


و يستعين بالله بكل ما يستطيع من دعاء و صدقة ، لايمانه بانه على كل شيء قدير ، و انه يمحو ما يشاء و يثبت ، و لانه قال : " ادعوني استجب لكم " (1) ، فالمصيبة اذن تتحول عند المؤمن الى عمل بمناهج الله ، و بالتالي الوصول الى الحل ، و ذلك من مصاديقالهداية .

[ و الله بكل شيء عليم ]

و هذه الخاتمة تبني روح التسليم لقضاء الله عند كل مؤمن ، حيث تؤكد له ان اذن الله و تدبيره متاسس على علمه ، فهو لحكمة يعرفها ، و لاسباب احاط بها .

و نجد في الاية التفاتة لطيفة تتصل بنظرية الجبر التي عالجها كثير من المفسرين عند هذه الاية ، فقد زعم البعض بان الانسان ليس له اختيار في الحياة ما دام الله هو الذي يقدر شؤونها - كالمصائب - و يجريها كيف يشاء ! و لكن القرآن يحل هذه الاشكالية باختصارو باسلوب بليغ حيث يؤكد دور الانسان في صنع واقعه و مصيره بالقول : " و من يؤمن بالله يهد قلبه " . اذن فالهداية التي هي من عند الله لا تحصل الا بعد ايمان الانسان نفسه بالله ، و على هذه السنة تمضي الحياة بخيرها و شرها ، بافراحها و احزانها ، كمااننا نستطيع ان نفسر كل الحوادث بهذه البصيرة .

و سؤال أخير في الآية : لماذا قال ربنا : " يهد قلبه " و لم يقل : يهديه ، كما في كثير من الآيات الأخرى ؟

و الجواب : اولا : لبيان ان صلاح الانسان و فساده ( هدايته و ضلاله ) كل ذلك متصل بما ينطوي عليه قلبه من الافكار و المعتقدات ، و بالتالي فان التغيير الحقيقي و الجذري يتم بتغيير القلب .


(1) غافر / 60 .


ثانيا : لبيان شمولية الهداية فهداية الله لقلب المؤمن تجعله خالصا من كل انحراف و ضلالة ، فان القلوب قد تكون مزيجا من الحق و الباطل الا قلب المؤمن حيث يصفو للحق دون الباطل و للهدى دون الضلال ، اي ان الايمان صنو لهداية القلب حيث يقوده الى سائر الحقائــق ، و يبصـره في جميع ابعاده و جوانب الحياة ، و كما زاد ايمان احد زاد هدى قلبه .

[12] و أعظم مصيبة تصيب البشر هي التخلف في الدنيا و دخول النار و التعرض لسخط الله فــي الآخرة ، و لكي يتجنبها الانسان يجب ان يطيع الله ، و يتبع القيادة الشرعية ، و يعمل بمناهج الحق التي بلغها الرسول - صلى الله عليه وآله - و فصلها ائمة الهدى و العلماء الصالحون . و هكذا يوصل القرآن حقيقة الايمان بالله و بالآخرة بحقيقة الايمان بالرسول ( القيادة الالهية ) . و لقد مهد السياق للحديث عن طاعة القيادة بما تضمنته الآية السالفة من بيان عن المصاعب ، و انطوت عليه من دعوة للتسليم لله فيها ، لان الطاعة لله واتباع القيادة الرسالية التي تنشد التغيير سوف يتسبب بلا شك في كثير من المشاكل و الضغوط التي ينبغي تحديها بروح التسليم لله عز وجل ، و لكنها تقضي على مشاكل اكبر بصورة جذرية .

[ و اطيعوا الله و اطيعوا الرسول ]

و نقف هنا عند تعبير القرآن الكريم ، فهو تارة يقول : " اطيعوا الله و رسوله " و اخرى يقول : " اطيعوا الله و اطيعوا الرسول " ، باضافة فعل الامر " اطيعوا " ، كما في هذه الآية . اوليس العطف بالواو وحده كاف لتأدية نفس المعنى ؟

و الجواب : ان لكلا التعبيرين ظلاله الخاص في المعنى و النفس ، و لعل العطف بالواو وحـدها يبين ان طاعة الرسول هي امتداد لطاعة الله ، بينما العطف بها مع الفعل : " اطيعوا " يؤكد استحالة الفصل بين طاعة الله و طاعة القيادة الرسالية ،بان يزعم البعض بانه يكتفي بالقرآن طاعة لله و بعدها لا داعي لطاعة احد رسولا او اماما او عالما .. و اللطيف ان هذا التعبير ورد في سياق سورة التغابن التي تعرضت لاشكالية الفصل بين طاعة الله و طاعة رسوله حيث قال الكفار : " ابشر يهدوننا ( الاية 6 ) محاولة للفصل بين الطاعتين . و يحذر الله من عصيانه و رسوله و التولي لغيرهما اذ يقول :

[ فان توليتم فانما على رسولنا البلاغ المبين ]

و كفى بهذه الآية تحذيرا للناس و تهديدا للكفار .

[13] و لما انتقد القرآن موقف الكفر و التولي من قبل الكفار تجاه رسلهم لكونهم بشر امثالهم ، و بالتالي التقليل من شأنهم و تبرير عصيانهم ، اكد هنا في سياق أمره بطاعة الرسول ( القائد الرباني ) و انطلاقا من منهجيته المتوازنة على حقيقة التوحيد كحد لتقديسالرسل و الاولياء القادة ، فانه لا يجوز بحال من الاحوال اعتبارهم شركاء لله او انصاف الهة ، كما صنع بعض النصارى و اليهود بالنسبة لعيسى و عزير - عليهما السلام - ، فالطاعة للقيادة و العبادة لله وحده .

[ الله لا اله الا هو و على الله فليتوكل المؤمنون ]و قد أكد القرآن على ضرورة التوحيد و التوكل في سياق أمره بطاعته و طاعة رسوله لان هناك سببين يدعوان الانسان للتخلف عن الطاعة لهما :

الاول : الشرك بالله سبحانه شركا مبدئيا باتباع الافكار و الفلسفات الضالة ، او عمليا بالخضوع للارادات الاخرى من دون الله لمجارات الشهوات و المصالح ، او اتباع الطواغيت و الركوع اليهم . و لكي يسمو الانسان الى آفاق الطاعة و التسليم لله و لقيادة الحق يجب اولا ان يتطهر من رواسب الشرك ، و يتخلص من اغلاله ،و يتحدى الانداد المزعومة .

الثاني : الضعف و الانهزام امام الضغوط و التحديات المضادة لخط الرسول و القيادة الالهية ، فان اجلى صور التحدي و الضغوط تبرز في مواجهة النظام الاجتماعي بكل أبعاده سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا و اخلاقيا و يجب على المؤمن ان يستقيم في خط التوحيد رغم ذلك، و هذا بحاجة الى ارادة صلبة تجعله اشد من الجبال ، و هذه يستمدها من الاستعانة بصاحب القدرة الواسعة و التوكل عليه . وما احوج الحركات الرسالية و المجاهدين للصمود في مسيرة التغيير عبر التوكل على خالق السماوات و الارض ، و الالتجاء الى حصن ولايته و عزتهو قدرته .

[14] و يذكرنا الوحي بأحد أقوى و أخطر التحديات التي يواجهها المؤمنون في طريق الجهاد و الطاعة لله و للقيادة الرسالية و هو تحدي الأسرة ، ذلك لان الأسرة هي حلقة الوصل الاساسية بين الانسان و محيطه الثقافي و السياسي ، و لذلك فهي أقرب تأثيرا و أبلغ نفاذافي إرادة المجاهد .

ثم ان مقاومة المؤمنين للطاغوت تنعكس بصورة حادة و سريعة على اسرهم ، فاذا بها كلها او بعضها تقف عقبة في طريق الجهاد ، فينهاروا نتيجة الصلات التي تربطهم بها . و لكــي يستقيم المؤمن لا بد ان يتذكر هذه الحقيقة ، و يحرق سفن العودة الى الشرك ، و يتحصن ضد وسائل الضغوط ، و من ابرزها الاسرة ، و ذلك عبر تحديها بصلابة التقوى و الايمان .

[ يا ايها الذين ءامنوا ان من أزواجكم و أولادكم عدوا لكم ]قال الامام الباقر - عليه السلام - : " و ذلك ان الرجل كان اذا أراد الهجرة الى الرسول - صلى الله عليه وآله - تعلق به ابنه و امرأته ، و قالوا : ننشدك الله ان لا تذهب عنا و تدعنا فنضيع بعدك ، فمنهم من يطيع أهله فيقيم ، فحذرهم الله ابناءهم و نساءهم و نهاهم عن طاعتهم ، و منهم من يمضي و يذرهم و يقول : اما و الله لئــن لم تهاجروا معي ثم يجمع الله بيني و بينكم في دار الهجرة لا انفعكم بشيء ابدا " (1) .

و في توجيه القرآن الخطاب للمؤمنين بالذات في هذه الآية بيان لحقيقة واقعية و هي : ان المؤمن الحقيقي مجاهد بطبعه ، لذلك تتوالى عليه الضغوط و التحديات ، و لانه من دون سائر الناس يتحمل المسؤولية الرسالية ، و بالتالي فانه الاولى بمثل هذا الخطاب ، و الأقرب لفهم معانيه ، فهو هنا ذلك الانسان الذي أمن بربه وحده ، و اطاع قيادة الحق متوكلا على الله . و كيف يدرك المتقاعسون معنى التحديات الاسرية و الاجتماعية و السياسية و هم يسبحون مع تيارها و ليس ضده كما يفعل المؤمنون الصادقون ؟ !

و لا تعني الاية من الازواج النساء وفقط ، فقد تكون الزوجة مؤمنة مجاهدة و يكون العدو هم الزوج و الاولاد فهي مسؤولة ايضا . و ما اروع موقف وهب الانصاري حينما تحدى تثبيط زوجته اذ تعلقت به لتردعه عن خوض القتال دفاعا عن الاسلام بين يدي الامام الحسين -عليه السلام - و لكنه اندفع الى الشهادة ، لان حب الله كان انفذ بقلبه من عاطفته تجاه زوجته الشابة ! و ما اعظم موقف آسية بنت مزاحم و هي تتحدى طغيان زوجها فرعون حتى استشهدت موثقة بالاوتاد ! و لعمري ان التاريخ الرسالي لحافل بمواقف البطولة للنساء و الرجال على سواء ، الذين فكوا حلقة الاسرة ، و انطلقوا في رحاب الدفاع عن القيم السامية .

و كما أن العداوة تتخذ ألوانا فان عداوة الازواج و الاولاد قد لا تظهر على شفرة سيف ، و لا سنـان رمــح ، و لكنها تتمثل في مظاهر اخرى عاطفية و اجتماعية و اقتصادية ، فحينما يكون المؤمن متفانيا لقضيته منصهرا في بوتقة اهدافه فان معاداة(1) تفسير القمي / ج 2 - ص 372 .


أسرته للقضية و الاهداف هي في الواقع معاداة له ذاته ، و لو جاءت تلك المعادات في صورة قشيبة من جهة التظاهر بحبه .

و اذا لم يحذر المؤمن هذه العداوة فان عاقبته الخسران ، ذلك ان الطغاة و المترفين و الكسالى و الرجعيين يحسنون استخدام سلاح الأسرة ضد المؤمن الرسالي ، لذلك تراهم ما يبرحون يسعون بشتى الاساليب ترغيبا و ترهيبا و تضليلا لادخالها في معادلة الصراع ضد الرساليين .

[ فاحذروهم ]

أي خذوا الحيطة المسبقة ، و تحصنوا ضد عداوتهم . و امره تعالى بالاحتياط هنا ثم دعوته الى الصفح و التسامح بعدئذ يدل على ان العداوة المعنية ليست التي تصل الى حد القتال بل هي العداوة الخفية ، كالتي تستهدف التثبيط و النيل من عزيمة الجهاد لدى الانسان المؤمن .

و ثمة ملاحظة جديرة بالانتباه تجدها في وزن كلمات الآية من الزاوية البلاغية ، فقد قال تعالى : " عدوا " بالافراد ، ثم قال : " فاحذروهم " بالجمع ، لان العدو قد يكون واحدا منهم و لكنه مندس بين ابناء العائلة و مؤثر فيهم فلا بد ان يحذرالمؤمن الجميع و يتوجس خيفة من اي كلمة تثبيط تتغلف بالود و العاطفة ، سواءا صدرت من امه و ابيه او زوجته و بنيه او اخته و اخيه ، و بهذا الحذر وحده يستطيع ان يتجنب الفضل الذي وقع فيه الكثير من الناس ، فما اكثر القرارات الصائبة التي ضربت عرض الحائط بسبب دمعة تحلقت في جفون الزوجات او كلمة عاطفية صدرت من أم أو أب ؟!!

وليست الدعوة الى الحذر تعني المقاطعة التامة مع الاسرة ، كلا .. بل لا بد ان يتحرك في علاقاته ضمن معادلة متوازنة احدى كفتيها الاحتياط و الحذر ، و الاخرى العفو و الصفح و الغفران .

[ و ان تعفوا و تصفحوا و تغفروا ]

و هذه ثلاث درجات لصفة واحدة هي التنازل عن الحقوق الشخصية بالسماحة و سعة الصدر لصالح الاسرة . و ينبغي للمؤمن ان يسمو بنفسه الى آفاق الحلم و السماحة تخلقا باخلاق الله ، و يتحمل بعض الاساءات من اجل جذب اسرته الى الرسالة .

[ فان الله غفور رحيم ]

يغفر للمتسامحين و يرحمهم ، و هي اعلى درجات التسامح . و تحسس المؤمن بحاجته الى غفران الله و رحمته لا شك يدعوه للتلطف بمن هو تحت يده و قدرته .

و نعود آلان الى معنى الكلمات الثلاث : ( العفو ، الصفح ، الغفران ) ، فالعفو هو التنازل عن حق الانتقام و المماثلة في القصاص و بالذات عند المقدرة ، و الصفح درجة ارفع ، اذ قد يتنازل الانسان عن حقه في الاقتصاص مثلا و لكن علاقته مع الطرف الآخر تبقى كدرة بسبب الاساءة ، اما اذا صفح عنه فهو يطوي صفحة الماضي و يفتح صفحة جديدة فتعود علاقته الظاهرة به علاقة طبيعية ، و ليس بالضرورة ان تزول الاثار النفسية الداخلية بذلك ، بلى . اذا غفر ازال حتى هذه الاثار ، بل و تنازل عن طلب الانتقام من الله عز وجل . و هذهالصفات ينبغي ان يتحلى بها المؤمن تجاه اسرته و الاخرين على كل حال و في كل الظروف ، و بالذات عندما يحتدم الصراع المبدئي بينه و بينهم ، فان هذا الصراع ينبغي ان يبقى في حدود المبدء و لا يتحول الى صراع شخصي مستمر ، فاذا عادت زوجته التي كانت تمنعه من العمل في سبيل الله الى رشدها او اقتنع ابواه و سائر اسرته فان عليه ان ينسى الاساءات التي صدرت منهم تجاهه ، و لا يذكرهم بها ، و لا يحمل في نفسهغضاضة ، و لا يطالبهم بالغرامة ، و ما اشبه .

[15] و قد لا تبدر العداوة من قبل الاسرة تجاه المؤمن ، و لكنه يفتتن بهم او بماله ، و لربما نجد البعض تحرضه زوجته او اسرته على الجهاد و لكن تفكيره في مستقبلها بعده يمنعه من الاقدام عليه ، لذلك حذرنا الله عن ذلك بقوله :

[ إنما أموالكم و أولادكم فتنة ]

قد ينجح المؤمن في مواجهتها و قد يفشل و لكنها كلها بالحصر و دون استثناء فتنة ، اي انها تضعه امام مفترق طريقين : احدهما الحق و الآخر الباطل ، و تثير فيه نفسه الامارة و الاخرى اللوامة ، ليختار بعقله و يمشي بارادته في ايهما شاء .

[ و الله عنده أجر عظيم ]

و إنما يذكر ربنا بهذه الحقيقة لان الايمان الصادق بها كفيل بان يدفع الانسان لتجاوز الفتنة بنجاح فيختار ما عند الله على ما في الدنيا ، كما ان هذه البصيرة ترغب المؤمن ليسخر الاموال و الاولاد في سبيل الحصول على ما عنده تعالى ، و ليس جعلها عقبة دون ذلك ، و فرق بين الامام الحسين - عليه السلام - الذي جعل اولاده و اصحابه و أهل بيته و أمواله وسيلة للتقرب من الله و بين الزبير الذي ادخله افتتانه بولده عبد الله فــي حرب مع ولي الله و حزبه في موقعة الجمل ، فقال عنه امير المؤمنين - عليه السلام - يصف عاملالانحراف في حياته : " مازال الزبير رجلا منا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشؤوم عبد الله " (1) ، لانه الذي دفعه الى حب الدنيا و الرئاسة ، و حرضه على الحرب ضد الامام - عليه السلام - . و هذه البصيرة تجعل المؤمن يتصرف تصرفا معتدلا مع أمواله و أولاده ، فلا يفرط في حق أبنائه ، و لا يبذر في صرف أمواله ، انما يتبع طريقا وسطا يزن كل موقف منه(1) نهج / حكمة 453 .


تجاههما بدقة ، و يتصرف بحكمة ، و يتجنب الاسترسال في موقف ايجابي او سلبي .

و هكذا روى المفسرون حديثا عن الرسول - صلى الله عليه وآله - نستلهم منه معنى ايجابيــا للفتنة ، و انها لا تعني طرد الاولاد او نبذ الاموال ، بل التصرف الحكيم معها . الحديث كما يلي :

روى عبد الله بن يزيد عن ابيه قال : كان رسول الله يخطب فجاء الحسن و الحسين - عليهما السلام - و عليهما قميصان احمران يمشيان و يعثران ، فنزل رسول اللــه إليهمــا فـأخذهمــا فوضعهما في حجره على المنبر ، و قال : " صدق الله عز وجل : " إنما أموالكم و أولادكم فتنة " نظرت الى هذين الصبيين يمشيان و يعثران فلم اصبر حتى قطعت حديثي و رفعتمهما " ، ثم اخذ في خطبته (1) .

[16 - 17] و ليــس من درع يتحصن به المؤمنون ضد الفتن افضل من تقوى الله ، لانها الحبل المتين الــذي يــوصل الانسان بربه في كل مكان و في كل لحظة من عمره ، و في كل سعي و قول يصدر عنه . هذا اولا ، و ثانيا : السماع لله و لرسوله و الطاعة لهما ، و ثالثا :
الانفاق في سبيل الله و التضحية بكل ما يملكه الانسان ، فان ذلك هو السبيل المستقيم لنيل ما عنده تعالى من الاجر ، و الانتصار على شح النفس الذي هو أساس كل انحراف في حياة البشر ، و بالتالي الفلاح الحقيقي في الدنيا و الاخرة .

[ فاتقوا الله ما استطعتم ]

و هذه الآية بيان لقول الله في موضع آخر : " اتقوا الله حق تقاته " (2) ، و ذلك(1) مجمع البيان / ج 10 - ص 301 .

(2) آل عمران / 102 .


من وجهين :

الاول : ان الله سبحانه حينما فرض التقوى على الانسان اعطاه من الاستطاعة ما يمكنه بها احرازها كما يريدها منه تعالى ، قال الامام الصادق - عليه السلام - : " ما كلف الله العباد كلفة فعل و لا نهاهم عن شيء حتى جعل لهم الاستطاعة ثم أمرهم و نهاهم " (1) .

و قال - عليه السلام - : " و انما وقع التكليف من الله تبارك و تعالى بعد الاستطاعة ، و لا يكون مكلفا للفعل الا مستطيعا " (2) كما قال تعالى : " لا يكلف الله نفسا الا وسعها " (3) . اذن فتقوى الله بقدر ما يستطيع الانسان هي نفس حقالتقاة .

الثاني : ان تقوى الله حق تقاته تختلف من انسان الى آخر باختلاف الظروف و الامكانات الذاتية ، فتقوى الاعرج و الاعمى و المريض تختلف عن تقوى السليم في بدنه ، و تقوى العالم تختلف عن تقوى الجاهل ، و تقوى السجين تختلف عن تقوى الحر ، و هكذا .. فاذا ما بذلالانسان كل ذرة من جهد يستطيعه فقد اتقى ربه حق تقاته عمليا . و لذلك فرق تعالى في الكم بين انفاق الموسع و المقتر فقال : " لينفق ذو سعة من سعته و من قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها " (4) .

و نستوحي من الآية : ان المؤمن يجب ان يكون واقعيا في نظرته الى الدين ، فيتقي الله حسب استطاعته و مكنته ، و اذا لم يستطع فلا يؤنب نفسه و لا يقنط من(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 343 .

(2) المصدر .

(3) البقرة / 286 .

(4) الطلاق / 7 .


رحمة الله ، بل يفعل بقدر وسعه . مثلا : من لم يستطع طولا ان يصلي قائما فلا يترك صلاته رأسا ، بل يصليها عن جلوس ، و من لم يستطع ان يعارض حاكم السوء فلا يجاريه بقلبه بل يتقيه ظاهرا و يستمر في مقاومته في السر ، و هكذا ..

قال تعالى : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء من دون المؤمنين و من يفعل ذلك فليس من الله من شيء الا ان تتقوا منهم تقاة " (1) ، و قال : " من كفر بالله من بعد ايمانه الا من اكره و قلبه مطمئن بالايمان " (2) .. و الحاصل : ان الانسان حينما يضطر الى التقوى الممكنة عمليا لسبب مشروع فهو في الواقع صار الى التقوى المأمور بها ، لان تقوى الله حق تقاته تكون بالتزام احكامه سواءا كانت احكاما اولية او ثانوية ، و قد لا تحرز التقوى بحق الا بشرب الخمر و أكل الميتة و العمل ظاهريا في جهاز الحكم الجائر ، كما أكد ذلك الامام الكاظم - عليه السلام - لصاحبه علي بن يقطين الذي اراد الاستقالة من رئاســـة الوزراء في عهد هارون حيث منعه و بين له بان بقاءه هو الواجب المطلوب شرعــا .

و الآية الكريمة التي نحن بصددها تعبير عن النظرة الواقعية في الاسلام ، و ينبغي للحركات الرسالية اعتبارها اصلا من اصول التحرك حيث ان النظرة المثالية الى الشريعة تجعل الاولويات ضحية للامور الثانوية و الاصول ضحية للفروع .

[ و اسمعوا و اطيعوا ]

فالمهم اذن ليس الاستماع الى كلام الله و توجيهات القيادة الرسالية فقط ، انما الاهم هو الطاعة و الاتباع ، لان التوجيه لا يؤثر في الواقع الا اذا سلمنا له و عملنا بمضامينه ، و بالذات تلك التي تتطلب من الانسان التضحية لانها الاصعب ،(1) آل عمران / 28 .

(2) النحل / 106 .


و التزام الانسان بها مؤشر على عمق ايمانه ، و اقتحامه عقبة الشح الكبرى . لذا قال تعالى :

[ و انفقوا خيرا لانفسكم ]

اي ان الانفاق يعود على صاحبه بالخير ، فهو يزكي النفس و يزيد ايمانها ، و يتقدم بالمجتمع اقتصاديا لما يسببه من نماء في الثروة و تدوير لها . و للآية تفسير آخر هو : انفقوا خيرا في مقابل الشر ، فان الخير هو الذي يعود للنفس و المجتمع بالنفع .

[ و من يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون ]

و شح النفس هو مجموع الصفات السلبية التي تعبر عن حب الذات و حب الدنيا ، كالبخل و الحرص و العنصرية و ما اشبه ، و اذا انتصر الانسان على شح نفسه صار من المصلحين لانه جذر كل ضلال و انحراف و معصية في حياة البشر ، و لان الانتصار عليه يفتح الطريق له نحوكل فضيلة و صلاح ، و لذلك يحدثنا ابو قرة فيقول : " رأيت ابا عبد الله ( الامام الصادق عليه السلام ) يطوف من اول الليل الى الصباح و هو يقول : اللهم قني شح نفسي ، فقلت : جعلت فداك ما سمعتك تدعو بغير هــذا الدعاء ؟! قال : و أي شيء أشد من شح النفس ، وان الله يقول : " و من يـوق شــح نفسه فاولئك هم المفلحون " (1) .

و الانفاق من اهم العوامل التي تقضي على شح النفس ، جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق - عليه السلام - : " من ادى الزكاة فقد وقي شح نفسه " (2) .

[ ان تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ]


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 346 .

(2) مجمع البيان / ج 10 - ص 301 .


ماهو القرض هنا ؟ قال بعضهم : هو الدين ، و قال البعض : بل هو كل إنفاق ، او الإنفاق المندوب ( بينما الاول كان في عموم الإنفاق ) . و أنى كان فان لكل هذه المفردات آثارا مباركة في حياة الفرد و المجتمع ، و لها ايضا اثار معنوية تتصل بمصير الانسان في الآخــرة ، اذ تسبب فــي غفران الذنوب باعتباره من الحسنات الكبيرة التي تشفع في السيئات .

[ و يغفر لكم و الله شكور حليم ]

فهو يرد القرض مضاعفا بشكره ، و يغفر الذنوب بحلمه .

[18] و كلما كان الانفاق اصفى من شوائب الرياء و السمعة و المن و الاستكبار و ابتغاء المصالح المادية كلما كان اقرب الى الله و انفع للنفس و ازكى لها ، و ربما لذلك ختمت السورة بالتذكرة باسماء الله :

[ عالم الغيب و الشهادة ]

يعرف ما ينفق ، و يعرف لماذا و باية نية .

[ العزيز ]

الذي لا يحتاج الى انفاق أحد أو نصر أحد ، قال سبحانه " فتولوا و استغنى الله و الله غني حميد " .

[ الحكيم ]

الذي يثيب من يثيب بقدر طاعته و اخلاصه ، و يعاقب من يعاقب حسب ذنبه و كفره .

نسأل الله ان يجعلنا ممن يتبصر هذه الحقائق حتى لا نكون من المغبونين .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس