فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


الإطار العام
ان التخرصات بوجود قوى غيبية قاهرة تؤثر في مجريات الحياة من الافكار التي لا تكاد تخلو منها ثقافة من الثقافات البدائية ، وهي عامل رئيس في الشرك بالله و عبادة الاصنام و الأوثان ، فالذي يعبد شجرة فانما لظنه بأن فيها حلولا من عالم الغيب ، و الذي يعبدالحجر لا يعبده بذاته وإنما يعبد الروح التي يزعم أنها تحوم حوله .

و الجن من بين تلك الارواح التي أثير ولا يزال حولها الكثير من الجدل الى حد الخرافة و الخيال المبالغ ، فقد زعم البعض أنها أرواح خلقت ذاتيا من غير خالق ، و قال آخرون انها تقوم بدور الخير و الشر في الحياة ، وعلى هذا الاساس ارتأوا ضرورة إرضائها فاشركوابها ..

وقد أفرز الوحي الالهي الخرافة عن الواقع ، فبين الحق ، و نسف الثقافات الباطلة حول الجن ، كما كشف في هذه السورة التي سميت بإسمهم عن جوانب من حضارتهم اعتمادا على علم الله المحيط بكل شيء ، و ليس على الظنون و التخرصات ، و تحدثنا آياته بلسانهم : ( الآيات 1 - 14 ) .

و الذي يدقق النظر في آيات هذه السورة يهتدي الى وجوه تشابه أساسية بين حضارتهم و حضارة البشر :

1 / فهم مخلوقون مكلفون من قبل الله بالاذعان للحق ، و اتباع رسالته المتمثلة في القرآن .

2 / وإن واقعهم الاجتماعي و السياسي يشبه الى حد بعيد واقع المجتمع البشري ، ففيهم الزعماء الذين يتسلطون على المجتمع و يشطون طغيانا وسفها .. كطواغيت الناس و حكامهم الفاسدين .

3 / كما أنهم يقعون في ذات الأخطاء التي يتورط فيها ضلال الناس كالشرك بالله عز وجل .

4 / و بالتالي فان فيهم الصالحين و دون ذلك و المسلمين و القاسطين كما هو حال البشر .

و في البين يشير القرآن الى ان الالتقاء بين حضارتي الإنس و الجن القائم على الشرك بالله و زيادة الانحراف و الرهق فانه منبوذ و محرم في شرع الله .. و منه استعاذة السحرة و المشعوذين بالجن ، مما يزيدهم بعدا عن الحق و توغلا في الباطل .

و يفضح الوحي مجموعة التخرصات و الخرافات التي صورت الجن قوى خارقة ، و رفعتهم الى مستوى الربوبية ، مما دعى بعض جهال الناس لعبادتهم و الشرك بهم ، فيؤكد :

أولا : أنهم لا يحوزون على العلم الحق المطلق ، فلا يصح الاعتماد على ما يلقونه من ثقافتهم و افكارهم في روع من يعوذ بهم ، لان علمهم محدود إذ يجهلون الكثير من الأمور .. و واضح تأكيد القرآن على ان كثيرا من تصوراتهم و ثقافاتهم قائمة على الظن لا على العلم الواقعي القاطع ( يلاحظ تكرار كلمة " ظننا " بلسان حال الجن مرات عديدة ) ، كما أنهم لا يدرون بمصير من في الارض أريد بهم شرا أم أراد بهم ربهم رشدا . و حيث جاء القرآن كشف لهم عن مدى ضلالتهم و جهلهم بجملة من أهم الأمور و أوضحها .. أعني الايمانبالله و توحيده .

ثانيا : و أنهم ليسوا قوى ذات قدرات خارقة حتى يخشى منهم البشر او يعوذون بهم طمعا في نيل القدرة ، و دليل ذلك اعترافهم أنفسهم بعجزهم عن اختراق الحجب و استراق السمع من الملأ الأعلى ، و عجزهم عن مقاومة إرادة الله ، أو حتى الهرب من حكومته و سلطانه .


و حيث تتمحور السورة حول الحديث عن الجن الذين أشرك بهم ولا يزال بعض الإنس تؤكد الآيات الأخيرة على حقيقة التوحيد ، وأنه تعالى الذي يملك الضرر و الرشد ، وهو أهل الاستعاذة به ، و عالم الغيب لا يشاطره أحد فيه إلا من ارتضى من رسله .. مما يعطي الشرعية لخط الانبياء فقط ، اما الجن و من يتصل بهم - سواء كانوا كهنة و سحرة و منجمين - فلا يجوز إتباعهم أبدا .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس