فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 25 ] ما هي السمات الاساسية للحركة الصادقة ؟ و ما هو هدفها و المنهج الالهي الكفيل بالوصول اليه ؟ و من هو المسؤول عن تطبيقه ؟ عن هذه الاسئلة الحساسة تتحدث اية الحديد التي تنتهي اليها بصائر هذه السورة التي سميت باسمها .

ان اهــم الســمات في الحركة الصادقة و التي تعد بينات على سلامتها هي التالية :

الاولى : الانبعاث باسم الله رب العالمين ، اما الانطلاقة الضالة التي تبدا من ثقافة الشرك و الجحود فانها اية واضحة على خطا الحركات التي ترتكز عليها ، و الرسل وحدهم انطلقوا باسم الله و بأمره الذي تلقوه عبر الوحي بعد اختيارهم من قبله تعالى ، و حيث ختم الله عهد هذا النوع من الحركات بنبيه محمد ( ص ) فان الحركة الصادقة هي التي تكون امتدادا لهم و بزعامة الاوصياء و الربانيين و العلماء بالله الامناء على حلاله و حرامه و الاولياء و القادة الرساليين .

الثانية : المنهج الرباني الاصيل ، و المتمثل في الرسالات التي اكملها و ختمها ربنا بالقرآن الذي حفظه من التحريف ، و جعله مهيمنا على الكتب ، فانه المنهج الاصيل و الوحيد الذي يجب اتباعه ، و اتباع هداه و بصائره ، اما المناهج القائمة على الجهالة و الافراط و اتباع الاهواء فهي لا تصلح وسيلة مناسبة للنجاج ، لانها اذا اخرجت الناس من ظلمات فلكي تدخلهم في مثلها ، او انقذتهم من عبودية فالى عبودية مثلها او أسوء منها .

الثالثة : الاهداف السامية ، و التي يلخصها القرآن في العدل ( قيام الناسبالقسط ) ، و لكن ليس بالمفهوم الضيق له المتمثل في ردم الهوة بين الطبقات الاجتماعيــة ، بل الــتزام الحق و الانصاف من قبل الانسان في كل ابعاد حياته و علاقاته ، في علاقته بربه و قيادته ، و في علاقته بنفسه و مجتمعه ، و في علاقته بالخليقة من حوله ، و انمايعرف مدى قيامه بالقسط من خلال الميزان ( الفطرة ، و العقل ، و الكتاب ، و القيادة ، ... ) .

و الحركــة الصادقة هي التي تسعى الى ذلك بالكلمة الصادقة او بالقوة و السلاح ، و هي التي يجب على الناس تبنيها ، و مساعدتها ، و الانتماء الى صفوفها ، لانها تجاهد للحق و من اجل سعادتهم ، و لانها المحك في نصرتهم لله و لمسيرة الانبياء و المرسلين .

و الآية تشير الى هذه السمات اذ تقول :

[ لقد ارسلنا رسلنا ]

دليلا الى الله ، و تعريفا للناس به تعالى ، فهم يتحملون مسؤولية محددة هي تبليغ رسالة الخالق الى المخلوقين ، و هدايتهم الى معرفته ، و الايمان به ، و العمل برسالته ، قال النبي ( ص ) : " بعث اليهم الرسل لتكون له الحجة البالغة على خلقه ، و يكون رسله اليهم شهداء عليهم ، و ابتعث فيهم النبيين مبشرين و منذرين ليهلك من هلك عن بينة ، و يحيى من حي عن بينة ، و ليعقل العباد عن ربهم ما جهلوه ، فيعرفوه بربوبــيته بعــدما انكروا ، و يوحدوه بالالهية بعد ما عضدوا ( اشركوا ) " (1) ، و قال الامام علي ( ع) : " بعث رسله بما خصهم به من وحيه ، و جعلهم حجة له على خلقه ، لئلا تجب الحجة لهم بترك الاعذار اليهم " (2) ، فهم(1) توحيد المفضل / ص 45 .

(2) نهج / خ 144 .


الواسطة بين الخالق و المخلوق ، و حبل الله الممدود من السماء الى الارض ، و لكن كيف نعرف صدقهم و صدق دعوتهم من بين القادة المنحرفين و الدعوات الضالة ؟

القران يجيب على هذا السؤال اذ يقول :

[ بالبينات ]

لهذه الكلمة معنيان يبدو ان كليهما تشملهما الكلمة :

1 - تفاصيل الهدى ، المتمثلة في الثقافة التوحيدية ، و البصائر و القيم ، و المناهج المنبثقة منها ، و اشتمال رسالات الله على هذه التفاصيل دليل على انها وحي من عند الله ، اذ قد يهتدي بشر اوتي صفاء النفس الى بعض معاني الغيب ، و لكن انى للانسان ان يأتي بهذه المنظومة المتكاملة من البصائر الغيبية ، ان ذلك الا دليل اتصاله المباشر بالوحي .

2 - الحجج و الآيات التي تهيمن على النفس و العقل ، كالمعاجز ، و الخلوص من الهوى و المصلحة و التمحض للحق ، و هذا يهدينا الى ان الرسالات الالهية قائمة قبل كل شــيء على الاقناع ، لانه الذي ينمي الايمان في النفس ، و يحركه بفاعلية اكبر ، و ابقى من اي عامل اخر ، و ربنا يقول : " سنريهم آياتنا في الافاق و في انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق " (1) ، ذلك ان الايمان الناتج من الاستجابة للبينات و الآيات هو الذي يخشع القلب و الجوارح لذكر الله و يطوعهما للرسول و لما نزل من الحق و للميزان ، و بالتالييدفع المؤمن للقيام بالقسط ، و حينما يتخلف احد من المؤمنين عن الاستجابة للرسول و للوحي فان ذلك يدل على تزلزل في قناعاته .

و حيث لا يؤتي الايمان ثماره الا اذا تحول الى نظام تربوي ، اجتماعي ،(1) فصلت / 53 .


اقتصادي ، سياسي ، ثقافي شامل لجوانب الحياة ، يكفل للبشرية السعادة ، انزل الله شريعة متكاملة الى جانب البينات متمثلا بالكتاب .

[ و انزلنا معهم الكتاب ]

فاذا كانت البينات تؤمن القناعات الاولية فان الكتاب يؤمن النظام العملي الشامل المنطلق من الايمان ، و الذي يستهدف تكريسه بعمق في النفوس و الواقع ، و القيام بالقسط - هذا الهدف العظيم - انما يستمد شرعيته و شرعته منه .

و مع دلالة الانزال على المعنى الظاهر من الكلمة فانه يدل على الفرض ، و كل ما نزل من الخالق الى المخلوق فهو لازم و مفروض عليه القيام به . و من البديهي ان معرفتنا بالبينات ان الكتاب من الله تلزمنا العمل به و تنفيذه .

[ و الميزان ]

الوسيلة التي نعرف بها مضامين الكتاب الخارجية ، مما يتكفله القضاء المرافعات و الخصومات .

و السؤال : ما هو الميزان ؟ هل هو العقل ؟ ام الامام العادل ؟ ام هذه المقاييس التي يزن الناس اشياء هم بها ؟

يبدو ان الميزان اساس هو المقياس الذي نعرف به تطبيق الحكم على الواقع الخارجي ، و هو لا يتم الا بالعقل و الامام و المقياس السليم . كيف ذلك ؟

اولا : ما جاء القرآن ليلغي دور العقل ، انما ليثير دفائنه بالاجتهاد في فهم حقائقــه و احكامــه و طريقة تطبيقه ، و ليقوم بدوره الحساس و الخطير في حياة البشرية .


ثانيا : ما جاء القرآن بديلا عن الامام ( السلطة العادلة ) حيث يجب التسليم للقيادة الشرعية في حدود قيم الكتاب ، فدور الامام يكمل دور الرسالة ، لذلك قال رســول الله ( ص ) : " اني قــد تركت فيكم الثقلين ، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ، أحدهما اكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الارض ، و عترتي اهل بيتي . الا و انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " (1) ، و قد اجمعت فرق المسلمين قاطبة على هذه الروايــة ، مع حكــم العقل بضرورتها ، اما قول الخوارج : ( حسبنا كتاب الله ) فانهباطل بشهادة الكتاب ، و شهادة العقل ، بل و شهادة التاريخ البشري حيث لم نعهد جماعة بلا سلطة تحكمهم ، و حتى الخوارج انفسهم ما عاشوا دون سلطة طول تاريخهم .

و ميزان الانسان في الدنيا هو ميزانه في الآخرة حيث يقول ربنا سبحانه : " يوم ندعو كل اناس بامامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فاولئك يقرأون كتابهم و لا يظلمون فتيلا " (2) ،قال الامام الرضا ( ع ) : " الميزان : امير المؤمنين نصبه لخلقه " ، " الا تطغوا في الميزان " قال : " لا تعصوا الامام " (3) .

و العقــل يعكس مقاييسه التي فطر عليها على مجموعة ادوات يقيس بها الاشياء . أرأيت ان العقل يعرف - عبر البصر - مدى قرب او بعد الاشياء ، و لكنه التماسا للدقة يعكس ذلك على ادوات العلم ( المتر و الكيلومتر ) ، كما يقدر العقل على معرفة مدى حرارة الجسم باللمس ، و لكنه يبدع المحرار ليكون أقرب الى الدقة ، و هكذا سائر الموازين . انها تجليات العقل على الطبيعة ، و من جهة اخرى انها(1) بح / ج 23 / ص 106 و كنــز العمــال / ج 1 / ص 172 و ( 18 ) موضعا اخر .

(2) الاسراء / 71 .

(3) نور الثقلين / ج 5 / ص 188 و قد مر في سورة الرحمن تفصيل حول معنى الميزان .


ادوات لحكم السلطة العادلة ، فلولا القوانين التي تنظم العلاقة و توزن مدى تطبيق القيم على الواقع لم يستطع الامام فرض العدل على الناس .. و هكذا كان الميزان اساس هو العقل ( الذي هداه الله لمعرفة المقاييس و المقادير ) ، و الامام الذي هو بمثابة العقل الظاهر، ثم الانظمة و الادوات القياسية ، لانها تهدي الناس للحق و العدل ، و لذلك جاء في التفسير : " نزل جبرئيل ( ع ) بالميزان ( الكفتين و اللسان ) فدفعه الى نوح ، و قال : مر قومك يزنوا به " (1) .

[ ليقوم الناس بالقسط ]

و اقامة الشيء تنفيذه على أصلح وجه ، و منه اقامة الصلاة اذا مارسها بوجهها الصحيح . و العوامل الثلاثة ( البيان ، الكتاب ، الميزان ) يكمل بعضها بعضا ، و هي كفيلة بأن توفر المناخ المناسب لاقامة القسط و لتحقيق هدف رسالات الله .

و القسط - حسب الرازي - و الاقساط هو الانصاف ، و هو ان تعطي قسط غيرك كما تأخذ قسط نفسك ، و العادل مقسط ، قال الله تعالى : " ان الله يحب المقسطين " ، و القاسط الجائر ، قال تعالى : " و أما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا " (2) .

و حســب بعض اللغويين : قسط ( بالفتح ) قسطا ( بالكسر ) : عدل ، و قسطا ( بالفتح ) و قسوطا : جار و عدل عن الحق (3) ، ثم اعتبر ذلك من الاضداد .

و انى كان فان مفردات استخدام الكلمة تدل على انها ليست مجرد بسط العدالة الظاهرة ، بل هي اقامة العدالة الواقعية التي فيها المزيد من الانصاف ، و إيتاء الحق(1) جوامع الجامع للطبرسي عند الاية .

(2) تفسير الرازي / ج 29 / ص 243 .

(3) المعجم الوسيط ( قسط ) .


لاهله .

و الآية تصرح بأن اقامة القسط تكون بيد الناس انفسهم ، فلم تقل : ليقوم الرسل بالقسط بين الناس ، بل قالت : " ليقوم الناس بالقسط " ، و لو ان الناس تخلوا عن مسؤوليتهم تجاه العدالة فان القسط لا يقوم ، لان رسالات الله توفر للناس فرصة اقامة القسط، و لم يبعث الانبياء لفرض العدالة بالاكراه على الناس .

و قيام الناس بالقسط يعني العدالة ، و إقامة الحق في سائر جوانب حياتهم ، مع الله ، و مع الرسول ، و مع القيادة الشرعية ، و مع الناس ، بل و مع الحياة ، فيتقون الله حق تقاته ، ثم يختارون الامام العدل و يسلمون له و يتبعونه ، قال الامام الرضا ( ع ) : " و اقيموا الوزن بالقسط " : و اقيموا الامام بالعدل " (1) ، و يلتزمون الحق مع انفسهم باتباع القصد من دون افراط و لا تفريط ، و مع الناس فلا يبخسون ، و لا يطففون ، و لا يظلمون و لا يعتدون ، و لا ينقضون العهد ، و هكذا يلتزمون العدل في علاقتهممع الخليقة من حولهم ، فلا يفسدون في الارض بعد إصلاحها ، و لا يهلكون الحرث و النسل ، و لا .. و لا ..

و لكن تبقى شريحة من الناس تخالف الحق ، من اجل هذا انزل الله الحديد وسيلة رادعة لتنفيذ القسط و اقامته بين الناس ، و لا ريب ان القوة ليست الوسيلة المناسبة دائما ، فما يقره الاسلام شرعية القوة في الحالات الخاصة لا شريعتها .

[ و انزلنا الحديد ]

قال الامام علي ( ع ) : " يعني السلاح و غير ذلك " (2) ، مما يحقق الغرض منه ،(1) تفسير نور الثقلين / ج 5 / ص 189 .

(2) المصدر / ص 250 .


و هو الردع و تنفيذ القسط . و هذا الشطر من الآية معطوف على ( الكتاب و الميزان ) و لكن الله يذكر اولا الهدف من الحديد . لماذا ؟ يبدو لكي يبين بصيرة هامة ان العوامل المتقدمة هي الاهم ، و لا بد ان تكفي في الظروف العادية " ليقوم الناس ( انفسهم ) بالقسط " فلا يحتاجون الى اعمال الحديد و ذلك لان القوة التنفيذية في الاسلام تستمد قوتها الاساسية من الايمان لا من السيف . و هنا نتساءل : اذا لماذا انزل الله الحديد ؟ الجواب : انما لاولئك الجبابرة و الطغاة و المعاندين الذين قست قلوبهم عن وعي البينات والكتاب ، و عارضوا الميزان و القسط ، لمثل اولئك شرع الله استخدام السيف ، و رغب فيه ، فقد روي عن رسول الله ( ص ) انه قال : " الخير كله في السيف ، و تحت ظل السيف ، و لا يقيم الناس الا السيف " (1) ، و قال الامام علي ( ع ) : " ان الله داوي هذه الامة بدوائين : السوط ، و السيف ، لا هوادة عند الامام فيهما " (2) ، و قال الامام الصادق ( ع ) : " ان الله عز وجل بعث رسوله بالاسلام الى الناس عشر سنين ، فأبوا ان يقبلوا حتى امره بالقتال ، فالخير في السيف ، و تحت السيف ، و الامر يعود كما بدأ " (3) ، و قال الامام امير المؤمنين ( ع ) : " السيف فاتق ، و الدين راتق ، فالدين يأمر بالمعروف ، و السيف ينهى عن المنكر ، قال الله تعالى : " و لكم في القصاص حياة " (4) .

[ فيه بأس شديد ]

على الذين لا يقومون بالقسط ( حيث الحدود ، و القصاص ، و سائر العقوبات الشرعية ) ، و على الذين يظلمون و يحاربون العدالة ( حيث الجهاد في سبيل الله ) و استخدام الحديد كرمز للقوة ، باعتباره المادة الاساسية لصنع الاسلحة و وسائل(1) بح / ج 100 / ص 9 .

(2) شرح ابن حديد / ج 1 / ص 275 .

(3) فروع الكافي / ج 5 / ص 7 .

(4) غرر الحكم طبعة ايران المترجمة حكمة ( 2157 ) باب الالف .


القوة ، و هنا يطرح السؤالين التاليين : الاول : اذا كان الاسلام يؤمن بالحرية فلماذا القوة ؟ و الثاني : اذا كان الله سوف يحاسب الناس يوم القيامة فلماذا السيف و الجهاد في الدنيا ؟ و نجيب على ذلك :

اولا : الاسلام بين الحجة و القوة :

أبرز اهداف الاسلام تحرير الانسان من الاغلال ظاهرة و باطنة ، قال تعالى : " الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الانجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهم اصرهمو الاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي انزل معه اولئك هم المفلحون " (1) ، بلى . الرسول يخرج الناس من ظلمات الجهــل و التخلف و الاستعباد ، الى نور العلم و التحضر و الحرية ، و لكن كيف ؟ هل بقوة المنطق ام بمنطق القوة ؟ لقد بينت ايات عديدة انه لا اكراه في الدين ، و ان الرسول ليس بجبار عليهم ، قال سبحانه : " لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " ، و قال سبحانه : " نحن اعلم بما يقولون و ما انت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد " (2) ، و تطبيقا لهذه الحقيقة في الواقع منع ربنا الرسول و المسلمين من اكراه الناس على الدخول في الدين الجديد ، فقال : " ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " (3) .

اذا لماذا القوة ؟ انما ضد فريقين : الاول : الذين يصادرون حرية الناس ، و يفرضون عليهم اغلالهم ، الثاني : الذين يخرجون على قوانين البلاد ، و يعيثون في(1) الاعراف / 157 .

(2) ق / 45 .

(3) يونس / 99 .


الارض فسادا ..

ثانيا : الاسلام و القوة و الحياة :

1 - اما لماذا القوة في الدنيا مادام الله يحاسب الناس في الآخرة فيجزي المحسن و المسيء ؟ فلأن الابتلاء لا يتم الا عند توافر شروطه ، فلو اطبقت على الارض حكومات الضلال و افرغت على الناس دعاياتها السامة ، دون ان تسمح لاحد بنشر الدعوة الى الله بينهم ، كيف تتم آنئذ حجة الله على سائر العباد . اوليسوا كانوا يقولون : ربنا لم تبلغنا الدعوة اليك ، و لم نسمع عن رسولك شيئا ؟ اذا لا بد ان يسعى المؤمنون لتوفير جو الامتحان ليهتدي من اهتدى عن بينة ، و يضل من ضل عن بينة .

2 - ثم ان الذين يعارضون استخدام القوة من قبل المؤمنين لا ينظرون الى الجهاد الا من زاوية المضاعفات السلبية التي تستتبعه ، و بالذات من زاوية بطش الحكومات الفاسدة بالمجتمع و المجاهدين انفسهم ، في حين يجب عليهم النظر في زاوية المعطيات الايجابية للجهادعلى صعيد الدنيا حيث الحرية و الاستقلال و الامن و التقدم و سائر مضامين اقامة القسط و نتائجه ، و على صعيد الاخرة حيث رضوان الله و جنته ، و هذه بعض المنافع التي جعلها الله للحديد .

[ و منافع للناس ]

فالحديد سلاح يساهم في اقامة القسط ، و هو في ذات الوقت معدن يتدخل في كثير من الصناعات و مرافق الحياة .

و ان السعي لاقامة الحق و العدالة بين الناس يتسبب في صراع مصيري بين انصاره و رسله ( حزبه ) و انصار الباطل و ائمته ( حزب الشيطان ) فيميزهم عنبعضها ، فيحقق الهدف الاساس من حياتنا الدنيا الا و هو الابتلاء .

[ و ليعلم الله من ينصره و رسله ]

من المجاهديــن الذين يسعون نحو تحقيق الغاية من الرسالات و هي اقامة القسط ، بلى . السيف وسيلة ذلك ، و لكن سواعد المجاهدين هي التي تحمل السيف و تحارب به الاعداء ، فلا يزعم احد ان نصرة الله لدينه تتم بصورة غيبية دائما . و يعتبر المجاهدون هذه الغاية هيالاسمى لان اعظم اهدافهم بلوغ رضوان الله سبحانه ، الذي يعتبر الجهاد اقرب سبله .

و النصرة الحقيقية للحق لا تتحقق بمجرد الانتماء الى صفوف المؤمنين ، و رفع السيف ، و القتال ، و حسب ، كلا ... فهذا المظهر المطلوب ، بل المهم الى جانب ذلك ان تكون الدوافع توحيدية نابعة من الايمان بالله ، لذلك قال ربنا :

[ بالغيب ]

اما الذي ينتمي للمؤمنين و يقاتل معهم بدوافع و اهداف مادية و مصلحية ، او لان الاخرين نصروه ، او لاي شيء آخر لا يتصل بالغيب ، و هو رضى الله و جناته ، فلا تشمله الآية .. و مما يخلص دوافع الانسان و اهدافه علمه بأنه لا ينصر ضعيفا و لا ذليلا ، و انه تعالى لم يدعه للنصرة عن حاجة و عجز حتى يطلب المقابل و يفرضه عليه بعد النصر ، او يمن على ربه سبحانه .

[ ان الله قوي عزيز ]

و انما يكتسب المجاهدون من نصرتهم له قوة و عزة .

و كلمة اخيرة :


ان آية الحديد تشير الى نظام التجمع الاسلامي الذي يتمثل في الرسول و من ينوب عنه ، و في القوى الثلاث : التشريعية ، و رمزها ( الكتاب ) و دورها بيان الاحكام ، و القوة القضائية ، و رمزها ( الميزان ) اما مهمتها فهي تطبيق الانظمة على الواقــع لتحديــد المصاديــق و بيان كيفيــة التنفــيذ ، و القوة التنفيذية ، و رمزها ( الحديد ) .

كما تشير الآية الى شعار التجمع الاسلامي الذي يهدينا الى وجهته و صبغته العامة و المتمثل في قوله سبحانه : " ليقوم الناس بالقسط " .

و خاتمة الآية تهدينا الى الدافع الغيبي لنصرة الدين ، و الذي يعتبر الضمانة التنفيذية للاحكام ، و قوة التماسك الداخلية في التجمع الايماني .

[ 26 ] و يضرب القرآن مثلا تاريخيا لما بينته آية الحديد فيما يتصل بحركة الانبياء و من يتبعهم ، و ذلك من واقع نوح و ابراهيم ( عليهما السلام ) حيث كانا فاتحين لعهدين جديدين في تاريخ الرسالات الالهية .

[ و لقد ارسلنا نوحا و ابراهيم ]

و النبوة هي القيادة المعصومة المختارة من عند الله ، اما الرسالة فهي فوقها بدرجة حيث ان الرسول يحمل رسالة من ربه الى الناس .

و النبوة و الكتاب هما عهد الله ، و لا يناله الا الصالحون الصادقون ، الذين يمتحنهم الله ، قال عز من قائل : " و اذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال اني جاعلك للناس اماما قال و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " .

و حيث تصدى ابناء نوح و ابراهيم ( عليهما السلام ) لقيادة البشرية عبرالاجيال ، و حملوا مشعل الهداية و نهجها للامم تلو الامم ، يظهر فضلهم على الناس .

[ و جعلنا في ذريتهما النبوة و الكتاب ]

و لكن مجرد كون النبوة و الكتاب في ذرية نوح و ابراهيم ( عليهما السلام ) لا يبرر نمو الحالة العنصرية عند اولادهم و اتباعهم .

[ فمنهم مهتد ]

هم الرسل و الانبياء و الاوصياء و من آمن بهم و اتبعهم .

[ و كثير منهم فاسقون ]

ضالون منحرفون ، لم يلتزموا بالكتاب ، و لم يقتفوا آثار الانبياء ، فالمقياس في الصلاح او الفساد ليس الانتساب و لا ادعاء المشايعة للصالحين ، انما المقياس الحق هو اتباع القيم الرسالية ، و التزام السلوك الصالح ، فلا صلاح القادة و حقانية القيم دليل هدى الامم و المجتمعات ، و لا ضلال الامم و المجتمعات و انحرافها دليل فسادهما ، و الى هذا يشير الامام الرضا ( ع ) حيث يقول مخاطبا المأمون و بعض العلماء في مجلسه : " اما علمتم انه وقعت الوراثة و الطهارة على المصطفين المهتدين دون سايرهم ؟ قالوا : و من اين النبوة يا ابا الحسن ؟ قال : قول الله عز وجل : " و لقد ارسلنا نوحا و ابراهيم و جعلنا في ذريتهما النبوة و الكتاب فمنهم مهتد و كثير منهم فاسقون " ، فصارت وراثة النبوة و الكتاب للمهتدين دون الفاسقين ، اما علمتم ان نوحا حين سأل ربه عز وجل فقال: " ان ابني من اهلي و ان وعدك الحق و انت احكم الحاكمين " ، و ذلك ان الله عز وجل وعده ان ينجيه واهله ، فقال له ربه عز وجل : " يا نوح انه ليس من اهلك انه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لكبه علم اني اعظك ان تكون من الجاهلين " . (1)

[ 27 ] في سورة الحديد التي اتسمت بصفة الروحانية المتسامية و التي جاءت شفاءا ناجعا لمرض القسوة التي تصيب القلوب الغافلة عن ذكر الله ، في هذه السورة قرأنا آية الحديد التي حددت هدف الرسالة في اقامة القسط ، و لم تستبعد الحديد كوسيلة لتنفيذه . انه حقا توازن حكيم بين التعالي في افق الغيب و الحضور الفاعل في احداث الحياة .

و لذلك ايضا يتناول السياق قصة الرهبنة التي زاغت بالنصارى عن الطريق القويم ، كما انحرف اليهود من قبلهم حين ابتلوا بالنظرة العنصرية . و اذا عالجت الآية السابقة و بأشارة خاطفة عنصرية اليهود و غيرهم فان هذه الاية بينت بوضوح خطأ الرهبانية ، و ذكرت كلتاالآيتين بان الطريق القويم يتمثل في سنة الانبياء الذين توالوا على البشرية برسالة واحد تحددت معالمها مع الزمن ، و ان الخط الواحد و المشترك الذي تهدي اليه سيرتهم جميعا هو الميزان في قياس الحق ، و هو يتمثل في القرآن كما نقرا ذلك في آيات لاحقة .

[ ثم قفينا على ءاثارهم برسلنا ]

واحدا بعد واحد يهدي بهم الله البشرية الى خط نوح و ابراهيم كلما فسقت وضلت عنه ، فهم يتبعون ذات النهج ، و يسعون الى ذات الاهداف ، و بذات الوسائل ( البينات ، و الكتاب و الميزان ، و الحديد ) ، و هكذا ينبغي ان تكون الاجيال اللاحقة في الامة مسؤولة عن مسيرتها ، تقتفي اثر الرواد الصالحين ، سيرا الى الحضارة و التكامل ... و حيث تفصلها العصور و الاجيال عن اولئك ( النبي و ائمة الهدى ) فان الكتاب و الامام خير مقياس لمعرفة المنهج القويم . بلى . ان(1) عيون اخبار الرضا / ج 1 / ص 230 .


عودتها الى الخط السليم ، و بالذات في مجتمع ذهب بعيدا في الضلال و الانحراف ، سيضعها امام تحديات صعبة ، و لكنها الطريق الوحيد نحو الهدى و السعادة ، و النجاة من الضلال و الشقاء .

[ وقفينا بعيسى ابن مريم و اتيناه الانجيل ]

و الانجيــل لم يكن مغايرا لتلك الرسالات ، انما هو متضمن لذات المفاهيم و القيم ، الا ان العنصرية التي انحدر اليها بنو اسرائيل من قبل نزول الانجيل ، و ما رافقها من النظرة المادية و قسوة القلب ، كانت بحاجة الى جرعات من الحنان و العطف و الزهد و الخشوع، و كانت كلمات الانجيل تفيض بذلك لمعالجة ذلك التطرف المادي الطاغي ، و هكذا زرع الله في قلوب التابعين لعيسى ( ع ) الرأفة و الرحمة بل الزهد و الرهبانية الطاهرة .

[ و جعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة و رحمة ]

لعل الرأفة هي العطف القلبي ، بينما الرحمة هي المظهر الخارجي لها مثل العطاء و خفض الجناح ، و قال البعض : ان الرأفة هي منع ما يضر ، بينما الرحمة هي توفير ما ينفع ، و مثل هذه الكلمات اذا ذكرت مفردة منها شملت معنى الجميع ، بينما اذا اطلقت اكثر من مفردة دلت كل واحدة على معنى خاص ، و كان ذكرها يدل على التأكيد ، مما يوحي بان الله جعل المزيد من العطف و الحنان في قلوب الذين اتبعوا عيسى ( ع ) . و حق لهم ذلك . او لم يكن قائدهم مثلا اسمى للزهد و الحنان و الخشوع و التبتل ؟

و الرأفة و الرحمة من اظهر و اعظم صفات الله في تعامله مع خلقه " ان الله بالناس لرؤوف رحيم " (1) ، و هكذا تستهدف الرسالات الالهية انقاذ الناس من الصفات(1) البقرة / 143 .


البشرية لتركز فيهم اخلاق الله ليكونوا ربانيين . و لعل عيسى ( ع ) جاء بالرأفة و الرحمة علاجا للقسوة التي اصابت بني اسرائيل حيث قال ربنا عنهم : " ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة او اشد قسوة و ان من الحجارة لما يتفجر منه الانهار و ان منها لمايشقق فيخرج منه الماء و ان منها لما يهبط من خشية الله " . (1)و جعل الله لهما في قلوب اتباع المسيح ( ع ) لا يعني ابدا ان الله يرسل نبيا باللطف و الرحمة ، و يرسل الاخر بالشدة و الحديد ، او انهم لم يفرض عليهم الجهاد بالسيف و خوض اللجج لاقامة القسط اذا كانت الظروف تستدعي ذلك ، بل يعني ان الحالة الاجتماعية المتردية في القسوة و الفسوق لم تكن تعالج بالسيف بل بالرحمة و الرأفة ، و ربما الرهبانية .

ثم يبين القرآن تجربة مهمة من تجارب اتباع عيسى ( ع ) : لقد ظهرت الجبابرة و الطغاة من بعد عيسى ، و صارت مسيرة الاكثرية من الناس الى الفسوق و القسوة مماشاة لملوكهم ، و اتباعا للتحريف و البدع ، فاختلفوا على مذاهب شتى ، حيث سكت الاغلبية عن الطغاة ، و اتبعوا ادعياء الدين ، الا ان قليلا منهم قرر التحدي و لكن كيف ؟

انهم يواجهون نوعين من التحدي : التحدي السياسي ، و التحدي الاجتماعي المدعوم بقشور الدين المحرف ، و امام كل ذلك يجب عليهم ان يحافظوا من جهة على مسيرتهم فلا يتابعون الطغاة او يستسلمون للدين المحرف ، و من جهة اخرى يجب ان يحافظوا على انفسهم الا يبادوا ،فوقع اختيارهم على الرهبانية التي تعني توثيق العلاقة بالله ، و اعتزال المجتمع الضال . هذه كانت خطتهم التي يرون فيها السبيل(1) البقرة / 74 .


الى اهدافهم ، و هي الالتزام بالانجيل ، و اتباع عيسى ، و المحافظة على اشخاصهم و حيثيات شخصيتهم ان تماث في الواقع الجديد ، و يلخصها القرآن في كلمة هي رضوان الله .

[ و رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله ]ماذا تعني هذه الفقرة من الآية ، فهل الرهبانية كتبها الله عليهم ، فماذا تعني اذا كلمة " ابتدعوها " ، و هل هم الذين استحدثوها ، فماذا يعني اذا قوله : " ما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله " ؟

الذي يبدو لي : ان لفظة الرهبانية معطوفة على قوله سبحانه : " و جعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة و رحمة " ، حيث ان الله اوجد فيها عبر الانجيل و عبر سيرة المسيح عيسى بن مريم ( ع ) ثلاثة انوار : نور الرأفة و نور الرحمة و نور الخشية من الله و الرهبانية ، و لكنهم ابتدعوا هذه الرهبانية و غيروا فيها ، كما ان الزهد اساسا فضيلة دعى اليها الاسلام الا ان طائفة من المسلمين ابتدعوها و جعلوا لها وسائل غير لائقة مما دعى ائمة المسلمين الى التبرء منهم .

اذا الابتداع لم يكن في أصل الرهبانية التي تعني الخشية من الله ، و انما في فروعها من اعتزال المجتمع في الاديرة ، و وضع طقوس خاصة بها ، و على هذا التفسير يكون قوله سبحانه : " ما كتبناها عليهم " تبيانا للابتداع حيث ان الله كتب الرهبانية عليهم بهدف ابتغاء مرضاته فما رعوها حق رعايتها فحرفوها .

و قال البعض : ان الآية تشير الى انهم ابتدعوا اصل الرهبانية ابتغاء رضوان الله ، و ان الله لم يكتبها عليهم .

و قالوا : ليس بالضرورة ان يكون الابداع مكتوبا بحذافيره في الرسالة ليكونمشروعا ، بل يكفي ان يكون موافقا و قيم الرسالة و الاصول و القواعد العامة فيها ، لان المهم ان ينطلق من الكتاب ، و ينتهي اليه ، و يلتزم به بتصديق الميزان . و هذا من مرونة الدين ، و قدرته على قيادة الحياة المتطورة ، و هو يؤيد الابداع ، مادام في حدود رضوانالله و شريعته ، و من هنا فأن الرهبانية جيدة ان لم تؤد الى :

1 - التشبث بظاهر الامور على حساب القيم .

2 - و اعتــزال المجتمــع و تكفيره دون الشهادة عليه و السعي نحو تغيير واقعه .

3 - و التقاعس عن الواجبات الاجتماعية .

4 - و ابتزاز الناس ، و اكتناز الذهب و الفضة ، و الصد عن سبيل الله .

و ما الى ذلك ، و هو افراغ للرهبانية من مضامينها الحقة التي تعني الحقائق التالية :

أ : خشية الله ، و التقرب اليه بالتبتل ، و الزهد في حطام الدنيا .

ب : الاحتياط في الدين ، و الاجتهاد في العبادة ، و اداء حقوق الناس ، و اقامة احكام الله على وجهها الصحيح لتحقيق اهداف الدين و مقاصد الشريعة من خلالها ، و جعل رضوان الله هو الغاية دون تكريس العصبيات و الانانيات .

ج : اعتزال الناس تمهيدا لتغييرهم ، و التقية و الهجرة من اجل الجهاد ، دون جعلها هــدفا بذاته و وسيلة لترك الامر بالمعروف و النهي عن المنكر و اقامة حدود الله .

[ فما رعوها حق رعايتها ]

و بلغ بهم الامر الى درجة استغل ادعياء العلم و الدين الناس باسمها ، و صدوهم عن السبيل ، قال تعالى : " ان كثيرا من الاحبار و الرهبان ليأكلون أموالالناس بالباطل و يصدون عن سبيل الله " . (1)

جاء في مسند احمد بن حنبل : خرجنا مع رسول الله ( ص ) في سرية من سراياه ، فقال : مر رجل بغار فيه شيء من ماء ، فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار ، فيقوته ما كان فيه من ماء ، و يصيب ما حوله من البقل ، و يتخلى عن الدنيا ، فقال : لو انني اتيت النبي ( ص ) فذكرت ذلك له ، فان اذن لي فعلت ، و الا لم افعل ، فأتاه فقال : يا نبي الله انني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء و البقل ، فحدثتني نفسي بان اقيم فيه و اتخلى عن الدنيا ، قال : فقال النبي ( ص ) : " اني لم ابعث باليهودية و لا بالنصرانية ( يعني ما عليهاليهود و النصارى من التحريف ) ، و لكنني بعثت بالحنيفية السمحة ، و الذي نفس محمد بيده لغدوة و روحة في سبيل الله خير من الدنيا و ما فيها ، و لمقام احدكم في الصف الاول خير من صلاته ستين سنة " . (2)و يعضد هذا ما جاءت به الرواية عن ابن مسعود قال : " كنت رديف رسول الله ( ص ) على الحمار فقال : يا ابن ام عبد ! هل تدري من اين احدثت بنو اسرائيل الرهبانية ؟ فقلت : الله و رسوله اعلم ، فقال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى ( ع ) يعملون بمعاصي الله، فغضب اهل الايمان فقاتلوهم ، فهزم اهل الايمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم الا القليل ، فقالوا : ان ظهرنا لهؤلاء افنونا و لم يبق للدين احد يدعوا اليه ، فتعالــوا نتفــرق في الارض الى ان يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى ( ع ) ( يعنون محمدا ( ص ) ) ، فتفرقوا في غيران الجبال ، و احدثوا رهبانية ، فمنهم من تمسك بدينه ، و منهم من كفر ، ثم تلا الآية : " و رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ... الى اخرها " ثم قال : يا ابن ام عبد اتدري(1) التوبة / 34 .

(2) الجامع لاحكام القرآن .


ما رهبانية امتي ؟ قال : الهجرة و الجهاد و الصلوة و الصوم و الحج و العمرة " .

و في حديث اخر انه قال : " يا ابن مسعود ! اختلف من كان قبلكم على اثنين و سبعين فرقة ، نجا منها ثنتان و هلك سايرهم ، فرقة قاتلوا الملوك على دين عيسى فقتلوهم ، و فرقة لم يكن لهم طاقة لموازاة الملوك ، و لا ان يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم الى دين الله تعالى و دين عيسى ، فساحوا في البلاد و ترهبوا ، و هم الذين قال الله : " و رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " ، ثم قال النبي ( ص ) : من آمن بي و صدقني و اتبعني فقد رعاها حق رعايتها ، و من لم يؤمن بي فاولئك هم الهالكون " . (1)و هذه الرواية في الواقع موافقة لما نعرفه من مقاييس الشرع ، و هي تفسر الرواية التي تنقلها المذاهب الاسلامية كلها عن النبي ( ص ) بان الامة سوف تفترق بعد ( 73 ) فرقة كلها هالكة الا واحدة ، و هي التي تقاتل الطغاة . اما الذين يعتزلون الساحة ، و يتفرجونعلى صراع الحق و الباطل ، او الذين يتابعون الملوك و التيار العام في المجتمع صحيحا كان او مخطئا ، فليسوا من الناجين ، و من هن يتضح لنا ان الحديث الذي يشير الى ان الفرقة الناجية من امة محمد ( ص ) هي التي تتبع الجماعة و الاكثرية و لا تخالف الجبابرة و الطغاة هو حديث موضوع على يد حكام الجور و من ايدهم من ادعياء الدين .

و مع ان الفرق و المذاهب التي يصير اليها الناس كثيرة الا ان القرآن يصنفها الى خطين : خط الحق و خط الباطل .

[ فئاتينا الذين آمنوا منهم ]


(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 251 - 252 / الجامع لاحكام القران للقرطبي / ج 17 / ص 265 .


بعيسى ( ع ) و اتبعوه قبل ان يتوفاه الله ، او حافظوا على ايمانهم بعده فكانوا ممن رعى الرهبانية حق رعايتها ، و لما جاء الرسول ( ص ) امنوا به و اتبعوه .

[ اجرهم ]

و الاجر هو الجزاء في مقابل شيء ، و المؤمنون من اهل الكتاب يعطيهم الله اجرهم مقابل الايمان و العمل الصالح ، و ليس لمجرد انتمائهم الى دين المسيح ( ع ) و مجتمعه و اشياعه . و ينسف القرآن النظرية العرقية و العنصرية لدى الضالين من اهل الكتاب فيقول :

[ و كثير منهم فاسقون ]

ضالون منحرفون يدخلون النار ، لا تنفعهم عنصريتهم ولا انتماءاتهم اللفظية .

[ 28 ] و اذا كانت الرهبانية القائمة اليوم بدعة زائفة عن السبيل ، فما هي الوسيلة التي تقربنا الى ربنا اكثر فاكثر لمن اشتاق الى الزلفى اليه سبحانه ، و نيل مرضاته و حبه و الدرجات العلى من جناته ؟

في خاتمة سورة الحديد - سورة التبتل و الجهاد - يبصرنا ربنا بالوسيلة التي يتخذها من شاء ان يتخذ الى رضوان ربه سبيلا .

و يوجه ربنا الخطاب الى المؤمنين بالله جميعا مما يشمل الفريق الاول من اهل الكتاب ، و كذلك المؤمنين في عهد النبي محمد ( ص ) لا يفرق بين احد منهم ، يدعوهم الى صدق الايمان و التقوى بترغيب في رحمته و فضله .

[ يا ايها الذين امنوا ]


و انها لكرامة ان يخص الخالق فريقا من خلقه بحديث من ذكره ، و انه لمن الشقاء ان يتلهى المؤمنون عن هذا الحديث ، فلا تخشع له قلوبهم ، و لا تسعى اليه جوارحهم ! من هنا يسارع المؤمنون حقا عندما يسمعون هذا النداء الى القول : لبيك اللهم لبيك .

لماذا القرآن الكريم يخص النداء بالمؤمنين حينا و يخاطب الناس احيانا ، علما بان آياته تتسع كل تال لكتاب ربه ؟

ربما لان الايمان شرط اساسي في الموضوع . الا ترى كيف ان القرآن يعمم الخطاب للناس في غير ذلك ، مثل القضايا العلمية التي لا يشترط الايمان في تنفيذها كالنفاذ من اقطار السماوات و الارض ، فيقول : " يا معشر الجن و الانس ان استطعتم ان تنفذوا من اقطارالسماوات و الارض فانفذوا لا تنفذون الا بسلطان " (1) ، و يقول : " يا ايها الناس ان كنتم في ريب من البعث فانا خلقناكم من تراب " (2) ، او فيما يتصل بحكم يشمل الناس جميعا كالعلاقة بين الشعوب في قوله سبحانه : " يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر و انثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا " (3) . اما هنا فان العمل بالمضمون يحتاج الى الايمان فلا يقفز الانسان من الكفر الى الايمان بالرسول ، بل لابد ان يؤمن بالله اولا ثم برسوله ، كذلك لا يقفز من الكفر الى التقوى التي هي من مراحل الايمانالمتقدمة الا بعد الايمان بالله و الرسول .


(1) الرحمن / 33 .

(2) الحج / 5 .

(3) الحجرات / 11 .


[ اتقوا الله ]

و بعبارة : ان المسافة بين الانسان و بين الاستجابة للوحي و اتباع القيادة الرسالية مليئة بالتحديات و الضغوط ، و لا يقدر الانسان على طيها الا بزاد التقوى التي يواجه بها اشواك الطريق .

[ و آمنوا برسوله ]

فهو محك الايمان و التقوى ، و ما هي قيمة ايمان لا يتحول في واقع الانسان الى ولاء ديني ، اجتماعي ، سياسي عملي ، للقيادة الرسالية الصالحة ، و يصوغ شخصية الانسان صياغة ربانية بعيدة عن قوالب التحزب الاعمى ، و العصبية الضيقة ، و القومية المحدودة ، و الوطنية الزائفة ، و ... و ... ؟

ما قيمة الايمان الذي لا يصنع مجتمعا صالحا ، يعمر الارض ، و ينصر الضعفاء و يقاوم الطغاة و المجرمين ؟ بلى . انه سوف يواجه ضغوط القيادات المنحرفة ، و المجتمع من حوله ، و لكن ليعلم ان ما يجده مع التقوى و اتباع القيادة خير مما يفوته من حطام الدنيا .


[ يؤتكم كفلين من رحمته ]

قيل : الكفل هو ما يشد الراكب الى سنام الابل ، و يتكفل بإجلاسه عليها (1) ، و لكل فرد كفل ، فتطور المعنى و الاستخدام حتى اصبحت الكلمة تعني النصيب الكامل للشخص ، و الذي يتقي الله و يؤمن بالرسول ينال نصيبين و حظين ، فلا يخسر الدنيا بسبب الترهب الزائد عن حده ، كما هو حال بعض اهل


(1) في التفسير الكبير قال المفضل بن سلمة : الكفل : كساء يديره الراكب حول السنام حتى يتمكن من القعود على البعير .


الكتاب ، و لا يخسر الآخرة بسبب الالتصاق المفرط بالدنيا ، كما يستوى الى ذلك الكثير مــن المؤمنــين الذيــن قــدم لهــم الله التعريف بالدنيا و الدعوة الى الاخرة في الآيات ( 19 - 24 ) ، و الكثير من الناس ، فالاسلام منهاج متوازن يريد لاتباعه الدنيا و الاخرة ، فعن ابي الجارود قال : قلت لابي جعفر ( ع ) : لقد آتى الله اهل الكتاب خيرا كثيرا ، قال : و ما ذاك ؟ قلت : قول الله عز وجل : " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون " الى قوله : " اولئك يؤتون اجرهم مرتين بما صبروا " قال : فقال : قد آتاكم الله كما آتاهم ، ثم تلا : " يا ايها الذين امنوا اتقوا و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته " . (1)[ و يجعل لكم نورا تمشون به ]

نتيجة التقوى و الايمان بالرسول . قال البعض : اي يوم القيامة ، و هو النور المذكور في قوله : " يسعى نورهم " (2) ، و لكن ما الذي يجعل هذا النور محدودا بالاخرة ؟ اوليست حاجة الانسان الى النور قائمة في الدنيا ايضا ؟ قال تعالى : " او من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " (3) . هكذا يبدو ان النور الذين جاء في هذه الآية و في تلك هو البصيرة في الحياة و التي تتمثل يوم القيامة نورا ساطعا .

لماذا جيء بنا الى الحياة الدنيا ، و ما هي اهدافنا الكبرى فيها ، و ما هي سنن الله الحاكمة ، و اختلاف الناس و ما هو الموقف المناسب و الموازين الحق كيف نعرف بها امورنا ؟ و عشرات من البصائر القرآنية التي يؤتيها ربنا الذين آمنوا و اتقوا .


(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 254 .

(2) التفسير الكبير عند الآية يتابع الكشاف .

(3) الانعام / 142 .


و تجسد القيادة الرسالية هذه البصائر فيما تطرحه من مواقف او تصدره من اوامر ، لذلك فهي ايضا نور للمتقين المتمسكين بها .

و مع ان مصدر النور هو الوحي الا اننا بحاجة الى القيادة الربانية ، لانها الاقرب الى حقائق الوحي ، فهي المرآة الصافية التي تعكس حقائقه بصدق و امانة و وعي ، و ما احوجنا الى هذا النور و نحن نعيش في عالم كثرت فيه البدع ، و المذاهب الضالة ، و وسائل الاعلام و الثقافة المضللة .

قال الامام الباقر ( ع ) : " نورا تمشون به " يعني إماما تأتمون به " (1) و هكذا عن الصادق ( ع ) . و ان المهم ليس ان يتحرك الانسان او يمشي ، ان المهم ان تكون حركته في الطريق المستقيم نحو الاهداف التي خلق من اجلها ، و هو لا يصير الى ذلكالا بالنور ، و الله هو الذي يجعله في قلبه " يهدي الله لنوره من يشاء " (2) ، و الجعل اما يكون مباشرا عبر الوحي و اما غير مباشر عبر المقاييس و الموازين التي يشخص بها القائد للناس .

و حينما يضيف الانسان الى ايمانه التقوى و اتباع القائد الصالح فان ذلك سيطهر قلبه و سلوكه من الانحرافات و الذنوب ، فالتقوى تخلص نيته و تدفعه للطاعة كما تجنبه المعصية ، و القيادة تنير له الدرب ليشق طريقه على بصيرة و هدى .

[ و يغفر لكم و الله غفور رحيم ]

[ 29 ] التقوى هي المقياس لا الاعتبارات العرفية و العنصرية و القومية و المادية او غيرها لانها ساقطة في الاسلام ، و تبقى قيمة هي التقوى كما قال الله : " يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر و انثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا ان(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 252 .

(2) النور / 35 .


اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير " (1) ، و يؤكد القرآن هذه القيمة في مئات المواضع ، كما يؤكدها هنا مرتين : مرة بتعميم الخطاب لكل المؤمنين ، دون اشتراط صفات و اعتبارات مادية ، و مرة عندما يصرح بان السبل مشرعة الى فضل الله للجميع .

[ لئلا يعلم اهل الكتاب الا يقدرون على شيىء من فضل الله ]في الآية وجهان ، يكون المعنى على الوجه الاول : لكي لا يقطنوا من روح الله و فضله فيبرروا بذلك عدم ايمانهم بالرسول ( ص ) و الكتاب الجديد ، او يبرروا عدم سعيهم الى الرحمة و الفضل ، كلا .. فدعوة الله و وعده للجميع .

اما على الوجــه الثاني فيكون المعنى : لكي لا يظن اهل الكتاب ( النصارى و اليهود ) ان الفضل حكر عليهــم ، و ان المؤمنين المسلمين لا سبيل لهم الى فضله تعالى ، كلا ..

[ و ان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ]

يبدو ان اهل الكتاب كانوا يعيشون عقدتين خطيرتين : الاولى : انهم العنصر الاسمى فالفضل لهم لا لغيرهم ، الثانية : انهم لو آمنوا لا يتساوون في الفضل مع السابقين من المسلمين لانهم عرب و هم غرباء ، او لاي سبب اخر .

و خاتمة الآية ( و ربما فاتحتها ايضا ) تنفي كلتا العقدتين ، لان الفضل بيد الله فانه يؤتيه للمسلمين كما اتاه سابقا لاهل الكتاب عندما آمنوا برسلهم ، ثم لان الفضل بيد الله فانــه لا يميــز بين عربــي و اعجمي ، و سابق و لا حق ، و مواطن و اجنبي ( حسب التعبير الحديث ) ، و قرشي و حبشي ، فكل من آمن و اتقى شمله الله(1) الحجرات / 13 .


بفضله .. و بهذا نجمع بين وجهي التفسير الذين ذكرناهما آنفا حول الآية .

[ و الله ذو الفضل العظيم ]

الذي يتسع لكل انسان سعى له سعيه ، فمن اراد منع غيره عنه ، او تصور انه لا يتسع له فانما يستصغر فضل ربه و يستقله ، و هذا شأن النفوس المريضة بعقد الاحساس بالحقارة و الدونية ، و المريضة بالعنصرية و الحسد ، و هذا و ذاك لا يمت الى الايمان بصلة . و الآيةتشبه الى حد بعيد قوله تعالى : " سابقوا الى مغفرة من ربكم و جنة عرضها كعرض السماء و الارض اعدت للذين آمنوا بالله و رسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم " (1) ، فربنا يدعو الى التسابق بين المؤمنين ، لا الى التوقف بسبب اليأس ،و لا الى الصراع بسبب النظرة العنصرية . و لعل ما ورد في مورد نزول الآية يشير الى بعض ما سبق ذكره ..

في مجمع البيان قال سعيد بن جبير : بعث رسول الله ( ص ) جعفرا في سبعين راكبا الى النجاشي يدعوه ، فقدم عليه و دعاه ، فاستجاب له و آمن به ، فلما كان عند انصرافه قال ناس ممن آمن به من اهل مملكته و هم اربعون رجلا : ائذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به ، فقدموا مع جعفر ، فلما راوا ما بالمسلمين من الخصاصة استاذنوا و قالوا : يا نبي الله ان لنا اموالا و نحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة فان اذنت لنا انصرفنا فجئنا باموال فواسينا المسلمين بها ؟ فاذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين ، فأنزل الله تعالى فيهم : " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون " الى قوله : " و مما رزقناهم ينفقون " فكانت النفقة التي واسو بها المسلمين ، فلما اسمع اهل الكتاب ممن لم يؤمن به قوله : " اولئك يؤتون اجرهم مرتين بما صبروا " فخرواعلى المسلمين فقالوا : يا معشر المسلمين اما من آمن(1) الحديد / 21 .


بكتابكم و كتابنا فله اجر فأجوركم فما فضلكم علينا ؟ فنزل : " يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله .. الآية " فجعل لهم اجرين و زادهم النور و المغفرة ، ثم قال : " لئلا يعلم اهل الكتاب ... " .

و قال الكلبي : كان هؤلاء اربعة و عشرين رجلا قدموا من اليمن الى رسول الله ( ص ) و هو بمكة ، لم يكونوا يهودا و لا نصارى ، و كانوا على دين الانبياء ، فأسلموا ، فقال لهم ابو جهل : بئس القوم انتم و الوفد لقومكم ، فردوا عليه : " و ما لنا لا نؤمن بالله .. الآية " فجعل الله لهم و لمؤمني اهل الكتاب عبد الله بن سلام و اصحابه أجرين اثنين ، فجعلوا يفخرون على اصحاب رسول الله ( ص ) و يقولون : نحن افضل منكم لنا اجران و لكم اجر واحد ، فنزل : " لئلا يعلم اهل الكتاب ... الى آخر السورة " . (1)


(1) مجمع البيان / ج 9 / ص 244 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس