بينات من الآيات [ 7] [ عسى الله ان يجعل بينكم و بين الذين عاديتم منهم موده ]
اي تتحول العلاقة بين الفريقين من العداء الى المودة ، اما بدخول اولئك الاسلام ، او بتحولهم من حالة المحاربة الى حالة السلم ، فالاسلام اذن لا يحارب الكفار كعنصر انما يحاربهم لموقفهم السلبي من الحق و اهله ، و نهتدي من الآية الكريمة الى فكرتين :
الاولى : ان السلام الذي ينشده الاسلام هو السلام المدعوم بالقوة و العزة ، لذلك يدعو اتباعه لمقاطعة العدو و تحديه حتى يسلموا او يستسلموا ، ذلك لان الخضوع له ليس سبيلا الى الاسلام الحقيقي الدائم ، و انما المقاطعة التي تكشف عن العزةالاسلامية وسيلة لفرض الاسلام .
الثانية : اما كيف يتحول عداء الكفار الى مودة للمؤمنين ، فان الانسان حينما ينبهر بقوة قاهرة يتحسس بالود تجاهها ، حتى لقد ثبت في علم النفس الاجتماعي ان الشعوب المغلوبة تود القوى القاهرة ، و تقلدها في الافكار و السلوكيات في الغالب ، و حيث كانت القوة في بادىء الامر للكافر كان يخشى ان يميل المؤمنون اليهم بالمودة ميلا ، و بالذات لان فيهم الارحام و الاقارب ، اما اذا تحول ميزان القوى لصالح المسلمين بالغلبة و القوة فان المودة ترتجى ان تكون من قبل الكفار لهم ، و لعل التعبير بـ " منهم " يشير الى ذلك .
و " عسى " هنا تفيد الرجاء القريب ، مما يحيي روح الامل بالله في النفوس المؤمنة ، و يلاحظ ان القرآن يعبر بعسى و لعل في مواضع كثيرة ، دون ان يقطع و يحتم ، مع ان كثيرا من الامور هي واقعة في علم الله ، و ذلك يهدينا الى ان الطبيعة ليست جامدة ،و انما تخضع لأمرين : المشيئة الالهية ، و ارادة الانسان ، و لم يحتم ربنا نصر المؤمنين ، و تحول ميزان القوى لصالحهم في المستقبل حتى لا يتواكلوا ، او ينتظروا الارادة الالهية تغير الامور بوحدها .
[ و الله قدير ]
على صنع ذلك فيستسلم المشركون لاوليائه او يهديهم الى الاسلام ، فتعود المودة بين الفريقين .
[ و الله غفور رحيم ]
و من غريب ما قاله المفسرون في هذه الآية هو تأويلهم لها في ابي سفيان ، بانه من المعنيين بقوله تعالى : " عسى الله ان يجعل بينكم " ، مع ان الآيات نزلت قبلفتح مكة ، قبل ان ينطق ابو سفيان بالشهادتين فكيف اصبح مصداقا للآية ؟ !
[ 8] و يحدد لنا القرآن الموقف المطلوب تجاه المسالمين من الكفار - الذين لا يحاربوننا و لا يؤذوننا - حيث يبيح التعامل معهم انسانيا على اساس البر و القسط ، فيقول :
[ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم و تقسطوا اليهم ]لانهم مسالمون ، و يجمع المسلمين معهم اطار الانسانية ، و هذا يعني ان الاسلام دين السلام ، فهو لا ينشد الحروب و العداوات بذاته ، انما دعوته للتبري و المقاتلة تكون موجهة ضد الكفار المحاربين ، و قائمة على اساس موقفهم السلبي ضد الدين و اتباعه .
و البر عموم الاحسان ، و منه التواصل ، و تبادل الاحترام ، و مقابلة الاحسان بمثله ، اما القسط فقد قيل : هو اقتطاع بعض المال و اعطائه لهم قرضا او غيره . و الاظهر انه العدالة الظاهرية و الباطنة التي هي اسمى درجات العدل (1) و هذا الحكم الالهي يبين كيف ان مجرد الكفر و اعتناق المبادىء المغايرة للدين ليس وحده مبررا لاستباحة حرمة الانسان ماله و عرضه و نفسه ، و في نهاية الآية يحث ربنا على الاقساط اذ يقول :
[ ان الله يحب المقسطين ]
و يريد للمؤمنين به ان يكونوا كذلك ، و لعل قوله " يحب المقسطين " تخصيص للقسط بالذات على وجه الترجيح له على البر . و حيث يبيح ربنا هذا اللون من(1) مر كلام مفصل حول العلاقة بين العدل و القسط في سورة الحجرات .
العلاقة مع الكفار المسالمين فانه لا يفرض قيدا محددا على المؤمنين ، و ذلك يعني انهم ( قيادة ، و مجتمعا ) هم الذين يشخصون الموقف ، و طبيعة العلاقة المطلوبة حسب متغيرات الواقع . و قد جاء في الاثر : ان اسماء بنت ابي بكر سألت النبي ( صلى الله عليه وآله ) : هل تصل امها حين قدمت عليها مشركة ؟ قال : " نعم " (1)[ 9] و يعود السياق ليؤكد الامر بالمقاطعة و ينهى عن التولي :
[ انما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين و اخرجوكم من دياركم و ظاهروا على اخراجكم ]بالتحالف مع الاعداء المحاربين ، او اعانتهم بأية صورة و وسيلة ، فانه محرم عليكم ان تتولوهم او تبروهم ، و من يتولهم يشاركهم في كل ظلم يصل الى المؤمنين من قبلهم ، و يناله العذاب من عند الله ، و يجب على المؤمنين في الدنيا احتسابه من الجبهة المعادية ، والوقوف منه كموقفهم من الظالمين انفسهم .
[ ان تولوهم و من يتولهم فاولئك هم الظالمون ]
و بالمقارنة بين الآيتين ( الثامنة و التاسعة ) نتوصل الى التالي :
1 - ان اباحة البر و القسط تجاه غير المحاربين من الكفار ، و عدم تعرض الآية لذكر التولي لا يعني انه سائغ ، كلا .. انما يعني بان حد الاباحة هو البر و القسط دون التولي .
2 - ان مجرد البر و الاقساط للكفار المحاربين محرم على المؤمنين ، و لكن لماذا ؟
(1) القرطبي / ج 18 / ص 59 .
اولا : لان القسط ليس ضروريا مع المحاربين ، لان دمهم و مالهم حلال . اوليس يستحلون ذلك منا ؟ و ثانيا : ان القسط هنا ليس بمعنى العدالة انما هو فوقها ، و هو في الحقوق يشبه الايثار في الاخلاق ، و لذلك كان حكمه الاباحة " لا ينهى " حتى مع المسالمين، بينما العدالة فهي واجبة تجاههم ( اي غير المحاربين ) و مثل هذا التعامل غير مناسب مع المحاربين ، حتى ولو كانت العدالة واجبة تجاههم في بعض الجوانب .
[ 10] و يمضي بنا السياق شوطا آخر في الحديث عن ضرورة التمحض في العلاقات الايمانية فيبين ان الصلات الزوجية لا ينبغي ان تكون حاجزا دون الولاء الايماني ، لانه اسمى من كل علاقة ، و هو يفصل بين المؤمنة و زوجها الكافر ، كما يفصل بين المؤمن و زوجته الكافرة، بالرغم من ان اكثر الناس يزعمون ان الزوجة تابعة لزوجها في كل شيء حتى في دينها و ولائها ، بينما يؤكد القرآن استقلالها في القضايا المتصلة بمصيرها ، فلا يحق لها ان تبقى رهينة ارادة الزوج الكافر لو اختارت الاسلام عن وعي و قناعة ، و لا يجوز للمؤمنين انيرفضوها او يرجعوها الى زوجها فانها حرام عليه ، اذ لا ولاية لكافر على مؤمن و لا على مؤمنة .
[ يا ايها الذين امنوا اذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ]بهدف معرفة صدق نواياهم و خلوصها عن اي هدف مادي ، كأن تكون الواحدة قد هاجرت هربا من العصمة الزوجية او طمعا في مؤمن ، و تأتي أهمية الامتحان من ان المجتمع المؤمن ينبغي ان ينتقي افراده انتقاء ، و بالذات عندما يواجه التجمع الايماني محاولات التسلل و الاختراق من قبل اعداء الدين ، اما كيفية الامتحان فان القران لا يحددها ، بل يترك الامر للمؤمنين انفسهم يجتهدون علىاساس معطيات الظروف ، و لكن يجب ان لا يدفعهم ذلك الى الظن السيء ، او التمنع من قبول انتماء الآخرين الى صف المجتمع المؤمن بحجة الخوف من الاختراق مما يسبب في حالة الانطواء و الانغلاء ، فان الشخصية الواقعية للناس لا يعلمها الا الله .
[ الله اعلم بايمانهن ]
فانهن اذا خدعن المؤمنين فلن يخدعن الله ، و هكذا يجب ان يأخذن الامتحان الالهي بعين الاعتبار ، و ربما ظن الواحدة منهن انها قادرة على اللعب على المؤمنين فهل تفلت من عدالة الله ايضا ؟ كلا .. و انما يجب على المؤمنين الاجتهاد و الحكم على اساس المعطيات العلمية الممكنة .
اما عن كيفية امتحان الرسول لهن فقد جاء في مجمع البيان : قال ابن عباس : صالح رسول الله ( ص ) بالحديبية مشركي مكة على ان من اتاه من اهل مكة رده عليهم ، و من اتى اهل مكة من اصحاب رسول الله ( ص ) فهو لهم و لم يردون عليهم ، و كتبوا بذلك كتابا و ختموا عليه ، فجاءت سبيعة بنت الحاري الاسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب ، و النبي ( ص ) بالحديبية ، فجاء زوجها مسافر من بني مخزوم ، و قال قاتل : هو صيفي بن الواهب في طلبها و كان كافرا ، فقال : يا محمد اردد علي امرأتي فانك شرطت لنا ان ترد علينا من اتاك منا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فنزلت : " يا ايها الذين آمنوا اذا جاءكم المؤمنات مهاجرات من دار الكفر الى دار الاسلام فامتحنوهن " ، قال ابن عباس : امتحانهن ان يستحلفن ماخرجت من بغض زوج ، و لا رغبة عن ارض الى ارض ، و لا التماس دنيا انما خرجت حبا لله و لرسوله فاستحلفها رسول الله ( ص ) ما خرجت بغضا لزوجها و لا عشقا لرجل منا ، و ما خرجت الا رغبة في الاسلام ، فحلفت بالله الذي لا اله الا هو على ذلك ، فأعطىرسول الله ( ص ) زوجها مهرها و ما انفق عليها و لم يردها عليه ، فتزوجها عمر بن الخطاب ، و كان رسول الله ( ص ) يرد من جاء من الرجال و يحبس من جاء من النساء اذا امتحن و يعطى ازواجهن مهورهن . قال الجبائي : لم يدخل في شرط صلح الحديبية الا رد الرجال دون النساء و لم يجر للنساء ذكر ، و ان أم كلثوم بنت عتبة بن ابي معيط جاءت مسلمة مهاجرة من مكة فجاء اخواها الى المدينة و سألا رسول الله ( ص ) ردها عليهما ، فقال ( ص ) : ان الشرط بيننا في الرجال لا في النساء ، فلم يردها عليهما ، قال الجبائي : و انما لم يجر هذاالشرط في النساء لان المرأة اذا اسلمت لم تحل لزوجها الكافر ، فكيف ترد عليه و قد وقعت الفرقة بينهما ؟ (1) .
[ فان علمتموهن مؤمنات ]
بعد الامتحان فحينئذ لا يجوز ردهن لانه لا مبرر لذلك ، و لان المجتمع المؤمن ليس حكرا على احد دون احد .
[ فلا ترجعوهن الى الكفار لا هن حل لهم و لا هن يحلون لهن ]و السؤال : لماذا ذكر الحرمة من الطرفين مع ان نفيها من جهة يفيد نفيها من الجهة الثانية ؟
و الجواب : لعل الحلية هنا بمعناها الاول وهو الانسجام الذي يعتبر هدفا و شرطا اساسيا في الزواج ، و مراد الآية الكريمة تأكيد انعدامه ليس من طرف واحد بحيث يمكن علاجه و الصبر عليه ، بل من الطرفين معا مما لا يمكن علاجه ابدا .
و حيــث تبين المؤمنة من زوجها الكافر يتحمل المؤمنون اعطاءه ما انفق عليها ،(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 304 - 305 .
لان المهر ليس موضوعا للوطأ الاول بل للعلاقة المستمرة الدائمة ، و حيث خسرها بغير ارادته يجب ان يعوض ، و لعل التعويض منصرف للكافر غير المحارب ، او في حال الهدنة ، و هذا من صميم العدالة في الاسلام . و في ايتاء الكفار ما انفقوا قيمة معنوية هي ان لا تبقىلكافر يد على مؤمن او مؤمنة .
و تعويض الزوج الكافر يتحمله بيت مال المسلمين ، و لذلك جاء الخطاب موجها للمؤمنين عامة ، و هو يحلل المرأة المؤمنة من زوجها الكافر فقط ، و ليس يجعلها حلا للمؤمنين الا اذا اعطوا لها المهر .
[ و لا جناح عليكم ان تنكحوهن اذاء اتيتموهن اجورهن ]و كما تحرم المؤمنة على الكافر كذلك تحرم الكافرة على المؤمن ، سواءا بالاصالة او بالردة لما في ذلك من اثار سلبيه على حياة المؤمن و تربية الاولاد ... الخ .
[ و لا تمسكوا بعصم الكوافر ]
و الفقهاء استفادوا من هذه الآية حكما قاطعا بحرمة الزواج من الكافرة ، او الاستمرار في الزواج عند اسلام الزوج دون زوجته . و قد طلق المسلمون زوجاتهم المشركات بعد نزول الآية ، و جاء في التاريخ ان عمر بن الخطاب طلق بعد نزول الآية أمرأتين له كانتا في مكةمشركتين ، احديهما قريبة بنت ابي امية ، فتزوجها معاوية بن ابي سفيان و هما على شركهما بمكة ، و ام كلثوم بنت عمر الخزاعية (1) ، و هكذا تنفصم العصمة التي كانت بينهما ، لان عصمة الاسلام من عصمة النكاح .
(1) القرطبي / ج 18 / ص 65 .
و السؤال : هل الآية تشمل اهل الكتاب فتكون ناسخة للآية التي نزلت في سورة المائدة ، و هي قوله سبحانه " اليوم احل لكم الطيبات و طعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم و طعامكم حل لهم و المحصنات من المؤمنات و المحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم "(1) . ؟
قال بعضهم : بلى ، و استدلوا ببعض الاحاديث المأثورة عن ائمة اهل البيت ( عليهم السلام ) ، و ابرزها الحديث الموثق التالي المأثور عن ابن الجهم قال : قال لي ابو الحسن الرضا ( عليه السلام ) : يا ابا محمد ما تقول في رجل يتزوج نصرانية على مسلمة ؟ قلت : جعلت فداك و ما قولي بين يديك ؟ قال : لتقولن فان ذلك تعلم به قولي ، قلت : لا يجوز تزويج نصرانية على مسلمة و لا على غير مسلمة ، قال : و لم ؟ قلت : لقول الله عز وجل : " و لا تنكحوا المشركات .. الخ " ، قال : فما تقول في هذه الاية : " و المحصنات من الذين اوتوا الكتاب " ؟ قلت : قوله : " و لا تنكحوا المشركات " نسخت هذه الآية ، فتبسم ثم سكت .. (2)و هناك روايات اخرى مشابهة ، و في كثير منها الاشارة الى ان اية الممتحنة قد نسخت آية المائدة ، مما جعل العلامة الشيخ حسن النجفي - صاحب موسوعة الجواهر - يجد مأخذا عليها بقوله : ان التحقيق الجواز مطلقا ( اي جواز نكاح اهل الكتاب بصفة مطلقة ) وفاقا للحسنو الصدوقين على كراهية متفاوته في الشدة و الضعف . و اضاف : كما أومأت الى ذلك كله النصوص التي ستسمعها : لقوله تعالى : " و المحصنات .. الى آخرها " التي هي من سورة المائدة المشهورة ( في ) انها محكمة لا نسخ فيها ..
و ساق طائفة من النصوص التي تدل على ان هذه السورة هي اخر سورة نزلتو هي محكمة لا نسخ فيها ، منها حديث مأثور عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) انه قال : " ان سورة المائدة اخر القرآن نزولا فاحلوا حلالها و حرموا حرامها " (1) .
ثم ساق طائفة كبيرة من النصوص عن ائمة اهل البيت ( عليهم السلام ) و استدل بها على ان نكاح اهل الكتاب جائز و لكنه يصبح مرغوبا عنه و مكروها في حالات معيـــنة ، مثـــل صحيح ابن وهب المروي في الكافي و الغنية عن الامام الصادق ( عليه السلام ) في الرجل المؤمن يتزوج النصرانية و اليهودية ، قال : اذا اصاب المسلمة فما يصنع باليهودية و النصرانية ؟ فقلت : يكون له فيها الهوى ؟ فقال : ان فعل فليمنعها من شرب الخمر ، و أكل لحم الخنزير ، و اعلم ان عليه في دينه في تزويجه اياها غضاضة " (2) .
و يبدو من هذه الرواية تأويل سائر الروايات على الكراهية ، لا الحرمة .
و كما يلزم الاسلام المؤمنين بإيتاء الكفار ما انفقوا على زوجاتهم اللائي امن فانه يعطي للمؤمنين الحق في المطالبة بما انفقوا على زوجاتهم اللواتي يكفرن .
[ و سئلوا ما انفقتم و ليسئلوا ما انفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم و الله عليم حكيم ]و ما دام ذلك حكم الله و ليس حكم احد من البشر فهو يجب التقيد به تقيدا توقيفيا ، فكيف و قد وضعه الله العليم الحكيم و رب العالمين ، و لا ينبغي ان يدفعكم بغضكم للمشركين و عداؤكم المبدئي الى تجاوز حقوقهم العادلة .
[ 11] [ و ان فاتكم شيء من ازواجكم الى الكفار فعاقبتم فئاتوا الذين(1) المصـــدر / ص 30 نقــلا عــن كتـــب الحديــث و منـــها الـــدر المـــنثور / ج 2 / ص 252 .
(2) المصدر / ص 36 .
ذهبت ازواجهم مثل ما انفقوا ]
و لهذه الآية تفسيرات ثلاث :
الاول : اذا تركت زوجاتكم دار الاسلام الى دار الكفر ، و اعقبتم الكفار بغزوة بعد اخرى حتى هزمتموهم و غنمتم منهم الغنائم ، فاعطوا الذين تركتهم زوجاتهم من الغنائم ، و هذا ما ذهب اليه اغلب المفسرين .
الثاني : اذا " فاتكم " اي لم يعطكم الكفار ما انفقتم على زوجاتكم اللاتي كفرن ، فخسرتم ذلك ، و عاملتموهم كما عاملوكم عقابا لهم فلم تسلموا ما أنفقوا على زوجاتهم اللاتي هاجرن وأمن ، فليس ذلك مسقطا للمسؤولية تجاه الذين فاتت زوجاتهم ، بل يجب عليكم ان تعطوهم ما انفقوا عليهن من مال المسلمين .
الثالث : ان معنى التعاقب " فعاقبتم " اراد الذي فاتت زوجته النكاح مجددا ، و في ذلك جاء الحديث المأثور عن الامام الباقر و الامام الصادق ( عليهما السلام ) فيما رواه يونس عن اصحابه ، قال : قلت : رجل لحقت امرأته بالكفار و قد قال الله عز وجل فيكتاب : " و ان فاتكم شيء من ازواجكم الى الكفار فعاقبتم فاتوا الذين ذهبت ازواجهم مثل ما انفقوا " ما معنى العقوبة ها هنا ؟ قال : ان الذي ذهبت امرأته فعاقب على امرأة اخرى غيرها يعني تزويجها ، فاذا هو تزوج امرأة اخرى غيرها فعلى الامام ان يعطيه مهر مرأته الذاهبة ، فسألته : فكيف صار المؤمنون يردون على زوجها المهر بغير فعل منهم في ذهابها ، و على المؤمنين ان يردوا على زوجها ما انفق عليها مما يصيب المؤمنين ؟ قال : " يرد الامام عليه اصابوا او لم يصيبوا ، لان على الامام ان يجبر حاجة من تحت يده " (1) .
(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 306 .
و سواءا كان معنى ( عاقبتم ) حصلتم على الغنيمة عبر تعاقب الحرب مع الكفار ، او التقاصي من الكفار و عدم اعطائهم المهر ، عقابا لهم لانهم لم يدفعوا المهر ، او ارادة الزواج المجدد ( زواجه الاول ) ، اقول : سواءا كان المعنى واحدا من الثلاث فان الذي فاتته زوجته الى الكفار يحصل على مهره من بيت المال ، و قد نقل المفســـرون ان النـــبي دفـــع لستــــة من المسلمين مهر ازواجهن اللائي فاتن الى الكفار (1) .
[ و اتقوا الله الذي انتم به مؤمنون ]
من ان يدعي احد بانه انفق على زوجته اكثر مما انفق بالفعل لكي يستغل هذا القانون استغلالا سلبيا ، او ان يستهين النظام الاسلامي بحقوق هذا الفريق فلا يؤتيهم ما انفقوا ، كما يأتي التأكيد على التقوى باعتباره المرتكز في التكافل الاجتماعي ، فكلما كانت التقوى عميقة كلما اصبح التكافل اكثر و اعمق .
[ 12] و في سياق حديث السورة عن الولاء و عن ان الولاء المبدئي اعظم من الولاء للزوج او الارحام يبين السياق استقلالية المرأة في مبايعتها و اختيارها للقيادة ، فهي ليس كمــا يتصور بعض الرجال او كما تظن بعض النساء تابعة للرجل في كل شيء ، كلا .. انها يحقلها بل يجب عليها ان تختار قيادتها بنفسها ، و ان تظهر الولاء و تنشىء عقد الطاعة بينها و بين قيادتها ، و هنا تشير الآية الى اهم مفردات عقد البيعة مع القيادة الرسالية من قبل المرأة ، و الواجب التزامها بها .
[ يا ايها النبي اذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ان لا يشركن بالله شيئا ](1) راجع القرطبي / ج 18 / ص 70 .
فلا يخضعن لسيادة غير السيادة الالهية بالتسليم المطلق للازواج و الاقارب ، انما يجـــب ان يخلصـــن الولاء و الطاعة للقيادة الرسالية وحدها ، و هذا هو اصل الولاء ، و هو التجلي الحقيقي للتوحيد في حياة الفرد ، و لعل هذه البصيرة تهدينا الى ضرورة مشاركة المرأة في الحقل السياسي انطلاقا من واجبها في اقامة حكم الله ، و مناهضة قوى الشرك و الضلال ، و عليها ان تنتخب الولي الشرعي بمحض ارادتها و كامل حريتها .
[ و لا يسرقن ]
من ازواجهن او من ابناء المجتمع .
[ و لا يزنين ]
و لعل هذين الشرطين موجهين بالخصوص للمهاجرات اللائي تركن ازواجهن ، لانهن فقدن المنفق فقد تدعوهن الحاجة الى السرقة ، او تضطرهن شهوة الجنس الى الزنا ، بينما الآية بلفظها مطلقة تشمل كل امرأة مسلمة .
[ و لا يقتلن اولادهن ]
معنويا و لا ماديا ، و لعل الاجهاض من مفردات القتل المنصرفة اليها الاية الكريمة .
[ و لا يأتين ببهتان يفترينه بين ايديهن و ارجلهن ]و هاتان المفردتان تتصلان بموضوع الزنا اتصالا مباشرا ، فان الزانية التي تتورط بالحمل تجد نفسها امام خيارين : فاما تتخلص من عار الزنا بقتل حملها ، و اما ترمــي به احد بانه اغتصبها ، و لعل هذه الصفات ( السرقة ، و الزنا ، و اتيان البهتان ) مماعرفت به المرأة في الجاهلية ، كما انها بصورة عامة من ابرز المفردات الخلقية و السلوكية التي يمكن ان تتورط فيها المراة ، و بالذات البهتان ، فان موقع المرأة الحساس في المجتمع المسلم يجعلها امضى اثرا في النيل من شخصيات الآخرين و اعراضهــم ، كما انــها مرهفة الاحساس فقد تظن السوء في رجل نظر اليها من غير قصد .
و قد اجمع اشهر المفسرين على ان المقصود هو الحمل باعتباره يقع بين اليدين و الرجلين ، و بينهما ينشأ و يرتضع .
[ و لا يعصينك في معروف ]
بل يسلمن تسليما مطلقا للقيادة الرسالية ، باعتبارها السلطة الشرعية و الولي الاكبر في المجتمع المسلم ، فلا يجوز للمرأة ان تجعل لاحد مهما كان ( زوجها او ابوها او اخوها ) ولاية فوق ولاية قيادتها ، او ان تعصيها ولو في معروف واحد .
و المعـــروف هو عموم الواجبات و الخيرات ، قال الامام ابو عبد الله الصادق ( ع ) : " هو ما فرض الله عليهن من الصلاة و الزكاة ، و ما امرهن به من خير " (1) ، و لعلنا نستشف من قوله " في معروف " ان الولاية الحقيقية للقيادة واقعة في حدود ولاية الله ، فلو انها - جدلا - امرت بغير المعروف لا يجوز اتباعها ، بل يكون عصيانها هو الاولى ، و هذا الامر محتمل في غير القيادات المعصومة .
و هذه المفردات التي يفرضها الاسلام شروطا للبيعة مع القيادة الرسالية تظهر اهتمام الدين بالمرأة ، باعتبار ان صلاح المجتمع متأسس على صلاحها . و اذا قبلن المؤمنات تلك الشروط و التزمن بها هنالك تبايعهن القيادة .
(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 308 .
[ فبايعهن و استغفر لهن الله ان الله غفور رحيم ]
و استغفار الرسول لهن الاخطاء السابقة و الجانبية التي قد يتورطن فيها ، و هذه الآية تعطي المعنى الحقيقي للهجرة بانه ليس مجرد الانتقال من مجتمع الى آخر صالح ، او الانفصال المادي عن المجتمع الضال ، انما هو التطهر من السلوكيات المنحرفة التي كانت سائدةعلى المجتمع الضال ، كالسرقة و الزنا و البهتان و .. و .. التي تعرضت الآية لذكر أهمها .
[ 13] و في ختام السورة يؤكد ربنا امره بمقاطعة اعداء الله فيقول :
[ يا ايها الذين امنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الاخرة كما يئس الكفار من اصحاب القبور ]ان محور الانسان المؤمن هو رضى الله عز وجل ، فهو لا يضع ولاءه الا عند اهله ، اما الذين يسخطون الله باعمالهم من الظلمة و الضالين فانه براء منهم . و قد تعددت اقوال المفسرين في بيان هوية المعنيين بـ " غضب الله عليهم " فذهب اكثرهم الى انهم اليهود ، لقوله تعالى " غير المغضوب عليهم و لا الضالين " و ما ورد في تفســــيرها و تأويلها من الاخبار ، و الذين يظهر انهم كل من يعمل ما يستحق غضب الله ، و لعلهم اناس من داخل المجتمع الاسلامي كالمنافقين و الحكام الظلمة و العلماء الفسقة ، و تشبيهالله لهم بالكفار يهدي الى انهم غير الكفار ، بل هم الذين يحاولون السيطرة على مقاليد الحكم في البلاد الاسلامية بغير حق !
|