بينات من الآيات [ 75 - 76] إن عظمة الله و أسمائه تتأكد لدى الإنسان كلما لاحظ الوجود من حوله و تفكر فيه ، لأنه بكله آيات هادية إلى تلك الحقيقة ، و عرصة تتجلى فيها العظمة والأسماء ، فبعظمة الخلق و روعته نهتدي إلى أسمائه الجمالية فهو الحي القوي المقتدر الجميل الرحمن.
وبما في الخلق من صفات التحول ، و العجز ، و الضعف ، و المحدودية ، نهتدي إلى صفات الخالق الجلالية، و أنه القدوس السبحان المتعالي الواسع ، و لعل هذا ما يفسر إشارته بالقسم إلى الكواكب و النجوم المتوزعة في الفضاء الرحب ، فإنها بحسنها و نظامها الدقيق و علاقتها بالحياة على الأرض تكشف جانبا من عظمة الخالق عز وجل و ربنا يفتح أفق البشرية و يثيرها نحو التطلع إلى علم الفضاء ، و لكن ليس في هذا العصر الذي تقدمت فيه معارف الإنسان بهذا الجانب منالعلم ، و تخصص فيه الباحثون والمراقبون ، إنما قبل عدة قرون ، وفي وقت كانت معلومات البشر بهذا العلم و توجهاته ضئيلة و محدودة ، بل و مخلوطة بالخرافات و الأساطير .
[ فلا أقسم بمواقع النجوم ]
ولم يقل بذات النجوم ، و ذلك ليبين حقيقة علمية مهمة وهي أن الكواكب ليست منثورة في السماء أعتباطا ، كما يظن الجاهل بنظرته الخاطفة إلى ظاهرها ، بل هي خاضعة لنظام دقيق و محكم بحيث تأخذ كل نجمة موقعها فيه ، بما يجعل النظام متكاملا ، و يجعلها تؤدي دورهاالمطلوب و المناسب في الوجود . ولا ريب أن هذه الحقيقة حرية بالدراسة و البحث من جانب المختصين لما فيها من فوائد علمية تهم الإنسان ، و تجليات لعظمة خالقها و مدبرها تزيد إٍيمانه و تصديقه و تسبيحه .
" و يقول الفلكيون : إن من هذه النجوم و الكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم ( تزداد كلما تقدم العلم بالإنسان ) ما يمكن رؤيته بالعين المجردة ، و ما يرى إلا بالمجاهر و الأجهزة ، و ما يمكن أن تحس به الأجهزة دون أن تراه ، هذه كلها تسبح في الفلك الغامض ، ولا يوجد أي احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من نجم آخر ، أو يصطدم بكوكب آخر ، إلا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي ، يسيران في اتجاه واحد ، و بسرعة واحدة ، وهو احتمال بعيد ، جدا ، إن لم يكن مستحيلا " ( 1) .
و يقول العلماء المختصون أنهم اكتشفوا لحد الآن نصف مليارد مجرة ، ولا يزالون يكتشفون المجرة تلو الأخرى في هذا الفضاء الرحب ، و إنما يدرك عظمة قسم الله بمواقع النجوم الذي يطلع على مثل هذه الحقائق ، أما الذي يجهلها فان القسم بها(1) في ظلال القرآن / نقلا عن كتاب : الله و العلم الحديث / ص 33 .
عنده ليس ذا أهمية .
[ و إنه لقسم لو تعلمون عظيم ]
فكلما تقدم الإنسان خطوة في العلم كلما ظهرت و تأكدت له عظمة هذا القسم ، و كفى بذلك عظمة أنه قسم منه تعالى بمواقع النجوم . و نخلص الى القول بأن عدم قسمه مباشرة بها يعود الى أمرين رئيسيين : أحدهما : أن القسم بشيء يحقق غرضه حينما تكون عظمته معروفة عندالطرف المقابل ، و الآخر : لأن الناس في الجاهلية كانوا يعتقدون في النجوم و مواقعها بالخرافات و الشرك فلم يقسم الله بها لكي لا تتعمق اعتقاداتهم الباطلة ، أو يتخذونه مبررا لها . قال الامام الصادق ( عليه السلام ) : " إن مواقع النجوم رجومها للشياطين ،فكان المشركون يقسمون بها ، فقال سبحانه : فلا أقسم بها " (1) ، و قال ( عليه السلام ) : " كان أهل الجاهلية يحلفون بها ، فقال الله عز وجل : " الآية " (2) .
و لعل في الآية ايحاء و اشارة من قبل الله الى الناس بعدم جواز حلفهم هم بها ، حيث لا يصح للمخلووق القسم إلا بالخالق ، وفي الروايات تصريح بذلك ، قال الامام الصادق ( عليه السلام ) بعد ان تلى الآية " عظم إثم من يحلف بها " (3) ، وفي هاتين الآيتين دعوة الى نبذ الظنون و الاساطير في موقف الانسان من النجوم ، و التي تضر اكثر مما تنفع ، الى العلم ، مما يظهر اهتمام الاسلام و موقفه من العلم ، و دعوته الرائدة اليه ، و أنه ليس كما يظن البعض او يصورونه يعارض العلم و الحضارة .
[ 77 - 79] و بعد التمهيد الآنف بالقسم يصارحنا الوحي بتلك الحقيقة(1) مجمع البيان / ج 9 الموضع .
(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 225 .
(3) المصدر .
العظمى ، و التي كانت الغرض من القسم العظيم .
[ إنه لقرءان كريم ]
أليس يتجلى فيه ربنا بكل جماله و جلاله ، و أي كرامة اسمى من كتاب تنفتح آياته عن جمال الخالق ، و روعة المخلوق ، وعن جلال الخالق ، و عظيم خلقه ؟
قالوا : الكرم مجمل الصفات الحميدة (1) .
و كيف لا يكون القرآن كريما و قد رغبنا الى مكارم الاخلاق و حسان الاداب ، الى العدل و الحرية والفضائل الانسانية ، كما نهانا عن الخبائث و الرذائل و السيئات ؟
و إذا عدنا الى انفسنا وما فطرت عليه من حب الخير و الفضيلة لعرفنا ان القرآن كتاب ربنا أو ليس يدعو الى ذات الصفات الحسنى التي نحبها ونعتقد ان ربنا يحبها ، فكيف يكفرون به و كل آية آيه منه شاهد على انه من عند الله ؟
و السؤال هنا : ما هو وجه ذكر السياق للقرآن و بهذه الصورة المؤكدة ؟
اولا : لان الدرس السابق ذكرنا بالآيات الهادية الى التصديق بالخالق . فكان من البديهي ان يأتي ذكر القرآن ، لانه السبيل الى معرفة الآيات ، و البصيرة لرؤية تجليات الرب ، و من لا يهتدي بالقرآن كيف يتسنى له وعي حقائق الخليقة ، و فك رموزها ، و مشاهدة غيبها ، و العروج منها الى معرفة خالقها ؟
ثانيا : لان التصديق بالخالق ، و التذكر ، و الشكر ، و بالتالي التسبيح باسم الرب العظيم الذي دعى اليه الدرس السابق ، لا يتم بالوجه الأكمل الا بالقرآن ،(1) راجع مفردات الراغب .
فالقرآن معراج السابقين ، و منهج اصحاب اليمين . أنه شريعة سمحاء لمن أراد الذكر ، و ابتغى الشكر ، و بحث عن سبيل التقوى . إنك تسأل كيف أصدق بالخالق ؟ و كيف اتذكر و أشكر ؟ و كيف أسبح ؟ كل ذلك بالقرآن " يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه و يهديهم الى صراط مستقيم " (1) فالتسبيح الحقيقي الذي يأمر به الله بقوله : " فسبح باسم ربك العظيم " (2) لا يتلخص في الذكر ، انما يكون باسم الله العظيم و قرآنه أعظم اسمائه الظاهرة ، بل وفيه الاسم الاعظم .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " من أعطاه الله القرآن فرأى ان أحدا اعطي شيئا أفضل مما أعطي فقد صغر عظيما و عظم صغيرا " (3) و قال ( صلى الله عليه و آله ) : " فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه " (4) و قال: " القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم إن هذا القرآن هو حبل الله ، و هو النور المبين ، و الشفاء النافع ، فاقرأوه فان الله يأجركم على كل تلاوته بكل حرف عشر حسنات . أما اني لا أقول ( الم ) حرف واحد ، ولكن الف ، ولام ، و ميم ثلاثون حسنة" (5) و قال : " القرآن أفضل كل شيء دون الله ، فمن وقر القرآن فقد وقر الله ، ومن لم يوقر القرآن فقد استخف بحرمة الله ، و حرمة القرآن على الله كحرمة الولد على والده " (6) و قال : " إن أردتم عيش السعداء ، و موت الشهداء ، و النجاة يومالحسرة ، و الظل يوم الحرور ، و الهدى يوم الضلالة ، فادرسوا(1) المائدة / 16 .
(2) الواقعة / 74 .
(3) بح / ج 92 / ص 13 .
(4) المصدر / ص 19 .
(5) المصدر .
(6) المصدر .
القرآن فانه كلام الرحمن ، و حرز من الشيطان ، و رجحان في الميزان " (1) و قال :
" من استظهر القرآن و حفظه ، و أحل حلاله ، و حرم حرامه ، أدخله الله به الجنة " و شفعه في عشرة من أهل بيته ، كلهم قد وجب له النار " (2) و قال ( صلى الله عليه و آله ) يعظ سلمان المحمدي : " يا سلمان ! المؤمن إذا قرأ القرآن فتح الله عليه أبواب الرحمة ، و خلق الله بكل حرف يخرج من فمه ملكا يسبح له الى يوم القيامة .. وان أكرم العباد الى الله بعد الانبياء العلماء ثم حملة القرآن ، يخرجون من الدنيا كما يخرج الانبياء ، و يحشرون من قبورهم مع الانبياء ، و يمرون على الصراط مع الانبياء ، و ياخذون ثواب الانبياء ، فطوبى لطالب العلم و حامل القرآن مما لهم عند الله من الكرامة و الشرف " (3) .
و لكننا نحن المسلمين لا زلنا بعيدين عن القرآن ، بالرغم من هذه التأكيدات ، و بالرغم من تجربتنا معه ، أوليس قد انقذنا من ظلمات الجاهلية ، و شيد لنا حضارة كانت ولا زالت منارا للبشرية ، فلماذا هجرناه حتى عاد بيننا غريبا ؟ أفكارنا لا تشير الى بصائره ، وسلوكنا لا تستوحي من قيمه . و بكلمة : خسرنا كرامة القرآن و عزه ، ولا يزال يدعونا الى مأدبته وكرامته ، بيد أننا لن نبلغه الا بسعي منا ، ذلك لانه كما يصفه الله عز وجل :
[ في كتاب مكنون ]
فلابد اذا نستظهره كما يقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (4) ، و نستنطقه كما يقول الامام علي ( عليه السلام ) ، حتى نطلع على مكنونه ، فهو بالرغم من اشتماله على تبيان لكل شيء لن ينطق ، " ذلك القرآن فاستنطقوه ، و لن ينطق ،(1) المصدر .
(2) المصدر .
(3) المصدر / ص 18 و لمزيد راجع المصدر .
(4) المصدر / ص 13
و لكن أخبركم عنه ، فيه علم ما ياتي ، و الحديث عن الماضي ، و دواء دائكم ، و نظم ما بينكم " (1) ، و قد أراد الامام ( عليه السلام ) من قوله : " ولن ينطق " أننا لن نقرأ في ظاهر القرآن كل المناهج الحضارية للحياة ، ولا مضامينه العلمية ، انمانجدها بالتفكير و التدبر في آياته ، الذي يفتح لنا كن الذكر الحكيم و يبصرنا محتوياته و تأويلاته الواقعية في جوانب الحياة المختلفة ، و العقل اذا أعمل على هدى الايات و السنة و العلم الصحيح هو مفتاح القرآن . قال تعالى : " و ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر الا أولو الالباب " (2) ، و قال : " و تلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون " (3) و قال : " كتاب انزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته و ليتذكر اولو الألباب " (4) .
ولأننا تعودنا على الافكار الجاهزة ، ولان العملية الفكرية عملية مجهدة ، ولان مناهجنا في فهم القرآن و تفسيره متخلفة و خاطئة في أغلبها ، فلازلنا بعيدن عن الثقافة القرآنية التي نحتاجها في حياتنا الفردية و الاجتماعية ، و لم ننتفع عمليا بالرغم من الحاجةالملحة إليها . وما أشبه حالنا بظمآن يجري بقربه نهر فرات لم يكتشفه ، أو فقير تحته كنز كبير !
ولا يفوتنا القول بان من معاني " مكنون " محفوظ ، لم و لن تصل اليه يد التحريف ، و لن يطفىء نوره المشركون ولا الكافرون . و قال بعض المفسرين ان معنى الاية انه كتاب محفوظ عند الله ، و الكتاب هنا كتاب في السماء (5) .. و لكن(1) المصدر / ص 23 عن أمير المؤمنين (ع) .
(2) آل عمران / 7 .
(3) العنكبوت / 43 .
(4) ص / 29 .
(5) القرطبي / ج 17 / ص 224 .
يبدو ان الاية التالية تفسر هذه الاية ، فهو مكنون عن غير المطهرين .
[ لا يمسه إلا المطهرون ]
قال المفسرون و الفقهاء تبعا للآيات يعني لا يجوز ان يمس القرآن الا من كان مسلما طاهرا . قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : " المصحف لا تمسه على غير طهر ، و لا جنبا ، ولا تمس خطه ولا تعلقه . ان الله يقول : " الآية " (1) ، و سئل الامام الصادق ( عليه السلام ) عن التعويذ تعلقه على الحائض ؟ قال : " نعم لا بأس ، تقرأه ، و تكتبه ، ولا تصيبه يدها " (2) .
و هذا التفسير هو ظاهر الاية ، و اذا تدبرنا في الآية أكثر لعرفنا ان الطهارة الجدسية بعد واحد من الطهارة ، و البعد الاخر هو طهارة الروح التي هي الاهم .
و لا يمس حقائق القرآن الا المطهرون ، عن الاثم و الفواحش ، البعيدون عن العقد و الافكار الدخيلة و المسبقة ، و الاغلال و الاصر ، و سائر الادران التي تحجب الانسان عن كتاب الله . قال ربنا سبحانه : " و اذا قرأت القرآن جعلنا بينك و بين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا * و جعلنا على قلوبهم أكنة ان يفقهوه و في آذانهم وقرا و اذا ذكرت ربك في القرآن و حده ولوا على أدبارهم نفورا " (3) و قال : " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " (4) ، كما جاء أمره تعالى بالاستعاذة من الشيطانفي قوله : " و إذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان " (5) لأنه لون من ألوان النجاسة المعنوية التي تحجب الانسان عن الآيات .
(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 226 .
(2) المصدر / ص
(3) الاسراء / 45 - 46 .
(4) محمد / 24 .
(5) النحل / 98 .
و أئمة الهدى الذين تنزل الوحي في بيوتهم هم الاعلم بمعاني القرآن ، لانهم أظهر مصاديق الطهر لقوله تعالى : " انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا " (1) .
و من الدقة في التعبير انه تعالى لم يقل الطاهرين انما قال " المطهرين " مما يؤكد تأويل هذه الآية في أهل البيت العصمة ( عليهم السلام ) حيث طهرهم الله ، و لذلك قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " فان القرآن الذي عندي لا يمسه الا المطهرون و الاوصياء من ولدي " (2) و لعل المراد مما عنده القرآن بتفسيره و تأويله وما تلقى من الاحاديث عن النبي ( صلى الله عليه و آله ) فيه .
و قد قال الامام الصادق ( عليه السلام ) : " و انما القرآن امثال لقوم يعلمون دون غيرهم ، و لقوم يتلونه حق تلاوته ، و هم الذين يؤمنون به و يعرفونه ، فاما غيرهم فما أشد اشكاله عليهم و أبعده من مذاهب قلوبهم ، و لذلك قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله و سلم ) : إنه ليس شيء بأبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن ، و في ذلك تحير الخلائق أجمعون الا ما شاء الله .. الى ان يقول يخاطب السائل .. و إياك و تلاوة القرآن برأيك فان الناس غير مشتركين في علمه كاشتراكهم فيما سواه من الامور ( يعني كعلم الائمة )، ولا قادرين عليه ولا على تأويله الا من حده و بابه الذي جعله الله له ، فافهم انشاء الله ، و اطلب الامر من مكانه تجده انشاء الله " (3) .
[ 80 - 82] و انما يقصر غير المطهرين عن مسه ولا يجوز لهم ذلك لانه كلام الله رب العالمين .
(1) الاحزاب / 33 .
(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 226 .
(3) بح / ج 92 / ص 100 - 101 .
[ تنزيل من رب العالمين ]
و قد تجلى الرب فيه باسمائه ، و آياته ، و رسالاته ، و شرائعه ، و كتاب هذا شأنه يحجب عنه من اتبع هواه ، و تمكنت الشهوات من قلبه ، لان معرفة الله معراج القلب اليه ، و حضور النفس في مقامه الاعلى ، فكيف يسمح لمن تراكمت عقد الذنوب على قلبه بذلك ؟! حاشا بذي العرش ان يسمو الى مقامه الذي اخلدوا الى الأرض واتبعوا أهواءهم !
[ أفبهذا الحديث أنتم مدهنون ]
انه حديث عظيم لابد من أخذه بقوة و عزم ، و الاستقامة عليه في مواجهة الضغوط . أما اللين في أمره ، و الاستسلام للضغوط بالاعراض عنه ، فهو لا يتناسب و عظمة القرآن . و هذا المعنى هو المفهوم من مختلف الاراء في تفسير المدهن ، قالوا : مكذبون ، و قالوا : منافقون ، و قال بعضهم : ممالقون الكفار على الكفر به ، و قال آخر : المدهن الذي لا يعقل ما حق الله عليه و يدفعه بالعلل ، و قال بعض اللغويين : مدهنون تاركون للجزم في قبول القرآن (1) . و قال آية الله الشيرازي : متهاونون ، كمن يدهن في الامر أي يلين جانبه تهاونا ، و أصله استعمال الدهن للين الجسم (2) ، و منه قول الله : " ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين * فلا تطع الكافرين * ودوا لو تدهن فيدنون * ولا تطع كل حلاف مهين " (3) .
و نستفيد من الاية انه لا يجوز لاحد التهاون في احكام القرآن في اي حال ، ولأي سبب ، لانه حديث الله المفروض تطبيقه و الالتزام به على الخلق ، ولا يجوز ان يبرر(1) القرطبي / ج 17 / ص 228 .
(2) تفسير تقريب القرآن للاذهان / الموضع .
(3) القلم / 7 - 10 .
ذلك بانه قد تعرض للضغط لان علامة الايمان تحدي الضغوط ، و تفضيل الاخرة على مصالح الدنيا و شهواتها .
و انما سقط الغابرون عندما خارت عزائمهم عند مواجهة التحديات فأخذوا يتهاونون في أمر الدين ، و يلينون أمام الصعاب .
[ و تجعلون رزقكم أنكم تكذبون ]
كذب الذي يزعم ان رزقه من العباد فاخذ يداهنهم ، او من الانواء فطفق يستدرها بدل ان يشكر بارءها ، فقد يكون الناس سببا للرزق ، و لكن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ، فلا يجوز مداهنتهم و تكذيب الحق للحصول على لقمة الخبز ، بل الله يجب ان يخاف و يتقي ، لانه اذا منع الرزق لا يقدر احد على منحه ، و اذا منح فلا يقدر احد على منعه . و بهذا نعرف ان تفاسير الآية المختلفة تعود بالتالي الى تفسير واحد : انهم قد زعموا خطأ ان رزقهم بالتكذيب مداهنة للناس ، و لعل هذا الزعم هو مورد استشهاد النصوص التي جعلت الرزق بمعنى الشكر حسب مورد النزول المروي ، ذلك ان زعم اهل الجاهلية بأن الانواء هي التي تمطرهم هو كزعم هؤلاء ان التكذيب سبب لرزقهم .
و هذا التفسير ينسجم مع السياق الذي يستهدف تركيز الايمان بالله وحده و التصديق بانه الخالق الرازق ( الايات 57 / 74) و بالأخص اذا لاحظنا قوله : " فلولا تشكرون " في الآية (70) .
قال الامام علي ( عليه السلام ) : " تجعلون شكركم انكم تكذبون ، ( وأضاف يعني اهل الجاهلية ) و كانوا اذا امطروا قالوا : امطرنا بنوء كذا و كذا ، وفانزل الله " الآية " (1) ، و جاء في تفسير القرطبي يعلل استبدال كلمة الرزق بالشكر في(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 227 .
المعنى : ( لأن شكر الرزق يقتضي الزيادة فيه ، و يكون الشكر رزقا على هذا المعنى ، فقبل " و تجعلون رزقكم " أي شكر رزقكم الذي لو وجد منكم لعاد رزقكم ، انكم تكذبون بالرزق ، اي تضعون الكذب مكان الشكر ، كقوله تعالى : " وما كان صلاتهم عند البيتإلا مكاء و تصدية " اي لم يكونوا يصلون ، و لكنهم كانو يصفرون و يصفقون مكان الصلاة . ففيه بيان ان ما اصاب العباد من خير فلا ينبغي ان يروه من قبل الوسائط الذي جرت العادة بان تكون أسبابا ، بل ينبغي ان يروه من قبل الله تعالى ثم يقابلونه بشكر ان كاننعمة ، او صبر ان كان مكروها ) .
و روي عن ابن عباس قال : مطر الناس على عهد النبي ( صلى الله عليه و آله ) فقال النبي ( صلى الله عليه و آله ) : " أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر ، قالوا : هذه رحمة الله ، و قال بعضهم : لقد صدق نوء كذا و كذا ( أي نجم ) . فنزلت الايات " فلا أقسم بمواقع النجوم ؟؟ ( حتى بلغ قوله : ) و تجعلون رزقكم انكم تكذبون " (1) أي تجعلون رزقكم انكم تكذبون بالله ، و تصدقون بالأنواء .
[ 83 - 87] و يعالج القرآن الانحراف الذي يقع الانسان فيه بالشرك ، سواء الصريح منه كالاعتقاد بالأنواء ، أو المبطن كالاسترزاق و المداهنة اللذان هما من ألوان الشرك ، حيث يساوم الانسان بالحق ، و يتنازل عنه الى الباطل ، او يكذب به استجابة لعوامل معينة داخلية او خارجية ، يعالج هذا وذاك بوضعه امام الموت الواقعة الصغرى التي هي أخطر و أصعب و أحسم حوادث الدنيا ، فهو حينئذ لا ينفعه شيء ولا شخص ، ويأتي التأكيد على هذين الأمرين لان مداهنة الانسان بالحق و تكذيبه به و شركه ينطلق من كفره بالآخرة و الحساب ، و اعتماده على الآخرين .
[ فلولا إذا بلغت الحلقوم ]
(1) تفسير القرطبي / ج 17 / ص 230 .
يعني النفس عند الاجل ، و بلوغها الحلقوم كناية عن قرب خروجها ، بل هي حقيقة يعاينها كل من حل اجله . اما الجالسون حول المنازع للموت فانهم لا يرون من الامر الا ظاهر صاحبهم ، اذ يلف ساقا بساق ، و يقبض يدا و يبسط أخرى .
[ و أنتم حينئذ تنظرون ]
باعينكم اليه لا تستطيعون الا التسليم للواقع ، بينما تستل رسل الله روحه على أقرب من حبل الوريد .
[ و نحن أقرب إليه منكم و لكن لا تبصرون ]
كما أنهم إذا صاروا إلى مثل أمر من ماتوا سيدركون بيقين و يرون رسل الموت بأبصارهم و بصائرهم ، و إنما يدعونا ربنا الى الاتعاظ بمن يمضون قبل أن نكون بانفسنا الموعظة ، و الإمام علي ( عليه السلام ) يؤكد لنا هذه الحقيقة إذ يقول : " فإنكم لو قد عاينتمما قد عاين من مات منكم لجزعتم و وهلتم ، و سمعتم و أطعتم ، و لكن محجوب عنكم ما قد عاينوا ، و قريب ما يطرح الحجاب ! و لقد بصرتم إن أبصرتم ، و أسمعتم إن سمعتم ، و هديتم إن اهتديتم ، و بحق أقول لكم : لقد جاهرتكم العبر ، و زجرتم بما فيه مزدجر ، و ما يبلغعن الله بعد رسل السماء إلا البشر " (1) .
و من دقيق عبارة القرآن أنه لا يقول هنا : " و لكن لا تنظرون " ، لأن ما يريد بيانه عمى البصيرة و ليس البصر و حسب ، فالمؤمنون الموقنون لا يرون الملائكة بأعينهم إذا قضى أحد نحبه على مقربة منهم ، و لكنهم لا شك يدركون الموت ، و يسلمون لهذا الحق، كتسليمهم بكل الحقائق الأخرى ، و يبصرون بقلوبهم حتى ملائكة الله .
(1) نهج / خ 20 / ص 62 .
و حيث تبلغ الروح الحلقوم يتيقن الإنسان بكثير من الحقائق التي طالما داهن بها و كذب و استرزق ، فيذهل عن كل شيء ، و يأسف على ما فرط ، و يرى أن الواقع الذي يعانيه هو نفسه الذي جاء في حديث الله و رسالته للعالمين . " و إنه لبين أهله ينظر ببصره ، و يسمع بإذنه ، على صحة من عقله ، و بقاء من لبه ، يفكر فيم أفنى عمره ، و فيم أذهب دهره ، و يتذكر أموالا جمعها ، أغمض في مطالبها ، و أخذها من مصرحاتها و مشتبهاتها ، قد لزمه تبعات جمعها ، و أشرف على فراقها ، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ، و يتمتعون بها ، ... ثم ازداد الموت التياطا به فقبض بصره كما قبض سمعه ، و خرجت الروح من جسده ، فصار جيفة بين أهله ، قد أوحشوا من جانبه ، و تباعدوا من قربه " . (1)هكذا قهر الله عباده بالموت ، و به يتحدى غرور البشر و ضلالهم ، و يعالج كفرهم بالجزاء فيقول :
[ فلولا إن كنتم غير مدينين ]
أي إن زعمتم أنكم غير مجزيين بأعمالكم ، و قيل : أنكم غير مملوكين .
[ ترجعونها إن كنتم صادقين ]
و لكن كيف يكون الموت دليل الجزاء ؟ و الجواب : إن هذا و ذاك حق واقع مفروض ، و الموت كما الجزاء يخشاه الإنسان فيتهرب من الإعتراف به حتى يكذبه ، حتى جاء في الحديث أنه الحق الذي يشبه الباطل حيث لا يكاد يصدق به أحد لعظيم شأنه في نفوس الناس ، و لكن هل ينتفي الموت بتكذيبه ، أو يمكن الفرار منه ؟ كلا .. كذلك الجزاء . إن الله يأخذ الروح و يدفعها للجزاء . فإذا كان أحد يدعي قدرة على تحدي سنة الجزاء فليردها ممن أخذها ؟
(1) نهج / خ 109 / ص 161 .
[ 88] و حينما يحل الأجل يزهق كل باطل إلا الحق الذي بشرت به رسالة الله ، فإنه يصير ماثلا أمام ابن آدم ، فما أخبر به الله من انقسام الناس إلى ثلاثة أزواج لا يعود كذبا ولا ظنا ولا حتى مجرد إيمان بل يجده واقعا ماثلا أمامه .
[ فأما إن كان من المقربين ]
إلى الله بإيمانهم و أعمالهم .
[ فروح ]
أي راحة و اطمئنان و سعادة .
[ و ريحان ]
جاء في الأخبار أنه من أزهار الجنة و روائحها يشمه ملك الموت المؤمن فلا يحس بمنازعه الروح و خروجها . ويلقى المؤمن هذين الجزائين عند موته ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) وقد تلا الآية : " يعني في قبره " .
[ و جنات نعيم ]
" يعني في الآخرة " (1) ، و قد تعرضت السورة في أولها إلى ذكر شيء من نعيم السابقين المقربين . قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) : " إذا أراد الله تبارك و تعالى قبض روح المؤمن قال : يا ملك الموت انطلق أنت و اعوانك إلى عبدي فطال ما نصب نفسه من أجلي ، فأتني بروحه لأريحه عندي ، فيأتيه ملك الموت بوجه حسن ، و ثياب طاهرة ، و ريح طيبة ، فيقوم بالباب فلا يستأذن بوابا ، ولا يهتك حجابا ، ولا يكسر بابا ، معه خمسمائة ملك أعوان ، معهم طنان الريحان ، و الحرير(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 228 .
الأبيض ، و المسك الأذفر ، فيقولون : السلام عليك يا ولي الله أبشر فإن الرب يقرؤك السلام ، أما إنه عنك راض غير غضبان ، و ابشر بروح و ريحان و جنة نعيم ، قال : أما الروح فراحة من الدنيا و بلائها ، و أما الريحان من كل طيب في الجنة ، فيوضع على ذقنه فيصل ريحه إلى روحه ، فلا يزال في راحة حتى يخرج نفسه ، ثم يأتية رضوان الله خازن الجنة فيسقيه شربة من الجنة لا يعطش في قبره ولا في القيامة حتى يدخل الجنة ريانا ، فيقول : يا ملك الموت رد روحي حتى يثني على جسدي و جسدي على روحي ، قال : فيقول ملك الموت : ليثن كل واحد منكما على صاحبه ، فيقول الروح : جزاك الله من جسد خير الجزاء ، لقد كنت في طاعة الله مسرعا ، و عن معاصيه مبطئا ، فجزاك الله عني من جسد خير الجزاء ، فعليك السلام إلى يوم القيامة ، و يقول الجسد للروح مثل ذلك .
قال : فيصيح ملك الموت : أيتها الروح الطيبة أخرجي من الدنيا مؤمنة مرحومة مغتبطة ، قال : فرقت به الملائكة ، و فرجت عنه الشدائد ، و سهلت له الموارد ، و صار لحيوان الخلد ، قال : ثم يبعث الله له صفين من الملائكة غير القابضين لروحه ، فيقومون سماطين ما بين منزله إلى قبره يستغفرون له و يشفعون له ، قال : فيعلله ملك الموت و يمنيه ، و يبشره عن الله بالكرامة و الخير ، كما تخادع الصبي أمه ، تمرخه بالدهن و الريحان وبقاء النفس و يفديه بالنفس و الوالدين ، قال : فإذا بلغت الحلقوم قال الحافظان اللذان معه : يا ملك الموت ارأف بصاحبنا وارفق فنعم الأخ كان و نعم الجليس ، لم يمل علينا ما يسخط الله قط ، فإذا خرجت روحه كنخلة بيضاء و ضعت في مسكة بيضاء ، و من كل ريحان في الجنة فإدرجت إدراجا ، و عرج بها القابضون إلى السماء الدنيا ، قال : فيفتح له أبواب السماء و يقول لها البوابون : حياها الله من جسد كانت فيه ، لقد كان يمر له علينا عمل صالح . و نسمع حلاوة صوته بالقرآن ، قال : فبكى له أبواب السماء و البوابون لفقده و يقولون : يا رب قد كان لعبدك هذا عمل صالح ، و كنا نسمعحلاوة صوته بالذكر للقرآن ، و يقولون : الله ابعث لنا مكانه عبدا يسمعنا ما كان يسمعنا ، و يصنع الله ما يشاء ، فيصعد به إلى عيش رحب به ملائكة السماء كلهم أجمعون ، و يشفعون له ، وي ستغفرون له ، و يقول الله تبارك و تعالى : رحمتي عليه من روح ، و يتلقاه أرواح المؤمنين كما يتلقى الغائب غائبه ، فيقول بعضهم لبعض : ذروا هذه الروح حتى تفيق فقد خرجت من كرب عظيم ، و إذا هو استراح أقبلوا عليه يسائلونه و يقولون : ما فعل فلان و فلان ، فإن كان قد مات بكوا واسترجعوا و يقولون : ذهبت به أمه الهاوية فإنا لله و إنا اليه راجعون ، قال : فيقول الله : ردوها عليه ، فمنها خلقهم وفيها أعيدهم و منها أخرجهم تارة أخرى ، قال : فإذا حمل سريره حملت نعشه الملائكة ، و اندفعوا به اندفاعا ، و الشياطين سماطين ينظرون من بعيد ليس لهم عليه سلطان ولا سبيل ، فإذا بلغوا القبر توثبت إليه بقاع الأرض كالرياض الخضر ، فقالت كل بقعة منها : اللهم اجعله في بطني ، قال : فيجاء به حتى يوضع في الحفرة التي قضاها الله له ، فإذا وضع في لحده مثل له أبوه و أمه و زوجته و ولده و إخوانه ، قال : فيقول لزوجته : ما يبكيك ؟ قال : فتقول : لفقدك ، تركتنا معولين ، قال : فتجيء صورة حسنة قال : فيقول : ما انت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، أنا لك اليوم حصن حصين و جنة و سلاح بأمر الله .
قال : فيقول : أما و الله لو علمت أنك في هذا المكان لنصبت نفسي لك ، و ما غرني مالي و ولدي ، قال : فيقول : يا ولي الله أبشر بالخير ، فوالله إنه ليسمع خفق نعال القوم إذا رجعوا ، و نفضهم أيديهم من التراب إذا فرغوا ، قد رد روحه و ما علموا ، قال : فيقولله الأرض : مرحبا يا ولي الله ، مرحبا بك ، لأحسن جوارك ، و لأبردن مضجعك ، و لأوسعن مدخلك ، إنما أنا روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر الناس " (1) .
(1) بح / ج 1 / ص 207 - 209 وفي الرواية بقية في المصدر .
[ 89 - 94] هذا كان حال الإنسان إذا كان من المقربين عند الموت و بعده .
[ و أما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين ]قيل المعنى أن الملائكة تبشره بالأمن و السلام و العاقبة ، و هو أكبر ما يطمح إليه الإنسان ، فهم يؤمنونه من غضب الله و عذابه الذي يحل بأصحاب المشأمة ، فيقولون له " أنت في سلام لأنك من أصحاب اليمين .
و قيل : يعني إن سألت عنه فهو سلام : كقولنا : أحمد إليك ربي ، أي إن سألت عني فأنا أحمد الله ، و كما لو سألت شخصا عن صاحبك فيقول : كما تحب في عاقبة ، أو يقول : يدعو لك إنه بخير ، أو : يسلم عليك هو في عافية . قال القرطبي : أي لست ترى منهم إلا ما تحب من السلامة فلا تهتم لهم ، فإنهم يسلمون من عذاب الله (1) ، و يبدو أن هذا المعنى هو الأقرب .
و يحتمل أن الكلام هنا عن صفة علاقتهم بالرسول ( ومن خلاله كل مؤمن نال للقرآن ) في الدنيا قبل الموت . إنها ليست علاقة العداء و التكذيب ، و إنما هم في تسليم له ، و سلام تجاهه ، و ليسوا كأصحاب المشأمة الذين يعادونك يا رسول الله و يكذبون برسالتك . و فيروضة الكافي ( رض ) : قال رسول الله (ص) لعلي ( عليه السلام ) : " هم شيعتك فسلم ولدك منهم أن يقتلوهم " (1) ، و الآية تتسع إلى هذا المعنى بدليل هذه الرواية .
[ و أما إن كان من المكذبين الضالين ]
الذين كذبوا الرسالة و الرسول ، و أنكروا البعث فلم يستعدوا للقاء الآخرة ، بل(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 229 .
أسرفوا في السيئات و الذنوب فضلوا ..
[ فنزل من حميم * و تصلية جحيم ]
قال الإمام الكاظم ( عليه السلام ) : " إذا مات الكافر شيعه سبعون ألفا من الزبانية إلى قبره ، و إنه ليناشد حامليه بقول يسمعه كل شيء إلا الثقلان ، و يقول : لو ان لي كرة فأكون من المؤمنين ، ويقول : " رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت "فتجيبه الزبانية : " كلا إنها كلمة أنت قائلها " و يناديهم ملك : لو رد لعاد لما نهي عنه ، فإذا أدخل قبره و فارقه الناس أتاه منكر و نكير في أهول صورة ، فيقيمانه ثم يقولان له : من ربك و ما دينك ومن نبيك ؟ فيتلجلج لسانه ولا يقدر على الجواب فيضربانه ضربة من عذاب الله يذعر لها كل شيء ، ثم يقولان له : من ربك وما دينك ومن نبيك ؟ فيقول : لا أدري ، فيقولان له : لادريت ولا هديت ولا أفلحت ، ثم يفتحان له بابا إلى النار و ينزلان إليه الحميم من جهنم ، و ذلك قول الله جل جلاله : " الآيتان " (1) .
و كونه من الضالين المكذبين يبين أن ضلالته متعمدة اصطنعها بتكذيبه ، و ليست عقوبة أو بسبب جهله بالحق و غفلته عنه .
[ 95 - 96] وفي نهاية السورة يؤكد ربنا بأن الحقائق التي ذكر بها القرآن و أهمها حقيقة الجزاء الأخروي ليست خيالا ، و لم تذكر لمجرد التخويف إنما هي واقع و سوف ينكشف بعينه للإنسان عند الموت .
[ إن هذا لهو حق اليقين ]
و حيث لا يصل كثير من الناس إلى درجة اليقين إيمانا و علما فإنهم يضيعون هذا(1) امالي الصدوق / ص 239 .
الحق ، و يكفرون به ، بينما يتجلى لقلوب الصادقين من المؤمنين وهم في دار الدنيا ، و لذلك تكاد أرواحهم تطير من أجسادهم فرحا لذكر الجنة ، و تزهق خوفا لذكر النار ، و السبب أنهم ليسوا في كفر ولا شك بالآخرة ، إنما يتعاملون مع ذلك الحق الغيب ، كما يتعاملون معأي حق محسوس ، فهم حاضرون ببصائرهم هناك كحضورهم ببصرهم هنا .
[ فسبح باسم ربك العظيم ]
تنزيها له عما يصف المشركون و الكافرون ، كوصفه بالعجز عن البعث و الجزاء ، أو تبرير أخطائهم و خطيئاتهم و إلغاء المسؤولية على الله سبحانه بصورة أو بأخرى كالذين يسبون الدهر و يعيبون الزمان ، وما الدهر إلا سنة الله القائمة فيه ، وما الزمان إلا وعاؤها ! إنما هم المسؤولون ، و قد جاء التسبيح عند ذكر الذنب كما في قوله سبحانه : " و ذا النون إذ هب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " و لعل حكمة ذلك ألا نلقي اللوم على الله سبحانه ، و هكذا نسبحالله لكي لا نظن به جورا تعالى ربنا عن ذلك كبيرا ، فنعود إلى أنفسنا و نحرضها على العمل لنصبح من أصحاب اليمين بحوله و قوته . نسأل الله أن يوقظنا من سبات الشهوات و غفلة الأهواء ، و يوفقنا للعمل الصالح ، و ينزلنا منزلة المقربين . إنه سميع الدعاء .
|