فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[9] للناس في الرسالات و الرسل مذاهب ثلاث :

الأول : النفي المطلق ، و إذ لم يعرف هؤلاء كيف يبعث الله الرسل اتبعوا جهلهم و أهواءهم و أنكروا الرسالة رأسا .

الثاني : إن صلة الرسل بربهم صلة تكوينية ، بمعنى أن الرسل - عليهم السلام - هم قطعة منفصلة عن الإله و نازلة الى الدنيا .

و بهذا يزعمون أنهم يحلون المشكلة و يعرفون كيف يتم الاتصال بين الخالق و المخلوق ، إذ أن هذه الصلة كانت قديمة ، وهي أساسا صلة تكوينية ، فكيف يكون واحد منهم يأكل الطعام ، و يمشي في الأسواق ، و يشبههم في كل شيء من حياته ، كيف يكون أعلى و أفضل منهم ؟
! لابد أن يكون جنسه مختلفا عن جنسهم ، و ذاته غير ذواتهم ، ولابد أن يكون من أنصاف الآلهة ومن طبيعتها .

الثالث : أن الأنبياء و الرسل هم مثل سائر البشر ، و لكن الله تعالى ميزهم بالرسالة ، حيث جعلها فيهم جعلا ، و لو شاء لسلبها منهم ، فهي تشبه المصابيح في الغرفة فإن لم يكن وهاجا لن يحول الغرفة الى واقع نوراني ، إنما سينعكس النور عليها مادام الضوء متقدا.

هكذا الرسالة ، فمادام روح القدس مؤيدا للنبي فهو نبي ، فاذا افترضنا - جدلا - ان ربنا أراد - بمشيئته المطلقة - أن يسلب روح القدس منهم فأنهم يصبحونكسائر الناس .

و علم الرسل هكذا ، ليس علما ذاتيا ، و إنما هو مضاف اليهم من عند الله الذي يهب لهم موجات من المعرفة تلو موجات من العلم بقدر ما شاء ، و إذا أراد أن يسلبها منهم فانه على ذلك قدير .. و لهذا ينبغي أن لا نذهب بعيدا فيما يتصل بالأنبياء عليهم السلام ، بلنعرف أنهم يعلمون ما يشاء الله و يجهلون ما سوى ذلك ، فكيف لم يكن يعقوب (ع) وهو من أنبياء الله العظام يعلم بمكان يوسف (ع) ؟! و كيف لم يكن ابراهيم (ع) يعلم بأن السكين الذي وضعه على أوداج إسماعيل لا يفريها ؟! الجواب ببساطة : لان الانبياء بشر ، و الله يغيب عنهم ما يشاء من العلم .

وهذا يفسر قوله تعالى : " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول " (1) فغيب الله له وليس لأحد ، وهو علام الغيوب ، و عنده مفاتح الغيب ، و لا يعلم الغيب إلا هو ، و لكنه يعطي قدرا منه لأنبيائه لحكم معينة .

وهكذا تحل عقدة الغرابة من ابتعاث الرسل ، و تعالج المعضلة التي يتشبث بها الكافرون ، و التي كانوا يعودون إليها كلما بعث إليهم نبي جديد مع أنه سبقه إخوانه في الرسالة .

[ قل ما كنت بدعا من الرسل ]

إن بعض الظواهر الكونية تتكرر كل يوم ، و بعضها كل اسبوع ، و بعضها تتكرر كل سنة ، و بعضها كل قرن ، و من الظواهر التي تتكرر بين فترة و أخرى الحروب ، فهي إحدى الظواهر الاجتماعية التي تقع عادة بين الحين و الآخر ، و نحن نعترف بوجودها بالرغم من غرابتها الشديدة ، لأنه واقعة و تقع في المستقبل .


(1) الجن / 26 - 27


وهكذا بالنسبة للرسل ، فهم حتما و جزما يرسلون من قبل الرب ، مادامت العوامل المؤيدة لإرسالهم متوفرة .

و هنا يأمر الله عز وجل رسوله الأكرم (ص) بأن يوضح للناس هذه الحقيقة ، فكونه رسولا مبعوثا من قبل الله ظاهرة متكررة و سنة جارية ، ولا داعي للغرابة .

و لكن - من جهة أخرى - ليس علم الرسول من ذاته .

[ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ]

فهو لا يعلم ما يفعل به ولا بهم إلا بقدر ما يشاء الله ، بمعنى أنه لا يدري كل ما يفعل به و بهم إلا في حدود رسالته ، لأن الرسول (ص) بشر كسائر الناس لا يعلم ماذا سيحدث مستقبلا بذاته بلى . إن الرسول - مثلا - يعلم أن الناس جميعا سيموتون و نحن كذلك نعلم ذلك ، أما معرفة التفاصيل و الاطلاع على دقائق الأمور فان الله سبحانه يزيده منها بقدر مشيئته الحكيمة .

و الرسول - كمــا يبـدو من هذا المقطع من الآية - لا يعلم كل التفاصيل المستقبلية ، و إنما عليه أن يتبع الوحي الذي ينزل عليه حسب الحكمة الالهية .

[ إن أتبع إلا ما يوحى إلي ]

وقد ذهب المفسرون مذاهب شتى في تفسير هذه الآية ، و يبدو لي أنها ظاهرة بل صريحة فيمـا قلناه آنفا ، فان عدم معرفة الرسول بما يفعل به أو بهم لا يشمل ما يوحى إليه ، ولا ريب أنه سبحانه أوحى إليه أن له عند ربه مقاما محمودا ، و أن المجرمين من أعدائه في سقر .

[ وما أنا إلا نذير مبين ]


فانا لست كفيلكم ، ولا وكيلا عنكم .

و هذه الفكرة تتكرر كثيرا في القرآن الحكيم ، وذلك لما لها من أهمية في دفع الانسان للايمان بالرسالة و تحمل المسؤولية ، لأن الانسان الذي تدعوه الى الله لو علم بحقيقة أنك لست مسؤولا عنه ، و أنه هو المسؤول عن نفسه ، فانه ربما يكون ذلك مشجعا له على التحرك الذاتي ، و بالتالي يهتدي إلى الحق .

[10] عندما يكون الخطر كبيرا يكفينا أدنى احتمال في وقوعه لكي نتخذ التدابير اللازمة لدرئه . أرأيت لو خشيت من انفجار يقع في بيتك أفلا تتركه فورا ، حتى ولو كان افتراض وقوعه بنسبة 5% فقط ؟

إن أكثر إجراءات السلامة في أوقات الحرب بل حتى أيام السلم تهدف درء احتمالات ضئيلة ، إلا أن أهميتها تنبع في أن الأخطار التي تهدف درءها عظيمة .

إننا لا نتخذ إجراءات وقائية كبيرة إذا خشينا الاصابة بنزلة برد طارئة ، حتى ولو كـان الخوف بنسبـة 50% ، و لكننا نتقي خطر الموت حتى ولو كان بنسبة 10% أو حتى 1% . أليس كذلك ؟

وكما في الجانب السلبي كذلك في الجانب الايجابي ، فلا ريب أننا لا نعير اهتماما لاحتمال حصولنا على ربح ضئيل ، و ان كانت إمكانية ذلك كبيرة مثلا بنسبة 90% ، ولكن كلما ازداد الربح فان اهتمامنا باحتمالاته يزداد حتى يصل الى الاهتمام به إذا كان بنسبة 01,0% الا ترى كم هي نسبة حصولك على الجائزة في عملية اليانصيب ، لا ريب أنها أقل من واحد بالألف ، ولكن لماذا تهتم بها ؟ اليس لان الجائزة كبيرة يسيل لها اللعاب ؟

و الآن دعنا نتساءل : أولا تستحق الحياة الأخرى ، بما تحمل من إنذار بعذابشديد خالد ، ومن بشارة بنعيم عظيم دائم ، الاهتمام بها و بامكانية وقوعها حتى ولو كان بنسبة ضئيلة جدا ؟! كيف و أن نسبة احتمالها مرتفعة حتى عند الجاحدين بها لتواتر الأدلة عليها ؟!

[ قل أرأيتم إن كان من عند الله و كفرتم به ]

فكم تكون خسارة البشر عظيمة عندما يكفر برسالة ربه ، و يتحدى خالقه و رازقه ومن إليه مصيره ؟!

إن هذا التساؤل يهزنا من الأعماق و يجعلنا نبدأ مسيرة الشك المنهجي فيما نسترسل فيه من الأفكار و القناعات .

وحتى بالنسبة إلى المؤمنين برسالات الله ينبغي أن يكسروا حالة الجمود الفكري ، و يتساءلوا في أنفسهم : كم هي عظيمة رسالات ربهم ، وكم حظهم عاثر لو استخفوا بها أولم ينفذوا كل تعاليمها ؟ حقا : إنه يسقط عنا - نحن المؤمنين - حجاب العادة التي تمنع إيماننا من التسامي ، كما يسقط عن الآخرين حجاب الاستكبار الذي يمنعهم عن رؤية شواهد صدق الرسالة ، فتراهم - مثلا - يغفلون عن شهادة العلماء بصدق الرسالة ، ولا يسألون أنفسهم : كيف أسلم علماء بني إسرائيل للرسالة الجديدة ، كأمثال عبد الله بن سلام الذي كان معروفا عندهم بالصدق و النزاهة .

[ و شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فأمن ]

بالرغم من مخالفة الايمان ظاهرا لمصلحته . أليس يفقد مكانته عند قومه كقائد ، و يصبح جنديا في جيش الاسلام ؟


[ و استكبرتم ]

عن الحق ، فلم تؤمنوا به بالرغم من البينات التي تواترت على صدقه .

بلى إن الحجاب الكبير الذي يحجز نور الايمان عن قلوبهم هو استكبارهم في الارض ، و ظلمهم للناس . أوليس الظلم ظلاما دامسا ؟

[ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ]

[11] ما الذي يمنع الظالمين من الايمان بالرسالة ؟ إنه استكبارهم على الناس ، و اعتقادهم بتميزهم عنهم ، حتى لو سبق طائفة منهم إلى الايمان بالرسالة كفروا بها ترفعا عن التساوي معهم ، وقالوا : كيف نسمح لأنفسنا أن نكون عند الناس من اللاحقين ، بينما يسبقنا الى الرسالة من هم أدنى منا ؟ إذا دعنا نكفر بها خشية العار !

[ و قال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه ]لقد كانت القبائل العربية في الجاهلية شديدة الخلاف بينها ، تتعالى على بعضها ، ولا ترضى أن تعترف بأية فضيلة لبعضها ، فاذا آمنت قبيلة كفرت المنافسة لها حتى لا تسجل لخصمها نقطة عليها .

مثلا كانت قبيلة غفار البدوية تستصغر من قبل قريش ، و تسميها الحلفاء استهانة بها ، فلما أسلم أبوذر الغفاري و أسلمت معه قبيلته قالت قريش : غفار الحلفاء !! لو كان هذا خيرا ما سبقونا إليه . (1)(1) قال ابن المتوكل أن الآية نزلت فيهم ( تفسير القرطبي / ج 16 - ص 189 )وهكذا كفرت بنو عامر و غطفان و تميم و اسد و حنظلة و أشجع ، و قالوا لمن أسلم من غفار و جهينة و مزينة و خزاعة : لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا إليه رعاة البقر البهم إذ نحن أعز منهم . (1)كما أن اليهود الذين استوطنوا الجزيرة العربية بزعم انتظارهم للنبي الموعود فيها كفروا بالنبي بعد إيمان العرب به ، و قالوا : لو كان خيرا ما سبقونا إليه .

كما أن قريشا كفرت بالرسالة حين رأت مبادرة الموالي من أمثال بلال و صهيب و عمار إليها . إنهم كانوا يبحثون عن دين يقوي نفوذهم في الطبقات الدنيا لا أن يساويهم بها .

وهكذا اليوم نجد الدعوات الاصلاحية التي يستجيب لها المحرومون و المستضعفون تلقى الصد من قبل المترفين و المستكبرين ، بدعوى أننا أعرف منهم و أعلى مقاما فلا يجوز أن نعترف بحقوقهم أو بميزتهم علينا في السبق إليها . أوليس السابقون هم المقربون ؟!

كما ان بعض السفهاء يخالفون الحق و يمنعون عن أنفسهم خيراته لمجرد أن منافسيهم سبقوهم إلى الايمان به . إن ذلك من بقايا العصبيات الجاهلية التي تمنع نور الهدى .

[ وإذ لم يهتدوا به ]

بسبب عصبياتهم و ظلمهم و استكبارهم فانهم يبحثون عن تبرير لجحودهم يقنعون به الضعفاء منهم ، بل و يريحون نفوسهم التي تلومهم أبدا على ترك الحق ، فتراهم يتهمون الرسالة بالإفك .


(1) قال الكلبي والزجاج وحكي عن ابن عباس ان الآية نزلت فيهم ( المصدر / ص 190 )[ فسيقولون هذا إفك قديم ]

وهكذا يتسافل الجاهل في دركات الكفر ابتداءا من ظلمه للناس و استكباره عليهم ، و مرورا بالتشبث بدليل ضعيف أنه لو كان خيرا ما سبقونا إليه ، و انتهاءا بوضع نظرية معادية و اتهام الرسالة بأنها إفك قديم ، كما قالوا بأنها أساطير الأولين .

[12] كلا .. إنها رسالة الله الواحدة التي تشهد حقائق التاريخ بصدقها ، و أعظم ما يصدقها أن بعضها مصدق البعض .

[ و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة ]

فهو برنامج للاقتداء ، و رحمة لمن اقتدى به .

[ وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا ]

فهو ليس إفكا قديما كما زعموا ، بل صدق شهدت أحداث التاريخ على نفعه العام للانسانية . أفلا ترون كيف كان كتاب الله النازل على موسى لبني إسرائيل ، أنقذهم من الضلالة و الاستضعاف و الحرمان حين طبقوه ؟

[ لينذر الذين ظلموا ]

فالطغاة و المستكبرون و المترفون الذين ظلموا الناس لا يمكنهم اتخاذ القرآن وسيلة لاستثمار الآخرين كما تهواه أنفسهم ، بل جاء الكتاب لانذارهم ولانقاذ المحرومين من ظلمهم .

[ و بشرى للمحسنين ]


من اية طبقة كانت ، فاذا آب اولئك إلى رشدهم و تابوا و احسنوا فان لهم البشرى كما للمحرومين .

[13] التوحيد هو عبادة الله أبدا ، و عدم التسليم للآلهة المزعومة التي تعبد من دون الله باسم السلطة السياسية أو النظام الاقتصادي أو الضغوط الاجتماعية ، و إنما يتبين توحيد الانسان عندما يتعرض لارهاب السلطة و ترغيب الثروة و مقاطعة المجتمع إذا استقام على الدين ، و الكتاب بشرى للمحسنين الذين يتحدون كل تلك الصعاب .

و لعل سياق الآية يدل على ضرورة الاستقامة أمام البدع الجديدة التي تخلقها القوى المتسلطة ، و تتهم الرسالة بأنها إفك قديم سعيا وراء تغيير بعض بنودها الذي يخالف مصالحها ، كلا .. لابد من الاستقامة على احكام الدين بلا تحريف أو تأويل أو نقص أو زيادة .


[ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ][14] بالرغم من إرهاب الطغاة فانه لا خوف عليهم ، لأن العاقبة لهم ، و غدا حين ينتصر الحق لا يحزنون على ما فاتهم من الخيرات .

[ أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ]و حين يدخلون الجنة يعلمون أن الثمن الذي قدموه لها كان زهيدا نسبة بما حصلوا عليه من ثواب الله العظيم .

و نستوحي من كلمة " جزاء " هنا أن الجنة لا تعطى بالتمنيات ، إنما هي ثمن الاستقامة و الصبر و التحدي .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس