بينات من الآيات [31] إن الله لم يخلق ولا شبرا واحدا من النار عبثا ، إنما ليتعذب فيه واحد من المجرمين ، ولم يخلق الجنة إلا ليكرم بها فريقا من عباده هم المتقون ، و ليس يفصل بين الجنة أو النار و بين أي واحد منا إلا عمله ، فان شاء نقلته سكرة الموت الى غضب الله و عذابه ، و إن صلح نقلته الى رضوان الله و ثوابه . و الانسان حر في عمله فاما يختار الضلال ( الكفر و الفساد و منع الخير و الاعتداء على الآخرين و الارتياب في(1) الجمعة / 2
الحق ) فيكون مصيره النار ، و اما يختار التقوى ( الأوبة الى الله ، و حفظ حدوده و أحكامه ، و خشيته بالغيب ، و تصفية القلب من الأدران بالانابة و التوبة ) فيكون مصيره الجنة .
[ و أزلفت الجنة للمتقين ]
و نتساءل كيف تزلف الجنة للمتقين ؟ و الجواب إن لهذه الآية تفسيرين :
الأول : إن الجنة بما فيها من نعيم و رضوان من الله منزلة رفيعة ، و مهما سعى الانسان و بالغ في عمل الصالحات فانه لا يرتقي اليها بعمله وحده ، وإنما يقربه منها أو يقربها منه فضل الله و رحمته ، قال النبي (ص) : " و الذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟! قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه و فضل " ( و وضع يده على فوق رأسه و طول بها صوته ) (1) .
و حين يدخل المؤمنون الجنة تتبين لهم هذه الحقيقة كما أدركوها ببصيرة الوحي في الدنيا ، فهم يعتبرون نجاتهم من العذاب بفضل الله و منه لا بعملهم " قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين * فمن الله علينا و وقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هوالبر الرحيم " (2) .
الثاني : إن الجنة قمة سامقة لا يصلها الانسان حتى يتصف بما يجعله لائقا لها ، فهي بعيدة كل البعد على الكافرين و العاصين ، و لكنها أقرب ما تكون إلى المؤمنين و المطيعين ، و ان الذي يقربها أو يبعدها إنما هو مقدار عمل الانسان و مجمل صفاته(1) موسوعة بحار الأنوار / ج 7 - ص 11
(2) الطور / 26 - 28
الايمانية التي نقرأها في الآيات التالية .
وهذا التفسير لا يتعارض مع التفسير السابق بل يلتقي معه و ينتهي إليه ، فرحمة الله التي هي العامل الأساسي و المباشر في الدخول الى الجنة ، و لكنها لا تشمل أحدا بلا سبب ، بل لابد أن يكون هو في مستوى استيعاب الرحمة .
و لان من عقد البشر النفسية استعجال النتائج فتراه يكفر بالآخرة ولا يسعى للجنة سعيها لأنها في نظره جزاء بعيد ، فقد أكد القرآن على الجنة :
[ غير بعيد ]
[32] ولكن ماهي الأعمال و الصفات التي تقربنا الى الجنة ؟
إن جميع الاعتبارات الشيئية تسقط يوم القيامة ، و تبقى القيم و الأعمال الصالحة هي الميزان . فلا يقرب أحد من ربه لسانه العربي ، ولا لونه الأبيض ولا نسبه الشريف ، و إنما تنفعه الحقائق التالية :
أ - الإياب إلى الله و الإياب يعني لغة الرجعة ، قال تعالى : " إن جهنم كانت مرصادا * للطاغين مآبا " (1) و قال حاكيا عن سليمان (ع) : " و الطير محشورة كل له أواب " (2) و تسمى التوبة أوبة لأنها عودة الى الفطرة السليمة بعد الانحراف عنها قال تعالى : " ربكم أعلم بما في نفوسكم أن تكونوا صالحين فانه كان للأوابين غفورا " (3) .
إن الناس كلهم خطاؤون ينحرفون عن الحق إلى الباطل في حياتهم عنادا ، أو(1) النبأ / 21 - 22
(2) ص / 19
(3) الاسراء / 25
بسبب الضغوط أو حتى من دون شعور ولكن المؤمن يتميز عن الآخرين بأنه أولا لا يمارس الانحراف عن جحود و عناد ، و ثانيا بأنه لا يستمر على الخطأ بل يسعى لتصحيحه و علاجه في أقرب فرصة ممكنة ، فاذا به يستغفر بعد الذنب ، و ينتبه بعد الغفلة ، و يستقيم بعد الانحراف ، و يتذكـــر بعد الجهل ، فكلما أبعدته ذنوبه عن الله تقرب اليه بالتوبة ، وكلما استغفلته طبيعته المركوزة في الجهل تعينها ضغوط الحياة تذكر بآيات الله و استعان بارادة الايمان على الاقلاع من الانحراف ، فهو يبالغ في التوبة الى ربه و يكررها حتى بالنسبة الىالذنب الواحد ، الذي يتوب عنه ثم يعود إليه ثانية و ثالثة ، دون أن يدع اليأس يسيطر عليه ، لايمانه برحمة الله الواسعة و غفرانه و لماذا يقنط ، اليأس من صفات الكافرين ؟ و لماذا ييأس وهو يسمع نداء ربه في كتابه : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهملا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم " (1) أو قوله عز وجل : " ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون " (2) فالمؤمن يرى مجرد غفلته عن ربه ابتعادا عنه فيؤوب اليه مآبا ، فهو دائم الأوب و دائم التسامي و دائم العروج إلى الله بتأنيب الذات .
ب - المحافظة على حدود الله ، ( مناهجه و شرائعه ) في الحياة الفردية و الاجتماعية بجميع أبعادها ، فاذا بك ترى الحق يتجلى في كل حركاته و سكناته . فهو كما وصفه الامام علي (ع) إذ قال : " قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور من إصدار كل وارد عليه، و تصيير كل فرع إلى أصله ... قد أخلص لله فاستخلصه ، فهو من معادن دينه ، و أوتاد أرضه ، قد ألزم نفسه العدل ، فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه ، يصف الحق و يعمل به ، لا يدع للخير غاية إلا أمها ، ولا مظنة إلا قصدها ، قد أمكن الكتاب من زمامه ، فهو قائدهو إمامه ، يحل
(1) الزمر / 53
(2) الحجر / 56
حيث حــل ثقله ، و ينزل حيث كان منزله " (1) فلا يضيع لديه حكم سنة الله ، ولا حق لأحد ، فعهد الله له بالاستقامة على الحق محفوظ ، يصدق مع الناس ولا يغش ، و يرعى الامانة و .... " و الحافظون لحدود الله و بشر المؤمنين " (2) .
إن المتقين يعتبرون أنفسهم شهداء في تطبيق النظام الاسلامي ، و حدود الشريعة المقدسة . لذلك فهم لا يعطون لأنفسهم الحق في تغيير الحدود الدينية بتبرير أنهم ثوار و مجاهدون ، بل إنك تراهم يلتزمون قبل غيرهم بتفاصيل المناهج التي بينها لهم ربهم سبحانه ، و لذلك فان الله يعدهم برحمة منه واسعة ، و يبدو أن القرآن يشير الى هذين الأساسين للتقوى بقوله سبحانه :
[ هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ ]
[33] و تسأل متى يؤوب الانسان الى الله و يحفظ حدوده ؟ و الجواب حينما يخشاه بالحق ، و ذلك ان الانسان قد يظهر إمارات الخوف لأهداف و مصالح دنيوية يرومها ، إلا أنها لا واقع لها ، و الخائف الصادق من الله هو الذي يخشاه حينما يكون بعيدا عن الأنظار ، فاذابه و قد تهيأت له اسباب المعصية يقاوم شهوته و يتركها إيمانا منه برقابة الله التي هي في نظره أهم من أية رقابة أخرى .
[ من خشي الرحمن بالغيب ]
و الاسلام يسعى قبل كل شيء لزرع الوازع الديني - الخوف من الله - في نفوس أتباعه كضمانة للالتزام بأنظمته و أحكامه ، ذلك أن أثر هذا الدافع أبلغ من سائر الروادع .
(1) نهج / خ 87 - ص 118
(2) التوبة / 112
[ و جاء بقلب منيب ]
و تشير كلمة جاء الى شرط الجنة الاستقامة على الحق حتى لقاء الله ( المجيء له بقلب طاهر سليم ) .
[34] و إذا أحرز الانسان هذه الصفات صار في زمرة المتقين الذين يدخلون الجنة بسلام .
[ ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود ]
الانسان في الدنيا لا يصل الى ما يريد إلا بالجهد و التضحية ، ثم إن أجله محدود فيها مما يجعل لذته بنعمها قصيرة على خلاف الجنة ، فان ما يحصل منها لا تعب فيه ولا لغوب ولا صراع ولا منافسة ولا يورث مرضا أو غصة ، بينما الدنيا بعكس ذلك تماما ( لا سلام فيها ) بل هي قائمة على أساس الفساد فلا ينال المرء فيها نعمة إلا بترك أخرى ، ولا يتمتع بلذة إلا و تسبب له منغصة ، ولا يستقبل يوما من عمره إلا بوداع يوم من أجله حتى قال الشاعر :
زيادة المرء في دنياه نقصان و ربحه غير محض الخير خسران[35] ومن الفوارق بين الدنيا و الجنة ، ان الانسان مهما بلغ من التمكن و القدرة في الدنيا لا يصل الى كل أهدافه و أمانيه ، بل يقصر عن تحقيق الكثير منها ، على عكس ما في الجنة التي يتحقق له فيها ما يريد بمجرد أن ينوي ذلك ، بل و يزيده الله من فضله ساعة بعد ساعة .
[ لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد ]
قال الامام الصادق (ع) : " إن لله كرامة في عباده المؤمنين في كل يوم جمعة ، فاذا كان يوم الجمعة بعث الله الى المؤمن ملكا معه حلتان فينتهي الى باب الجنة فيقول : استأذنوا إلي على فلان ، فيقال له : هذا رسول ربك على الباب فيقول لأزواجه : أي شيء ترين علي أحسن ؟ (1) فيقلـــن : يا سيدنا و الذي أباحك الجنة ما رأينا عليك أحسن من هذا ، قد بعث اليك ربك فيتزر بواحد و يتعطف بالأخرى ، فلا يمر بشيء إلا أضاء له حتى ينتهي الى الموعد ، فاذا اجتمعوا تجلى لهم الرب تبارك و تعالى ، فاذا نظروا إليه أي الى رحمتهخروا سجدا ، فيقول : عبادي ! ارفعوا رؤوسكم ليس هذا يوم سجود ولا عبادة ، قد رفعت عنكم المؤونة ، فيقولون : يا رب وأي شيء أفضل مما أعطيتنا ؟ أعطيتنا الجنة ، فيقول ، لكم مثل ما في أيديكم سبعين ضعفا ، فيرجع المؤمن في كل جمعة بسبعين ضعفا مثل ما في يديه ، وهوقوله : " و لدينا مزيد " (2) .
[36] ثم إن القرآن و ضمن علاجه للكفر بقدرة الله على البعث - يدعو الكفار الى التفكر في آثار قدرته و هيمنته على الحياة من خلال قراءة التاريخ البشري المليء بالشواهد على ذلك ، ليعلموا أن الحياة ليست عبثا ، بل تسير وفق حكمة مقدرة ، فالأقوام السابقة إنماأهلكوا لتكذيبهم بالحق .
[ و كم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا ]
و هذه سنة جارية في الحياة لا يعطلها شيء ، ولا يمنعها البشر مهما أتوا من قدرة ، و لفظة أهلكنا مضافة الى كلمة " كم " التي تفيد الاستفهام عن العدد ، تنطويان على تأكيد بأن ما حدث في التاريخ ليس مفردة جرت من باب الصدفة ، و إنما هي ظاهرة مستمرة تدل على سنة حاكمة تلتقي فيها تلك الشواهد ، و يتضح(1) يستشيرهن في أفضل ثيابه ليتزين بها عند لقاء رسول ربه .
(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 115
فيها الفعل الإلهي المقصود . ثم إن بعض الأقوام وصلوا من القوة أكثر مما صار اليه المجتمع العربي يوم نزول القرآن ، و لكن الله أهلكهم فهل يتصورون على أنهم قادرون على دفع الهلاك إذا حل بساحتهم . و امتزاج الضمائر و الاشارات في هذه الآية بين أولئك و هؤلاء يحمل طياته إنذارا للمشركين باهلاكهم بطريقة أو بأخرى إذا ما حذوا حذو السابقين ، ولن يجدوا حينئذ مخرجا ولا سبيلا الى النجاة .
[ فنقبوا في البلاد هل من محيص ]
و المحيص من حاص يحيص ، وهو المكان الذي تحفره البطة لتضع فيه بيضها ، و قد سعت تلك الأقوام ليجدوا لأنفسهم مخرجا ولو بمقدار المحيص فلم يقدروا ، و وقع بهم العذاب .
[37] وما في التاريخ من دروس و عبر آيات تستثير عقل الانسان و تهديه الى الحق ، و لكن بشرط أن يتجاوز الأغلال و الأثقال التي تمنع النفس من التحليق في سماء الهداية و المعرفة ، و تعيق العقل من العبور عبر الشواهد و الآيات الى الحقائق .
[ إن في ذلك لذكرى ]
تستنقذ البشر من الغفلة و الضلال ، و تعود إلى الحق الذي فطر عليه أن آيات الله سواءا التي تتضمنها رسالته ، أو تلك التي تتجلى في نفس الانسان وفي الآفاق ، أو التي تجلت ولا زالت تتجلى في تاريخ البشرية ، إنها كلها تشع بأمواج الهداية و التذكرة ، ولكن منالذي تنفعه هذه الآيات فتكون له ذكرى في الحياة ؟ انما صاحب القلب .
[ لمن كان له قلب ]
يعني العقل ( الذي هو جوهر النفس ) وإنما سميت النفس قلبا تقلبها من حال إلى حال أو بسبب تقليب المعلومات سعيا وراء المعارف الجديدة .
و صاحب القلب هو الذي يقلب الامور بتفكيره على وجوهها المتعددة ليتبع أحسنها بعد نظرة عميقة شاملة . يقول تعالى : " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله و أولئك هم أولو الالباب " (1) و لعل المقصود لأولي القلوب هم العلماءالذين يفقهون معاني الآيات باستشارة عقولهم مما نجد لهم إشارة في قوله تعالى : " وما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب " (2) قال الامام الكاظم (ع) : " يا هشام إن الله يقول في كتابه : " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب يعني عقل " (3) ولا ريب ان أهل بيت العصمة و أئمة الهدى عليهم السلام أئمة العقلاء و الراسخين في العلم فهم أجلى مصاديق هذه الآية الكريمة ولا غرابة أن يقول أمير المؤمنين (ع) : " ألا و اني مخصوص في القرآن بأسماء احذروا أن تغلبوا عليها فتضلوا في دينكم ، أنا ذو القلب ، يقول الله عز وجل : " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " (4) .
وإذا لم يكن الانسان عالما يستطيع التذكر و الاهتداء الى الحق بنفسه ، فانه يجد سبيلا الى ذلك بالاستماع الى آيات الله و اتباع أئمة الحق و الهدى و العلماء الصالحين .
[ أو ألقى السمع وهو شهيد ]
(1) الزمر / 18
(2) آل عمران / 7
(3) نور الثقلين / ج 5 - ص 116
(4) المصدر
إن المشكلة الحقيقية للانسان الذي لا يهتدي ليست عدم وجود القلب أو السمع ، و إنما هي توظيفه لهما ، كما جوارحه و إمكاناته الأخرى في الأمور السافلة أو التافهة . يقول تعالى : " و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها و لهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون " (1) .
و لوجود هذه المشكلة يشرط القرآن على الانسان شرطين حتى ينتفع بسمعه من كلام الآخرين و تجاربهم من آيات الذكر ، فأولا أن يوظف سمعه " يلقي السمع " ثانيا أن لا يكون السمع بذاته هدفا فيقف الواحد عند الحروف أو عند حدود العلم ، بل يعتبر السمع وسيلة الى هدف هو العمل بالحق ، و الحروف و العلم طريقا الى الموعظة . و بكلمة لابد أن يكون مسؤولا ( شاهدا ) على ما يصله من العلم ، قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و رسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لايسمعون * إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون " (2) .
وقال مبينا هدف السمع و بعض الجوارح " و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة لعلكم تشكرون " (3) .
و يضرب القرآن مثلا للمستمع الشهيد من واقع المؤمنين الذين يذكرون الله على كل حال وفي كل حين فيقول حاكيا عنهم : " ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان أن آمنوا بربكم فآمنا " (4) إن السمع الذي لا يملك صاحبه الاستعداد لتحمل(1) الأعراف / 179
(2) الأنفال / 20 - 22
(3) النحل / 78
(4) آل عمران / 193
مسؤوليته لا ينفع شيئا ، و ماذا يستفيد من سماع الحق ذلك الانسان الذي يتهرب من مسؤوليته بالتكبر أو التبرير أو الاستهزاء : " ويل لكل أفاك أثيم * يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم * وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذهاهزوا أولئك لهم عذاب مهين " (1) و تجارب التاريخ البشري تحملنا مسؤولية الايمان بالله فاذا لم يتجاوز سماع هذه التجارب الى الايمان فما قيمة سماعنا لها ؟
[38] و كما تتجلى آيات قدرة الله في التاريخ البشري بصورة إهلاك الأقوام المكذبة ، فانها تتجلى في الطبيعة بصورة أخرى تتجسد في الخلق و الابداع و التفكر في تلك الآيات هذه تفكيرا عميقا ( بالقلب السليم و السمع الشهيد ) كفيل بأن يجعل فكرة البعث فكرة واقعية ، و يدفع الانسان للتصديق بالرجوع بعد الموت فلا تصبح الفكرة عندها أمرا شاذا ( عجيبا ) ، ولا البعث مستحيلا ( بعيدا ) كما يعتقد الكافرون .
دعنا ننظر نظرة عميقة الى الطبيعة من حولنا ، و لنركز الفكر في خلق الأرض التي تقلنا ، و السماء الواسعة التي تظلنا ، و لنتساءل أيها أعظم ، هل خلقهما أم خلق الانسان هذا الذي لا يكاد يبين بالقياس إليها ؟! لا ريب انهما أعظم خلقا و أعقد " لخلق السموات و الأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون " (2) ومع ذلك فان خلقهما وما بينهما تم في ستة أيام ولم يكن مضنيا .
[ و لقد خلقنا السموات و الأرض وما بينهما في ستة أيام ]و لعلنا نتساءل لماذا لم يتم الله ذلك الخلق في مدة أقل ؟ و ربما يذهب بعضنا الى(1) الجاثية / 7 - 9
(2) المؤمن / 57
القول بأنه كان يتعب فيستريح كلا .
[ و ما مسنا من لغوب ]
إن الله قادر على خلق كل شيء في مدة يتلاشى فيها الحساب الزمني ، و إنما جعل الخلق في ستة أيام لحكمة يعلمها ، أنه أراد بيان حقيقة مهمة لنا ، وهي ان كل شيء في الحياة لم يخلق كاملا منذ أول لحظة ، وإنما هو يسير نحو التكامل ، وحتى أنت أيها الانسان في مسيرة البناء الذاتي أو الحضاري ينبغي لك التحرك نحو الأسمى .
ومادام الله خلق السماوات و الأرض وما بينهما في هذه المدة ومن دون أن يمسه شيء من التعب أو التكلف ، فهل يصعب عليه بعثنا يوم القيامة ؟ وما نحن بالنسبة لذلك الخلق حتى يصعب على مبتدعه خلقنا مرة أخرى ؟! " أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكهافسواها * و أغطش ليلها و أخرج ضحاها * و الأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها و مرعاها * و الجبال أرساها * متاعا لكم و لأنعامكم - ثم مباشرة يحدثنا عن يوم القيامة فيقول : - فإذا جاءت الطامة الكبرى " (1) و الصلة المختصة بين الحديث عن آيات الطبيعة وعظمتها ، و الحديث عن يوم القيامة لاثبات فكرة البعث من خلال تلك الآيات و العظمة صلة صميمة تتجلى في كل آيات القرآن .
[39 - 40] و يكاد قلب المؤمن يتفطر من تكذيب الكفار بحقيقة البعث و الجزاء التي يتلمسهما المؤمن وراء كل ظاهرة وفي كل أفق وفي كل لحظة من حياته ، الأمر الذي قد يستدعي منحة زخة من الصبر .
(1) النازعات / 27 - 34
[ فاصبر على ما يقولون ]
و نجد في موضع من القرآن توجيها مشابها من قبل الله للرسول (ص) و للمؤمنين ، يقول تعالى : " واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا " (1) .
ولابد للانسان حتى يقاوم مختلف الضغوط المضادة للحق من الاتصال بالله بالصلاة و العبادة ، ليتعرف على ربه أكثر فينزهه عن الأباطيل ، و ليستمد منه العون و التوكل لذلك يقول تعالى هنا :
[ و سبح بحمد ربك ]
و هكذا يقول في سورة الاسراء وصلا بالشاهد المتقدم : " أقم الصلاة لدلوك الشمس الى غسق الليل و قرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا * ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا * وقل رب أدخلني مدخل صدق و أخرجني مخرج صدق واجعل لي منلدنك سلطانا نصيرا " (2) .
إن هذا التأكيد على الاتصال بالله بالصلاة و بالقرآن و بالدعاء في حال تعرض الانسان المؤمن للضغوط المضادة هو تعبير بصورة أخرى عما تنطوي عليه هذه الآية من سورة " ق " .
ولأن القرآن يفسر بعضه بعضا فاننا نجد تفسيرا للعلاقة بين الصبر و الصلاة و دورهما في مقاومة الضغوط في قوله تعالى :" و استعينوا بالصبر و الصلاة و إنها لكبيرة إلا على الخاشعين " (3) .
(1) المزمل / 10
(2) الاسراء / 78 - 80
(3) البقرة / 45
وفي هذه السورة يدعو الله نبيه ومن خلال ذلك المؤمنين عبر الزمن و الأجيال الى الاتصال به بالصلاة وفي مرات عديدة كل يوم .
[ قبل طلوع الشمس ]
يعني بين الطلوعين ، طلوع الفجر و طلوع الشمس ، و تسبيح الله يكون بالذكر و بالصلاة و بالقرآن ، و هنا تأكيدات عديدة في النصوص الاسلامية على ضرورة استثمار هذه الفترة بالاتصال بالله ، قال تعالى : " أقم الصلاة لدلوك الشمس الى غسق الليل و قرآن الفجرإن قرآن الفجر كان مشهودا " و قال النبي الأعظم (ص) : " ما عجت الأرض الى ربها كعجها من ثلاثة ( إلى أن قال ) و النوم عليها ( يعني الصلاة ) قبل طلوع الشمس " (1) و قال أمير المؤمنين (ع) : " و اطلبوا الرزق فيما بين طلوع الفجر الى طلوعالشمس ، فانه أسرع في طلب الرزق من الضرب في الأرض ، وهي الساعة التي يقسم الله فيها الرزق بين عباده " (2) و سئل الصادق (ع) عن الآية فقال : " تقول حين تصبح و حين تمسي عشر مرات ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك و له الحمد ، وهو على كلشيء قدير " (3) .
وهكذا ينبغي أن يفتتح الانسان المؤمن يومه الجديد بالذكر و الصلاة و القرآن ، يستمد من كل ذلك زخما روحيا يزيده نشاطا في عمله ، و إرادة يتحدى بها شبهات الكفار و أضاليلهم ، و كل الضغوط التي يواجهها في حياته اليومية ، و لأن الانسان قد يتعرض لتحدي الضغوط، و ربما ضعف أمامها أكثر من مرة في اليوم الواحد ، لذلك تأتي الدعوة اليه في طرفي النهار و طرفي الليل .
(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 118
(2) المصدر
(3) المصدر
[ و قبل الغروب ]
الظهر و العصر .
[ و من الليل فسبحه ]
يعني أوله حيث صلاة المغرب و العشاء .
[ و أدبار السجود ]
يعني النافلة التي تعقب صلاة المغرب ( الأربع أو الغفيلة ) قال الامام الرضا (ع) : " أربع ركعات بعد المغرب " (1) و قال الامام الصادق (ع) : " ركعتين اللتين بعد المغرب هما أدبار السجود " (2) .
[41 - 42] و بالاضافة الى الصبر و التسبيح ينبغي للمؤمن لكي يقاوم تحديات الأعداء أن يفكر في الآخرة وفي المصير الذي ينتهون اليه في الدنيا حينما يظهر المؤمنون بدولة الحق .
[ واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب * يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج ]قال علي بن أبراهيم ( رض ) : " ينادي المنادي باسم القائم و اسم أبيه " وعن الصيحة قال " : صيحة القائم من السماء " (3) ان العاقبة السوء التي تنتظر أعداء الرسالة تكون في الآخرة متجسدة في ألوان العذاب الإلهي ، و لكنها تتجلى دنيويا في
(1) المصدر
(2) المصدر
(3) المصدر
دولة الحق التي يظهر بها قائم أهل البيت عليهم السلام .
وكما أن دولة القائم ( عج ) هي تجل أصغر لعذاب الآخرة على الظلمة ، فان دولة الحق الأخرى التي تظهر على أيدي المؤمنين هي تجل محدود لهذه الدولة ، والى هذه الفكرة نجد إشارة في قوله تعالى : " فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون * يوم لا يغني عنهمكيدهم شيئا ولا هم ينصرون * وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون " (1) ولعل كلمة الخروج في الآية التي نحن بصدد تفسيرها تعني - بالاضافة الى الخروج الى البعث - خروج دولة الحق .
[43] ثم يعود السياق الى تأكيد الحقيقة التي يكذب بها الكافرون فكانت سببا لانحرافات بعيدة أخرى في حياتهم ، وهي البعث بعد الموت ، وقد تقدمت الاشارة اليها في قوله تعالى ، حاكيا عن الكفار : " أإذا متنا و كنا ترابا ذلك رجع بعيد " (2) .
[ إنا نحن نحي و نميت و إلينا المصير ]
بلى . قد تكون هناك أسبابا طبيعية ظاهرية للحياة و الموت ، و لكن الواقع الذي يغيب عن أذهاننا انهما و البعث بيد الله ، و هـذه الحقائق الثلاث ( الحياة + الموت + البعث ) تثبت بعضها بعضا . ولو أن الكافرين تفكروا في وجودهم و حياتهم لاهتدوا الى أن الله هوالذي أوجدهم و أنه الذي يميتهم و أنهم يبعثون ، وليس كما زعموا : " و قالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون " (3) .
(1) الطور / 45 - 47
(2) ق / 3
(3) الجاثية / 24
[44] إن مشكلة الانسان العميقة التي تجعله يكفر بالبعث أو يشك في الآخرة ، هي شكه في قدرة الله ، بسبب نظرته المحدودة الى الحياة ، فاذا به يستبعد كما في هذه السورة أن يرجع الانسان سويا بعد تحوله الى تراب أو رميم من العظام لذلك يؤكد الله يسر الأمر عليهفيقول :
[ يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير ]
كما تشقق عن الفطر و النبات ، ولكن العملية تتم في فترة زمنية وجيزة جدا ، فاذا بالناس جميعا وقوف ينظرون ، وهذه من أصعب الساعات على البشـر ، قال الامام علي (ع) : " أشد ساعات ابن آدم ثلاث ( منها ) الساعة التي يقوم فيها من القبر " (1) و قال : " لا تنشق الأرض عن أحد يوم القيامة إلا و ملكان آخذان بضبعه ( عضده ) يقولان : أجب رب العزة " (2) .
[45] و يختم الله السورة بالتأكيد للنبي - و لكل داعية الى الحق - بأنه ليس مسؤولا عن الناس وليس عليه أن يجبر الناس على قبول الحق ، وإنما مسؤوليته تتلخص في تبليغ رسالته اليهم ، أما الحساب الفصل فهو عند الله ، الذي هو أحرص على رسالته ، و أعلم بمواقف الناس تجاهها .
[ نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرءان من يخاف وعيد ]وما هي قيمة الايمان الذي لا يأتي عن قناعة راسخة بضرورته ؟ إنه لا ينفع صاحبه ، ولا يخدم الرسالة ، وفي هذه الآية بيان لجانب من الحرية في دين الله .
(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 119
(2) المصدر / ص 120
|