فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


الإطار العام


حجب كثيـرة تمنعنا من ملامسة الحقائق الكبرى ، و التي منها المسؤولية و الجزاء ، و حين يسقط الانسان عن نفسه هذه الحجب يشاهد الحقائق بوضوح يدعه متسائلا كيف و لماذا أنكرتها من قبل ؟!

وفي سورة " ق " يعالج القرآن الحجب النفسية التي تمنع البشر عن الايمان بالآخرة ، ثم يسرد شواهدها و مشاهدها وما يجري لأهلها من صعقات هائلة ، بيد أن السياق - كما يبدو - يركز على حجاب التعجب الذي هو تيار عند الكفار ، عندما يذكرون بالبعث و يقولون : هذا شيء عجيب ؟! كيف يمكن أن نعود أحياء بعد أن نمسي ترابا ؟ إنها عودة مستبعدة ، و تتلاحق بصائر الذكر في تقريب هذه الحقيقة :

أولا : يعلم الله ما تأكل الأرض من أجسامهم ذرة ذرة ، خلية خلية ، و عنده كتاب حفيظ ، لا يدع شيئا إلا و يحفظه .

ثانيا : إن وراء تكذيبهم بالحق حالة نفسية ( خشية تحمل المسؤولية ، و الخلود الىأرض الشهوات ) وهذا يجعلهم في أمر مختلط .

ثالثا : هذه السماء بما فيها من متانة البناء أليست دليلا على قدرة الرب ، أولا تكفي وسيلة لتوسيع أفقنا العلمي حتى نعترف بقدرة الرب على رجعنا من جديد .

رابعا : الأرض ، ألا ترى كيف مدها الله و أركزها بالراسيات و أنبت فيها من كل زوج بهيج .

بلى . إنها أدلة كافية ولكن لمن ؟ لكل عبد منيب ، مهيأ نفسيا لمثل هذه البصائر و الآيات ، و مثل ذلك الغيث الذي ينبت به الله جنات من الأشجار و مروج حب من - حب الحصيــد - . أرأيت النخـل باسقات لها طلع نضيد ؟ إن كل ذلك أنشأه الله ليكون رزقا للعباد ، و بكلمة صادعة يفجر السياق ينبوع المعرفة في القلوب الصافية و يقول : و أحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج .. إنها تحرق حجب التعجب و الاستبعاد ، أرأيت النواة كيف تختزل حياة شجرة باسقة حتى إذا أنزل الله عليها الماء و أمدها بوسائل النمو أصبحت شجرة باسقة كيف لايمكن أن يفعل مثل ذلك بالانسان بعد موته ؟

ثم يصب حمم الغضب على الكاذبين لكي يزيل عامل اللامبالاة عند الكفار بالبعث ، و الذي قادهم الى التعجب و يذكرهم بمصير قوم نوح و أصحاب الرس و ثمود وعاد و فرعون و إخوان لوط و أصحاب الأيكة و قوم تبع كيف نزل بهم وعيد الله حين كذبوا الرسل .

و يستشهد بالخلق أول مرة الذي يهدينا متانة نظمه و تنوعه الى إقتدار خالقه و أنه كان عليه يسيرا .. أفلا يدل على أنه قادر على الخلق الجديد .

وفي آيات متواصلات يزرع القرآن خشية الرب في نفس الانسان ، لكييتحسس بمسؤولية تجاه ما يتحدث به ، فيذكره بأنه خلقه و يعلم حتى ما توســوس به نفسه ، ( بالرغم من ادعاءاته الكاذبة ) لأنه أقرب اليه مما به حياته ظاهرا و هو حبل الوريد .

فحين يتلقى المتلقيان - و لعلهما الملكان أو المتحدثان أنى كانا - ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ، وهو الى كل ذلك لا يملك دفاعا عن نفسه حين تهجم عليه سكرة الموت بالحق فلا يدفعه بالرغم من أنه كان يحاول أبدا الحيد عنها ، أما حين ينفخ في الصور فهويوم الجزاء الذي وعد الله يومئذ يؤتى بكل نفس يسوقها السائق و يرافقه الشاهد .. - هذا ما كان يتعجب منه ظاهرا ، و انما كان غافلا عنه - بينما اليوم يراه ماثلا أمام عينيـه ( فبصــره حديــد ) أما قرينه ( وهو الملك حسب بعض المفسرين ) فيقول هذا ( كتابه ) لدي عتيد ( قد حفظته منذ أيام حياته الأولى هنالك يأمرهما الله بإلقائه في جهنم مع كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب ، و هكذا تحمل جزاء ريبه النابع من تهربه عن المسؤولية ، الذي جعل مع الله إلها آخر . أما قرينه - وهو هنا الشيطان الذي أغواه - فانه يتبرأ منه ويقول ربنا ليس أنا الذي جعلته يطغى ، محاولة منه للهروب من مسؤولية إغوائه ، إلا أن الرب يأمر بالقائه ايضا في جهنم ، و مسؤولية أحدهما لا تنفي مسؤولية صاحبه ، وما الله بظلام للعبيد ، و إن جهنم تسع المزيد من المجرمين ، فلا تظنن أن إلقاءك مسؤولية غفلتك علىالآخرين يبرئ ساحتك أو أن جهنم لا تسع إلا هو أو أنت .

وفي جانب آخر نجد مشهد المتقين الذين تزدلف إليهم الجنة و يبشرون بها ، أوليسوا قد وعدوا بها لما تميزوا به من التوبة و التقوى و خشية الرحمن بالغيب و إنابة القلب ، فاليوم يقال لهم أدخلوا الجنة بسلام خالدين فيها أبدا ، ولهم كل ما يشاؤون من النعم فيها ،و يعطيهم الله من فضله المزيد .


و يبقى الغرور حاجزا آخر أمام الايمان ، ولكن ألا يقرؤون التاريخ ليروا كم أهلك الله من قبلهم من قرن كانوا أشد منهم بطشا و حاولوا الهرب من مصيرهم فلم يفلحوا ؟ ولكن القلوب المريضة و الأسماع الصم لا تستوعب هذه الحقائق . ولا يزال يقول الكافر : كيف يحييالله الناس بعد موتهم ؟ أفلا ينظرون كيف خلق الله السماوات و الأرض في ستة أيام بلا أي تعب .

وفي خاتمة السورة يأمر الله رسوله - ومن ثم المؤمنين - بالصبر على ما يقولون ، لكي لا يحرجوا به ، أو يتخذوا كلامهم مأخذ الجد ، و تسبيح الله صباح مساء ، وفي الليل وعند الأسحار و انتظار ذلك اليوم الذي ينادي المنادي من مكان قريب ، و ينفخ في الصور ، و ينادون للخروج . إنهم حين يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج .. هنالك حين يحيي الله الموتى ليرجعوا اليه - في ذلك اليوم - تتفتق عنهم الأرض سراعا ، ذلك حشر يسير على الله ، و دع كلامهم فالله أعلم بما يقولون ، و لست مسؤولا عنهم ، تجبرهم . كلا .. ما أنت بجبار عليهم ، إنما أنت نذير تذكرهم بالوحي فذكر بالقرآن و سوف يستجيب من يخاف الوعيد .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس