بينات من الآيات [15] بماذا نستدل على ربنا ؟ وما هو السبيل الى المعرفة الأعمق به ؟
إن الكون بما فيه من مخلوقات ، و ظواهر ، يهدينا لو تفكرنا فيه الى ربنا والى الحق ، ولكن آيات القرآن أبلغ بيانا و هداية ، لأنها حديث الله عن نفسه ، كمه أنها موضع التجلي الأعظم لله تعالى بصفاته و أسمائه الحسنى ، وفي الدعاء عن أمير المؤمنين (ع) يخاطبربه فيقول : " يا من دل على ذاته بذاته " فلنقرا كلام اللهعن نفسه .
[ رفيع الدرجات ]
إنه المالك لتلك الآفاق و المراتب السامية في الدنيا و الآخرة ، فهو يرفع المؤمنين به الى أسمى درجات الكمال و الرقي و العزة . أما المعنى الآخر للآية فهو : إن الله ذاته تبارك و تعالى في أرفع الدرجات من الكمال في كل صفاته ، فهو مطلق الرحمة ، و مطلق العزة و القدرة ، و .. و .. كماأنه مطلق الإنتقام و الشدة و .. و ..
[ ذو العرش ]
أي القوة و السيطرة . وقد تقدم أن للعرش أحد معنيين : الأول المعنى المادي ، و هو أن العرش خلق عظيم واسع الحجم ، ممتد الطول هائل المقام ، الثاني المعنى المعنوي بأن يكون العرش رمزا للقوة و الهيمنة .
و ربنا من تلك الدرجات الرفيعة ينزل رسالاته للبشر على من يصطفي من عباده ، والتي تعتبر في لغة القرآن منبع الحياة الحقيقية للانسان ، لأنها تنقذه من الهلكات ، و تنفخ فيه الحركة و التكامل و العروج الانساني الفاضل ، و لعله لهذا السبب سميت الرسالة و الملك الذي يتنزل بها وهو جبرئيل (ع) بالروح .
[ يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ]
و هنـــا إشارة الى أن الروح ليس جزء ينفصل من الله لينزل من عنده الى الأرض ، إنما هو مخلوق فهو من أمر الله كما هو حال سائر الخلق في كونهم من أمره تعالى ، و الذي تشير إليه الآية الكريمة " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " (1) وهذا يعني أن الأنبياء و الرسل ليسوا آلهة بما اختصوا به من الوحي إنما(1) سورة يس / 82
هم عباد له تعالى ، وما عندهم من الوحي و المنزلة الرفيعة لم يبلغوه بسعيهم المجرد و إنما بمشيئة الله و حكمته .
و تنفي هذه الفكرة فكرة التكامل الطبيعي عند الانسان ، والتي يدعي أصحابها بأن الانسان يتكامل بطبعه حتى يعرج الى السماء أو الى مقام الرسالة و الألوهية ، بلى . الانسان يستطيع أن يهيء في نفسه أرضية للعروج ، ولكن الله هو الذي يكمله ، وإذا رفعه الى مقامالأنبياء فليس معنى ذلك أنه أصبح إلها ، أو أنه رفعت عنه المسؤولية ، كلا .. و الدليل أن نزول الروح على أي انسان يحمله مسؤولية التبليغ لهداية الناس .
[ لينذر يوم التلاق ]
و تلخص هذه الآية كثيرا من العقائد الاسلامية و النظرات الحياتية في القرآن بمفرداتها الأربع : " رفيع الدرجات " ، " ذو العرش " ، " يلقي الروح من أمره " ، " يوم التلاق " ، و يوم التلاق هو يوم يلتقي الانسان بخصومه ، و هو من الأيام الحساسة و المشهودة في حياته ، فيلتقي المستكبر بالمستضعف ، و الظالم بالمظلوم ، و الغاصب بالمغصوب منه ، و الكاذب بمن افترى عليه ، و كل عامل يلتقي يومئذ بعمله ، و يلتقي المجرمون بالشهود ، و الناس جميعا يلتقون بالحساب عند ربهم ، و هكذايكون يوما عظيما لابد أن يرهب مقامه ، و ينذر به المنذرون .
[16] و يضيف القرآن مبينا واقع ذلك اليوم العظيم و الحاسم :
[ يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء ]
في الدنيا يحاول الإنسان جاهدا إخفاء سلبياته و تجاوزاته لحقوق الآخرين ، و حتى إنه يحاول خداع ذاته ، و إخفاء جرائمه عن ضميره بالتبريرات و الأعذار ، وقديستطيع الهرب من يد العدالة ، ولكن هل يتمكن من مثل ذلك في الآخرة ؟ كلا .. لأن اعتقادات الانسان و أقواله و أعماله كلها تظهر يومئذ ولا تخفى منها خافية أبدا كما يقول تعالى : " يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية " كبيرة كانت أو صغيرة ، وكيف يكون ذلك وقد أوكل الله بكل واحد ملائكة يكتبون له و عليه كل ما يصدر منه ، وهو من ورائهم رقيب ؟!
و حينئذ يرتسم في الأفق سؤال عريض ربما ينطق به كل شيء ، لأنه سؤال الساحة الذي يقتضيه الحال ، و قد ينادي به مناد من عند الله ، السؤال هو :
[ لمن الملك اليوم ]
و الإجابة يحكيها لسان الواقع ، وهي التي وردت في فاتحة الكتاب التي وصفت اللــه بأنه " مالك يوم الدين " وهنا ايضا يقول القرآن مجيبا على النداء أو السؤال المفترض :
[ لله الواحد ]
فلا يشاركه أحد في الملك و الحكم .
[ القهار ]
و القهار هو أبرز سمات الإنفراد بالملك ، حيث لا شيء يعجز الله و يقهره ، ولا أحد ينازعه على الملك إلا و قصمه ، و ملك الله ليس محدودا بالآخرة وحسب ، فهو الملك في الدنيا أيضا ، ولكن الكفار يعمون و يصدون عن هذه الحقيقة بعنادهم و بفقدانهم للبصيرة الهادية حيث رفضوا رسالات الله ، أما المؤمنون فهم يعرفون هذه الحقيقة بعمق ، لهذا يسلمون لله ولمن يختاره راضين طائعين .
جاء في الأثر في تفسير هذه الآية الكريمة عن يعقوب الاحمر قال : دخلنا على ابي عبد الله عليه السلام نعزيه باسماعيل فترحم عليه ثم قال : " إن الله عز و جل نعى الى نبيه صلى الله عليه وآله نفسه فقال : " انك ميت وانهم ميتون " وقال : "كل نفس ذائقة الموت " ، ثم انشأ يحدث فقال : إنه يموت أهل الأرض حتى لا يبقى أحد ، ثم يموت أهل السمــاء حتـى لا يبقى أحد إلا ملك الموت و حملة العرش و جبرئيل و ميكائيل عليهم السلام ، قال : فيجيــــئ ملك الموت حتى يقوم بين يدي الله عز وجل فيقال : منبقي ؟ - وهو أعلم - فيقول : يا رب لم يبق إلا ملك الموت و حملة العرش و جبرئيل و ميكائيل ، فيقال له : قل لجبرئيل و ميكائيل فليموتا ، فيقول الملائكة عند ذلك : يا رب رسوليك و أمينيك ؟ فيقول : إنى قد قضيت على كل نفس فيها الروح الموت ، ثم يجيء ملك الموت حتىيقف بين يدي الله عز وجل فيقال له : من بقي ؟ - وهو أعلم - فيقول : يا رب لم يبق الا ملك الموت و حملة العرش ، فيقال : قل لحملة العرش فليموتوا ، قال : ثم يجيء كئيبا حزينا لا يرفع طرفه فيقال له : من بقي ؟ - وهو أعلم - فيقول : يا رب لم يبق إلا ملك الموت ، فيقال له : مت يا ملك الموت فيموت ، ثم يأخذ الأرض و السموات بيمينه و يقول : أين الذين كانوا يدعون معي شريكا ؟ أين الذين كانوا يجعلون معي إلها آخر ؟ " (1)[17] ثم يبين القرآن أن كون الملك للواحد القهار لا يعني أنه يجوز على الناس ، تعالى ربنا عن الظلم و الحيف ، إنما يحاسبهم على أساس المقاييس العادلة التي جاءت ببيانها رسالات الأنبياء .
[ اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ]
(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 516
في السر أو العلانية ، قليلا كان أو كثيرا ، و الآية تلغي المقاييس الأخرى الباطلـــة ، كالفداء و الشفاعات المزعومة ، أو أن ينتفع الانسان لمجرد انتمائه ظاهرا للحق ، وذلك حينما تؤكد المسؤولية " بما كسبت " و تركز الآية الكريمة هنا على العدالةالإلهية فتقول :
[ لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب ]
لأنه مطلق العلم و القدرة ، و لأنه يحاسب الناس على ضوء المقاييس و الحجج ، وإذا كان الانسان بعلمه و إمكاناته المحدودة قد اكتشف جهاز الكومبيوتر الذي يفحص الأمتعة و الحقائب من خلال الشاشة في لحظات فكيف بربنا وهو سريع الحساب ؟!
فلا يتوهم البعض أن كثرة عدد البشر و تنوع ما يكتبونه بما لا يحصى يمنع ربنا من الدقة في الحساب أو النصف فيه ، كلا .. إنه سريع الحساب يحصي عليهم حتى أنفاسهم و خفي ضمائرهم فيحاسبهم جميعا على كل ذلك في ساعة يوم القيامة .
[18] [ و أنذرهم يوم الأزفة ]
وهو أحد أسماء يوم القيامة ، و لعل كل إسم من أسماء الآخرة جاء بمناسبة معينة أو بحالة معينة .
ولهذا الإسم عدة معان :
منها : أن القيامة قريبة جدا ، من أزف الأمر إذا دنا وقته و اقترب ، و فعلا الساعة قريبة فلا تفصلنا - نحن البشر - عنها عمليا إلا زجرة الموت ، وبعده يغفل عن أكثر الناس حتى قيام الساعة فيكونون كمن غط في نوم عميق سحابة نهارهفيتصل عنده أول يومه بآخره و يكون ما يحدث عليه آخر النهار قريبا من أول النهار .
أما الذين محضوا الإيمان و الكفر فإنهم إذا ماتوا قامت قيامتهم ، فتدفع أرواح المؤمنين في الجنان فور انتقالها من أبدانهم ، و يعرض على أرواح المعاندين النار غدوا و عشيا كآل فرعون ، فالقيامة إذا قريبة منا جميعا . وفي القرآن إشارة الى هذا المعنى في قولهتعالى : " فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة " (1)و منها : أن العذاب يكون قريبا من الناس في ذلك اليوم ، أو أن روح الانسان يقرب خروجها من جسده لأهوال ذلك اليوم .
[ إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ]
و ربما يكون المقصود من القلب هنا بالإضافة الى الروح ، القلب بواقعه المادي ، ذلك ان الانسان يحس و كأن قلبه يصعد الى الأعلى عندما يتعرض للفزع ، و بالذات إذا كان مفاجئا لا يتوقعه ، ولأن الناس كلهم مشغولون بأنفسهم لا يجد الواحد طرفا يمكنه أن ينفعه يظهر له ما في نفسه لذلك يخفي الجميع ما في صدورهم و يكظمون غيظهم ، و حتى إذا أرادوا البوح فهل هي إلا ندامة و خسارا ! بالإضافة الى هيبة ذلك اليوم التي تعقل ألسنتهم ، و الى الملائكة الغلاظ الشداد الذين لا يأذنون لهم بالكلام ، و الى خشوع الأصوات جميعا لرب العالمين ، فهم لهذه الأسباب و غيرها يضطرون للكظم بالرغم من شدة غيظهم حتى ليكادون يتميزون حنقا .
[ ما للظالمين من حميم ]
وهو أقرب الاصدقاء و أحبهم للانسان ، إذ تنقطع بينهم الروابط و العلاقات .
(1) النازعات / 13 - 14
[ ولا شفيع يطاع ]
و الشفيع هو الوسيط الذي يعرف الشخص و يقضي حاجته عند الآخرين ، وقد تعود الظلام في الدنيا على التوسل بالشفعاء في بلوغ مآربهم و حل مشاكلهم ، ولكنهم في الآخرة لا يجدون الى الشفعاء سبيلا ، لأن الذين اعتمدوا عليهم من أئمة الظلم هم بدورهم يريدون من يشفعلهم ، ولو افترضنا أن أحدا صالحا أو طالحا تحمل هذه المسؤولية و حاول الشفاعة للظلمة فإنه لا ينفعهم شيئا ، إذ لا تعتبر الشفاعة عند الله للظلمة إنما تنفع من تكون مسيرتهم العامة في الحياة سليمة ، فتأتي الشفاعة لترفع عنهم تبعات الذنوب الجزئية .
فقد روي عن الامام موسى بن جعفر - عليه السلام - أنه قال : " ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا ساءه ذلك و ندم عليه ، وقد قال النبي (ص) : " كفى بالندم توبة " ، وقال : " من سرته حسنته و ساءته سيئته فهو مؤمن " ، فان لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ، ولم تجب له الشفاعة وكان ظالما ، و الله تعالى يقول : " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع " (1)هكذا نعرف أن الشفاعة إنما هي للتائبين الذين تسوؤهم سيئاتهم فيندمون عليها ، و كفى بالندم توبة .
و حيث أكد ربنا على أن الشفاعة لا تنفع الظالمين ، لأنهم إنما اعتقدوا بالشركاء و بشفاعتهم ليتهربوا من المسؤولية ، فأراد الله بذلك تأكيد المسؤولية عليهم ، و نفي هذه الذريعة التي يتوسل بها البعض لاجتراح الجرائم .
[19] و يمضي السياق مؤكدا مسؤولية البشر بأنه تعالى يحصي عليه كل شيء ،(1) المصدر / ص 517
ولا تفوته من تصرفاته صغيرة ولا كبيرة ، و يكفي بهذا وازعا إياه عن المعصية ، و دافعا نحو تحمل المسؤولية .
[ يعلم خائنة الأعين ]
حيث ينظر الانسان الى ما حرم عليه أو أن يستخدم نظرة في غير أهدافه ، كالتجسس على الناس و حسدهم ، و النظر الى أعراضهم و عموم عوراتهم و أسرارهم .
وفي الحديث قال الرواي : سألت أبا عبد الله عن قوله عز وجل : " يعلم خائنة الأعين " فقال : " ألم تر إلى الرجل ينظر الى الشيء و كأنه لا ينظر ؟ فذلك خائنة الأعين " (1)و جاء في تفسير هذه الآية : أن النبي (ص) حينما فتح الله له مكة المشرفة أهدر دم بعض المشركين ، و كان بينهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فجاء إليه عثمان يستأمنه منه فسكت النبي طويلا ليقتله بعض المؤمنين ، ثم أمنه بعد تردد المسألة من عثمان ، وقال : أماكان منكم رجل رشيد يقوم الى هذا يقتله ؟! فقال عباد بن بشر : يا رسول الله إن عيني ما زالت في عينك انتظارا أن تؤمي فأقتله ، فقال (ص) : " إن الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين " (2)بلى . قد تفوت نظرات الخيانة بني البشر ، أما الله فلا يفوته منها شيء .. وكيف يكون ذلك وهو يحيط بنوايا الانسان وما ينطوي عليه قلبه ؟!
ولو تعمقنا في هذه الآية الكريمة ، و اعتبرنا بها لاستطعنا أن ننزع من قلوبنا بذور النفاق و جذور الخيانة ، لأن الانسان حينما يتحسس رقابة الله عليه ، و يستشعر(1) المصدر / ص 517
(2) المصدر
حقيقة علمه تعالى بما في قلبه فإنه لن ينافق أو يخون ، ولن تأخذه روح اللامبالاة بالذنب .
[ وما تخفي الصدور ]
من نوايا يسعى نحو تحقيقها ، والتي قد تخفى في بعض الأحيان عن الانسان نفسه .
[20] [ والله يقضي بالحق ]
و إنما يكون قضاؤه حقا لحكمته و إحاطته بما يحكم فيه ، فمهما حاول أحد أن يتعلل و يقدم المعاذير ليفلت من العدالة فلن يستطيع أبدا ، لأن الله يعلم الغيب و الشهود حتى نوايا الضمير ، وعلى الانسان ان يبحث عن الحق و يلتزم به فهو وحده الذي ينفعه عند الله .
و كلمة " بالحق " توحي بأن وسائل الحكم و نتائجه كلها حق ، فربنا يعتمد الحق في تحديد الموضوع ، و يعتمده أيضا في تحديد الحكم و تنفيذه ، أما الآخرون الذين يشرك بهم الظلمة و جهال الناس فإنهم لا مقياس لهم في الحياة و الحكم فلا يصيبون حتى جزء من الحق .
[ والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء ]
و السبب بالإضافة الى اعتمادهم الأهواء و الشهوات في قضائهم أنهم لا يحيطون بموضوعات الحكم إحاطة تامة ، فحكمهم قائم على الشهادات الظاهرية أو الظنون و التخرصات ، أما الله فهو يحيط إحاطة مطلقة بكل شيء مما يجعل حكمه حقا تاما .
[ إن الله هو السميع ]
الذي يحيط بكلام الناس وما تنطوي عليه نفوسهم .
[ البصير ]
الذي يرى تصرفاتهم و أفعالهم .
وفي الآية إيحاء بأن الباطل لا يمثل شيئا . أوليس الباطل كان زهوقا ، فالشركاء المزعومين يقضون بالباطل الذي لا يمثل شيئا ، ويا لروعة الكلمة و بلاغة التعبير ، فهم لا يقضون - عند الله = شيء بالرغم من أن الطغاة يتشدقون بألوف القوانين التي يتظاهرون أنهميقضون بها خلافات الناس ، بينما يعقدون بها في - الواقع - أوضاع الناس ، و يزيدون بأحكامهم الباطلة هذه الصراعات ، فيا لخسارة تابعيهم !
[21] إن تحمل أمانـــة المسؤولية لأشد على قلب الانسان من حمل الجبال الراسيات ، و إنه - في ذات الوقت - السبيل الوحيد لنجاته ، و القرآن يهدينا الى ذلك بحجج شتى ، أبرزها بيان عاقبةأعمال البشر في الآخرة وقد تحدث السياق عنه آنفا ، و الحجة الثانية بيانعاقبة أعماله هنا ، ولكن كيف نعرف ذلك ؟ إنما بالنظر في أحداث التاريخ ، التي تكشف عن خطأ التكذيب بالحق ، وبالتالي ضعف الإنسان أمام إرادة ربه المتجلية في سنن الحياة .
و أصدق كتاب ينبؤنا عن حقائق التاريخ - بعد القرآن - آثار الغابرين على الطبيعة ، فلابد من السير في الأرض و قراءة تلك الآثار .
[ أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا منقبلهم كانوا هم أشد منهم قوة و ءاثارا في الأرض ]
يعني قوة أبدانهم أو عموم أسباب القوة التي اجتمعت عندهم بحيث استطاعوا إعمار الأرض ماديا بما لم يصل الى مستواه الأقوام الذين يعنيهم القرآن بخطابهم .
إلا أن هذه القوة و تلك الآثار لم تكن قائمة على أساس صالح ينميها و يحافظ على كيانها ، إنما كانت القوة تزيدهم غرورا ، و الإعمار يزيدهم كفرا و فسادا ، مما دعاهم للإسراف في المعصية إعتمادا عليهما .
[ فأخذهم الله ]
ولكن ليس بظلم و إنما بالحق .
[ بذنوبهم ]
ولم يكن ثمة أحد ينقذهم من عذاب الله و أخذه .
[ وما كان لهم من الله من واق ]
فلم تنفعهم قوتهم و قدراتهم شيئا عند العذاب ولا أولئك الشركاء الذين اعتقدوا بهم ، إن الواقي الوحيد هو عمل الانسان الصالح الذي لم يتزودوا منه بالرغم من وصية ربهم حين قال لنا : " و تزودوا فإن خير الزاد التقوى " .
[22] و يبين القرآن السبب في هلاكهم .
[ ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات ]
و الرسل إنما بعثهم الله ليستنقذوهم من الذنوب وما تنتهي إليه من العذاب ، ولكنهم رفضوهم و تمسكوا بقيادة الطواغيت ، و رفضوا رسالاتهم و تمسكوا بالعقائدو الأفكار المنحرفة ، فما بقيت ضمانة لهم تمنع عنهم العذاب .
[ فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب ]
وإذ يصف الله نفسه هنا بالقوة و شدة العقاب فلكي يبين لنا نوع العذاب الذي حل بهم ، ببيان صفات منزلة عليهم ، ولكي يبين لنا من جانب آخر أنه لم ولن يقدر أحد على منع العذاب عن الظالمين و الكافرين حين ينزل بساحتهم .
[23] و كشاهد على تكذيب الأقوام تضرب الآيات لنا مثلا من واقع موسى (ع) مع قومه الذين كذبوا برسالته .
[ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا و سلطان مبين ]
ولعل الآيات هي التوراة ، وأما السلطان المبين فلعلها المعاجز التي أظهرها الله على يد نبيه (ع) كالعصا و اليد البيضاء .
[24] وقد جاء موسى (ع) لتغيير الواقع المنحرف ، و مقاومة الفساد المتمثل في الطاغوت و أعوانه ، وكل من يجسد ذلك الواقع .
[ إلى فرعون و هامان و قارون ]
و هؤلاء هم نماذج مختلفة ، كل واحد منهم يمثل جانبا من الفساد ، فرعون يجسد الطاغوت الحاكم ، و هامان يمثل الجهاز الإداري له ، بينما يمثل قارون بماله الرأسمالية التي تمتص خيرات الشعوب ، وقد جاء موسى (ع) لتصفية هذه الأجهزة الثلاثة .
[ فقالوا ساحر كذاب ]
و واجهوا بهذا المنطق الباطل الحجج الظاهرة و البينات فكان عاقبتهم الدمار كما تفصله الآيات التالية .
|