الإطار العام
تفتتح السورة ببيان عن القرآن الذي فصلت آياته ببلاغة نافذة تنفع العلماء الذين تبشرهم بالحسنى ، كما تنذر المعرضين الذين لا يسمعون آياته .
و تلخص هذه الفاتحة المحاور التالية للسورة :
المحور الأول : الجحود و الإعراض و الإستكبار الذي ابتلي به أكثر القوم حتى زعموا أن قلوبهم في أكنة فلن تهتدي أبدا ، و يذكر السياق عوامل هذه الحالة الشاذة ، و يعطي وصفة العلاج لها .
و يقارن الذكر بين هذه الحالة الموغلة في الضلالة ، وما عليه المؤمنون الذين استقاموا فنزلت عليهم الملائكة ، و اشتغلوا بالحمد و التسبيح لله بلا كلل و لا سأم .
و تكاد تكون هذه المقارنة أبرز سمات هذه السورة المباركة ، فإذا تلونا في الآية (5) قول الجاحدين " في آذاننا وقر ومن بيننا و بينك حجاب فاعمل إننا عاملون " متحدين بكل صلافة الرسالة الإلهية ، فإننا نتلو في الآية التالية (6) قوله :
" فاستقيموا إليه و استغفروه " ليتحدى المؤمنون صلافة الجاحدين بما يفوق إصرارهم ، و يهزم عنادهم !
وحين نقرأ في الآية (25) : " و قيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم و حق عليهم القول " حيث يبين القرآن مدى شقاء هذه الطائفة الجاحدة حتى لزمتهم كلمة العذاب ، فإننا نقرا في الآية (30) : " إن الذين قالوا ربنا ثم إستقاموا تتنزل عليهم الملائكة " . فهناك قرناء السوء ، و هنا أولياء الرحمة .
و أخيرا حين يبين السياق في الآية (38) استكبار أولئك الجاحدين ، يبين ان من عند الله لا يسأمون عن التسبيح .
و لمعالجة حالة الإعراض عن الذكر و الجحود في آيات الله ينذرهم الرب في دنياهم بصاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود (13/18) ، كما ينذرهم في عقباهم بنار السعير في يوم تشهد عليهم جوارحهم (19/22) .
و يشير السياق الى بعض عوامل الإعراض كالظن السيء بالله ، و قرناء السوء ، و اللغو في القرآن ( التضليل ) ، و يحذر مرة بعد مرة من العذاب الشديد الذي ينتظر الجاحدين حتى أنهم يبحثون هنالك عمن أضلهم من الجن و الإنس ليجعلوهم تحت أقدامهم (23/29) .
كما يبشر الذين يذكرون و يستقيمون على الذكر بالسداد و النصر في الدنيا ، و الجنة و الرضوان في الآخرة .
المحور الثاني : التذكرة بآيات الله في الآفاق وفي أنفسهم ، حيث يبين القرآن هنا قصة خلق الكائنات في أيام أو مراحل (9/12) وأن من آياته الشمس و القمر حيث يدعو الى نبذ السجود لها ، و إنما التوجه الى خالقها بالسجود و التسبيح ، وأن منآياته إحيـــاء الأرض بعد موتها ، وهو الذي يحيي الموتى (27/39) و يرد إليه علم الساعة ، وما تخرج من الثمرات من أكمامها (47) .. و يستعرض جانبا من أطوار النفس البشريــة حيث ترى الانسان لا يسأم من دعاء الخير ، ولكنه إذا مسه الشر تراه يؤسا قنوطا ، وحين يرزقنعمة يفقد من الفرح توازنه ، و إذا أصابه السوء فهو ذو دعاء عريض (49/51) .
و كما هو منهج القرآن البديع في سائر السور حيث يوصل الآيات الشاهدة على الحق بالإنذار من الإعراض عنها ، ذلك أن بيان الآيات لا يجدي الجاحد نفعا ، فلابد إذا من استصلاح الأرض قبل أن يزرع فيها الحب ، كذلك نجد في هذه السورة كيف تتماوج الآيات بين إنذار المعرضين عن الآيات و بين بيان آيات الله في الآفاق و الأنفس ، مثلا بعد الآية (39) التي تلفت النظر الى خشوع الأرض قبل أن ينزل الله عليها الماء فتهتز و تربو و تحيى ، و قبل الآية (47) التي تبين علم الله بالساعة و بالثمرات التي تخرج من أكمامها ، نجد الآيات(40/46) تنذر الذين يلحدون في آيات الله أنهم لا يخفون على الله ، وأن الذين كفروا بالذكر لا يفلحون ، لأنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ثم يذكر بعض أعذار الجاحدين من قبل ومن بعد الرسول .
و تتميز السورة بقوة الطرح ، و شدة نبرات السياق ، خصوصا فيما يتصل بالإعراض و الجحود في آيات الله ، كما تتميز بالمفارقة الحادة بين طرفي الصراع ، بين من يصر على الجحود و من يستقيم على الطريق .
|