بينات من الآيات [22] لم يكن الكافرون يخافون - حين عصيانهم - من شهادة سمعهم و أبصارهم و جلودهم عليهم ، بل إنهم لم يكونوا يتصورون شهادتها عليهم ، إذ كيف تشهد عليهم هذه العين المطيعة لأوامرهم ، وتلك الأذن و الجلود التي راعوها و حافظوا عليها ؟!
بلى . إنها لن تسمع أوامرهم في الآخرة ، بل و ستشهد عليهم شهادة الحق .
ثم إنهم حتى ولو عرفوا في الدنيا بشهادة الجوارح عليهم لا يقدرون على التخلص من رقابتها ، لأن الإنسان يتمكن من ستر أعماله و حجب تصرفاته حتى عن أمه و أبيه ، ولكن كيف يسترها عن عينه أو يده أو جلده ؟
من هنا : إذا كانت شهود الله على الانسان أعضاؤه ، فلابد أن يخاف مقامه ، و يتقيه على نفسه .
[ وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا ابصاركم ولا جلودكم ]يبدو أن معناه : إنكم لم تستتروا ، ولا كنتم قادرين على أن تستتروا .
و لنفترض جدلا : أن الأعين و الآذان و الجلود لن تشهد على الإنسان أثناء الحساب ، فهل يعقل أن لا يكون الله شهيدا ؟!
كلا .. فالله محيط علما بالبشر ، و مطلع على خفياته التي ليس لأحد سبيل الى معرفتها سواه سبحانه .
إن الله سميع بصير ، عليم خبير .. ولو شعرنا بذلك ، وأنه يحصي أنفاسنا ، ويعلم خطرات قلوبنا ، وأن كل كبير و صغير مستطر ، لما ارتكبنا السيئات .. وإنما فلت من شرك الفاحشة ذلك المخلص الصديق يوسف بن يعقوب - عليهما السلام - حينما تحسس رقابة الله عليه ، وعلم يقينا أنه عز وجل أقرب إليه من حبل الوريد ، فعن أبي عبد الله (ص) قال :
" لما همت به و هم بها ، قالت : كما أنت ، قال : ولم ؟ قالت : حتى أغطي وجه الصنم لا يرانا ، فذكر الله عند ذلك ، وقد علم أن الله يراه ففر منها " (1)ينبغي أن نتذكر شهادة الله حتى نفوز برقابة ذاتية على أنفسنا فلا تنحرف .
وأما الكافرون فهم بعيدون عن هذه الحقيقة ، فهم يظنون بربهم ظن السوء ،(1) بحار الأنوار / ج 12 - ص 300
فمثلا قد يظنون أن الله يعلم فقط ظاهرا من أقوالهم و أعمالهم فيزعمون أنهم قادرون على تبرير سيئات أفعالهم و فاحش أقوالهم أمام ربهم ، بأن يقول الواحد منهم : إنني كنت مجبورا ، أو مضطرا الى السيئة ، أو عملتها من دون وعيي و إرادتي .
كذلك يبرر المجرمون قبل ارتكاب الموبقات سيئاتهم لأنفسهم ، و يختلقون الأعذار التي يزعمون أنها تغنيهم عن العقاب أو الجزاء ، ولو عرفوا أن الناقد بصير ، و أنه لا تخفى عليه خافية ، لارتدعوا .
ومادام الانسان يعلم أن تبرير عمله للناس ليس بحق لأن الله يعلم به ، فهو يرجى صلاحه ، لأن في قلبه لا تزال مسافة بين الحق و الباطل ، وأما إذا وصل الى مستوى يختلط في قلبه الحــق و الباطـل ، و أن التبرير الذي يختلقه للناس يستطيع أن يخدع به ربه ، فقد هوى ولا أمل في نجاته .
ومثل هذا الصنف كثير ، و إنهم ليأتون يوم القيامة ربهم ، فيوقفهم للحساب ، فيشرعون في طرح أعذارهم التي تشبثوا بها في الدنيا ، بعضهم يقول : كنت مكرها ، و يقول الآخر : كنت مستضعفا ، و يقول ثالث : لم أرد إلا الخير ، وهكذا ، ومن الناس من ينكر كل أفعاله السيئة ، و يحلف على ذلك بالايمان ، يقول الرب : " و يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذي كنتم تزعمون ، ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " (1) وعن المبررين يقول : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيرا " (2)(1) الانعام / 22 - 23
(2) النساء / 97
[ ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ]
لعل مرادهم أن الله لا يعلم السر و الخفيات ، و إنما يرى ظاهر أعمالهم ، وقد ذكر المفسرون أن فريقا من الكفار اجتمعوا عند الكعبة ، فقال بعضهم : أتظنون أن الله يسمعنا ؟ فقال الآخر : بلى . إذا رفعتم أصواتكم سمعكم ، وقال الثالث : إن من يسمع النداء يسمع النجوى ، فنزلت الآية .
و تحتمل الآية تفسيرا آخر هو عدم اهتمام أولئك القوم بشهادة الله عليهم ، فمن لا يأبه بشيء كان كمن لا يؤمن به .
[23] ولكن تلك الظنون أمطرت عليهم الويلات ، و دفعت بهم الى أسفل الهاوية .
[ وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ]شخصية الإنسان تصاغ حسب ظنه بربه ، فمن أحسن به ظنا حسنت سريرته ، و طاب سلوكه ، و صلح عمله ، ومن أساء بربه الظن ساءت سريرته ، و خبث سلوكه ، و فسد عمله ..
وهكذا ينبغي أن يحسن العبد ظنه بربه ما استطاع ، فقد روي عن الإمام الصادق - عليه السلام - أنه قال : قال رسول الله (ص) :
" إن آخر عبد يؤمر به الى النار فإذا أمر به التفت ، فيقول الجبار جل جلاله : ردوه ، فيردونه ، فيقول له : لم التفت الي ؟ فيقول : يا رب لم يكن ظني بك هذا ، فيقول : وما كان ظنك بي ؟ فيقول ؟ كان ظني بك أن تغفر لي خطيئتي ، و تسكنني جنتك !
قال : فيقول الجبار : يا ملائكتي لا و عزتي و جلالي و آلائي و علوي و ارتفاع مكاني ما ظن بي عبدي هذا ساعة من خير قط ، ولو ظن بي ساعة من خير ما روعته بالنار ، أجيزوا له كذبه ، وأدخلوه الجنة "ثم قال : قال رسول الله (ص) :
" ليس من عبد يظن بالله عز وجل خيرا إلا كان عند ظنه " (1)[24] [ فإن يصبروا فالنار مثوى لهم ]
إن صبرهم في الآخرة يختلف عن صبرهم في الدنيا ، فصبرهم في الدنيا على الطاعات وعن المعاصي يعقبه الفرج و الجزاء الحسن ، ولكن حتى وإن صبروا في الآخرة فإن النار هي مثواهم للأبد .
[ وإن يستعتبوا فماهم من المعتبين ]
وإن يتوبوا الى الله لا تقبل توبتهم ، بعكس الدنيا حيث توفرت لهم فرصة التوبة .
[25] عوامل الإنحراف عديدة ، و تختلف من إنسان لآخر ، وفي حياة الشخص الواحد تختلف من مرحلة لأخرى ، ففي مرحلة الطفولة يستهوي الإنســان عامل واحد اللعب ، أما في مرحلة الشباب فإن أصدقاء السوء من أشد عوامل الإنحراف تأثيرا على النفس ، بينما في مرحلة الرجولة يتدرج البشر عبر عوامل المال و البنين و التفاخر .
وهنا يشير القرآن الى أصدقاء السوء الذين يحيطون بمن ابتعد عن هدى ربه(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 543
فيزينون له سوء عمله ، حتى لا يكاد يجد سبيلا للهداية .
إن الضلالة - كما الهداية - تبدأ من اختيار الإنسان نفسه ، و لكنها تخرج تقريبا عن حدود سيطرة الإنسان بعد ذلك ، إذ تتكاثف حوله عوامل الإنحراف و أغلال الضلال حتى يكاد يصبح عاجزا عن الإنفلات منها ، فترى قلبه يقسو مع استمــرار ارتكاب الفواحش ، و محيطه الأجتماعي يخلو من الصالحين الذين كانوا ينصحونه ، و يتمحض في قرناء السوء ، ويكون مثله مثل دودة القز يختنق في شرنقته التي صنعها لنفسه !
و قرناء السوء نوعان :
نوع ظاهر ، وهو الصديق السيء الذي يصاحب الإنسان و يرافقه ، وحين ينحرف الإنسان يجد نفسه في جماعة المنحرفين ، وإن الطيور على أشكالها تقع .
نوع باطن ، وهو الشيطان الذي يزين له السيئات .
[ و قيضنا لهم قرناء ]
قالــــوا : أصــل كلمة " القيض " بمعنى القشرة المحيطة بالبيضة ، وأن ايحاء " قيض " التسلط الكامل ، و الإحاطة التامة ، ولكن يبدو لي أن معنى قيض انتخاب الشيء المناسب ، فإن حجم قشرة البيض مناسبة لذات البيضة ، كذلك يتم اختيار القرينالمتناسب للشخص .
[ فزينوا لهم ما بين أيديهم ]
من أعمال الفساد التي لم يرتكبوها .
[ وما خلفهم ]
من الأعمــال التي ارتكبوها . وقالوا : ما بين أيديهم الدنيا ، وما خلفهم الآخرة ، و قيل العكس .
ولكن يبقى سؤال : لماذا يقيض الله قرناء السوء لهؤلاء ؟ الجواب : لأن الله قد غضب عليهم ، و فرض عليهم الضلالة بسوء اختيارهم أولا ، كما فعل بأسلافهم من الأمم السابقة ، ويا لسوء العاقبة إن الرب الرحمن الرحيم الذي هو السبب الوحيد للهداية يريد إضلالهم وتعذيبهم !
[ و حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس إنهم كانوا خاسرين ]ولعل المراد من الجن هنا الشياطين الذين يقيض الله منهم قرناء للخاسرين .
[26] [ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان و الغوا فيه لعلكم تغلبون ]و الغوا فيه : أي أثيروا اللغو حينما يقرأ القرآن لصرف النظر عن أفكاره الحقة . وفي كل عصر و مصر هناك محاولات خاصة للغو في القرآن ، ففي بدء الدعوة الإسلامية كانوا يحضرون القصاص بجانب الرسول ليرووا للناس القصص التاريخية الخيالية ، وكان هناك من لا يفرقبين القرآن وتلك القصص التافهة ، فيجلس عند القصاص ليستمع إليها ، و يدع الرسول (ص) و رسالته الحضارية ، وفي بعض الأحيان كان يقوم أحدهم بالتصفيق عند تلاوته أو التصفير .. و كـل ذلك بهدف جذب انتباه الناس لكي لا يفهموا حقائق الرسالة ، وأما في هذا العصر فقدتطورت أساليب اللغو الذي يثيره الكفار في القرآن ، إذ أن عشرات الألوف من الصحف المأجورة ، و الإذاعات ، و محطات التلفاز ، و مراكز صناعة الأفلام ، تمثل اليوم ظاهرة اللغو الذي يثيره الكفار بين الناس لمنعهم من الاستماع الى القرآن .
و الهدف من كل ذلك اللغو الجاهلي الأول وهذا اللغو الجاهلي العريض هو التغلب على الساحة ، و الإستكبار في الأرض بغير الحق ، مما يعني أن بناء الكفار الثقافي قائم على أساس اللغو و التشويش على بصائر الحق .
و نستوحي من الآية عدة حقائق :
أولا : إن كل ما يبثه الطغاة من خلال أجهزتهم الدعائية ضلالة و لغو ، وإنما الحق ما يبينه الوحي الإلهي .
ثانيا : إن البناء الثقافــي للطغاة قائم على أساس مواجهة الحق ، و التشويش عليه ، أوليست الضلالة هي الإنحراف عن الهدى ، فهي ليست أصلا أو محورا أو بناءا متكاملا ، وهكذا فضح القرآن أهم استراتيجيات الدعاية الكافرة ، وهي معاكسة الإعلام الحق ، وإثارة الضوضاء و الصخب من أجل صرف الانظار عنه .
ثالثا : من خلال الهدف الذي يتوخاه الفرد نعرف طبيعة عمله ، أوليست الأعمال بالنيات ؟ و إن هدف أجهزة الدعاية الكافرة هو الإستكبار في الأرض ، و الغلبة في الصراع مع الحق ، ومن كان هذا هدفه كيف يستطيع أن يهدي الناس الى الحق ؟! إن الهدف هو الذي يحدد مسيرة العمل ، و استراتيجية التحرك ، بل كيف يهدي الى الحق من لم يهتد بنفسه اليه .
وحين يكون هذا هدف مجمل التحرك الدعائي عند الكافرين ، فإنه ينعكس على أدوات هذا التحرك و الأفراد المشاركين فيه ، فكل فرد من العاملين في هذا الجهاز يسعى نحو هدف مصلحي خاص به ، فترى الواحد يحلم في الشهرة ، و الثاني يبحث عن الثروة ، و الثالــث يتمنىان يكون ذا خطوة عند السلطان ، وكيف تهدي أقلام هذه الشراذم الى الحق ؟!
[27] بلى . إنهم يضلون الناس عن الحق ، و يمنعونهم عن بلوغ الحقائق ، و يحجبون عنهم النور الإلهي ، و بحجم الخسارة التي يلحقونها بالناس يكون حجم العذاب الذي ينتظرهم .
[ فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ]
ولعل هذا هو عذابهم في الدنيا .
[ و لنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون ]
لعل جزاءهم أسوء من أعمالهم باعتبار تحديهم لرب العزة ، أو تحملهم لعذر الآخرين . ولعل المعنى أنهم يجازون بأسوء أعمالهم فيكون بالطبع جزاءا سيئا ، و الله العالم .
[28] لماذا هذا الجزاء الشديد ؟ لأنهم أعداء الله ، وليس هينا عداوة هذا المخلوق الضعيف لخالقه القوي العزيز .
[ ذلك جزآء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد ]
يا له من عذاب عظيم ، النار أبدأ ساءت مستقرا و مقاما ! و نتساءل : كيف أنهم أضحوا أعداء الله ؟ بلى . حين عادوا رسالاته ، و ألغوا في القرآن ، فقد عادوا الله عز وجل .
[ جزآء بما كانوا بأياتنا يجحدون ]
إن الكفر بالرسالة بعد أن استيقنتها أنفسهم يدل على عداوتهم لربهم .
[29] و في نهاية المطاف يكفر هؤلاء بقرناء السوء الذين أضلوهم عن سبيل الله ،سواءا كانوا من الإنس الظاهرين ( كأصدقاء السوء ) أو الجن ( كالشياطين و الذين زينوا لهم سوء أعمالهم ) .
[ وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن و الإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين ]ولكن ماذا ينفعهم لو جعلوهما تحت أقدامهم في ذلك اليوم بينما جعلوهما قدوة لهم في الدنيا ؟!
|