فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[30] كما يمكن أن يتسافل الإنسان الى الحضيض حيث يقيض له الله سبحانه قرناء يزينون له سوء عمله فلا يهتدي أبدا الى السبيل ، كذلك يستطيع أن يسمو و يسمو حتى يصبح فؤاده مأوى لملائكة الله ، فئة تهبط و فئة تعرج متى ؟ حين يكفر بالطاغوت ، و يعلن توحيده على الملأ ، ويقول : ربي الله ، لا الأصنام لا الأنداد لا المجتمع الفاسد لا السلطة الطاغية .

إنه لا يكتفي بالإيمان في قلبه بربه ، بل يعلنه متحديا القوى المادية ، وبذلك يشق للناس طريق التوحيد بين أوغال الشرك .

[ إن الذين قالوا ربنا الله ]

إنهم قالوا ذلك ، و القول بذاته تحدي ، و التحدي بدوره دعوة . إنه دعوة بكسر حاجز الصمت ، و الخوف ، و مقاومة حالة الياس و السلبية .

إننا أمرنا بأن نعلن البراءة من المشركين ، و مما يشركون به ، أفلا نتلو سورة الإخلاص : " قل هو الله احد " ؟! إن المطلوب منا أن نقول كلمة التوحيد بما تحمل من مخاطر الرفض و التمرد و الثورة ، وهي حقا أعظم كلمة في عالم الإنسان ، لأنها مفترق الطريق بين العبودية و التحرر ، بين الذلة و العزة ، بين النار و الجنة .

[ ثم استقاموا ]


وماذا تعني كلـمة التوحيد من دون الإستقامة ؟ أوليس التوحيد بمعنى رفض الأنـداد ، رفض سلطة الطغاة ، و المترفين ، و حمير الأسفار ، فإذا عاد الانسان و خضع لهؤلاء الأنداد فإنه ينفي أصل التوحيد .

و يبدو أن الله سبحانه يهدي العبد الى معرفته ، و يدله على ذاته بذاته ، ثم يبتليه بألوان الفتن ، تارة في ماله ، و أخرى في جسده ، و ثالثة بتسليط الجبابرة عليه ، وهكذا ليمتحن إيمانه ، فإذا انهار وكله الى نفسه ، وأما إذا استقام نزل عليه ملائكته ليثبتوه.

وهكذا تتركز صعوبات الإستقامة في ايامها الأولى ، حيث لا تتنزل الملائكة ، وحيث يتساوى الناس في درجة الضغط الذي يتعرضون له لامتحان قوة إيمانهم ، أما في الــمرحلــة التالية فإن من استقام تهون عليه الضغوط لنزول الملائكة عليه بالسكينة و التأييد .

[ تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ]

من المستقبل وما يحمله لكم من آلام ، وهكذا يزيل الملائكة عن قلب المستقيم أثر أمضى سلاح تستخدمه قوى الشرك وهو سلاح الإرهاب . وحين نسير في الأرض نرى الخوف أعظم دعامة لحكم الطغاة و المستكبرين ، فإذا تجاوز إنسان أو شعب حاجز الخوف استعاد حقوقه و حريته واستقلاله .

[ ولا تحزنوا ]

على ما مضى من الخسار ، فلا تدع الملائكة قلوب أولي الاستقامة عرضة لأمواج التشكيك التي يبثها الشياطين فيها ، قائلين : إلى متى نقدم التضحيات ؟ ألا ترى سائر الشعوب كيف تنعم بالهدوء ؟ أولا تنظر الى صاحبك قد أضحى غنيا ،و زميلك بالدراسة أضحى اليوم أكبر خبير ، و جارك أصبح وزيرا ؟ أفلا يكفي ؟ إلى متى تعيش الغربة و الهجرة و الحرمان ؟ إن هذا النوع من الكلام يولد الحزن ، و بالتالي يسبب تراكم السلبيات ، و يوهن عزائم العاملين ، لولا تدخل الملائكة لإزالته ، ولكن كيف ؟

إن الملائكة يزيلون أثر الخوف و الحزن من أفئدة المستقيمين بأن يبشروهم بالجنة و نعيمها .

[ و أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ]

ولأن المؤمنين يتعرضون لضغوط مختلفة ، حيث يجرب الطاغوت و أعوانه من المترفين و المضللين كل وسائل الضغط عليهم ، فإن الملائكة لا تزال تتنزل عليهم ( ولا تنزل مرة واحدة ) فكلما تعرضوا لنوع من الضغط بشرهم الملائكة بما يقابله من النعمة عند الله ، حتى يزولأثر الضغط ولعل الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - يشير الى ذلك حين يقول :

" ومن اشتاق الى الجنة سلا عن الشهوات ، ومن أشفق من النار رجع عن الحرمات ، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات ، ومن ارتقب الموت سارع الى الخيرات " (1)فكل إغراء أو ضغط أو إرهاب في الدنيا يقابله من شؤون الآخرة ما يعاكسه ، و يزيل أثره النفسي ، حتى يستقيم المؤمن تماما .

و جاء في الحديث عن النبي ( صلى الله عليه و آله ) وهو يأمر بالإستقامة ، و يفسر(1) تحف العقول / ص 110 في حديث مفصل حول الايمان و دعائمه ، في أثناء الحديث عن دعائم الصبر .


الآية الكريمة :

" قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم ، فمن قالها حتى يموت فهو ممن استقام عليها " (1)و أبرز مظاهر الإستقامة الولاية ، و اتباع الخط السياسي المستقيم في ظل القيادة الشرعية ، ذلك لأن أعظم ما يتصارع عليه أبناء آدم هو قيادة المجتمع السياسية ، و للمؤمنين خطهم السياسي الواضح الذي يدعون اليه ، و المتمثل في قيادة الصالحين ، و الاستقامة علىهذا الخط تعني محاربة كل قوى الشرك و الجهل و النفاق في المجتمع ، والتي تتركز عادة في اتباع نهج أئمة الكفر و الضلال ، وكذلك حين يأتي احد المجاهدين من أتباع أهل بيت الرسول إلى الامام الرضا - عليه السلام - و يسأله عن الآية يقول له الإمام :

" هي والله ما أنتم عليه "

كذلك يقول الامام الباقر - عليه السلام - لرجل من شيعته الأبرار . (2)[31] من ارتقى ذروة الايمان عاش هنالك وحده ، و يخشى عليه وحشة الإنفراد ، فهاهم أصدقاؤه يتفرقون عنه لأنه يستقيـــم على الحق ، وهم يتساقطون تحت وطأة الضغوط ، حتى يقول مثلما قال إمام المتقين :

" ما ترك الحق لي من صديق "

وها هم أسرته يتخلون عنه ، و يقولون له لا تحملنا ما لا طاقة لنا به ..


(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 547

(2) المصدر


وها هو المجتمع الفاسد او اللامسؤول يواجهه ، أو لا أقل يتخلى عنه في ساعة المواجهة ، حتى لتكاد الدنيا تضيق به على رحبها ..

هنالك تتنزل عليه ملائكة الله ليعلنوا ولاءهم له و مساندتهم إياه .

ومن عاش مع الملائكة الموكلين بشؤون الكائنات لا يبقى غريبا . إنه يمشي في الإتجاه الصحيح مع كل الخليقة ، إنما أعداء الحق هم الغرباء ، لأنهم يعيشون ضد سنن الله في خلقه ، وفي الإتجاه المضاد لحركة الكائنات .

[ نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا ]

لقد عاش ابراهيم (ع) وحده في ذروة التوحيد ، فهل كان غريبا ؟ وكيف يكون غريبا يتنزل عليه جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل ؟

وحين وضع في المنجنيق ليرمى به في النار ، هرعت إليه سائر الملائكة الموكلين بشؤون الطبيعة ، و عرضوا عليه دعمهم له ، فلم يقبل ، إنما سلم أمره الى الله ، فجعل الله النار بردا و سلاما عليه .

[ وفي الأخرة ]

عندما تبلغ النفس التراقي ، و تهبط على ابن آدم كربة الموت ، و يقف أحباؤه حياله عاجزين عن تقديم أي عون له ، هنالك تهبط ملائكة السلام على من استقام من المؤمنين فيبشرونه بالجنة . الله أكبر ، ما أحلاها من بشارة ، وما أعظمها من نعمة .

وعندما يوضع الانسان في لحده ، و يتفرق عنه أبناؤه و أحباؤه ، وقد تركوه تحت التراب وحيدا غريبا ، تهبط ملائكة الله بالبشرى على المؤمن ، و يزيلون وحشته ،و يرافقونه حتى النشور ، و عندما يبعث الناس الى ربهم في صحراء المحشر " يوم يفر المرء مـــن أخيه و أمه و أبيه و صاحبته و بنيه " ، " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " ، " لكل امرء منهم يومئذ شأن يغنيه " ، هنالك يتقدم ملائكةالرحمة لمرافقة المؤمنين الى ربهم .

[ ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ]

لقد زهدوا في الدنيا و شهواتها ، فعوضهم الله بنعيم الآخرة ، وإذا كانت شهوات الدنيا مشوبة بالآلام ، و مشحونة بالمصائب و النكبات ، وهي سريعة الزوال ، فإن نعيم الآخرة التي تشتهيها نفوسهم صافية لا زوال لها .

بلى . إن الدنيا و الآخرة ضرتان ، فمن رغب في الآخرة زهد في الدنيا ، ومن أذهب طيباته في هذه الحياة الزائلة ، فسوف لا يجد نعيما في تلك الحياة الأبدية .

لقد رئي على إمام المتقين علي بن أبي طالب - عليه السلام - إزار خلق مرقع ، فقيل له في ذلك ، فقال :

" يخشع له القلب ، و تذل به النفس ، و يقتدي به المؤمنون ، إن الدنيا و الآخرة عدوان متفاوتان ، و سبيــلان مختلفان ، فمن أحب الدنيا و تولاها ، أبغض الآخرة و عاداها ، وهما بمنزلة المشرق و المغرب و ماش بينهما ، كلما قرب من واحد بعد من الآخر وهما بعد ضرتان " (1)

[ ولكم فيها ما تدعون ]

الدنيا دار السعي ، و الآخرة دار الجزاء ، وفي الدنيا لا يمكن أن تتحقق كل أماني(1) نهج البلاغة / خ 130


البشر ، ولا يمكن أن يرضي أحد أحدا ، لأن ادعاءات ابن آدم أكبر من حجم الدنيا نفسها ، و تمنياته أوسع من حياته على الأرض ، فكيف تتحقق جميعا ؟ بينما الآخرة دار واسعة ، أكبر من طموحات البشر و تطلعاته ، وهكذا تتحقق أماني المؤمنين بلا جهد أو سعي .

جاء في حديث مأثور رواه الإمام الباقر - عليه السلا م- عن رسول الله - صلى الله عليه و آله - :

" وليس من مؤمن في الجنة إلا وله جنات كثيرة ، معروشات و غير معروشات ، و أنهار من خمر ، و أنهار من ماء غير آسن ، و أنهار من لبن ، و أنهار من عسل ، فإذا دعى ولي الله بغذائه أتي بما تشتهي نفسه عند طلبه الغذاء من غير أن يسمي شهوته " (1)[32] و أعظم النعم لأهل الجنة أنهم في ضيافة الرحمن رب السماوات و الأرض رب العرش العظيم ..

[ نزلا من غفور رحيم ]

[33] و مثلما الايمان بالله ذروة الكمال و سبيل كل خير ، فإن الدعوة إليه أحسن المقال ، و طريق كل صلاح و إصلاح ، و لأن الدعاء الى الله خير الأعمال فقد اجتبى له الرب خير خلقه ، وهم الرسل ثم الأمثل فالأمثل من عباده الصالحين .

وحين يرفع الانسان صوته بالدعوة تتساقط الأوهام التي يبثها الشيطان في روع البشر ، كما تهتز الأصنام التي يصنعها في المجتمع !!


(1) نور الثقلين / ج4 - ص 548


الدعاء الى الله يعني محاربة الجبت و عبادة الذات ، كما يعني مواجهة الطاغوت و عبادة أولي القوة و الثروة .

الدعاء الى الله ينطوي على تزييف الدعوات الكاذبة الى القومية و العنصرية و الإقليمية وما إليها من ضلالات الشرك .

الدعاء الى الله يستدعي زكاة النفس ألا تسترسل مع الشهوات ، ولا تستفز بهمزات الغضب الشيطانية .

[ ومن أحسن قولا ممن دعا الى الله ]

أحسن قولا : لأن محتوى قوله الدعوة الى الغفور الرحيم .

و أحسن قولا : لأن اسلوب دعوته سليم ، فلأنها مجردة عن ذاته لا تتأثر بالمصالح الشخصيــة ، أو بالظروف المتغيرة ، فيختار أفضل السبل للدعوة ، يتواضع للناس ، و يحسن أليهم ، ولا يتجبر عليهم ولا يبحث في دعوته عن شهرة أو سمعة ، ولا يتأثر بعصبية .

إن دعوته بذاتها خير عظيم حظي به فهو يحمد الله أبدا على هذا التوفيق ، فلا يطلب على دعوته أجرا من الناس أو شكرا ، وإذا واجه إعراضا أو كفورا لا يلويه ذلك عن سبيل الدعوة ، لأن دعوته مدفوعة الثمن سلفا من عند ربه .

ثم إن دعوته ليست مجردة عن سلوكه . أنه يسارع الى تنفيذ شرائع الله ، و العمل الصالح ، و التسليم للقيادة الشرعية ، و الرضا بها ، مما يشهد بصدقه في دعوته ، كما يشهد على صدق دعوته ، فمن دعا الى الله حقا فقد عرف ربه ، ومن عرف ربه صلحت أفعاله ، ولم يطلبعلوا في الأرض ولا فسادا ، بل سلم الأمر لله و لأولىالناس برسول الله .

[ و عمل صالحا وقال إنني من المسلمين ]

فهو أول من يسلم وجهه لربه ، و يعلن عن ذلك ، و يتحدى - بدعوته - الطغاة و الجبابرة ، كما و يجابه بها شيطان نفسه النزاعة الى الرئاسة و السلطة .

وهكذا تبصرنا الآية - بكلمات وجيزة بليغة - بشواهد الصدق في الدعاة ، وكيف أنهم الأحسن قولا ، و الأسبق الى تهذيب النفس من شوائب الهوى في الدعوة ، و تهذيب اسلوب الدعوة من الرعونة و الخشونة و الكلمات النابية ..

إن من الناس من يدعو الى الله ، و يختار وسيلة معينة لهذه الدعوة ، مثلا ينتمي الى تنظيم رسالي ، أو ينخرط في سلك العلماء و الخطباء ، أو يصدر صحيفة ، أو يفتح دارا للنشر .. و يقف الشيطان له بالمرصاد فيضله عن السبيل فيحرف اهتمامه من الله الى تلك الوسيلةالتي اختارها ، فإذا به يجعل تنظيمه أو جماعته أو مؤسسته محور دعوته ، و يصارع من أجلها سائر الدعاة الى الله ، و بدل ان يذوب نفسه في بوتقة الدعوة تراه يذوب دعوته في بوتقة نفسه ، و يضل ضلالا بعيدا .

ولعل خاتمة الآية تعالج هذه الحالة ، إذ الإسلام هو التسليم ، و التسليم يتنافى و الصراعات المصلحية عند الدعاة يقول أمير المؤمنين الامام علي - عليه السلام - :

" لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي ، الإسلام هو التسليم ، و التسليم هو اليقين ، و اليقين هو التصديق ، و التصديق هو الإقرار ، و الإقرار هو الأداء ، و الأداء هو العمل " (1)(1) نهج البلاغة / خ 125


[34] الذي يدعو الى الله يختار أحسن القول ، فما هو الأحسن ؟ هناك الحسنة و السيئة و الفارق بينهما كبير ، ولكن للحسنة درجات متصاعدة ، كما أن للسيئة دركات متسافلة ، و الداعي الى الله يختار الأحسن بين درجات الحسنة ..

[ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ]

قال الشيخ الطبرسي : و المعنى : أن الحسنة و السيئة متفاوتتان في أنفسهما ، فلا تستوي الأعمال الحسنة و الأعمال السيئة ، فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان . (1)[ ادفع بالتي هي أحسن ]

وحسب هذا التفسير ، معناه : أختر من الحسنات أفضلها ، ومن الوسائل أبلغها أثرا .

[ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ]

إن الداعي الى الله يدل الناس الى ذروة الكمال ، ولا يوفق لهدفه إلا إذا اكتملت نفسه أولا ، و استطاع أن يتعالى على غضبه و مصالحه ، فإذا كانت بينه وبين أحد من الناس عداوة لا يستغل مركزه لتحطيمه ، بل يسعى إليه ليهديه حبا له ، و حبا لدعوته ، إذ أن وجودحزازات بين الناس و صاحب الدعوة تؤثر سلبيا على الدعوة ، ولكن ماذا يملك الداعية في هذا السبيل ؟ إنه يملك نفسه فيسخو بها لربه و لدعوته ، فإذا به يتنازل عن حقوقه ، وعما يسمى عند الناس بالكرامة الشخصية ، و يطفق بالإحسان الى أعدائه .


(1) جوامع الجامع / ج 2 - ص 482


ثم يستخدم حكمته في اختيار السبيل الأحسن ، ذلك أن التدبير و حسن الإرادة في الدعوة الى الله ذوا أهمية كبيرة ، بالرغم من صعوبتهما البالغة ، إذ ان حسن الإدارة بحاجة الى علم غزير ، و تفكر مستمر ، و مقدرة فائقة في تنفيذ المهام ، مثلا يستدعي التدبير - عادة - الكتمان ، و اتباع السبـــل الخفية في العمل على ما نحمل من مشاق كبيرة ، ولكن أنى كانت الصعاب فإن الكتمان وسيلة هامة لإنجاح مهام الدعوة . أولم يقل الرسول - صلى الله عليه و آله - :

" استعينوا في أعمالكم بالصبر و الكتمان " ؟

وهنا نعرف عمق تفسير أهل البيت - عليهم السلام - حيث جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق - عليه السلام - :

" إن الحسنة التقية ، و السيئة الإذاعة " (1)ثم إن طموح الداعية عال حيث لا يسعى الى تجنب أذى العدو ، بل الى جعله وليا حميما له . إنه يسعى أبدا لكسب الناس لدعوته .

[35] إنها القمة السامقة في الخلق الرفيع ، لن يبلغها إلا من تميز بأمرين : الصبر و الحلم .

[ وما يلقاها إلا الذين صبروا ]

فمن تجرع مرارة الصبر أوتي الخلق الرفيع . و الصبر في جملة معانيه التطلع الى المستقبل ، و معايشة أحداثه ، بتجاوز اللحظة الراهنة .

وهناك علاقة قريبة بين الصبر و العلم ، فمن أحاط معرفة بالمستقبل ، و طبيعة سير(1) مجمع البيان / ج 5 - ص 13


الأحداث ، لم يستبد به الحدث الحاضر و مؤثراته ، ولعله لذلك قال ربنا سبحانه :

[ وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ]

فمن كان حظه عظيما من اليقين و الحكمة حسن خلقه ، و صبر على المكاره .

و الآية تشير الى أن من يرد الإساءة بالإحسان يكون مجمل حظه عظيما ( حيث جاءت الكلمة مطلقة ) مما يعني أنه ينتصر في صراعه مع منافسيه و اعدائه ، و يتمتع بالتقدم و الرقي في كافة الحقول .

[36] لأن الإستقامة ، و رد الإسائة بالإحسان ، و الصبر ، صعب مستصعب ، فإن الإنسان الذي خلق من ضعف قد يسقط تحت الضغوط ، فلا ينبغي اليأس و الإسترسال في الهبوط ، بل لابد من تجديد العزم ، و تجاوز حالة الضعف ، و الإعتصام بحبل الله ، و الإستعاذة به .


[ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ]

أي دفعك الشيطان دفعا الى الإنحراف في حالة من حالات الضعف الذي يعتري البشر عادة ..

[ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ]

ذلك أن ضعف البشر لا يجبره سوى قوة الرب ، فحين تذكر ربك ، و تتجه إليه بقلبك ، يصلك المدد من الملائكة الذين يثبت الله بهم أقدام المؤمنين عند مظنة الزلل .

إن الشيطان الغوي يجند لمحاربتك جنوده ، و يوسوس إليك بأمانيه و غروره ،و الريب و اليأس ، و لكــــن إذا أقبلت إلى ربك ، و ذكرته في سرك ، هرب إبليس و جنوده ، و خرجت منتصرا .

و كلمة أخيرة :

إن سياق الآيات في هذا الدرس يهدي الى أنها تعالج وضع الدعاة في أشد الظروف ، حيث يحتاجون الى الإستقامة ، و رد الإساءة بالأحسان و الصبر ، ولا ريب أن الدرع الحصين لهم هو التقية ، وهي بحاجة الى أناة و حكمة ، و صبر عظيم ، و إن كثيرا من الحركات الرساليةفشلت في صراعها ضد الطغاة بسبب فقدان بند أو أكثر من هذا البرنامج في حياتهم ، و ذهبت تضحياتهم الكبيرة سدى ، فعلينا ألا نستهين ولا بواحدة من هذه الوصايا ، بل نتمسك بها جميعا و بقوة حتى يأذن الله لنا بالنصر .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس