فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


الاطار العام


اسم السورة :

اتخذ اسمها من فاتحتها التي شرعت بحمد الله على ما فطر السموات و الارض .

تذكرنا سورة فاطر بمحامد ربنا الكريم الذي فطر السموات و الأرض ، و جعل الملائكة رسلا ، و أتقن الصنع ، و أحسن التدبير ، و هو العزيز الحكيم .

ولان معرفة الرب ينبوع كل خير ، وأصل كل فضيلة و خلق كريم ، فإن القرآن يــشفي صــدور المؤمنين من أوساخ الغفلة ، ببيان أسماء الله و كريم فعاله و واسع رحمته .

فله المــلك و التدبــير فما فتحه من رحمة لا ممسك لها ، و ما أمسكها فلا مرسل لها .

وضلالة البشر عن هذه الحقيقة تدعوه الى الشرك بالله العظيم ، و يذكر القرآن الناس جميعا بأن فاطر السموات و الأرض و مبتدعهما بدء هو الذي يرزق الانسانمنهما ، فهو الحقيق بالعبادة و حده لا اله الا هو فانى يؤفكون !

ولكي يعرف البشر ربه يحتاج الى إزالة حواجز مثل : حب الدنيا و الغرور بها ، و اتباع المضلين المغرورين بها ، و اتباع الشيطان أو عدم الحذر الكافي منه ، و يذكرنا القرآن بأن و عد الله ( بالجزاء ) حق ، فعلينا إذا تجاوز هذه الحواجز ، و يبين جزاء الكفار و حسن جزاء الصالحين .

و بعد أن يبصرنا السياق بحاجز تزيين الآعمال ( و لعله العادة السيئة ) يعود ليذكرنا بربنا العزيز تمهيدا لبيان محور هام ( و لعله الأساسي ) في هذه السورة . ما هو ذلك المحور ؟

يتطلع الإنسان نحو العزة و الغنى ، و لكنه يضل - عادة - الطريق و بدل أن يحصل عليهما بالإيمان بالله و العمل الصالح ، تراه يؤمن بالشركاء المزعومين ، و يمكر السيئات ، و يذكرنا القرآن بأن الأنداد لا يملكون قطميرا ، و أن المكر السيء لا يحيق الا بأهله ، وأن السبيل القويم لبلوغ الطموح المشروع في العزة و الغنى هو سبيل الله ، و معرفة أنه الفاطر الرازق العزيز الغني ، وأنه المالك الحق ، و أنه الحكيم الذي يجازي كلا بعمله ، و أنه يحب الصالحين .. و خلاصة المحور : تبصير البشر بالسبيل القويم لبلوغ تطلعاته المشروعة .

هكذا يذكر السياق بأن الله أرسل الرياح لتثير السحاب ، و ينزل الغيث حيث يشاء فيحيي به الأرض بإذنه ، فهو الرزاق أو ليس الزرع و الضرع من الغيث ؟

و هكذا ينتشر الناس في يوم البعث للحساب .

و من أراد العزة فلله العزة جميعا ( هكذا ينبغي الحصول على العزة ، و هي أعظم طموح عند البشر ، لأنها تعني الأمن و السلامة و الذكر الحسن عند الرب لا عند الطغاة و الأنداد ) .


و لكن كيف ؟ و من هو الذي يعزه الله ؟

الجواب : صاحب الكلم الطيب و العمل الصالح ، أما المكر السيء فيمحقه ولا يجنى منه إلا البوار !

منذ ان كنا نطفة أو جنينا ، الى الولادة ، وحتى زيادة العمر و نقصانه ، كل ذلك بيد الله ، و هو مسجل في كتاب ، و هو عند الله يسير ( فلماذا نطلب الغنى من غيره ؟ أوليس خلقنا و أجلنا بيده ، فلو قصر أعمارنا ماذا تنفعنا العزة أو الغنى ؟! ) .

و بيده الملك . انظر الى هذين البحرين ، أحدهما ملح أجاج ، و الثاني عذب فرات . إنهما لا يستويان ( فلا يستوي الصالح ولا المسيء ) و لكن مع ذلك يرزقنا الله منهما لحما طريا ، و حلية نلبسها ، و ذلل ظهرهما للسفن الماخرة ، لتنقل البضائع ، و لتهدينا الى نعمهفنشكره بها .

و هو الذي يولج الليل في النهار ، و يولج النهار في الليل ، و سخر الشمس و القمر ، و حدد مسيرتهما ، فهو المالك حقا ، بينما لا يملك الشركاء المزعومون من قطمير ( فلابد أن نبحث عن الغنى عند ربنا المالك ، و ليس عند الطغاة و المترفين ) .

و هم لا يكشفون الكرب عند الشدائد ، فلا يسمعون الدعاء ، و لا يستجيبون لو سمعوا ، و لا ينفعون يوم القيامة ، ولا أحد أفضل من الخبير ينقل النبأ .

و يؤكد السياق على فقر البشر - كل البشر - الى ربه ، و أن الله هو الغني ( فلا يجوز الخضوع لهذا و ذاك طلبا لغناه ) .

و هل هنالك فقر أعظم من أن الله إن يشأ يذهبهم جميعا و يأت بآخرين بيسر ؟


( و يبدو أن المحور الثاني الذي يتحدث عنه القرآن هنا بتفصيل ، و هو محور المسؤولية ، يتصل بالمحور الاول ، اذ أن معرفة الانسان بأنه مجازى بعمله يجعله بعيدا عن المكر السيء ، مندفعا نحو العمل الصالح ، يبلغ أهدافه بالسعي و الاجتهاد عبر المناهج السليمة ) .


لا أحد يحمل عن أحد ثقل أعماله و وزرها حتى ولو كان ذا قربى ( و لا يفهم هذه الحقيقة و يخشى ذنبه الا من يخشى ربه بالغيب و يقيم الصلاة و يتزكى ) وانما ينذر الرسول من يخشى الله و يقيم الصلاة و يتزكى ، و انما يتزكى لنفسه .

( و يجب ان يكون مفهوما و بوضوح هذا الامر : إنه لا يستوي الكافر و المؤمن الصالح ، اذ هذه المعرفة تساهم كثيرا في اختيار المنهج السليم لبلوغ الاهداف ) .

لا يستوي الاعمى و البصير ( فلا يستوي الكافر والمؤمن ) ولا الظلمات ولا النور ( فأين الضلالة و أين الهدى ) ولا الظل ولا الحرور ( السلام و الأمن و العافية خير من الحرب و الخوف و المرض ) وما يستوي الاحياء ( الذين يستمعون كلام الله و يحيون به ) ولا الاموات .

و ان الله بعث الرسول منذرا بعذاب نكير يصيب المكذبين كما أرسل في كل أمة نذيرا و مبشرا الصالحين بأن لهم أجرا حسنا .

( و المحور الثالث في السورة فيما يبدو هو الاشارة الى اختلاف ألوان الجبال ، و ألوان البشر و الدواب و الانعام ، و وعي العلماء لإشارات هذا الاختلاف ، و أنهم المصطفون الذين أورثهم الله الكتاب على اختلاف مستوياتهم ، و جزاءهم الحسن عند ربهم ، و لعله يتصلبالمحور الأول في بيان نموذج حي عمن اتبع رضوان ربه فهداه الله الى السبيل القويم للعزة و الغنى و الجزاء الحسن ) .


ألا ترى إلى الغيث حين ينزل من السماء يخرج الله به ثمرات مختلفا ألوانها ( إن في ذلك لآية على التدبير و حسن التقدير و دقة النظم ، و أن الله مهيمن على الخليقة ) .

و اذا نظرت الى الجبال رأيت فيها جددا بيضا و حمرا و غرابيب سود ( و هي تشهد بطبقات الصخور في الارض ذات الطبيعة المختلفة ، و تشهد أيضا على السيطرة التامة ) .

و هكذا الناس و الدواب و الانعام كل منها مختلف ألوانه ( و أختلاف اللون مع و حدة الخصائص يشهد على حسن التدبير ، كما يشهد على أن الخليقة تختلف ، و هكذا الناس ليسوا سواء في درجاتهم ، فليس سواء عالم و جهول ) إنما يخشى الله من عباده العلماء ، و إن الذين يتاجرون مع الله بتلاوة الكتاب ، و إقامة الصلاة ، و الإنفاق في سبيله سرا و علانية فان تجارتهم لن تبور ، و إن الله يزيدهم من فضله ، و هو غفور و شكور .

و الكتاب الذي أنزل على الرسول حق و يصدق الذي بين يديه ، و قد أورثه الله الذين اصطفاهم من عباده ( وهم ورثة الأنبياء من علماء أهل بيت الرسول (ص) ) فمنهم ظالم لنفسه ( اذ لم يتحمل علم الكتاب كما ينبغي ، بل خلط عملا صالحا وآخر سيئا ) و منهم مقتصد ( قدحمل الكتاب بقدر مناسب و هو العالم الرباني الذي يصوم نهاره و يقوم ليله ) و منهم سابق بالخيرات ( و هو الإمام الذي بلغ حق اليقين ) .

و جزاؤهم جميعا جنات عدن يدخلونها يحلون فيها أساور من ذهب و لؤلؤا ، و هم يحمدون الله على ما أذهب عنهم الحزن ، بينما الكفار يخلدون في العذاب الشديد ، و لا ينفعهم الصراخ ، و يقال لهم : ألم نعمركم ما يكفيكم للتذكرة ، و أرسلناإليكم النذير ؟

( و يعود السياق لبيان أسماء الله الحسنى ، مما يوجب علينا تقواه و الحذر من عقابه ) .

فالله يعلم غيب السموات و الارض ، و يعلم ما في الصدور ( فعلى الانسان مراقبته علانية و سرا ) و هو الذي يستبدل قوما بآخرين ، و ان عاقبة الكفر مقت و خسارة ، وأما الشركاء المزعومون ( لا يقدرون على نجاتهم من عذاب الله ، لأنهم لا يملكون شيئا ) فهم لم يخلقوا شيئا من الارض ، و ليسوا مؤثرين في تدبير السموات ، ولم يحصلوا على تخويل من الله بإدارة شؤون الخلق ، و إنما يعدون أنفسهم غرورا ، و الله يمسك السموات و الارض و يمنعهما من الزوال ( فما الذي يصنعه الطغاة و المترفون ؟ ) .

( و لعل الآيات الأخيرة من السورة إعادة تأكيد على محاورها ) ببيان أنهم أقسموا بالله انهم يبادرون الى قبول النذير و أكثر من غيرهم ، و لكنهم ازدادوا نفورا بعد أن جاءهم النذير ( و السبب أنهم كانوا يريدون العزة بالكفر و الاستكبار ، و يريدون المال بالمكر، أما الكفر فقد أورثهم المقت و الصغار ، و اما المكر فقد أورثهم الفقر و عاد عليهم بالخسران ) ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله .

( و ينذرهم السياق بأنهم يتعرضون لعاقبة الكفار من قبلهم ) فهل ينتظرون ذلك المصير الذي جرت عليه سنن الله التي لا تبديل فيها ولا تحويل ؟! دعهم يسيرون في الأرض لينظروا عاقبة الظالمين من قبلهم .

( و تختم السورة التي تركزت في بيان تدبير الله للخلق ببيان أن الله لو أخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ، و لكن يؤخرهم الى أجل مسمى فاذاجاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا ( بعض يعذبهم و بعض يغفر لهم ) .

و خلاصة القول في إطار هذه السورة : انها تدور حول فكرة أساسية و مؤثرة في تربية الانسان و تزكيته ، و هي إن الله هو المهيمن عليه ، و هو الذي يدبر أموره و شؤون الكون ، ذلك أن الانسان الذي يشهد بذلك ليس فقط يطمئن إلى رحاب ربه ، و إنما أيضا يدفعه هذا الشعور الى أن يحدد تصرفاته و سلوكه وفق مناهج الله سبحانه و تعالى .

و هناك ايحاء آخر لهذه الفكرة ، و هو ان لا يطمئن البشر إلى رخاء ، ولا ييأس عند ضراء .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس