فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


أنتم الفقراء الى الله
هدى من الآيات

يتشبث الإنسان ببعض الخيوط الواهية ( العنكبوتية ) ، و يترك ذلك الحبل المتين الذي لابد أن يعتصم به ، و تذكرنا آيات القرآن بأن مدبر السموات و الأرض هو الله ، فهو الذي يولج الليل في النهار ، و يولج النهار في الليل ، و سخر الشمس و القمر ، و أن له الملك، فلماذا لا ندعوه ، بينما الذين يدعونهم من الشركاء لا يملكون حتى بمقدار قطمير .

و بالذات عند الضراء ، حيث يتحسس البشر بضعفه الحقيقي ، لا يعقل هؤلاء الأنداد شيئا اذ لا يسمعون النداء ، و لو سمعوا لم يستجيبوا .

أما يوم القيامة فهؤلاء لا يشفعون لأحد اذ يكفرون بالمشركين .

ثم يؤكد ربنا هذه الحقيقة قائلا : " يا أيها الناس انتم الفقراء الى الله و الله هوالغني الحميد " لماذا ؟

لانه يستطيع بأقل من لحظة واحدة أن يفنيكم عن أخركم ، و ينشىء مكانكم مجموعة بشرية جديدة ، و هل هناك فقر أكبر من هذا الفقر ؟ فالإنسان في وجوده و في استمرار بقائه يحتاج الى ربه ، و هل هناك غنى أكبر من غنى الرب ، الذي لو شاء اذهبكم ، و اتى بخلق جديد ؟ وهذا هين عليه و يسير .

ثم يحدثنا السياق عن مسؤولية الإنسان أمام ربه عن جميع أعماله ، و انه لا يستوي عند الله الصالح و الكافر ، كما لا يستوي الأعمى و البصير ، ولا الظلمات ولا النور ، ولا الظل و لا الحرور ، و لا الاحياء و الاموات .

فلا يجوز الإعتماد على الأنداد للهروب من المسؤولية كما لا يمكن القاؤها على الآخرين .

و إنما جاء الرسول نذيرا ( بأن السيئات تستتبع عقابا ) و هو بالتالي لا يحمل من تبعات أمته شيئا .


بينات من الآيات :

[ 13] [ يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل ]الليل و النهار يلج أحدهما في صاحبه بصورة مستمرة ، بسبب حركة الأرض حول الشمس .

قال بعض المفسرين : إن كلمة " يولج " تدل على الإستمرار ، لأنه في كل لحظة يتم إيلاج ، ففي هذه الساعة حكم الليل في أحد البلدان ، و بعد دقيقتين سيحل الليل على بلد آخر ، و في المقابل يحل النهار على بلد في نفس الوقت ، و الظهرفي بلد ثالث .

و هناك تفسير آخر يحتمله الكلام هو إن الليل و النهار يأخذ أحدهما من الآخر في فصول السنة فمرة يكون الليل أطول و مرة النهار .

[ و سخر الشمس و القمر كل يجري لأجل مسمى ]

الشمس و القمر يجريان ، و لكن ليس إلى مالا نهاية ، و كذب من قال : إن الشمس و القمر أبديان ، كلا .. فشمسنا هذه مثلا في حالة الكهولة ، و كل مافي الكون يؤكد على النهاية ، فهذه الإنفجارات الهائلة في الشمس شاهد على تناقصها بشكل دائم ، و الإنفجارات التي نسمعها بين الفينة والأخرى لبعض الشموس تؤكد لنا أنه لابد من نهاية لشمسنا أيضا .

[ ذلك الله ربكم له الملك ]

من الذي أولج الليل في النهار ، و أولج النهار في الليل ، و من الذي سخر الشمس و القمر ، كل يجري لاجل مسمى ؟ إنه الله ربكم ، وهو المالك حقا .

[ والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ]

القطمير هو قشر النواة الرقيق ، و ما يملك الذين تدعون من دونه مثلها .

[ 14] [ إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ]فكيف يسمعون نجواكم أو سركم ، أو حين تدعونهم في الظلمات ؟ ولو افترضنا أنهم سمعوا دعاءكم لم يستجيبوا لكم ، لانهم لا يملكون دفع الضر عن أنفسهم ، فكيف بجلب الخير لكم ؟!


[ و يوم القيامة يكفرون بشرككم ]

الملائكة والانبياء كعيسى و الاولياء الصالحون سيكفرون بشرككم ، و سيتبرأون منكم ومن عبادتكم لهم ، كما يكفر الأنداد بكم و بشرككم .

[ ولا ينبئك مثل خبير ]

الخبير هو الذي خبر الشيء ، و عرف أبعاده ، و من أخبر من الرب وهو الخالق المحيط بكل شيء علما ؟

[ 15] إن الإحساس بالغنى الذي يسميه القرآن بالاستغناء ، و الذي يدعو صاحبه إلى البطر و الطغيان ، إنه مرض خطير ، إذ يجعل الإنسان يعيش الوهم ، ولا يعايش الحقائق ، لذلك يذكرنا ربنا بواقع العجز المحيط بنا .

[ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ]

و من أشد فقرا منا ، و قد أركزنا الرب في العجز و الضعف و المسكنة ، لأن كل شيء عندنا منه سبحانه . يقول الإمام الحسين ( عليه السلام ) في تضرعه المخصوص بيوم عرفة :

" الهي ! أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيرا في فقري "[ و الله هو الغني الحميد ]

الغنى عادة ما يكون مع اللؤم ، و لكن الله غني حميد ، فهو غني و يعطي من غناه للآخرين ، و هو غني لا يبخل على الآخرين ، بل " لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق " (1) و هو حميد يحمد على غناه .


(1) الإسراء / 100 .


[ 16] و من آيات فقرنا نحن البشر قدرة الله المحيطة بنا حيث يهلكنا إذا شاء و يستبدل بنا غيرنا .

[ إن يشأ يذهبكم و يأت بخلق جديد ]

[ 17] يستطيع ان يذهبكم جميعا ، و يستبدلكم بغيركم ، يخلقهم بيسر ، لأنه لا يمارس في خلقه علاجا ولا يمسه لغوب ، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .

وفي الحديث عن الامام الصادق - عليه السلام - قال :

" خلق الله المشيئة قبل الأشياء ، ثم خلق الاشياء بالمشيئة " (1)فعندما يشاء شيئا فقد حدث الشيء ، و في الأثر : " أمره بين الكاف و النون " .

[ و ما ذلك على الله بعزيز ]

لنفترض أن الله سبحانه و تعالى شاءت مشيئته المطلقة - التي لا يحدها شيء - أن ينهي وجود الكون كله . هل يسأله أحد عن ذلك ؟ كلا ..

فالله يفيض نور الوجود من ينبوع رحمته الواسعة لحظة بلحظة ، و لو توقف هذا الفيض لحظة واحدة لتوقف كل شيء ، فهل نحن أغنياء أم ربنا الحميد ؟!

ماذا نستلهم من هذه الحقائق ، و كيف ينبغي أن تنعكس على أنفسنا وسلوكنا ؟


(1) التوحيد للصدوق / ص 339 .


الجواب :

1 / لأن الله غني حميد فهو يفيض سيبه على الخليقة ، الا اذا عصوه و غيروا ما بأنفسهم بغيا و ظلما ، و هنالك يجازي الظالمين جزاءا وافيا ، ولا يتحمل أحد ثقل الجريمة عن أحد ، فلا ينفع إلقاء المسؤولية على الآخرين في محكمة العدل .

2 / إن من يعمل الصالحات يجازيه الله فهو إذا يعمل لنفسه .

[ 18] [ ولا تزر وازرة وزر أخرى ]

الوزر : الحمل الثقيل ، و الوازرة : النفس البشرية التي حملت ثقلا .

و معنى هذه الآية : إنه لا تحمل نفس ذنب نفس أخرى . لماذا ؟

لأن تلك النفس لها ثقلها و حملها ، فلا تستطيع أن تتحمل حمل نفس .

[ و إن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ]و قد قال الله عن لسان الكافرين : " وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هو بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون " . (1)إنك إن تدع إنسانا ما أن يحمل عنك مسؤوليتك ، فلن يحمل منها شيئا ، لأن كل إنسان يأتي و هو يحمل ما يكفيه من المسؤولية ، و يجب ان يتحدى الضغوط و الاهواء .


(1) العنكبوت / 12 .


إنك مسؤول عن عمرك و شبابك ، و يقظتك و نومك ، و سعيك و خمولك ، و إيمانك و كفرك ، فعلينا أن نعقد العزم على حمل مسؤولياتنا بقوة حتى يأتينا اليقين .

و لكن كيف نفهم هذه الحقيقة الكبرى .

بما يلي :

نخشى ربنا بالغيب .

[ إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب ]

لاننا ما دمنا لا نؤمن بالغيب فلن نفهم الحقائق .

2 - نقيم الصلاة .

[ و أقاموا الصلاة ]

3 - نزكي أنفسنا .

[ و من تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير ]

فاذا آمنت بالغيب ، و أقمت الصلاة ، و ربيت نفسك ، فأنت وحدك المستفيد .

[ 19 - 22] في الدنيا نرى الناس بعين واحدة ، من يتزكى ومن لا يتزكى ، و من قام الليل و من نام ، إنك تراهم سواء ، و لكنهم يختلفون عند ربهم .

و القرآن يؤكد لنا هذه الحقيقة في آيات كثيرة من القرآن ، فالذي زوده الله بالبصيرة ، و أصبح يرى الحقائق بهدى الرب ، يختلف عمن هو أعمى ، قد ترك بصيرته لهواه ، و هدى الله لضلالة إبليس .


[ وما يستوي الأعمى و البصير ]

فالذي انتفع بنور عقله يعيش في ضياء الوحي ، أوليس شرط الرؤية وجود بصر عند الإنسان و وجود نور على الطبيعة ؟ كذلك المؤمن مزود بنور العقل ، و يعيش في عالم النور نور الرسالة الالهية ، بينما الآخر تلفه ظلمات الجاهلية .

[ و لا الظلمات ولا النور ]

و الذي يعيش في النور بصيرا تطمئن نفسه ، و يقيه الله من الكوارث و المصائب فهو في ظل الله ينعم بالسلامة ، بينما الآخر يلفحه الحرور و هو الحر الشديد .

[ ولا الظل و لا الحرور ]

و المؤمن حي لأنه يستفيد من الإنذار فيجتنب المخاطر ، بينما الكافر ميت لا يتفاعل مع محيطه .

[ و ما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء ]القلب الحي يسمع كلام الله .

[ و ما أنت بمسمع من في القبور ]

أما القلب الميت الذي تراكمت عليه الآثام ، و اختفى في قبر الذنوب ، فانك لا تستطيع ان تسمعه .

[ 23] [ إن أنت إلا نذير ]

لأن هدف الرسالة ليس أكثر من الإنذار ، أما أن تسمع لهذا الإنذار أو لا تسمعفتلك مسؤوليتك .

لا تنتظر أن يجبرك أحد على الإيمان ، بل أنت الذي يجب أن تسعى نحو الهدى .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس