فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 9] إن المؤمن يجعل الحياة مدرسة ، و يجول ببصره في أرجائها ليزداد وعيا و هدى ، و من أكثر تجليات الحياة روعة ساعة انبثاقها عندما يأمر الله الرياح لتحمل السحب الثقيلة بالبركات الى موات الارض حيث يحيط السكون بكل شيء فيحييها الرب بها .

[ و الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا ]

الرياح تثير السحاب ، كما يثير الزارع الارض للزرع ، فترسله كيفما يشاء الله .

[ فسقناه إلى بلد ميت ]

و كلمة " فسقناه " تدل على أن ربنا هو الذي يدبر الغيث فيرسله الى بلد ميت فيحييه ، و سقاية الغيث ليست فوضى انما هي خاضعة لعمل بني آدم ، فليس مطر سنة أقل من مطر سنة أخرى في بلد ، و لكن عمل البشر هو الذي يزيده أو ينقصهتماما ، و ما الرياح الا وسيلة لان الله أجرى الأمور بأسبابها .

[ فأحيينا به الأرض بعد موتها ]

تعال إلى أرض موات لتجد البشر صرعى الجوع ، و الاحياء في ضمور ، وأديم الارض يشكو العطش ، فإذا أنزل عليها الرب الماء اهتزت ، و دبت الحيوية في الانسان ، و انتعش الأحياء . إن هذا مظهر من مظاهر انبثاق الحياة .

[ كذلك النشور ]

[ 10] و كما الارض يحييها الرب بالغيث ، و كما الأموات ينشرهم كيف يشاء يوم القيامة ، كذلك المجتمع المتخلف الذي يحيط به سكون المقابر يحييه ربنا بعزته ، فإذا أراد المجتمع الإستقلال و التقدم و العزة و بالتالي الحياة فعليه أن يعرج الى الله بالعمل الصالحو الكلم الطيب .

هذه قدرة الله أن جعل - هذا البلد الذي مات فيه كل شيء - ينبض بالحياة ، فكيف يكفرون بالبعث و النشور ، أفلا يؤمنون بأن ربنا قادر على أن ينزل مثل هذا المطر على أجداثهم ، فتنمو فيها الحياة ، مثلما ينموا الزرع ، و يخرج الناس من قبورهم كما تخرج النباتات ؟
! و قد دلت بعض الروايات على هذه الفكرة ان الله يمطر السماء أربعين صباحا ، فتنبت الاجسام فتكون الارض كما رحم الام .

[ من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ]

لا عند الشركاء أوليس ( من اعتز بغير الله ذل ) ؟!

[ إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه ]


الكلم الطيب هو العقيدة الصالحة ، لأن الكلمة في القرآن لا تدل على اللفظ ، بل على ما ورائها من معنى ، كما قال ربنا سبحانه : " و مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء " و قد فسرت هذه الآية بالقيادة الرسالية ، ولا ريب ا ن سنامالعقيدة الصالحة و مظهر صدق الانسان في إيمانه هو التسليم للقيادة الإلهية ( الولاية ) و الكلم الطيب يصعد الى الرب و يصعد معه صاحبه معنويا . أو ليس الإيمان هو أثقل ما في ميزان العبد ، و ما عبدالله بمثل التوحيد ؟

ولا ريب ان الكلم الطيب - كما الشجرة الطيبة - تنتشر فروعها في كل أفق ، فمن العقيدة الصحيحة يشع التسامح و الحب و نبذ العصبيات و الافكار اليائسة والسلبية ، و كل أولئك يقرب العبد الى ربه زلفى .

كما أن العمل الصالح يرتفع الى الله و يرتفع صاحبه به فيتقرب اليه ، و بالكلم الطيب و العمل الصالح يصل المجتمع الى العزة الالهية .

و قد ذكر للعمل الصالح تفسيران :

التفسير الأول : إن العمل الصالح يرفعه الكلم الطيب (1) فالعقيدة الطيبة ترفع العمل الصالح ، لأن عامل الحسنة بلا إيمان لا يقبل منه " انما يتقبل الله من المتقين " .

التفسير الثاني : إن العقيدة الصادقة و الكلم الطيب يرفعه العمل الصالح ، فالعمل الصالح بمثابة الأجنحة للطير .

و تتجلى هذه الحقيقة في الحياة الإجتماعية بأن الكلمة الطيبة و العمل الصالح(1) التفسير الكبير : الامام الفخر الرازي / ج 26 / ص 8 .


يرفعان المجتمع الى الأعلى دائما حيث العزة الإلهية . كيف يتم ذلك ؟

كما القارب يسير مع التيار كذلك الحياة تسير مع السنن الحاكمة عليها ، فمن مشى مع تلك السنن حملته الحياة إلى الأعلى ، و من عارضها خاب سعيه و بارت خطته .

فالحقد و البغضاء و التهمة والعداوة تفصم عرى المجتمع ، و قد بنى الله الحياة على أساس الوحدة لا التفرقة ، فتيار الحياة يجري باتجاه التجمع ، و هل يصعد ذلك التيار إليه سبحانه ؟! كلا .. إنما الصاعد إليه الحب و التعاون و الإيثار .

إن الكون قائم على أساس البناء لا الهدم ، و ان الذي يبني يتقدم على الذي يهدم لأن سنن الله تؤيد الذين يبنون ، و يخطىء أولئك الذين يمكرون السيئات ، و يعتقدون أن باستطاعتهم أن يتقدموا بها ، فليس هؤلاء فقط لا يصعدون الى الله ، ولا ينالون من عزة الله شيئا ، بل لهم عذاب شديد .

[ و الذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ]

المكر هو الحيلة ، و من يعيش عليها لا يفلح .

[ و مكر أولئك هو يبور ]

عملك الصالح يرفعه الرب ، و مكر أولئك ينزله ، و يبور أي يفسد ، و كثير من الناس الذين يبتزون الناس ، كالمهربين و المحتالين ، نجدهم ربما يربحون مرة ربحا خياليا ، و لكنهم بالتالي يخسرون .

و العزة يعني أن تبحث عن الطريق القويم ، فتمشي فيه ، وآنئذ سوف تجد أن سنن الحياة كلها تخدمك .


[ 11] ويؤكد السياق شمول تدبير الله لشؤون الإنسان ، و يبين كيف تجري تقلبات حياة البشر على كف تقدير الله سبحانه ، فلقد خلقنا من تراب أولا ثم من نطفة ثم خلق لنا أزواجا ، و رزقنا ذرية ، لا نعرف جنس الحمل ولا تقديراته .

[ و الله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا ]حتى تستأنسوا الى بعضكم .

[ و ما تحمل من أنثى ولا تضع الا بعلمه ]

لأنك في لحظات الجنس قد لا تفكر في شيء ، و لكن الله يعلم ما تحمل كل أنثى . أهو ذكر أم أنثى ، كما يعلم ماذا يؤول اليه مصيره .

[ و ما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ]كم يكون عمر هذا المولود ؟ و هل سيعمر طويلا ؟ أو يباغته الأجل في عز طفولته أو ريعان شبابه ؟ كل هذه التساؤلات في كتاب عند الله ، لا يضل ربي ولا ينسى .

[ إن ذلك على الله يسير ]

هذه الأمور ليست عسيرة عند الله كما هي عسيرة عندك .

[ 12] [ وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه و هذا ملح أجاج ]الفرات والأجاج تأكيد لشدة العذوبة به و لشدة الملوحة .

[ و من كل تأكلون لحما طريا و تستخرجون حلية تلبسونها ]من الماء العذب و المالح تأكلون لحما و تستخرجون حلية ، و قد وقف المفسرون طويلا حائرين ، كيف يمكن استخراج الحلية من الماء العذب الفرات ، فجاء العلم و أثبت أمكانية تربية اللؤلؤ في الانهار .

[ و ترى الفلك فيه مواخر ]

في عموم الماء ، عذبه و مالحه ، من اجل أمرين :

الأول :

[ لتبتغوا من فضله ]

لأن السفينة لم تزل أفضل وسيلة لنقل البضائع بين الشعوب .

الثاني :

[ و لعلكم تشكرون ]

حيث ان النعم وسيلة للكمال المعنوي المتمثل في شكر الله .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس