فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 24] ليس غريبا أن يبعث الرسول بالحق ، لأن الله إنما خلق أساس الكون بالحق ، فالسنن والأنظمة الطبيعية حق ، و الحالات المتغيرة التي تخضع لهذه الآنظمة حق أيضا، و شهوات الانسان وعقله حق ، و أرسل الرب رسوله بالحق ليكشف الحق و يهدي إليه ، فهي رسالة تتكيفمع الإنسان والطبيعة ، و تجري على ذات النهج .

[ إنا أرسلناك بالحق بشيرا و نذيرا و إن من أمة إلا خلا فيها نذير ]هذه سنة ، لأن الله لم يجعل أمة إلا ولها نذير ، يبعثه في أمها .

[ 25] ومن الحقائق التي تكاد تكون سنة ، تكذيب الأمم لرسلهم .

[ وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات ]و هي الشواهد والحجج التي لا ريب فيها لشدة وضوحها .

[ و بالزبر ]

وهي الكتب المنزلة على الرسل المحتوية على مجموعة المعارف الالهية ، الهدى و البينات و المفصلات .


[ و بالكتاب المنير ]

أي البصائر . و لعل فرقه مع الزبر أنه خصوص البينات المحكمات من الكتب ، بينما الزبر هي المتشابهات والمجملات .

و مع أن الرسل أرسلوا بهذه الرسالات الثلاث ، مع ذلك كذبتهم الأمم .

فإذن يا من تبلغون رسالات الله ! لا تستوحشوا من تكذيب الناس ، إن يكذبهم عادة جرت قبل أن تحملوا رسالتكم ، فلابد أن تعرفوا أن ما سيجري عليكم هو ان يكيذبكم قومكم كما كذب الأولون ، و لكن الله سيظهرها عليهم ، طوعا أو كرها .

[ 26] [ ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير ]

و هذه سنة أيضا .

و نكير الله لهم : أي عذاب شديد يستأصلهم به . أفلا يعتبرون بتاريخهم ، و يعرفون شدة إنكار الله لمنهجهم في التكذيب ؟!

[ 27] من أبرز ما يثير عقل الإنسان و يجعله يغوص في أعماق الحقائق ، الاختلافات التي تبرز في الطبيعة مما يزيدنا وعيا بتدبير الله ، و استوائه على عرش القدرة ، لأن إدارة الأمور المختلفة التي يقوم كل واحد منها بأداء وظيفة معينة ، و التنسيق بينها وبين غيرها من الآمور أكبر شهادة على الخبرة و القدرة .

و يبدو أن السياق هنا يذكرنا بهذا الاختلاف ثم يبين بأن الذين يخشون ربهم هم العلماء .

[ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ]


ماء المطر واحد إلا أن الله ينبت به ثمرات مختلفا ألوانها .

[ فإخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ]

اللون هو الجانب الظاهر من الاختلاف ، و لكنه يعكس جوانبا أخرى هي :

الاختلاف في الطعم ، و اللون ، و الفائدة ، و رغبات الناس اليها .

و نترك الحقول و السهول فنصل إلى الجبال ، فيقول الله فيها :

[ و من الجبال جدد بيض ]

الجدد من الجادة ، و هي الخطة أو الطريقة .

[ و حمر مختلف ألوانها و غرابيب سود ]

بين الأسود و الأبيض ألوان تتفاوت من جبل إلى آخر ، بل حتى في الجبل الواحد تختلف الألوان أعلاه عن أسفله عن جوانبه .

و هذه الآية ربما تدل على طبقات الأرض التي تتجلى في الجبال .

و غربيب : الشديد السواد ، و منه سمي الغراب لسواده .

[ 28] [ و من الناس و الدواب و الأنعام مختلف ألوانه ]كما الجبال و اختلاف ألوانها كذلك بالنسبة إلى الإنسان و الحيوان ، فالإنسان تتفاوت ألوانه بشكل واضح وجلي ، و كذا الحيوان فالماعز مثلا تتفاوت ألوانه من الأسود إلى الأبيض .

[ كذلك ]


هذا الإختلاف يدل على الدقة و الحكمة ، فربك الذي يخلق الحيوان بشكل مختلف جعل فيه أجهزة تتكيف و اختلافها ، فإنك إذ ترى الهرة ترى كل شيء ينسجم مع تركيبها ، فيخلق في عين الهرة جهازا يكبر و يصغر حسب النور و الظلام ، فترى بؤبؤة عينها تصبح مستديرة صباحا ،الى أن تتحول شيئا فشيئا الى شكل هلال الى شكل خيط يشع نورا في الظلام ، حتى أنك تستطيع أن تعرف الوقت من عين الهرة .

إن الذي خلق بؤبوة الهرة خلق جهازا في رأس النعامة لينظم ضغط الدم فيه ، إذ أنها لو عدمت هذا الجهاز لانفجر دماغها حالما تنكسه الى أسفل إذ يصل الضغط في دماغها آنئذ إلى ثلاثمائة درجة ، و لكن وجود هذا الجهاز يكيف الضغط فيه ، فكلما نكست رأسها كلما خف الضغط بسبب هذا الجهاز الدقيق حتى يبقى الضغط على دماغها بدرجة واحدة سواء كان رأسها أعلى عن الأرض بستة أمتار أو كان فوق التراب مباشرة .

و هكذا فإننا لو تعمقنا في الخليقة لعرفنا وحدة التدبير في اختلاف الصنع ، و لكن من الذي يفهم هذه الحقيقة حتى يعرف ربه فيخشاه ، إنهم العلماء .

[ إنما يخشى الله من عباده العلماء ]

و الخشية هي ميراث العلم ، جاء في الحديث :

عن أبي عبد الله - عليه السلام - :

" إن من العبادة شدة الخوف من الله - عز وجل - يقول الله - عز وجل : " انما يخشى الله من عباده العلماء " (1)(1) تفسير نور الثقلين / ج 4 / ص 359 .


وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (ع) قال :

" ... و حسبك من العلم أن تخشى الله " (1)[ إن الله عزيز غفور ]

عزيز بقدرته ، غفور للجاهلين .

[ 29] و استطرادا للحديث عن العلماء يتحدث الله عمن هو العالم ؟

العالم له صفات أربع هي :

1 - [ إن الذين يتلون كتاب الله ]

أي يستوحون علمهم من كتاب الله ، أو يمنهجونه حسب كتاب الله .

2 - [ و اقاموا الصلاة ]

أي يقيمون الصلاة بحدودها و مواقيتها ، بحيث تنهى عن الفحشاء و المنكر .

3 - [ و أنفقوا مما رزقناهم سرا و علانية ]

سرا لأنه بعيد عن الرياء و الجبت ، و علانية لأنه تحد للطاغوت ، فهم يتحدون بالإنفاق جبت أنفسهم و طاغوت زمانهم .

و لكل شيء إنفاق و زكاة ، فزكاة العلم نشره ، و زكاة الجاه بذله ، و زكاة المال العطاء .


(1) بحار الانوار / ج 2 / ص 48


4 - [ يرجون تجارة لن تبور ]

يرجون من الله فكاك رقابهم من النار ، و هل تبور تجارة أحد مع الله العزيز الغفور .

و نستوحي من مجمل الآيات في هذا السياق خصوصا من هذه الآية و التي سبقت في بيان عاقبة المكر وانه يؤول الى البوار " و مكر أولئك هو يبور " نستوحي : أن على الإنسان أن يختار الطريق السليم في بلوغ أهدافه المشروعة حتى ينجح ( لأن إلى الله يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه ) أما الذين يختارون الطرق الملتوية ، و يريدون بلوغ أهدافهم بالمكر و الحيلة فإن سعيهم يضيع ، و عاقبتهم البوار .

و لعل السياق يعالج وسواسا شيطانيا حيث يدعو البشر أبدا الى اختيار الطريق الأسهل و الأقرب الى الكسب حتى ولو كان على حساب القيم أو حقوق الآخرين ، و يوحي الى الانسان أن العمل الصالح لا ينفع أو أن نفعه قليل ، بينما يؤكد القرآن على أن الله يبارك في العملالصالح و النية الصادقة .

[ 30] [ ليوفيهم أجورهم ]

كاملة ، بل :

[ و يزيدهم من فضله إنه غفور شكور ]

غفور يغفر زلاتهم ، و شكور لما قدموه من عمل يرجون به وجه الله ، عارفين أنه يعوضهم خيرا مما أنفقوا حيث يدخلهم الجنة دار ضيافته .

[ 31] من صفات المؤمنين التصديق بكل الكتب .


[ و الذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه ]من الكتب الاخرى .

[ إن الله بعباده لخبير بصير ]

[ 32] و لكن هناك أجيال من العلماء يسمون بعلماء الوراثة و ليس علماء التجربة و المعاناة .

[ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ]

من هم هؤلاء الذين اصطفاهم الرب لحمل كتابه ؟ يبدو من السياق أنهم العلماء ، و لذلك جاء في الحديث الشريف :

" العلماء ورثة الانبياء "

فإذا : المصطفون طبقة العلماء من أمة محمد - صلى الله عليه وآله - و الاصطفاء هنا ليس شخصيا حتى يشبه اجتباء الانبياء و الائمة عليهم السلام ، بل بتحميل الرسالة لأمة من الناس لمجمل الخصال التي فيهم و لمكان وجود السابقين بالخيرات بينهم ، و هم أئمة الهدىعليهم السلام .

جاء في الاثر عن الإمام الصادق - عليه السلام - :

" الظالم لنفسه منا من لا يعرف حق الإمام ، و المقتصد منا من يعرف حق الامام ، و السابق بالخيرات هو الإمام ، و هؤلاء كلهم مغفور لهم " (1)(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 365


و نعرف من ذلك أن الظالم هنا مغفور له لأن ظلم نفسه لا يبلغ درجة دعوة الناس الى الضلال ، بل فيه ما في الناس من زلات يطهرها بحسناته ، و هو ظالم لنفسه إذا قيس بالمقتصد ، و السابق بالخيرات هو من عرف واجبه باعتباره وارث علم الكتاب ، و قد روي عن الامام الباقر عليه السلام أنه قال - بعد أن سئل عن الآية و عن معنى الظالم لنفسه فيها - :

من استوت حسناته و سيئاته منا - أهل البيت - فهو الظالم لنفسه ، فقلت : المقتصد منكم ؟ قال : العابد لله في الحالين حتى يأتيه اليقين فقلت : فمن السابق منكم بالخيرات ؟ قال : من دعا - و الله - الى سبيل ربه ، و أمر بالمعروف ، و نهى عن المنكر ، و لم يكن للمضلين عضدا ، و لا للخائنين خصيما ، و لم يرض بحكم الفاسقين ، الا من خاف على نفسه ودينه و لم يجد أعوانا " (1)و نستوحي من هذا النص : أن لذرية رسول الله (ص) المصطفين للقيادة مسؤوليات أكبر ، فالظالم نفسه منهم هو الذي تستوي حسناته وسيئاته ، و لا يدعو الى ضلال كما جاء في حديث آخر :

" الظالم لنفسه الذي لا يدعو الناس الى ضلال ولا هدى "و لعل في كلمة " لنفسه " شهادة على ظلم لا يتجاوز نفسه الى الآخرين .

أما الشاهد على أن الآية تعني مثل هؤلاء فهو الآية التالية التي تدل على أن جميع هؤلاء في الجنة .. هكذا استدل الإمام الرضا - عليه السلام - للمأمون العباسي حينما سأله عن الآية . لنستمع الى تحاورهما :

حضر الرضا (ع) مجلس المأمون بمرو - و قد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل(1) المصدر / ص 394 .


العراق و خراسان - فقال المامون : اخبروني عن معنى هذه الآية : " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " فقالت العلماء : أراد الله بذلك الأمة كلها ، فقال المأمون : ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال الرضا (ع) :

" لا أقول كما قالوا ، ولكني أقول : أراد الله عز وجل بذلك العترة الطاهرة ، فقال المأمون : و كيف عنى العترة من دون الأمة ؟ فقال الرضا (ع) : إنه لو أراد الأمة لكانت بأجمعها في الجنة ، لقول الله عز وجل : " فمنهم ظالم لنفسه و منهم مقتصد و منهمسابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير " ثم جمعهم كلهم في الجنة فقال : " جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب " الآية ، فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم " (1)[ فمنهم ظالم لنفسه ]

تساوت حسناته و سيئاته ، و في حديث مأثور عن أبي الدرداء عن رسول الله - صلى الله عليه و آله - في هذه الآية في مصير الظالم لنفسه قال :

" أما السابق فيدخل الجنة بغير حساب ، و أما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا ، و أما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ثم يدخل الجنة ، فهم الذين " قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " (2)[ و منهم مقتصد ]

و هو الذي يصوم نهاره ، و يقوم ليله - كما جاء في الحديث السابق - .

[ و منهم سابق بالخيرات بإذن الله ]


(1) المصدر / ص 365 .

(2) المصدر / ص 365 .


وهو الإمام .

[ ذلك هو الفضل الكبير ]

السبق بالخيرات .

و هذا التفسير للآية يتناسب و السياق ، و تؤيده أحاديث كثيرة عن النبي و أصحابه ، حتى قال الشوكاني بعد ذكرها : و هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا ، و يجب المصير إليها ، و يدفع بها قول من حمل الظالم لنفسه على الكافر ، و يؤيدها ما أخرجه الطبراني وابن مردويهو البيهقي في البعث عن إسامة بن زيد " فمنهم ظالم لنفسه ... الآية " قال : قال رسول الله - صلى الله عليه و آله و سلم - :

" كلهم في هذه الأمة ، و كلهم في الجنة " (1)و هناك تفسيران آخران :

أولهما : أن المراد بالظالم هو الكافر .

الثاني : أن المراد مجموع الآمة .

و هذا مخالف لاجتماعهم في الجنة مع أن بعضهم من أهل الكبائر و من وعد الله لهم بالنار .


(1) تفسير فتح القدر المجلد / ج 4 / ص 352 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس