فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 19] [ فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون ]

الزجرة تعبير آخر عن النفخة ، و هي صوت يصدره أحد الملائكة بإذن الله فيميت الناس أو يبعثهم للحياة ، كيفما أراد تعالى ، و قد يفهم من ذلك أن انبعاث الحياة في الأرواح و العظام الميتة بحاجة الى تفاعلات سريعة جدا ، و هذا ما توفره الزجرة ، التي تبعث الناسأحياءا وفي كامل وعيهم للحساب ، و إذا كان الإنسان في الدنيا يخلق جاهلا ثم يتدرج في المعرفة ليصل الى حد من الكمال ، فإنه يوم البعث و بعد الزجرة ينهض بقوة كاملة ، و وعي تام .

[ 20] وأول نظرة يلقيها الظالمون الى ما حولهم ، تكفيهم علما بمصيرهم ، حيث الويل و الثبور ، و قد كانوا محجوبين عن هذه الحقيقة في الدنيا ، بسبب ذنوبهم و تكذيبهم بالرسالة الإلهية .

و من طبيعة البشر أنه لا يعترف بوقوعه في الخطأ و الهلكة إلا قليلا ، و في اللحظات التي ييأس و يفقد فيها أدنى أمل بإمكانية التبرير .

فالظالمــون إذن يحاولون أن لا يعترفوا بخطئهم أو ضعفهم ، و هلكتهم في الدنيا .


و لكنهم يومئذ لا يملكون سوى الإعتراف ، و نبذ التبريرات التي تشبثوا بها في الدنيا للفرار من المسؤولية .

[ و قالوا يا ويلنا هذا يوم الدين ]

و الدين هو مجموع الفروض و الواجبات التي فرضها الله على الناس ، كإقامة الصلاة و العدل و .. و .. و بالتالي فإن الدين هو المسؤولية ، و قد تهرب هؤلاء منها و لم يتحملوها ، لكنهم وجدوها يوم البعث هي الحاكمة ، فعلموا بأنهم هالكون و خاسرون ، و قد يكون معنىالدين هنا خصوص الجزاء .

[ 21] و يؤكد لهم المنادي من قبل الله - وهو أحد الملائكة - هذه الحقيقة ، و أن هذا اليوم ليس للجزاء و حسب ، إنما هو يوم الجزاء العادل ، الذي يفصل فيه بين أصحاب الجنة و أصحاب النار .

[ هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ]

وفي الآية إشارة صريحة بأن التكذيب هو الذي دفع بهؤلاء الى عدم تحمل المسؤولية ، بل الى الظلم و الجور ، فمن الطبيعي أن الانسان الذي يشعر بأنه لا يجازي على أعماله السيئة سوف يتمادى فيها ، ومن هذا المنطلق يكون الإيمان بالآخرة حجر الزاوية في توازن فكر وسلوك الإنسان .

[ 22 - 23] ثم يامر الله بجمع العاصين الى بعضهم ، و إدخالهم النار ، و هم ثلاثة أنواع .

1 - الظالمون ، و هم الذين يظلمون أنفسهم و يظلمون الآخرين .

2 - الآلهة المزيفة التي يعبدها الظالمون من دون الله ، كالأصنام الجامدة ،والأخرى المتحركة ، أمثال الطغاة ، و أصحاب المال ، و علماء السوء .

3 - الأزواج ، و قد قال بعض المفسرين : إن المقصود بالكلمة ظاهرها وهي الزوجة ، و هذا يعني أن الزوجة لا يمكنها أن تبرر عدم تحمل المسؤولية بأن زوجها لا يقبل أو لا يسمح لها بذلك ، وإلا فإنها سوف تلقى العذاب و تدخل معه الى النار .

و ثمة تفسير آخر للكلمة وهو : إن المقصود بالأزواج هم الأشباه و النظائر ، و يعني ذلك أن كل جماعة تتجانس مع جماعة أخرى في عملها فإنها تحشر معها ، كالخمارين و النمامين فإنهم يحشرون مع أمثالهم .

و يبدو أن الأزواج هم النظائر المكملة لبعضها ، و يقال لمثنى الحذاء و النعل زوج ، لأنهما يتكاملان و يؤلفان شيئا واحدا ، و من هنا فإن كلمة الأزواج تشمل أولئك الذين يسكتون عن الظلم ويرضون بأفعالهم ، لأن الظلم زائدا السكوت عنه و الرضى به يتكاملان ويلدانواقع الظلم و التخلف والإرهاب ، و إذا صح هذا التفسير فإن القرآن يقسم الناس الى ثلاث فئات :

الأولى : أئمة الظلم و الجور وما يرمز لهم من الأصنام الجامدة .

الثانية : أتباع أئمة الظلم ، و أشياعهم الذين ينفذون الظلم مباشرة ، كالجند و أجهزة الإستخبارات والإعلام و .. و ..

الثالثة : الساكتين عن الطواغيت و أعوانهم من سائر الناس ، و هؤلاء جميعا يجمعون و يساقون الى النار بأمر الله إذ يقول يوم القيامة :

[ احشروا الذين ظلموا وازواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله ]و نستلهم من هذه الآية - كما من آيات عديدة أخرى - أن أعظم ما يسأل عنه الناس يوم القيامة الولاية ، فهم مسؤولون عن القيادة التي كانوا يتبعونها ، و الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله ، كالطاغوت السياسي و الثقافي و الاقتصادي ، و بالتالي النظام الإجتماعي الذي كانوا يخضعون له .

[ فاهدوهم إلى صراط الجحيم ]

و لعلنا نفهم من قوله تعالى : " فاهدوهم " أن الذين تقدم ذكرهم يحشرون الى جهنم عميانا عمى ماديا ، تجسيدا للعمى المعنوي الذي اختاروه لأنفسهم في الدنيا ، و في ذلك قوله تعالى : " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا " (
1) ، فهم بحاجة إذن الىمن يدلهم على صراط النار ، و يهديهم الى حيث يستقر بهم المصير .

[ 24] و لكن هل ينتهي كل شيء ؟ كلا .. إنما يوقف هؤلاء للحساب ، و الحساب أبرز تجليات العدالة الإلهية و المسؤولية البشرية ، فمن جانب يدخل العصاة الجحيم و هم قانعون بعدالة الله ، و أن هذا المصير جاء نتيجة لعملهم لا نتيجة لظلم ، و من جانب آخر يصلون الى اليقين بالمسؤولية التي أنكروها في الدنيا .

[ و قفوهم إنهم مسؤولون ]

عن أفكارهم ، و أقوالهم ، و أعمالهم ، و قبل كل ذلك عن إمامهم و خطهم الديني و السياسي العام .

[ 25] و أول الأسئلة التي توجه اليهم :


[ مالكم لا تناصرون ]

فمن عادة الإنسان في الدنيا أنه يقدم على الظلم و عموم الخطيئة اعتمادا على الآخرين ، فالشرطي الذي يعتقل المجاهدين يعتمد على مسؤول فرقته ، و هذا الآخر بدوره يعتمد على مدير الشرطة ، و هكذا دواليك ، و يشكل الجميع شيئا واحدا هو جهاز ما يسمى بالأمن أو الحزب الحاكم الذي يعتمد أفراده في الظلم على بعضهم .

وهؤلاء تتقطع بهم الأسباب و الروابط يوم القيامة ، كما تقدمت بذلك الآية الكريمة ، و هذه الفكرة ليس تنفعنا على صعيد ذلك اليوم و حسب حيث نطلع على مشهد منه ، بل يجب علينا في الدنيا - و انطلاقا من هذه المعرفة - أن لا نظلم أحدا اعتمادا على أحد .

[ 26] إن من نعتمد عليهم في ظلمنا لن ينفعونا بشيء في الآخرة ، بل لن ينفعوا أنفسهم ، إذ سيستسلمون أمام الإرادة الربانية ، التي طالما تمردوا عليها بجهلهم في الدنيا ، و هذه إشارة الى حاكمية الرب المباشرة في ذلك اليوم .

[ بل هم اليوم مستسلمون ]

ومن لا يستسلم لإرادة الله باختياره فإنه يخضع لها بالرغم منه .

[ 27] ولأن الظلمة وأعوانهم اعتادوا على حياة التبرير ، و لعلها أنقذتهم من الجزاء في بعض المواضع من الحياة الدنيا ، فإنهم يحاولون التشبث بها في الآخرة أيضا ، طمعا في التــنصل من المسؤولية ، و من ثم الهرب من الجزاء و العدالة الإلهية ، و أنى لهم ذلك ؟


و القرآن يصور تجليا للتلاوم ، و محاولة التبرير ، من خلال عرضه الرائع لحوار يدوربين المستضعفين و المستكبرين ، التابعين و المتبوعين .

[ و أقبل بعضهم ]

وهم التابعون ..

[ على بعض ]

وهم المتبعون و أئمة الظلم - حسبما يبدو - ..

[ يستاءلون ]

من أجل معرفة المسؤول عن الظلم ، و بالتالي عن المصير السيء الذي صار إليه الجميع ..

[ 28] أما المستضعفون فقد خاطبوا المستكبرين :

[ قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ]

هنا يحاول التابعون رفع المسؤولية عن كاهلهم بعذرين :

الأول : قالوا إننا لم نكن نبحث عن الكفر و الظلم ، و لا نسعى إليهما إنما أنتم الذين حملتم الوزر إلينا ، فكنتم تأتوننا ولم نكن نأتيكم .

الثاني : ثم ادعى هؤلاء بقولهم " عن اليمين " أنهم كانوا مجبرين على اتباع الظلمة ، و لعل اليمين تشير الى القوة لا الى الجهة اليمنى التي تخالف الشمال ، و قد استخدم القرآن هذه الكلمة تعبيرا عن القوة ، قال تعالى : " ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين " (1) يعني القوة ، و إنما استخدمت اليمين للتعبير(1) الاحقاف / 44 - 45 .


عن القوة لأن قوة الإنسان تتجلى عادة في يمينه .

[ 29 - 30] و أمام هذا الموقف من المستضعفين ضد المستكبرين يدافع الآخرون عن أنفسهم ، و في دفاعهم بيان للواقع كما هو ، كما كان في اتهام أولئك إشارة لإسلوب الطغاة في تضليل الناس .

فأئمة الكفر و الظلم يرفعون التهمة عن أنفسهم بأمرين ينطويان على الإشارة لقابلية الإنحراف عند الإنسان :

الأول : [ قالوا بل لم تكونوا مؤمنين ]

و حينما لا يكون الانسان مؤمنا بعقيدة ما ، ولا ملتزما بمبدأ ما ، إنما يعيش خور العزيمة و ضعف الإرادة و الفراغ الثقافي و القيادي في ذاته ، يكون عرضة للإنحراف ، أولا : لأن الطغاة يستخدمون شتى ألوان الضغط عليه حتى يخضعوه لأهوائهم ، يرغبونه و يمنونه ثميهددونه و يتوعدونه ثم يضلونه و يغوونه ، فكيف يصمد - من دون الإيمان بالله و الثقة بنصره - أمام كل هذا الضغط ؟ ثانيا : يستحيل على البشر بطبيعته أن يعيش الفراغ ، فهو إن لم يعتقد بالإسلام مثلا و يصرف ماله و طاقاته من أجله ، فإنه سوف يعتقد بمبدأ آخر و سيصرف طاقاته في سبيله ، وفي الحديث قال الإمام الباقر (ع) :

" ما من عبد يبخل بنفقة ينفقها فيما يرضي الله إلا ابتلي بأن ينفق أضعافها فيما أسخط الله " (1)أما المؤمن فهو يتحدى الإعتقادات الباطلة بإيمانه ، و يقاوم الأفكار التبريرية و الثقافية السلبية بثقافته الرسالية ، و يرفض الإنتماء لحزب الشيطان و قيادة(1) بح / ج 78 / ص 173 .


الطاغوت بانتمائه لحزب الله و القيادة الرسالية ، فيجد قوة مادية - الى جانب قوته المعنوية - لمواجهة ضغوط المستكبرين .

الثاني : نفى المستكبرون أن تكون لهم سلطة لا تقهر على المستضعفين من أتباعهم .

[ و ما كان لنا عليكم من سلطان ]

إن ما يكمل مسيرة الطغاة هو قابلية الإستغلال الموجودة عند الناس ، فالطاغوت هو عامل خارجي للظلم والإنحراف ، أما العامل الأساسي فيكمن في الواقع السلبي السائد في المجتمع ، كالخوف ، و الجهل ، و التفرق ، و الظلم الإجتماعي ، أما الله فإنه لم يفرض سيطرة أحد من الناس بصورة تكوينية أبدا .

الثالث : المجتمع الذي يظلم بعضه بعضا ، فيأكل قويه حقوق ضعيفه ، و يستغل الغني الفقير ، و يبتز تجاره المستهلكين فيه ، يكون تربة مناسبة لنمو الأنظمة الجائرة فيه ، لأن المجتمع الذي يقوم أساسا على الظلم لا يسلم فيه أحد منه ، بل سوف يتصاعد الظلم فيه حتىيبلغ قمته المتمثلة في النظام السياسي فيولى أعتى الظلمة أموره ، و يكون مصداقا للآية الكريمة : " وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا " .

إن النظام السياسي هو الجانب البارز من العملة بينما جانبها الآخر هو الفكر و السلوك ، و العادات والأعراف الإجتماعية .

و الطاغوت يشعر - بدوره - أنه قائم بسلبية مجتمعه ، و لهذا يقوم بتعميقها و نشرها .


[ بل كنتم قوما طاغين ]

و تفسر هذه الآية تفسيرا عميقا الحكمة المعروفة " كما تكونون يولى عليكم " ، و ربما لذلك حذر أمير المؤمنين (ع) في وصيته المعروفة قائلا :

" لا تتركوا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم " (1)[ 31] و هنالك لا يجد الظالمون بدا من الإعتراف باستحقاق العذاب ، و هذا هو معنى المسؤولية في قول الله : " وقفوهم إنهم مسؤولون " فالتبرير في الدنيا لا ينفع الانسان في الآخرة إنما يورده النار .

[ فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون ]

لقد سبقت كلمة ربنا على المستكبرين بالغواية و الضلالة ، و العذاب بالنار ، و لا يمكن لمن يتحدى رسالات ربه الإهتداء الى الحق ، لأن المصدر الوحيد لنور الهداية فضل الله ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

[ 32] ثم بين المستكبرون أنهم بدورهم كانوا غاوين ، و أن اتباع المستضعفين لهم كان يؤدي بهم الى الغواية . وهكذا يتحمل المستضعفون كامل المسؤولية عن ضلالتهم لأنهم اتبعوا رجالا ضالين . و هل ينتظر لمن اتبع ضالا أن يهتدي السبيل ؟

[ فأغويناكم إنا كنا غاوين ]

إن أبسط أحكام العقل و أوضحها هو ضرورة اتباع الهداة المهديين ، و هؤلاء الذين يقلدون أو يتبعون الضالين يحتج عليهم ربهم بهذا الحكم الذي هداهم اليه العقل بوضوح شديد .


(1) نهج البلاغة / وصية 47 / ص 422


[ 33] وردا على تبريرات هؤلاء وأولئك يؤكد القرآن بأن الظلم المشترك بين المستــكبريــن بجورهم ، و المجتمع بسكوته و سلبيته ، سوف يؤدي الى المصير الواحد ، و الجزاء الجامع ، و هذا بالضبط معنى المسؤولية .

[ فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون ]

و لعل الآية الكريمة تشير الى فكرة هامة ، من شأنها - لو فهمها الانسان ، و تعمق فيها ، و عمل بها - أن تزكي نفسه و تربيها على الإيمان ، و هي أن يحمل كل فرد نفسه المسؤولية و يتهمها باستمرار ، أنى كان دور الآخرين ، و هذه من صفات المتقين الذين وصفهم إمامهم علي (ع) بقوله :

" و لقد خالطهم أمر عظيم ! لا يرضون من أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متهمون ، ومن أعمالهم مشفقون ، إذا زكي أحد منهم خاف مما يقال له ، فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري ، و ربي أعلم بي مني بنفسي ! اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ،و اجعلني أفضل مما يظنون ، و أغفر لي مالا يعلمون " (1)و نعرف دور هذه النظرة من المؤمن تجاه نفسه إذا عرفنا طبيعة النفس البشرية التي تعيش التبرير و الأعذار و تسعى للفرار من ثقل المسؤولية ، و بكلمة : لابد أن نعرف بأن ذهاب الظالمين الى النار ، و تحملهم العذاب الأليم ، لا يعني براءتنا ، بل قد يكون دليلا على العاقبة الواحدة لهم و لنا ، إن كنا ساكتين عنهم ، راضين عن فعالهم .

[ 34] و حتى لا يتصور الإنسان بأن هذا الحديث ينصرف الى جماعة كانت في(1) نهج البلاغة / خ 193 / ص 304 .


التأريخ الغابر ، بالذات و أن الإشارة إليهم كانت بالضمير الغائب " فإنهم " يلحق القرآن حديثه عنهم بتأكيد مستقل على أن هذا المصير يشمل كل مجرم ، فعاقبة المجرم الذي يخالف سنن الله ، و يتبع هوى النفس ، و يعبد ذاته ، و يلحق الأذى بغيره ، العذابالأليم .

[ إنا كذلك نفعل بالمجرمين ]

[ 35] من هم هؤلاء المجرمون ؟ وما هي صفاتهم ؟ و كيف نتقي مصيرهم الأليم .

ينساب السياق في بيان ذلك تمهيدا لبيان من يخالفهم و هم المتقون ، لتكتمل الصورة لمن أراد النجاة ، و يحق القول على الجاحدين .

و أعظم ميزات المتقين التوحيد ، كما أن الشرك بالله أخطر ذنوب المجرمين ، الذين يرفضون التسليم للإله الواحد ، و يتخذون الأنداد من دون الله . إن رفض السلطات الفاسدة ، و الأنظمة المنحرفة ، و التقليد الأعمى لرجال ضالين ، الشرط الأول لرسالات الله .

[ إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ]فهم ليسوا على الخطأ و حسب ، إنما و يتصورون أنفسهم على الحق ، و لو جاءهم من يبين خطأهم رفضوه ، و اخذتهم العزة بالإثم ، و هذه من العقد النفسية الخطيرة التي ينبغي للإنسان اجتنابها ، ذلك أن المقياس في الإيمان بالله هو التسليم للحق في كل الأحوال متى تبين ، و لو خالف العرف الإجتماعي أو اعتقادات الفرد و سيرته السابقة . ولا شك أن اعتراف الإنسان الفرد أو الأمة بخطئه و الذي قد يستتبع التغيير الجذري في الحياة أمر صعب جدا ، و لكنه يأخذ به الى العاقبة الحسنةفي الدنيا والآخرة ، ومن أمثلة هذه الحقيقة على صعيد الأمم قوم يونس (ع) الذين قال الله عنهم : " فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا و متعناهم الى حين " . (1)ومن امثلتها على صعيد الأشخاص و التي تبين صعوبة الأمر نذكر هذه القصة المؤثرة من التأريخ ، ففي بحار الأنوار :

عن علي بن أبي حمزة قال : " كان لي صديق من كتاب بني أمية ، فقال لي إستأذن لي على أبي عبد الله ، فاستأذنت له ، فلما دخل سلم و جلس ، ثم قال : جعلت فداك ! أني كنت في ديوان هؤلاء القوم ، فأصبت من دنياهم مالا كثيرا ، و أغمضت في مطالبه ، فقال أبو عبدالله : لولا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم ، و يجبي لهم الفيء ، و يقاتل عنهم ، و يشهد جماعتهم ، لما سلبونا حقنا ، ولو تركهم الناس و ما في أيديهم ما وجدوا شيئا إلا ما وقع في أيديهم ، فقال الفتى : جعلت فداك فهل لي من مخرج منه ؟ قال : إن قلت لك تفعل ؟ قال: أفعل ، قال : اخرج من جميع ما كسبت في دواوينهم ، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله ، و من لم تعرف تصدقت به ، و أنا أضمن لك على الله الجنة ، قال : فأطرق الفتى طويلا فقال : قد فعلت جعلت فداك ، قال ابن أبي حمزة ، فرجع الفتى معنا الى الكوفة ، فما ترك شيئا على وجه الأرض إلا خرج منه ، حتى ثيابه التي كانت على بدنه ، قال : فقسمنا له قسمة ، و اشترينا له ثيابا ، و بعثنا له بنفقة " . (2)[ 36] ولأن العمل بمضامين التوحيد صعب هكذا ، نجد الكثير من الناس يستكبرون ولا يستمعون للموعظة ، و تأخذهم العزة بالإثم ، بل يتهمون صاحب الرسالة بأرخص التهم ، كما قالوا للأنبياء أنهم شعراء ( و نفوا بذلك منهم الحكمة(1) يونس / 98 .

(2) بح / ج 75 / ص 375 .


و الاهتداء ) ثم قالوا أنهم مجانين ، كما أنهم اتهموا الرسل بحب الرئاسة ، و أن دعوتهم الى الله ليست سوى وسيلة للتأمر عليهم .

[ و يقولون أإنا لتاركوا ءالهتنا لشاعر مجنون ]

و هكذا يجب ان يعرف الرساليون صعوبة الإصلاح الحقيقي المتمثل في التوحيد ، و يتفهموا العقبات التي تعترضهم في الوصول اليه ، حتى لا يصيبهم الاحباط أو اليأس حينما يصطدمون بالرفض في بادىء الأمر ، فالأنظمة الطاغوتية و حتى بعض الناس سوف لا يكتفون برفض دعوتهم ، بل سوف يثيرون الشبهات حول اشخاصهم .

[ 37] و يجب على الرساليين أن يقيموا مسيرتهم على مقياس الحق ، و هو القرآن و سنة الرسول و أهل بيته - صلوات الله عليهم - ، ليزدادوا ثقة برسالتهم ، و ليعرفوا اخطاءهم حتى لا يعتبروا موقف الناس والأنظمة مقياسا لمعرفة الحق ، لأن الناس بجهلهم و سلبيتهم النفسية ، و الأنظمة بعدائها ، سوف يثيرون زوابعا من الشتائم و الدعايات المغرضة ضدهم .

[ بل جاء بالحق ]

و الحق يدل بذاته على ذاته ، فإن لكل حق حقيقة ، و على كل صواب نورا .

و فرق واضح بين الحق الذي يدعو اليه النبي و الشعر الذي لا يدعو الى شيء ، و ليس سوى إثارة الخيال ، و ترديد الأفكار الشائعة ، و تمجيد العادات الجاهلية .

و لأن مقياس الجاهليين لم يكن الحق إنما التراث و الواقع القديم لم يجدوا التقاءا ولا انطباقا بين ما عندهم و بين الرسالة الالهية .


[ و صدق المرسلين ]

وعادة يدعي أصحاب الباطل أنهم ينتمون الى الرسالات الأولى ، و إنما ينتمون الى أهوائهم ، و القرآن يردهم بأن النبي يصدق المرسلين ، فرسالته ليست سوى تجديد لتلك الرسالات ، و لو صدقوا في انتماءهم إليها لآمنوا بهذه أيضا .

و بالتدبر في الآيتين ( 35 - 36] يمكننا القول بأن هناك سببين رئيسيين وراء كفر هؤلاء بالرسالة ، هما الإستكبار على الحق ، و المقاييس الخاطئة لمعرفته .

[ 38] وفي نهاية الدرس يؤكد الله للكفار و المشركين ( المجرمين ) أنهم سوف يذوقون العذاب .

[ إنكم لذائقوا العذاب الأليم ]

والآية تشير الى أن الله يحشر المجرمين في تمام وعيهم و إحساسهم المادي و المعنوي ، من أجل تذوق العذاب باعمق ما يمكن للإنسان .

[ 39] و الى جانب هذا التأكيد على العذاب ، نجد تأكيدا آخر على العدالة الإلهية ، و أن الجزاء بقدر أعمال البشر بل هو ذات أعمالهم .

[ و ما تجزون إلا ما كنتم تعملون ]

والآية تعمق و تؤكد في نفس الإنسان مسؤوليته التامة عن كل ما يصدر عنه ، من قول و عمل و سلوك . قال الرسول (ص) :

" لما أسري بي الى السماء دخلت الجنة فرأيت فيها الملائكة يبنون لبنة من ذهب ، و لبنة من فضة ، و ربما أمسكوا ، فقلت لهم : مالكم ربما بنيتم وربماأمسكتم ؟ فقالوا : حتى تجيئنا النفقة ، فقلت : وما نفقتكم ؟ فقالوا : قول المؤمن في الدنيا : " سبحان الله ، و الحمد لله ، ولا اله الا الله ، و الله اكبر " . فإذا قال بنينا ، و إذا أمسك أمسكنا " (1)و الذي يشعر بهذه الحقيقة - أن مستقبله رهين عمله - سوف يسعى جهده لتصحيحه و إتقانه وبنائه و فق ما يريده الله سبحانه .


(1) بح / ج 93 / ص 169 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس