بينات من الآيات [ 40] بعد حديثه عن مصير المجرمين ، يذكرنا القرآن بمشهد مشرق من الآخرة حيث عباد الله المخلصون ، في جنة ملؤها النعيم و الرحمة و التي لا تعطى عبثا انما بثمن ، واول واهم ثمن يشتري به العبد الجنة هو الاخلاص ، و اذا كان العمل بذاته صعب ، فالاخلاص فيه أصعب ، لانه يعني الانقطاع نفسيا و اجتماعيا و اقتصاديا و سياسيا و .. و .. عما سوى الله ، حفاظا على حقيقة التوحيد .
فقد يصلي الانسان لان الصلاة تدر عليه الربح ، و ترفعه درجة في الناس ، و تعطيه قوة في الجسم و ما اشبه ، فهو يصلي نتيجة لتفاعل عدة عوامل دفعته بهذا الاتجاه ، فاذا انعدمت هذه العوامل ، او وجدت اخرى تعاكس مسيرة الصلاة كمالو وجد نفسه في بلد اجنبي لا يصلي أهلها ، و أو صعبت عليه الصلاة لنعاس شديد أو برد أو حر فانه يتركها و ربما يحاربها ، لان الذي يصلي لارضاء الناس ، سوف يشرب الخمر حين يكون فيه رضا الناس ، و من هذا المنطلق صار الاخلاص اهم من العمل و كميته .
قال الامام علي (ع) :
" تصفية العمل خير من العمل " (1)
و قال (ع) :
" تصفية العمل اشد من العمل ، و تخليص النية عن الفساد أشد على العاملين من طول الجهاد " (2)و الاخلاص هو أن تعمل في كل الظروف و بنية صافية بعيدا عن التأثر بالعوامل المضادة للعمل ، و هذا ما لا يدركه أحد الا حينما تكون شخصيته ( ثقافة و سلوكا ) مصاغة بالقيم الرسالية الصحيحة ، و ليس بالظروف و الضغوط أو ردود الفعل و المصلحة .
و ربما لذلك قال القرآن " المخلصين " بفتح اللام ، و ليس المخلصين بكسرها ، و القرآن لم يستخدم الصيغة الثانية أبدا ، و المخلص هو الذي اخلصه الله و صفى نفسه و حياته من الشوائب و المؤثرات ، حتى اصبحت أعماله كلها لوجه الله وحده لا شريك له ، و لعل الآية الكريمة : " انما يتقبل الله من المتقين " (3) تهدينا الى ذات(1) بح / ج 71 / ص 90 .
(2) بح / ج 77 / ص 288 .
(3) المائدة / 27 .
المفهوم .
و الشيء الذي يبني عليه الاسلام أساس الاخلاص هو الاستمرار فيه ، و الا فإن الانسان كل انسان قد يعيش لحظة يخلص فيها لله عمله و دعاءه ، فالعمل الواحد لا يقبل منفردا ، انما يضم الى عموم مسيرة الانسان ، و الذي لا شك فيه ان الواحد لا ينعت بخلق ما الا اذاصار عادة له و سلوكا .
فالذي يصوم شهر رمضان المبارك ، و في الاثناء ، او بعده و قبله يغتاب الناس و يأكل المال الحرام ، أو يترك جانبا من الدين كالجهاد لا يكون متقيا ، فصومه لا يقبل ولا يكون مخلصا من هذه صفته ، لان تأثره بدوافع الغيبة يشير الى أن شخصيته لم تزل مزيجا من الايمان و الكفر ، فبينما ينطلق صومه من قاعدة الايمان في نفسه ، تنطلق الغيبة من دوافع الكفر .
و انما يدخل الله الجنة الذين اخلصوا ايمانهم و عملهم بالمعنى المتقدم بغير حساب ، و من سواهم يدخلهم بعد الحساب و التطهير ، و على هذا جاء في الاخبار : ان من المؤمنين من يلبث في النار مئات ، و بعضهم عشرات السنين ، كل بنسبة انحرافه ، و رواسب الكفر التييجب ان تطهر قبل الدخول في الجنة . و في الرواية قيل للامام موسى بن جعفر (ع) : مررنا برجل في السوق و هو ينادي : انا من شيعة محمد وآل محمــد الخلـــص ، و هو ينـــادي على ثيــاب يبيعها : من يزيد ؟ فقال موسى (ع) :
ما جهل ولا ضاع امرء عرف قدر نفسه ، اتدرون ما مثل هذا ؟ هذا شخص قال : انا مثل سلمان وابي ذر و المقداد و عمار ، وهو مع ذلك يباخس الناس في11 + بيعه ، و يدلس عيوب المبيع على مشتريه و يشتري الشيء بثمن فيزايد الغريب يطلبه فيوجب له ، ثم اذا غاب المشتري قال لا اريده الا بكذا ، بدون ما كان طلبه منه ، ايكون هذا كسلمان و ابي ذر و المقداد و عمار ؟ حاشا لله ان يكون هذا كهم " (1)[ إلا عباد الله المخلصين ]
[ 41] و القرآن يحدثنا عن جانب من الرزق ، الذي يصير اليه المخلصون لا حصرا انما اشارة ، والا ففي الجنة مالا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على بال بشر .
[ أولئك لهم رزق معلوم ]
و المعلوم هو الشيء المعروف المحدد بالمعرفة ، و يبدو ان رزق المخلصين يكون معلوما بالجنة فلا ينقطع حينا و يتصل حينا ، و يكون معلوما لانه جزاء أفعالهم وهي معلومة عند ربهم ، و قالوا ان معنى ذلك ان رزق المخلصين يأتيهم كاملا كما يريدون و يتصورون بعلمهم ،و هذه الارادة و الميول تنتقل بارادة الله الى اذهان الخدم ، فيأتونهم بما يريدون قبل ان يطلبوه ، قال رسول الله (ً) : " اولئك لهم رزق معلوم " :
" يعلمه الخدام فيأتون به اولياء الله ، قبل ان يسألوهم اياه " (2)[ 42] و يفصل القرآن في ذكر الرزق ، تشويقا لنا للاخلاص ، و للمخلصين على الاستقامة .
(1) بح / ج 68 / ص 157 .
(2) نور الثقلين / ج 4 / ص 403 .
[ فواكه ]
يشبعون بها حاجاتهم الكمالية ، أما حاجاتهم الضرورية فقد قال البعض ان اجسامهم خلقت للبقاء فلا تحتاج الى طعام حاجة ضرورية ، و يحتمل ان يكون توفر الفواكه لديهم يغنيهم عن الطعام الضروري ، أو ليس أكل الجنة دائما وظلها ؟
و تنضم الى هذه اللذات اعظم نعمة يشعر بها المؤمنون المخلصون ، و هي الكرامة من عند الله ، فهم يأكلون الفواكه و شعورهم عميق برضى الله عنهم .
[ و هم مكرمون ]
و لعلنا نستوحي من كلمة مكرمون ان المخلصين يفدون الى الجنة على رزق معلوم و محدد ، لكن الله يكرمهم كل حين ليزدادوا فضلا من عنده . وفي الحديث :
" فانهم لا يشتهون شيئا في الجنة الا اكرموا به " (1)[ 43] [ في جنات النعيم ]
و الجنة هي البساتين الكثيرة الزرع و الشجر ، بحيث تلتقي فيها الاغصان و الاوراق فتختفي ارضها ، تحت ظلال الاوراق و الكلمة تفيد التنوع ، لان الجنة لا تطلق على النوع الواحــد من الــزرع ، أما كلمة النعيم فهي مبالغة في النعمة للكثرة و الجودة .
[ 44] ولان المؤنس من الحاجات النفسية للبشر ، فقد جعل الله المؤمنين يأنسون ببعضهم في الجنة فإذا بهم كما يصفهم القرآن :
(1) المصدر .
[ على سرر متقابلين ]
[ 45] و في الاثناء حيث يدور الكلام بين عباد الله .
[ يطاف عليهم بكأس من معين ]
و هو الذ الشراب ، خمرا كان أو ماء أو غيرهما ، كما ان المعين الذي لا ينضب ، فتارة يكون الشيء لذيذا لكنه ينتهي بسرعة ، و تارة يكون لذيذا ولا ينتهي .
[ 46] و يجتمع الى لذة الشراب جماله و جمال كأسه تأكيدا لها ، فالكأس من الفضة اللامعة .
[ بيضاء لذة للشاربين ]
و قد يكون البياض وصفا للمعين ، ففي الحديث عن الامام الحسن (ع) :
" خمر الجنة اشد بياضا من اللبن " (1)
[ 47] و هذا الشارب خال من العيوب فلا يمله المؤمنون او يرفضونه .
[ لا فيها غول ]
وهو السكر أو الارهاق الذي يلحق بالشارب فيغتال عقله وقواه ، أو المرض الذي ينتهي به الى الموت ، و منه الاغتيال وهو القتل سرا ، هذا من جانب ، و من جانب آخر لا يبعــد المؤمنون عن شراب الجنة بنضوبه ، أو بارادة اخرى تفرض عليهم .
(1) المجمع / ج 7 - 8 / ص 443 .
[ ولا هم عنها ينزفون ]
و يقال نزف الماء اذا ابعد وأزيح عن العين .
[ 48] و من نعيم المخلصين الازواج المطهرة في القصور .
[ و عندهم قاصرات الطرف عين ]
و للقصر ثلاثة تفاسير :
الاول : ان القاصرات هن النساء اللاتي ينحصر نظرهن الى ازواجهن ، و بالتالي تحد شهوتهن في ازواجهن ، فانظارهن قاصرة عن غيرهم .
الثاني : القاصــرة الطرف هي قليلة الشعر في حاجبيها ، و هذه من جمال المرأة .
الثالث : وقال المفسرون قاصرات الطرف اللواتي ارسلن نظرهن الى الارض تواضعا و حياء ، و هذه من الصفات الحسنة في المرأة .
اما العين فهي جمع عيناء ، و العيناء واسعة العين شــديدة و كبيرة السواد فيها ، و ناصعة البياض ، و هذه هي الاخرى من الصفات الجمالية الحسنة في المرأة . و لعله لذلك كان شعراء العرب قديما ، يشبهون في غزلهم عيون النساء بعيون البقر الوحشي ( المها ) التي تشتمل على نسبة من هذه الصفات .
[ 49] [ كأنهن بيض مكنون ]
و المكنون هو المحفوظ ، فهن محفوظات لم يمسهن احد قبلهم ، و من صفات البيض عندما يجمع الى بعضه ، انه ينصع بالبياض ، حتى ليكاد يضيء ، و في ذلك اشارة لجمال بشرتهن .
و الملاحظ ان الآيات الكريمة تعرضت بالذكر لمجموعة غرائز في الانسان بينها غريزة الاكل و الشرب و الجنس ، التي يجد الانسان حوافز و دوافع داخلية و خارجية على اشباعها ، و ربما اشبعها بالحرام ، و ذلك تطميعا لنا فيما عند الله ، حتى نترفع عن الاكل الحرام المشوب بالذلة بذكر رزق الجنة و كرامته ، و عن الشرب الحرام بالرغبة في شرابها ، و عن اللذة المحرمة بذكر حورها الحسان .
جاء في بيان دعائم الايمان على لسان الامام علي (ع) ما يدل على ذلك اذ قال :
" فمن اشتاق الى الجنة سلا عن الشهوات "
[ 50] و يعرج القرآن من الجانب الآخر ليطلعنا على حال المكذبين بالرسالات ، العاصين لله ، ليشجعنا ذلك الرجاء على الطاعة ، و ليمنعنا هذا الخوف عن المعصية ، و يدخل السياق الى هذا الموضوع ، من خلال عرضه لجانب من حديث المخلصين الذين جلسوا على سررهم يستريحون لبعضهم البعض ، بالحديث عن النعيم الحاضر و عن الحياة السابقة .
[ فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ]
و الاقبال هنا دلالة على الإشتياق لبعضهم ، و للحديث الذي يدور بينهم .
[ 51] [ قال قائل منهم إنى كان لي قرين ]
يعني الرفيق .
[ 52 - 53] و لم يكن صالحا ، بل كان يدعو الى النار ، و ليس شرطا ان الصديق الذي يعنيه القرآن بهذه الآيات هو الذي يصرح بكفره و ضلاله فيدعو لنبذ الدين و اقتراف المعصية ، بل يشمل المعنى كل قرين توحي رفقته و سلوكياته أواقواله الى الكفر .
[ يقول أإنك لمن المصدقين * أإذا متنا و كنا ترابا و عظاما ءإنا لمدينون ]اي مسؤولون و مجازون ، و هذا الاعتقاد هو الذي يسوق البشر للظلم والانحراف ، لأنه لا يعتقد بمسؤولية تجاه أقواله و أعماله .
[ 54] و من كمال النعم و تمام السرور معرفة الانسان بانه قد نجي من شر عظيم و مهلكة لم ينج منها الأخرون ، فما اعظم لذة من تحطمت به السفينة في عرض البحر و ابتلعت امواجه الهادرة كل من فيها سواه حيث تعلق بخشبة و قاوم الامواج ، و استبسل في السباحة حتى نجاه الله في اللحظة الاخيرة . انه سوف يزداد احساسا بالراحة كلما تذكر الحادثة ، و يكاد يطير فرحا عندما يتصور الامواج التي كانت تتلاحق على خشبته ، و كان ينادي اصحابه اليها فلم يستجيبوا له ، و شهد مهلكهم بغيهم . اليس كذلك ؟ هكذا يتم الله نعمته على المؤمن وهو يتذكر قرناء السوء الذين قاوم تضليلهم و ضغوطهم فذهبوا الى النار ، و نجي منها . وها هو يراهم يتقلبون فيها يائسين وهو في الجنة من المكرمين .
[ قال ]
لرفاقه المخلصين .
[ هل أنتم مطلعون ]
اي هل انتم تتكلفون الاستطلاع حتى نعرف مصيره ؟
[ 55] و لكنه لفرط شوقه اخذ يبحث عنه شخصيا دون انتظارهم .
[ فاطلع فرءاه في سواء الجحيم ]
يعني وسطها ، حيث يتركز العذاب و الحريق و تحوطه النار من كل جانب كما كان في الدنيا محاطا بالذنوب و المعصية ، و لعل التطلع هناك هو تكلف الذهاب الى ناحية والا فاهل الجنة لا يسمعون حسيس النار .
[ 56] و هناك يكتشف المؤمن مدى خطورة الصديق السيء .
[ قال تالله إن كدت لتردين ]
و التردي هو السقوط من شاهق ، و في هذا اشارة الى ان المخاطب في واد سحيق من النار .
[ 57] [ و لولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ]
في العذاب ، و تتمثل النعمة الالهية هذه في الاسباب التي تؤدي بالانسان الى النجاة من الانحراف ، و من ثم من عواقبه ، كالعقل و الرسالة و المرشدين للحق ، ولا شك ان اعظم نعم الله على البشر هي نعمة الهداية .
[ 58 - 59] و يشير القرآن على لسان المؤمنين الى اخطر فكرة يحاول المنحرفون من خلالها اضلال الناس ، و التاثير على المؤمنين ، و هي فكرة الكفر بالآخرة حيث الجزاء الأوفى .
[ أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى و ما نحن بمعذبين ]على الاخطاء و الذنوب ؟!
[ 60] و لعل الله هو الذي يلقي في قلوب اوليائه من أهل الجنة ، ان يشرفوا علىالنار للاطلاع على أهلها ، لكي يشعروا عميقا بلذة الهداية و الطاعة و النعيم ، ذلك ان من طبيعة الانسان احساسه بالحقائق عن طريق معرفة نقائصها ، لهذا نجد المؤمن وقــد اطلــع على قرين السوء في العذاب ، بينما يتعمق وعيه بعظمة نعم الله عليه يقول :
[ إن هذا لهو الفوز العظيم ]
نعم ان طريق الحق مليء بالعقبات و المصاعب ، و لكنه الافضل مادام ينتهي الى الجنة ورضى الله .
[ 61] و كخلاصة لكل ما تقدم من ذكر الجنة و النار ، يؤكد القرآن بان الهدف الصحيح ، الذي يجب على الانسان العمل له ، هو الوصول الى الجنة ، لانها الهدف الأعظم الذي اذا حققه الفرد فقد فاز ، والا فهو لم يحقق شيئا ، قال الامام علي (ع) :
" ما خير بخير بعده النار ، وما شر بشر بعده الجنة ، و كل نعيم دون الجنة فهو محقور ، وكل بلاء دون النار عافية " (1)و يقول تعالى :
[ لمثل هذا فليعمل العاملون ]
و قد نستوحي من التدبر في الآيات الكريمة : ان الانسان يواجه في حياته نوعين من الضغوط .
الاول : الضغط القادم من المجتمع المعاصر ، و الذي يتجلى بصورة واضحة في(1) نهج الحكمة / 387 .
قرين السوء ، فمثلا اذا عاش المؤمن في مجتمع يستخف بالصلاة فلابد ان يتعرض لضغط هذا المجتمع باتجاه ترك الصلاة ذلك ان للمجتمع - اي مجتمع - قوة هائلة باتجاه التجانس معه ، و فرض قيمه الخاصة على افراده بالتربية و التثقيف او الترغيب و الترهيب ، و لكن ما هورأس الحربة في ضغط المجتمع على الفرد ؟ انه الصديق اذ يكون حلقة الوصل بينه و بين سائر ابناء المجتمع .
و هكذا ينبغي ان يصمد الانسان امام ضغوط اصدقائه و قرنائه ولو كان على حساب صداقتهم ، فهذا امير المؤمنين عليه السلام يقول :
" ما ترك الحق لي من صديق "
[ 62] الثاني : الضغط القادم من الاجيال السابقة ، و يتجلى هذا الضغط بصورة مركزة في الاب ، ذلك ان الانسان لا يرى الاجيال السابقة ولا التاريخ الماضي ، ولكن ذلك يصله عبر أبيه .
و يبدو ان القرآن حتى الآية السابقة حدثنا عن الضغط الاول ، اما بقية الآيات من هذا الدرس فهي اشارةالى الضغط الآخر ، يقول تعالى :
[ أذلك خير نزلا ]
اي الجنة التي هي عاقبة المؤمنين المخلصين .
[ أم شجرة الزقوم ]
التي هي عاقبة المكذبين ؟!
و كأن القرآن بهذا التساؤل الذي جاء بعد عرض العاقبتين ، يخيرنا بين الجنةو النار ، بأثارة تفكيرنا نحو الاجابة على هذا التساؤل ، اما عن معنى شجرة الزقوم ففيه تفسيران :
الاول : ان قريشا لما سمعت هذه الآية ، قالت : ما نعرف هذه الشجرة ، فقال ابو جهل لجاريته : يا جارية ! زقمينا . فأتته الجارية بتمر وزبد ، فقال لاصحابه تزقموا بهذا الذي يخوفكم به محمد ، فيزعم ان النار تنبت الشجر ، و النار تحرق الشجر فانزل الله سبحانه : " إنا جعلناها فتنة للظالمين " . (1)
الثاني : وهو الاقرب ، ان الانسان ياكل في الدنيا من هذه الشجرة ، و لكنه لا يشعر انه يأكل منها ، الا في الآخرة حيث يكشف الله عن بصره ، و يرى الحقائق بواقعها ، فالكذب ، و أكل اموال الناس ، و شرب الخمر ، .. كل ذلك ورق في شجرة الزقوم التي يطعم منها أهل النار .
وفي سورة الواقعة التي تعالج جانبا من موضوع هذه السورة اشارة واضحة لهذا المعنى اذ يقول تعالى : " ثم انكم ايها الضالون المكذبون ، لاكلون من شجر من زقوم * فمالؤون منها البطون * فشاربون عليه من الحميم * فشاربون شرب الهيم " (2) ثم يؤكد هذا المعنى في آخر السورة اذ يقول عز وجل مخاطبا المكذبين بالقرآن والضالين : " و تجعلون رزقكم انكم تكذبون " . (3)[ 63] ولا ريب ان الكذب واكل اموال الناس وسائر الشهوات التي يواجهها الانسان ، تجعله على مفترق الطريق ، بين الحق و الباطل ، و الجنة و النار ، و بالتالي فهو مبتلى و ممتحن امامها ، ولا شك ايضا ان هذه الامور بشعة كبشاعة شجرة الزقوم(1) المجمع / ج 7 - 8 / ص 446 .
(2) الواقعة / 51 - 55 .
(3) الواقعة / 82 .
التي هي التجلي الحقيقي لهذه المعاصي ، و لكن الانسان يتجاهل ذلك ، او يغفل عنه فينجرف مع شهواته ، ليزرع بذنوبه اشجار الزقوم فتكون طعامه في الآخرة .
[ إنا جعلناها فتنة للظالمين ]
اما المؤمن فهو لا يفتتن بها ، انما يرتفع بايمانه عن حضيض المعصية ليزرع لنفسه بعمل الصالحات الجنان الواسعة .
[ 64] و بعد الاشارة الى شجرة الزقوم و طبيعتها الفاتنة في الدنيا ، يصورها لنا القرآن بواقعها في الآخرة ، حيث الجزاء المتجانس و عمل الانسان .
[ إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم ]
وقد روي :
" ان الله تعالى يجوعهم - يعني اهل النار - حتى ينسوا عذاب النار من شدة الجوع ، فيصرخون الى مالك ، فيحملهم الى تلك الشجرة وفيهم ابو جهل ، فياكلون منها فتغلي بطونهم كغلي الحميم " (1)و في رواية انها شجرة عظيمة لاهل النار عامة ، و لها في كل منزلة من الجحيم غصن يأكل منه الذين يعذبون فيها .
[ 65] [ طلعها كأنه رؤوس الشياطين ]
و الطلع حمل النخلة في بدايته ، يخرج من بين الليف و الخضر ، و هو يشبه غمد(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 404 .
الخنجر في أوله و أقربة السيوف قبل ان يتشقق عن شماريخ البسر و الرطب ، و ربما سمي طلعها لطلوعه بما يشبه طلوع الهلال ، أو لانه اول ما يطلع من الثمر .
[66] ولان اصحاب النار يشعرون بضراوة الجوع ولا يجدون ما يأكلون ، فانهم يكلون طلع الزقوم و ثمرها .
[ فإنهم لأكلون منها فمالئون منها البطون ]
كما ملآوا بطونهم بالحرام في الدنيا .
[ 67] و بعد الاكل من الزقوم يحسون باشد العطش ، فيطلبون الماء فيشربون السوائل الحارة ليطفؤوا حرارة النيران التي أكلوها ، و اذا بها تزيدهم عذابا الى عذابهم .
[ ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم ]
وفي الرواية :
" فيستسقون فيسقون شربة من الماء الحار الذي بلغ نهايته في الحرارة فاذا قربوها من وجوههم شوت وجوههم ، فذلك قوله : " يشوي الوجوه " فإذا وصل الى بطونهم صهر ما في بطونهم " (1)[ 68] إنهم يتصورون الماء الذي يطلبونه سوف يخرجهم من هذا العذاب والاحتراق ولكنه ينتهي بهم الى ذات العذاب .
[ ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم ]
(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 404 .
و لعل هذه الحالة من النهم الى الزقوم و الحميم في النار تجسيد لنهمهم في الدنيا باكل اموال الحرام ، و مداومة الشراب الحرام ، اعوذ بالله منهما .
[ 69 - 70] وفي النهاية يصرح السياق بالضغط التأريخي ، الذي يتسبب في اضلال الكثير من الناس .
[ إنهم الفوا ءاباءهم ضالين ]
و كان يفترض فيهم ان لا يتبعوهم بل يبحثوا عن الحق ، و توجهنا الآية الى ضرورة المسيرة الواعية في حياة الانسان ، حيث ينبغي له ان ينظر و يفكر فيها ، فيلتزم الحق عن وعي لا عن وراثه و عادة ، ثم ما يدري الفرد أو المجتمع ان مسيرته خاطئة و الله يقول : " فلينظر الانسان الى طعامه " ، أي غذائه الجسمي و الروحي ليتأكد من سلامته ، و لكن هؤلاء لم يتعبوا أنفسهم في البحث عن الحق ، انما اتبعوا الاباء و تأثروا بهم .
[ فهم على ءاثارهم يهرعون ]
و لم يقل القرآن يهرعون ( بالفتح ) ، لان حركة الانسان باتجاه التقليد ليست حركة ارادية بصورة كاملة ، انما هي مجموع دوافع ذاتية ، و ضغوط خارجية من الآخرين ، و الآية تبين الضغط الذي يمارسه الاباء على ابنائهم لكي يتبعوهم .
فعلى الانسان اذن ان يقطع السبب المباشر ، فهو إذا لم يتأثر بذروة الضغط التأريخي المتمثلة في الاباء فلن يتأثر بالجيل السابق ، و اذا لم يتأثر بذروة الضغط الاجتماعي المتمثل في الاقران فلن يتأثر بالمجتمع المعاصر ، و الترفع عن هذه الضغوط ، هو الذي يسمو بالانسان الى الخلوص التوحيدي .
|