فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 71] بعد ان يبين القرآن في الآيتين الاخيرتين من الدرس السابق دور الضغط من قبل الآباء في حياة الاجيال ، يبين لنا هنا ان هذه مشكلة البشر منذ القديم .


[ و لقد ضل قبلهم أكثر الأولين ]

بذات العامل ، و هو الاتباع الخاطىء للاباء .

[ 72] و لكن الله بعث لهم الانبياء و المرسلين ، يحذرهم من عاقبة الضلال بانذار ، لعلهم يهتدون للحق .

[ و لقد أرسلنا فيهم منذرين ]

[ 73] لكنهم كذبوا النذر ، و حاربوا الانبياء ، فدمرهم الله ، و ابقى آثارهم واخبارهم ليكونوا عبرة لمن بعدهم .

[ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ]

و هذه مسؤولية الانسان في قبال التأريخ ، ان يستفيد منه لحياته و مستقبله ، و حين يدعو الله نبيه للنظر فيه ، فلإن وعي التأريخ يعطي الرساليين ثقة بانفسهم وخطهم ، و بصيرة في التحرك .

و بالتدبر في هذه الآيات والآية التي تليها يمكننا القول بان القرآن يختصر الدورات الحضارية في هذا المقطع .

[ 74] إن الله ليس يهب الجنة للمخلصين وحسب ، بل و ينصرهم في الدنيا و ينجيهم من الهلكات .

[ إلا عباد الله المخلصين ]

و نستوحي من الآية : أن الذين ينجون من انواع العذاب الالهي و النقمات ، هم المخلصون و حسب ، حتى جاء في الاحاديث ان الصواعق لا تصيب المؤمنينالذاكرين ، و معنى ذلك اننا لو قسمنا الناس الى ثلاثة : الكفار ، و المخلصين ، و آخرين بينهم ، فان المخلصين و حدهم الناجون ، اما الكفار فيخلدون في النار ، و الذين خلطوا عملا صالحا و أخر سيئا يعذبون كل حسب عمله .

[ 75] و كمثال على نجاة المخلصين يذكرنا الله بنبيه نوح (ع) ، و الذي آمنوا معه ، فقد دعى نوح ربه على قومه فارسل عليهم الطوفان ، فما نجى منه غير نوح و من آمن معه وركب السفينة ، ممن ادخلهم القرآن مع أهله في مقابل إخراجه كنعان منهم ، ليهدينا الى أن النسب الحقيقي بين الانسان و الآخرين هو تجانس القيم و العمل في الحياة بينه و بينهم ، اما الاعتبارات الاخرى فهي غير سليمة . قال ابو عبد الله (ع) : " ان الله قال لنوح : " انه ليس من أهلك " لانه كان مخالفا له و جعل من اتبعه من أهله " (1)و يبدأ القرآن بذكر نوح (ع) لانه كما يسميه المؤرخون الاب الثاني للبشرية بعد آدم (ع) .

[ و لقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ]

و لكن ماذا اراد نوح (ع) من ربه عز وجل حين ناداه ؟

قال بعض المفسرين إنه اراد هلاك قومه حينما عصوه ، و استدلوا بقوله تعالى عن لسانه (ع) : " رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا " (2) . و قال اخرون إنه اراد من الله ان ينقذه من الكفار بعد سنين من الدعوة و الاذى الذي يلحقه بسببها . و ربما تفسر الآية بانه عليه السلام أراد من ربه الهداية و تشريفه بالرسالة لانقاذ الناس ، فربما كان الانبياء (ع) يعرفون بانهم سوف يبعثون ، ولكن لا يتنافى ذلك مع(1) بح / ج 11 / ص 305 .

(2) نوح / 26 .


عدم معرفتهم متى سيكون بعثهم ، و لهذا نجدهم في البدء يتعجبون أو يخافون ، فلم يكن النداء الذي انبعث من جانب الطور الايمن أمرا عاديا بالنسبة لموسى (ع) ، و كذلك نبينا الاكرم (ص) ، حينما نزل عليه جبرائيل بالرسالة لاول مرة ، ذهب الى البيت و تدثر .

و حينما يدعو الانبياء ربهم بالهداية و البعثة ، يستجيب لهم و قد هيأوا أنفسهم لتحمل مسؤوليات هذا العمل العظيم ، و الله سبحانه اعطى نوحا عليه السلام اكثر مما كان يتوقعه و ربما هذا معنى قوله " فلنعم المجيبون " .

[ 76] و بعد ان استجاب الله لنوح بالرسالة و ايده على قومه المنكرين بالطوفان الذي علا الارض حتى غمر الجبال العالية ، انجى نوحا والذين آمنوا معه .

[ و نجيناه و أهله من الكرب العظيم ]

[ 77] و ربما أسمى الله الغرق بالكرب العظيم لانه من افضع صور الموت للانسان فكيف وهو مقدمة لعذاب النار الخالد ؟ ، و تركيز القرآن على أهل نوح (ع) عند التعرض لقصصه ، لان الله حفظ بهم النوع البشري عن الانقراض ، و اهم من ذلك جعل فيهم النبوة ، و الكتاب وهما الحبل الممتد بين الناس و ربهم .

[ و جعلنا ذريته هم الباقين ]

قال الامام الباقر (ع) في تفسيرها :

" الحق و النبوة و الكتاب و الايمان في عقبه ، و ليس كل من في الارض من بني آدم من ولد نوح ، قال الله في كتابه : " احمل فيها من كل زوجين اثنين و اهلك الا من سبق عليه القول منهم ومن آمن وما آمن معه الا قليل " وقال ايضا :


" ذرية من حملنا مع نوح " (1) . و مضى نوح و بقي ذكره الطيب تتوالى الاجيال بالسلام عليه .

[ 78 - 79] [ و تركنا عليه في الأخرين * سلام على نوح في العالمين ]و كان من الممكن ان تجعل صيغة الكلمة : و تركنا عليه سلاما . الا ان الصيغة طورت لتكون كلمة السلام تامة حتى يجري على لسان كل قارىء للقرآن سلام خاص لنوح عليه السلام .

[ 80] لقد استجاب الرب لنوح لانه كان محسنا .

[ إنا كذلك نجزي المحسنين ]

و هذا الجزاء سنة إلهية ذلك ان من يحسن للناس يذكره الناس بالمدح و الخير ، فكيف و قد أخذ الله على نفسه ان يجزي المحسنين بذلك ؟

و الملاحظ ان الله و بعد ذكر هباته لنوح (ع) الذي جعله مثلا للعبد المخلص وهي ، استجابة دعائه ، و نجاته و اهله و المؤمنين معه ، و جعل البشرية من ولده و النبوة فيهم ، و اخلاده بالذكر الحسن على ألسن الناس ، ذكرنا بصفة الاحسان فيه ، و ذلك ليطلعنا على التفسير الحقيقي للاخلاص بأنه المنطلقات التوحيدية الخالصة ، التي تتحول الى سعي و عمل يتجاوز القيام بالواجب الى الزيادة و الاحسان .

[ 81] و الايمان بالله هو اعظم دافع للانسان نحو الاحسان ، و هكذا نعت ربنا نوحا (ع) بعد الاحسان بالايمان لأنه اصل كل خير و فضيلة فقال :


(1) الاسراء / 17 .

(2) بح / ج 11 / ص 310 .


[ إنا من عبادنا المؤمنين ]

و المؤمن لا يتخوف من البذل و الانفاق اللآخرين في سبيل ربه ، لانه يعلم بان كل ما ينفقه سوف يعود عليه اضعافا مضاعفة و يزداد احسانا كلما تعمق ايمانه بان مستقبله في الدنيا و الآخرة رهين عمله و تضحياته .

ان السبيل الى الاحسان ، الذي هو الطريق الى المكاسب الجسيمة ، كالتي ظفر بها نوح (ع) ، هو الايمان بالله عز وجل و بجزائه الأوفى .

[ 82] ثم ان المنجي الحقيقي لنوح و من آمن معه لم تكن السفينة التي صنعوها ، فلو ان الكافرين ركبوا سفنا اكبر و افضل منها ، لم تكن لتنقذهم من الغرق في موج كالجبال ، و ماء منهمر كالانهر من السماء ، انما نجوا بايمانهم الذي تميزوا به عن غيرهم ، و انما أمرالرب نبيه و المؤمنين بصنع الفلك ، اثباتا لمسؤولية الانسان في الحياة و تأكيدا لها ، و الا فإنه قادر على انقاذهم بكلمة من عنده .

[ ثم أغرقنا الأخرين ]

و هم الكفار .

[ 83] ثم ياتي لنا القرآن بمثل من الآخرين ، الذين ترك فيهم سلاما على نبيه نوح (ع) ، و هم الذين جسدوا امتدادا لرسالته في البشرية عبر التأريخ ، من الانبياء و الرسل ، و الصالحين .

[ و إن من شيعته لإبراهيم ]

و الشيعة هم الذين يتبعون شخصا أو خطا ما ، فيقال لهم شيعة فلان .


و قال المفسرون : ان الضمير في شيعته يعود الى نوح (ع) ، فيكون المعنى ان ممن سار على دربه كان إبراهيم (ع) .

و قال اخرون : إنه يعود الى النبي محمد - صلى الله عليه و آله - و الواقع ان التشيع للحق و متابعة رسل الله واحد ، فسواء نسب الى نوح (ع) أو الى محمد (ص) أو الى اوصيائه الطاهرين فانه نهج واحد و صراط مستقيم .

[ 84] و القرآن يبين المعنى الحقيقي للتشيع ، الذي هو رفض الجبت الداخلي بالتوحيد الخالص ، و رفض الطاغوت الخارجي بمقاومة الانحراف الاجتماعي والسياسي و الثقافي و .. و .. في الواقع القائم و الذي هو صورة ظاهرية للجبت الداخلي ، ثم التسليم لله و التضحية والاستقامة في سبيله .

بلى . إن ابراهيم (ع) من شيعة نوح (ع) ، و لكن كيف وصل الى هذا المقام الرفيع ؟

يجيبنا القرآن على ذلك بـ :

[ إذ جاء ربه بقلب سليم ]

و هو الذي سلم من كل الامراض ، كالحسد و الحقد و الجبن و الخوف ، و التي يسميها القرآن بالاغلال ، اذ يحدثنا عن اهداف بعثة الرسول محمد (ص) فيقول : " و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم " (1) وهذه الامراض و الاغلالانما تتفرع من شجرة الشرك بالله ، و انما سماها القرآن بالاغلال و الأصر تارة و بالمرض تارة أخرى ، لان الاغلال والأصر كما المرض كلها تقعد الانسان وتكبل عقله و طاقاته الخيرة .


قال علي بن ابراهيم " اذ جاء ربه بقلب سليم " :

" القلب السليم من الشك " (!)

و قال :

" القلب السليم الذي يلقى الله و ليس فيه احد سواه " (1)وهذا التفسير يتناسب مع سياق الآيات الذي يحدثنا عن العباد المخلصين .

[ 85] و لن يصبح القلب ابراهيميا خالصا من الشرك ، الا اذا تعالى على العوامل الأساسية التي تؤثر سلبيا عليه ، بل وقاومه ، اذ لابد للاخلاص من حقيقة خارجية ، و هي محاربة الشرك ، و هكذا كان إبراهيم (ع) ، حيث حارب الانحراف الاجتماعي المتمثل في الخط الشركيلابيه و قومه ، و الانحراف السياسي الذي جسده الطاغية نمرود .

[ إذ قال لأبيه و قومه ماذا تعبدون ]

و لم يكن سؤاله استفساريا ، انما كان يستنكر الانحراف الاجتماعي القائم ، و هذا ما يجب على الانسان تجاه أبيه و مجتمعه ، فليس من السليم ان يستقبل منهما كل شيء ، و يفقد استقلاله امامهما ، انما يتقبل الجيد و يعترض على ما هو سلبي بالاسلوب المناسب .

و النبي إبراهيم (ع) مثل للثائر الرافض للخطأ الاجتماعي ، و لخطأ الآباء ، و الله(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 406 .

(2) المصدر .


يأتي به حجة على الذين اشركوا بهما فحكى عنهم القرآن : " انهم ألفوا اباءهم ضالين * فهم على أثارهم يهرعون " (1) فابراهيم (ع) - على خلاف هؤلاء - تحمل مسؤوليته ، و اعمل عقله ولم يقدس الاشخاص ولا التراث على حساب القيم .

[ 86] واهتدى (ع) الى زيف الشركاء ، و ضلال الثقافة التي انتهت بالمجتمع الى هذه النهاية الموغلة في الانحراف .

[ أئفكا ءالهة دون الله تريدون ]

و الافك هو الكذب المبالغ فيه .

قال المفسرون انما قدم كلمة " أئفكا " وهي مفعول مطلق ، للعناية الخاصة بها و لبيان ان كل تبريراتهم لعبادة الآلهة خاطئة فليسوا هم الا كاذبين .

وهذا يمثل قمة التحدي ، من ابراهيم عليه السلام لذلك الضلال المنتشر بين قومه .

[ 87] ثم سأل قومه بعد بيان خطأ الشرك ، و هو يبين لهم الاله الحق :

[ فما ظنكم برب العالمين ]

و هكذا تكون حركة الرساليين قائمة على هدم الفكر و الواقع الباطل ، و بناء الفكر و الواقع الحق بدلها .

و يبدو ان ابراهيم (ع) وجههم - بهذه الكلمة - الى المنهج السليم للتخلص من ضغوط الشرك ، و التوجه الى الله . فمن تصور آيات الله و تذكر اسماءه و صفاته .


علم بانه لا يرضى لعباده الكفر و الشرك ، و أنه يعاقب عليه اشد العقاب ، و انه ينتصر للذين يقاومون المشركين .

و كذلك نظن ان كلمات المفسرين هنا في أبعاد الظن قد تكون جميعا من أبعاد الآية بالرغم من ان كل واحد منهم ذهب الى بعد منها و ظنه المراد الوحيد منها .

[ 88 - 89] ولان نبي الله ابراهيم (ع) جوبه بالرد ، و الاذى خطط لعمل واقعي يبلغ من خلاله الرسالة بشكل أعمق اثرا ، وما دام يعرف بان الاصنام باطل فما يضره ان يبادر هو بنفسه لتحطيمها ، و لو لم يكن المجتمع قد اقتنع بذلك .

[ فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم ]

و كان قد اختار يوم عيدهم فرصة سانحة للقيام بمهمته ، و خادعهم اذ اظهر لهم معرفته بالنجوم و ذلك اتباعا لمنهج التقاة و العمل السري و تغطية على ما سيقوم به في المستقبل ، و قد استفاد (ع) في ثورته من العادة الاجتماعية القاضية بالاعتقاد بالنجوم ، حيث كانقومه يتشاءمون او يتفاءلون من خلال نظرهم اليها . و قد نهى الاسلام عن الاعتقاد بما يقوله المنجمون الا ما كان يستند على دليل منطقي . و غاية معقولة . قال الامام علي (ع) :

" ايها الناس اياكم و تعلم النجوم الاما يهتدى به في بر او بحر ، فإنها تدعو الى الكهانة ، و المنجم كالكاهن ، و الكاهن كالساحر ، و الساحر كالكافر ، و الكافر الى النار " (1)و يبدو ان علم النجوم بذاته غير محرم الا ان جعل خرافات المنجمين في مقام رسالات الله و العمل بالنجوم من دونها هو المحرم ، فقد جاء في الحديث عن عبد(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 408 .


الملك بن أعين قال : قلت لابي عبد الله : اني قد ابتليت بهذا العلم ، فاريد الحاجة فاذا نظرت الى الطالع و رأيت طالع الشر جلست و لم اذهب فيها ، و ا ذا رأٍيت طالع الخير ذهبت في الحاجة ؟

فقال لي : تقضي ؟

قلت : نعم ، قال : احرق كتبك (1)

و جاء حديث آخر مأثور عنه عليه السلام انه قال : بعد ان سئل عن النجوم :

" هو علم قلت منافعه ، و كثرت مضاره ، لانه لا يدفع به المقدور ، ولا يتقى به المحذور ، ان خبر المنجم بالبلاء لم ينجه التحرز من القضاء " (2)و قال الامام الصادق (ع) :

" ما كان ابراهيم سقيما وما كذب ، انما عنى سقيما في دينه مرتادا " (3)و حينما نقرأ الاحاديث الواردة في تفسير هذه الآية الكريمة ، نجدها تؤكد على رفع الشبهة القائلة بأن التقية حرام لانها تضطر العاملين للكذب ، بل انها من دين الله و يستدل الأئمة على ذلك بالقرآن الحكيم .

يقول أبو بصير : قال الامام ابو عبد الله (ع) : " التقية من دين الله ، فقلت له : من دين الله ؟ قال : اي والله من دين الله ، و لقد قال يوسف : " ايتها العير انكم لسارقون " والله ما كانوا سرقوا شيئا ، و لقد قال ابراهيم : " اني سقيم" والله ما


(1) المصدر / ص 407 .

(2) المصدر

(3) المصدر / ص 406 .


كان سقيما " (1)

و لعل نظر ابراهيم (ع) الى النجوم في ذلك المجتمع الزراعي الذي اعتقد بأنها ذات تأثير حاسم في حياته كان للايحاء إليهم بأنه يؤمن بها كما يؤمنون ، فيبعد عن نفسه شبهة الكيد باصنامهم فلا يأخذوه الى عيدهم عنوة و يفشلوا خطته .

و ربما قال سقيم تورية اذ انه من دون تحطيم الاصنام كان سقيما ، أو ليست الاصنام كانت تعبد من دون الله جهارا ، فكيف لا يكون مريض القلب مهموم الفؤاد ، دائم الكآبة و هو لما يقض على الاصنام .

و لعل هذا هو مراد الامام الصادق عليه السلام انه كان سقيما في دينه ، اذ لا ريب ان ابراهيم (ع) كان مخلصا طاهرا حنيفا وهو الذي قال عنه الرب : " إذ جاء ربه بقلب سليم " .

[ 90] و بالفعل نجح نبي الله في مهمته ، حيث اطمئن القوم الى كلامه و ذهبوا جميعا الى عيدهم .

[ فتولوا عنه مدبرين ]

وفي هذا التعبير افصاح عن مدى الاطمئنان من قبل القوم ، حيث وصفهم القرآن بالادبار ، و لو لم يكونوا كذلك لكانوا يلتفتون الى ورائهم فلا يصح وصفهم به . و الحركة الناجحة هي التي يتمكن افرادها من التغطية على تحركهم بحيث يسلبون النباهة و الحذر من العدو ليفاجؤوه بالضربة القاضية ، و في نفس الوقت لا


(1) المصدر


يتركون أثرا يدل على خطتهم .

[ 91 - 92] و قد عمد ابراهيم (ع) بعد ان اختار الوقت المناسب ، و الاسلوب الناجح ، لتوجيه ضربته للواقع الفاسد ، فتسلل الى موطن الاصنام سرا و هدمها .

[ فراغ إلى ءالهتهم فقال ألا تأكلون * مالكم لا تنطقون ]ان الذي لا تتوفر فيه ارادة الاكل و النطق كيف يكون بمستوى الربوبية التي تستدعي القدرة على الخلق ؟!

و في مطلع الآية نجد كلمة " راغ " التي عبر بها الله عن وثوب ابراهيم (ع) على الاصنام ، وهي من البلاغة بمكان رفيع ، اذ تفيد معنيين ، هما المكر و الشدة ، و هكذا كان ابراهيم (ع) . وراغ مستأسدا في الله يحطم رموز الباطل ، و مما يتضح من نصوص التأريخ ان آزر - أبو ابراهيم بالتربية - كان سادنا للاصنام و بيده مفاتيح بيتها ، فلما ذهب مع القوم للعيد سلم المفاتيح بيد ابراهيم فكانت كل الظروف مواتية لتنفيذ خطته ، و من نافلة القول انه يتبين من تاريخ البابليين بان القوى الحاكمة للجماهير في زمنهم هما طائفتان ، طائفة السدنة و الكهنة التي تمثل القوة الدينية ، و طائفة السلاطين التي تمثل القوة السياسية ، و كانتا تتعاونان على استغلال الناس و استعبادهم ، و لعل الاصنام كانت لديهم مجرد وسيلة للسيطرة على المحرومين .

[ 93] [ فراغ عليهم ضربا باليمين ]

و قد أراد ابراهيم (ع) من تحطيمهم ان يوجه ضربة للقوتين ، و للثقافة المتخلفة التي تحكم المجتمع و تسهل لهما السيطرة عليه ، و لعل التعبير باليمين للدلالة على شدة الضرب بلا تردد أو خشية .


[ 94] و هذا بلا شك يعتبر تحديا عنيفا للمجتمع ، جعل ابراهيم (ع) يقف أمة لوحده بما يختص به من اعتقاد و ثقافة و سلوك ، في مقابل مئات الآلاف من الناس ، و لا غرابة فان رسالة الله و التوكل عليه تحملان الفرد الواحد على التحدي ولو لأمة باجمعها دون ان يضعفاو يستوحش ، لان ارادة المؤمن اقوى من الجبل ، لان الجبل تحطمه الفؤوس بينما لا تنال من ارادة المؤمن شيئا ، وما دام المؤمن على الحق يجب ان لا يخشى الباطل ولو اتبعه الناس جميعا .

[ فأقبلوا إليه يزفون ]

لانه الوحيد الذي بقي في المدينة ، ولان بيده كانت مفاتيح بيت الاصنام .

والزف تعبير عن مشية معينة ، تشبه بداية مشية النعامة ، و لعلها توحي بضرب الارجل على الارض ، مع سرعة واهتمام .

[ 95 - 96] و لكنه بقي رابط الجأش ، وعازما على المواجهة .

[ قال أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون ]و الخالق هو المعبود الحقيقي الذي يجب على الانسان التسليم والانقياد له .

في البدء أخلص ابراهيم (ع) نفسه فاخلصه الله من تاثير الاجيال السابقة المتمثلة في عمه آزر ، ثم أخلصه من الخوف و التسليم للطاغوت بل للمجتمع ، فهو (ع) بدأ من الصفر حيث لا ناصر له الا ربه ، فضرب مثلا على الاخلاص ، بأنطلاقه في حركته من الايمان بالله ، والعمل بوحيه ، بعيدا عن أية دافع آخر .

[97] ولان ابراهيم (ع) تحدى الانحراف بهذا المستوى ، و الاسلوب الخطير ، عزموا على قتله بأبشع صورة ممكنة في نظرهم ، لكي لا يفكر الأخرون في السير علىنهجه ، و هذا هو ديدن الطغاة الى اليوم .

[ قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم ]

و كان نمرود وسائر القوى التي تهددها حركة ابراهيم (ع) قد اتفقوا على اشعال نار عظيمة ثم يلقونه فيها بالمنجنيق ، علما بان نارا اقل من التي اشعلوها بكثير ، كانت كافية لتحويله - في الظروف العادية - الى رماد ، و لكنهم ارادوا ان يورطوا جميع الناس في مواجهة النبي (ع) بجمعهم الحطب لها .

و نحن نجد حالة التعبئة العامة التي يعلنها الطغاة عندما تواجه سلطاتهم أخطارا حقيقية ، و يعملون المستحيل لاشراك الناس فيها بغية امرين :

اولا : إلهاء الناس عن حقيقة ما يجري .

ثانيا : توريط الناس في الجريمة حتى لا يميلوا ناحية المصلحين .

ففرعون دعا الناس الى الاجتماع في يوم الزينة ليشهدوا غلبة السحرة في ظنه ، و اصحاب الاخدود جلسوا على حافتيه يشهدون ما يفعلون بالمؤمنين .

[ 98] و لكن يد الله فوق أيديهم ، و ارادته غالبة ينصر بها عباده المؤمنين ، فقد احبط الله عملهم ، و افشل مخططاتهم .

[ فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين ]

لقد كانوا يهدفون من وراء القضاء على ابراهيم ان تتم لهم السلطة والسيطرة ، باثبات قوتهم القمعية و صحة افكارهم ، و لكن الله اوصلهم الى نقيض تطلعاتهم . و كلما كان كيد الكفار و الطغاة اشد ، كلما كانوا أعمق فشلا و خزيا .


[ 99] اما ابراهيم (ع) فقد مضى في طريق الجهاد قدما حيث هاجر في سبيل الله ، و لعله كان قادرا على البقاء في تلك المدينة لانه تحدى طواغيتها و انتصر عليهم ، لكنه لم ير أن يعاشر الكفار ، بل اراد ان يبني مجتمع الايمان بعيدا عن البيئة المنحرفة .

[ و قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين ]

يعني مهاجر في سبيل الله ، و من الطبيعي ان من يهاجر مجاهدا سوف يهديه ربه الى الحق و الخير ، و ربما تفسير هذه الآية الكريمة : " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين " (1)[ 100] و كان هم ابراهيم و تطلعه الآخر ان يلتحق به في الدرب أخرون يؤمنون به و يحملون رسالته فقال :

[ رب هب لي من الصالحين ]

وقد حدد لنا نبي الله بهذه الكلمة ، نوعية الطموح الذي ينبغي للانسان ان يتطلع اليه ، و هو يبحث عن اولاد أو عن انصار و اتباع للرسالة ، وذلك بأن يبحث عن النوع لا عن الكم و حسب .

[ 101] و مما لا شك فيه ان للدعاء أثرا حاسما في النتائج التي يصل اليها الانــسان ، فالذي يخلــص نيته و يحسن عمله و يدعو الله سوف يعطيه ما تقر به عينه ، و هكذا فعل ربنا مع نبيه (ع) .

[ فبشرناه بغلام حليم ]


(1) العنكبوت / 69 .


أي عالم عاقل حكيم لا تهزه النوائب .

[ 102] و هنا أراد الله ان يبلو خليله ابراهيم ، و مدى تسليمه له .

[ فلما بلغ معه السعي ]

والبلوغ بمعنى الوصول للسعي او التمكن منه .

[ قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ]و وضع ولده امام القرار الحاسم و الصعب ، و كان بامكانه (ع) - كسائر الناس الذين يلتفون على احكام الله للتهرب من مسؤوليتها - ان يتهرب هو ايضا ، بحجة ان الامر كان مجرد حلم رآه في المنام ، و لكنه يعلم ان الرؤيا لون من الوان الوحي عند الانبياء ، و يجب عليه العمل وفقه .

و الذي لا ريب فيه ان اسماعيل (ع) كان أعز ما يملكه ابراهيم (ع) في حياته بعد الايمان بالله ، فاراد ربنا ان يمتحن مستوى تضحيته في سبيله ، فوجده مسلما و هكذا كان ولده عليهما السلام .

[ قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إنشاء الله من الصابرين ]و يتضح لنا من هذه الآية ان الانبياء لا يتجاوزون الامتحانات الالهية بالاعجاز انما يتذوقون مرارتها وصعوباتها ، فهذا اسماعيل (ع) يصرح عن حاجته لمشيئة الله حتى يتجاوز اهواء نفسه ، و الى الصبر حتى يقاوم صعوبات الامتحان .

[ 103] [ فلما أٍسلما ]

لله تعالى ، فصدق الاب الرؤيا ، و استجاب الأبن الى والده .


[ و تله للجبين ]

يعني اضجعه على الارض ، و في الخبر " فلما عزم - ابراهيم (ع) - على الذبح قال الغلام : يا ابت اخمر وجهي ( اي استره ) ، و شد وثاقي " (1) و كان هدف اسماعيل (ع) من ذلك ان يمضي ابوه في تنفيذ امر الله ، فلا تثنيه عاطفة الابوة لو لاح له وجهه .


[ 104 - 105] و في تلك اللحظة جاءه النداء الإلهي :

[ و ناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرءيا ]

و تجاوزت الامتحان فكانت العاقبة في صالحه فهو لم يخسر دنياه ، اذ فدى الله ولده بالكبش ، و عمر آخرته حيث اطاع الله ، وهو عز وجل يؤكد بأن هذه عاقبة كل المحسنين المطيعين لاوامره سبحانه .

[ إنا كذلك نجزي المحسنين ]

الذين يخرجون من قيود الذات و الهوى ، و العلاقات السلبية و يتوجهون بكلهم الى ربهم عز وجل .

وفي تفسير هذه الآية قال الامام الصادق (ع) :

" ما بدا لله بداء كما بدا له في اسماعيل اذ أمر أباه بذبحه ثم فداه بذبح عظيم " (2)(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 423 .

(2) المصدر / ص 420 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس