بينات من الآيات [ 161 = 162] ان افكار الشرك بألوانه المختلفة خاطئة ، و الانسان غير مجبور على الاعتقاد بها ، و لكنه لكي يرفع عن نفسه المسؤولية يزعم بانها مفروضة عليه ، و لا خيار له إلا قبولها بسبب الضغط أو الإغراء ، و القرآن ينقض فكرة الجبر هذه ، فيقول :
[ فإنكم وما تعبدون * مآ أنتم عليه بفاتنين ]
و كلمة " عليه " فيما يبدو تدل على الجبر ، فكأن القرآن يقول : انكم لا تجبرون احدا على اتباعكم فيما تعبدون لا بالإغراء ولا بالضغط ، لأن كلمة الفتنة تتسع لمعنى البلاء ، و الضغط ، و الإكراه ، كما تعني الإغراء و التزيين ، و عموما فإن الفتنة هنا بمعنى الجبر .
و اذا نظرنا في أحوال الذين يعبدون الآلهة من دون الله - من اتباع السلاطين ، و الاحزاب ، و عبدة الأثرياء ، و الوجهاء ، و ادعياء الدين - لرأيناهم يبررون جميعا شركهم بأنهم مجبورون ، وأنه لا سبيل لمقاومة الطاغوت ، ولا الهروب من شبكات الأحزاب ، ولا مقاومة تجويع المترفين ، و تضليل الوجهاء ، و أدعياء الدين .
كلا .. ربنا الذي خلق خلقه أعطى لخلقه الحرية و القدرة على الرفض ، و لكن الشيطان يسول العبودية ، و يزينها له .
[ 163] فالآلهــة المزعومون ليسوا بقادرين على جبر الناس مهما حاولوا ، بلى .
انهم يضغطون عليهم ، و لكن يبقى القرار الحاسم بيد الإنسان ، وانما يستجيب لهم من تتواجد فيه مقومات الشرك و الكفر .
[ إلا من هو صال الجحيم ]
و ذلك دليل حرية الانسان ، و انه غير مضطر للإنحراف ، و ان عليه الجزاء شخصيا ، لأن الذي يتجاوب مع فتنة المشركين يصلى النار بنفسه ولا يغنون عنه شيئا ، و هذا أعظم شاهد على مسؤولية الإنسان ، كما هو أفضل علاج لداء التسويف و التبرير ، فلو علم المبررون ، وأولوا الاعذار الواهية أنهم يذاقون العذاب فعلا برغم تبريرهم و أعذارهم ، فان ذلك يقتضي ارتداعهم .
[ 164 - 165 - 166] و يعرج السياق مرة اخرى لينقل لنا رد الملائكة ( عليهم السلام ) على اباطيل المشركين حولهم في آيات ثلاث :
[ وما منا إلا له مقام معلوم ]
و المقام هنا قد يعني المنزلة ، فالملائكة يتفاضلون فيها ، و أعظمهم الروح ، و قد يعني الدور ، فلكل ملك دور يختلف عن الآخرين ، إذ منهم من هو مختص بقبض الارواح ، و منهم من وكل بالسحاب و المطر و .. و .. و مقام الملائكة و دورهم معلوم عند الله و عند الملائكة ، و كونهم الموكلون بشؤون الحياة و إدارتها لا يرفعهم إلى مقام الربوبية أبدا ، كما لا يقفزون إلى دور آخر للقيام مثلا بالشفاعة لهذا ، و قضاء حاجة ذاك الا بامر الله .
[ و أنا لنحن الصادقون ]
كالجند . ينتظر الجميع أوامر ربه لينفذوها ، و لا يحيدون عنها قيد أنملة ، و لعلأهم ما يصطف له الملائكة هو عبادة الله ، و ذروتها التسبيح و التنزيه .
[ و إنا لنحن المسبحون ]
ينزهونه - عز وجل - عن كل مالا يتناسب و مقام الربوبية ، عن الوهن و الجهل ، و عن الشركاء التي زعم الجاهلون بأن الملائكة منهم .
[ 167 - 168 - 169] و من الناس من يتهرب من المسؤولية ببعض التمنيات ، و تعليق قيامه بالواجب ببعض الشروط المستقبلية ، فاذا قيل لهم : لماذا لا تصلوا ؟ قالوا : سوف نفعل ذلك اذا ذهبنا الى الحج ، او اذا كبرنا .. و بعضهم يلقي بالمسؤولية على الله سبحانه ، ويقول لأن الله لم يوفقني فاني لم اهتد الى الصلاح ، و لو أن الله بعث الينا رسولا فسوف نكون اهدى من غيرنا .
[ و إن كانوا ليقولون ]
قولا مجردا ، لا يتجاوز لقلقة اللسان .
[ لو أن عندنا ذكرا من الأولين ]
نهتدي به ، و نسير في الحياة على ضوئه .
[ لكنا عباد الله المخلصين ]
لكن هل يمكن للانسان ان يدرك هذه المنزلة الرفيعة بمجرد التمنيات ؟ كلا .. إذ لابد لبلوغها من السعي ، لأنه وحده الذي يحول الآمال الى واقع .
[ 170] ولان هؤلاء يعيشون مجرد التمنيات ، و انما قالوا ذلك لتبرير انحرافاتهم فقد جاءهم القرآن ، و كان يفترض فيهم أن يتبعوه ليصلوا الى سماء الإخلاص .
[ فكفروا به ]
و تبينت حقيقتهم بأن كلامهم مجرد أمنيات غير جادة ، و هذه طبيعة كل الذين يسوفون التوبة ، و يعلقون إصلاح أنفسهم على شروط غير متحققة ، و يعيشون في حلم المستقبل دائما ، و هذا التسويف يرديهم الى الهاوية .
[ فسوف يعلمون ]
فهم يقولون : سوف نعمل ، فيقول لهم القرآن : بل سوف تعلمون أن إضاعة فرصة العمر الوحيدة لم تكن في مصلحتكم أبدا .
و في طيات هذا التعبير تهديد مبطن بالعذاب ، وقد يكون عدم التصريح بنوعيته و كيفيته أبلغ و أرهب في النفوس ، حيث تتفاجأ بألوان من العذاب لم تتوقعها أو تحسب لها حسابا .
[ 171 - 172] ان تشبث فئام من الناس بمختلف التبريرات كالأفكار الجبرية ، و الانتظار الساذج للفرار من مسؤولية الإيمان بالرسالة يجب أن لا يوهن الرساليين أو يسلبهم الثقة بنصر الله لهم ، لأنه سبحانه أراد الإنتصار لمبادئه و لمن يؤمن و يلتزم بها ، ولو كانظاهر الحياة هو تسلط الطغاة المنحرفين ، فان الله غالب على أمره ، وما سيطرتهم إلا محدودة .
[ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون ]فليس كلام الله عن نصرهم شيئا جديدا ، انما هو قديم سبقت بواقعيته أحداث التأريخ ، فما من رسالة إلا وأظهرها الله ، نعم . قد يقدم أصحابها شيئا منالتضحيات ، أو يطول بهم الإنتظار برهة من الزمن . لكن العاقبة تكون في صالحهم و صالح خطهم في الحياة ، و يلاحظ توالي التأكيدات اللفظية على ذلك في هذه الآية وفي التي تليها أيضا .
[ 173] و هذا النصر لا يختص بالأنبياء شخصيا ، انما ينتصر كل من يمثل جبهة الحق ، و يحمل مشعل الرسالة الإلهية على امتداد التأريخ وفي كل أفق .
[ و إن جندنا لهم الغالبون ]
و جند الله هم المؤمنون .
[ 174] و لكن متى ينصر الله عباده المؤمنين ؟
ينصرهم حينما ينفصلون و يتميزون عن الكفار و المنافقين . ماديا و معنويا ، لهذا جاء الأمر الإلهي للرسول بذلك .
[ فتول عنهم حتى حين ]
و الحين هنا يعني الوقت الذي يأتي فيه الامر للرسول و المؤمنين بالهجوم عليهم و قتالهم ، في ظل رعاية الله و نصره .
[ 175] وفي الأثناء التي ينفصل المؤمنون المجاهدون عن الكافرين و المنافقين بالهجرة - مثلا - ينبغي لهم أن يراقبوهم ، و يكونوا شهودا على الواقع ، و كل حركة تنشد التغيير لابد لها من مراقبة الواقع ، و دراسة العدو .
[ و أبصرهم فسوف يبصرون ]
انهم - بدورهم - سوف يرون العذاب و يلاقونه من عند الله أو بأيديالمؤمنين .
و في الآية معنى التأكيد على العاقبة لرسل الله و جنده ، فكأنها أمام أعين الجميع يبصرها الصالحون فيفرحون بها ، و يبصرها الكفار فيزدادون بها غيضا و حنقا .
[ 176] و عذاب الله لا يأتي للانسان حسب تمنياته ، حتى يحتج الكافرون على كذب الرسالة بأنهم تحدوا الله ، فلم يرد عليهم ، كلا .. انما يرسل ربنا العذاب حسب حكمته سبحانه .
[ أفبعذابنا يستعجلون ]
و ماذا يستعجلون من عذاب الله ، إنه الدمار الشامل ، و الهزيمة الماحقة ، و النار المحيطة ، و الهوان الأليم .
[ 177] ان هذا التحدي التام من قبل الكافرين لرب العزة إنما هو بسبب جهلهم بقدرته ، و طبيعة العذاب الذي ينزله على الملحدين .
[ فإذا نزل بساحتهم ]
الغضب الإلهي متجسدا في العذاب الدنيوي ، يعقبه عذاب الخلد في الآخرة .
[ فساء صباح المنذرين ]
و غضب الله أكثر ما ينزل في الصباح ، و الكفار في كامل قوتهم و يقظتهم ، و ذلك ليشعروا بحقارتهم ، و ليذوقوا العذاب بأقصى ما يمكن للإنسان ، ذلك زيادة في السوء لهم ، لأنهم ليس لم يستجيبوا للنذر و كذبوها فحسب ، انما بارزوا الله تحديا و محاربة ، و القرآنيكرر الاشارة الى الصباح كزمن للعذاب ، قال تعالى : " انموعدهم الصبح أليس الصبح بقريب " (1)
[ 178] و يرجع السياق مرة ثانية للتأكيد للرسول على ضرورة تركه للكفار و هجرهم ، و انتظار الفرج الإلهي .
[ و تول عنهم حتى حين ]
اي حين يحين موعد الإنتقام الإلهي منهم ، بتحطيم كبريائهم ، و نصر رسوله عليهم .
[ 179] و يبين السياق ان عاقبة النصر لرسوله ، و الهزيمة للكفار واقعة لا ريب فيها حتى لكأنها امام بصر الجميع .
[ و أبصر فسوف يبصرون ]
حينما نتلو القرآن نجد آيات كثيرة منه تؤكد على الرسول بأن لا يقتل نفسه بتحميلها بالغ الهم من اجل الذين يرفضون الرسالة ، و أن مسؤوليته تنتهي بتبليغ رسالته ، و هذا الأمر يهم المؤمنين الذين يسيرون في خط الرسول (ص) ايضا ، فواجبهم هو أن يكيفوا أنفسهم وسلوكهم في الحياة حسب تعليمات ربهم أثناء الدعوة إليه ، فإن آمن الناس التحقوا بهم ، و إن كفروا فهم و شانهم ، و ليس مطلوبا أن يبالغوا أكثر من اللزوم في هدايتهم ، لأن ذلك قد يصرفهم عن بعض الواجبات ، و يؤخر مسيرتهم باعتبارهم سوف يصرفون جهودا مكررة بالأولىلهم ان يبذلوها في أعمال و خطط أخرى تقدم العمل خطوة إلى الأمام .
[ 180] و ختاما لهذه السورة التي عالج سياقها موضوع الشرك ، و بعض الأفكار(1) هود / 81 .
الخاطئة ، و التصورات التي اعتقد بها المشركون نجد تنزيها لله عز وجل بأكرم الألفاظ و أجلها عنده تعالى وهي لفظة " سبحان " .
ان دعوة القرآن للمؤمنين بان لا يبالغوا في وعظ المشركين لا تعني أن يرضوا بهم و بما يدعون و يعملون ، انما يجب عليهم التسبيح تنزيها لله و ذلك لكي لا يتأثروا بشركهم ، لأن من طبيعة البشر تأثره بأفكار الآخرين ولو جزئيا ، فاذا لم يكونوا قادرين على ان يتخذوا موقفا عمليا أو قوليا فليسبحوا ربهم في قلوبهم تسبيحا كثيرا .
[ سبحان ربك رب العزة عما يصفون ]
الناس على اختلاف اديانهم و مذاهبهم الفكرية يصف كل جماعة منهم ربه بوصف لا يليق و مقام الربوبية ، و لكن عباد الله المخلصين هم الذين يصفونه بما يليق به عبر التسبيح .
و قد اختلف المفسرون و الفقهاء في تحديد أفضل كلمات الذكر ، فمنهم من قال : انه " الحمد لله " و قال أخرون : انه " لا اله الا الله " و جماعة ثالثة قالوا : " الله اكبر " هو اعظمها ، و الذي - يبدو لي - ان كلمة " سبحان الله " هي أعظمها و أثقلها وزنا عند الله ، لأن طبيعة الانسان طبيعة مرتكزة في الجهل بمعناه الشامل ، و بالتالي في الابتعاد عن الله ، و هذا ما يدعوه الى تصور الخالق حسب طبيعته ، فاذا به يصوره محدودا ، عاجزا ، جاهلا ، مركبا - مثلا - انطلاقا من نظرته الى نفسه و الأشياء من حوله ، ثم ان روعة جمال الطبيعة ، و تزيين الشهوات التي تدعو النفس اليها ، و سيطرة الجبارين و المترفين كل ذلك قد يبعد المؤمن عن ربه ، و يجعله يشرك به شركا خفيا ، مما يجعله يحتاج الى تكرار التسبيح .
و كلمة المخلصين " سبحان الله " التي تلهج بها ألسنتهم هي اعتراف بالعجز عن معرفة كنه الله ، الا المعرفة التي تخرجه عن حد التعطيل و التشبيه و التي دعى اليها أئمة الهدى ، و هذا يبعدهم عن العقائد الضالة .
قال الامام الصادق - عليه السلام - :
" ان الله تبارك و تعالى خلق اسما بالحروف غير منعوت ، و باللفظ غير منطق ، و بالشخص غير مجسد ، و بالتشبيه غير موصوف ، و باللون غير مصبوغ ، منفي عنه الأقطار ، مبعد عنه الحدود ، محجوب عنه حس كل متوهم ، مستتر غير مستور ، فجعله كلمة تامة على اربعة أجزاء معا ، ليس منها واحد قبل الآخر ، فاظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق اليها ، و حجب واحدا منها وهو الإسم الآخر المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة التي اظهرت ، فالظاهر هو ( الله ، و تبارك ، و سبحان ) لكل اسم من هذه أربعة أركان فذلك اثنى عشر ركنا " (1)
و سئل الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - ما تفسير سبحان الله ؟ قال :
" هو تعظيم جلال الله عز وجل ، و تنزيهه عما قال فيه كل مشرك ، فاذا قال العبد صلى عليه كل ملك " (2)[ 181] وكما للمؤمن علاقة بالله شعارها التسبيح ، و محتواها العبودية والطاعة ، فإن له برسله علاقة أيضا و لكن شعارها السلام ، و واقعها الحب والإقتداء ضمن المسيرة الواحدة .
(1) بح / ج 4 / ص 166 .
(2) المصدر / ج 93 / ص 177 .
[ و سلام على المرسلين ]
و وجود علاقة السلام بينك و بين المرسلين دليل على المسيرة الواحدة ، و التوافق في الحياة ، و قبل ان يسلم الإنسان على الرسل يجب ان ينظف قلبه ليرتفع إيمانه الى هذا المقام العظيم ، و الذي لا يطهر نفسه و عقله و سلوكه ، و بالتالي يسير على خطى الأنبياء ، فأنهم بريؤون منه ، لأنه حينئذ يحارب فكرهم بفكره المنحرف ، و قيادتهم بطاعته للطاغوت ، و خطهم بالإنتماء الى الخطوط المضادة لرسالات الله .
[ 182] وإذا كانت انطلاقة الانسان بالتسبيح الحقيقي لله ، و مسيرته و حركته مستوحاة من رسالات الأنبياء ، و التأسي بهم ، فان العاقبة ستكون حسنة ، تدفع الإنسان نحو الشكر و الحمد على ما سيلقاه من هدى و بركة و جنان نتيجة ذلك ، ذلك ان نهاية المسيرة في سبيلالله هي الطمأنينة و الرضى ، وقد اشار لها تعالى اذ قال : " و لسوف يعطيك ربك فترضى " (1) وقال ايضا : " يا ايتها النفس المطمئنة * ( ولا تطمئن النفس الا بذكر الله ) أرجعي الى ربك راضية مرضية " (2) و عموما فان المؤمن بطبيعته الرسالية يكون راضيا بقدر الله وقضائه ، ايمانا منه بأن ما يختاره له الله بحكمته أصلح مما يتطلع اليه ، فهو يحمده في الشدة و الرخاء .
[ و الحمد لله رب العالمين ]
و في هذه الآية إشارة الى أساس علاقة الإنسان بالآخرين من البشر ، فهي لا تشبه علاقته مع الله ولا مع الانبياء ، و لكنها علاقة الأحساس الواحد بالعبودية لله .
وقد وردت الروايات مؤكدة على استحباب قراءة هذه الآيات الثلاث في نهاية(1) الضحى / 5 .
(2) الفجر / 27 - 28 .
كل مجلس يجلسه العبد او يتحدث فيه .
عن الاصبغ بن نباته ، عن أمير المؤمنين (ع) عن رسول الله (ص) انه قال :
" من أراد ان يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة ، فليكن آخر كلامه في مجلسه : سبحان ربك رب العزة عما يصفون * و سلام على المرسلين * و الحمد لله رب العالمين " (1)(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 441 .
|