بينات من الآيات [ 16] عادة ما يستعجل الكفار عذاب الله ، و يتحدون الانبياء قائلين : إذا كانت دعوتكم صادقة فاسألوا ربكم أن يصب علينا العذاب . و السياق القرآني في هذه السورة يترك الاجابة على تحدي الكافرين ، و يوجهنا الى دراسة التاريخ ، لانه تعالى أجرى الحياة وفق سننحددها و اختارها بعلمه و حكمته ، و لن يغير الله سننه كلما تحداها الجاهلون فهو يدير شؤون الخليقة حسب الحكمة لا حسب ردود الفعل تعالى ربنا عن ذلك علوا كبيرا ، بلى قد يغير الله سنة ما في ظروف خاصة لأن ربنا لا يعجزه شيء و أمره فوق السنن و القوانين ، و لكنهمع ذلك يتصرف بعلم و حكمة .
[ و قالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ]
و القط الحظ و النصيب فهؤلاء يسألون الله أن يوافيهم بما يستحقون من العذاب لكي يكتشفوا أنهم فعلا على الباطل . و لكن الله لا يستجيب لهذه الدعوة دائما و ذلك لامور .
الاول : أنه عز وجل رحيم بعباده ، فلو قادهم الجهل يوما الى الكفر و التحدي لا يأخذهــم بالعــذاب ، و ذلك أن الانسان قد يجهل حينا ثم يكتشف خطأه و يعود الى ربه .
الثاني : لان ذلك يخالف حكمة الحياة ، فالله خلقها للامتحان و ذلك يقتضي أن لا يكون العذاب مباشرة بعد الذنب ، و لو فعل الله ذلك لما عصاه أحد ، و لكن الطاعة التي يريدها الله هي التي تكون بدافع المعرفة به ، و الخوف من مستقبل المعصية ، و التطلع الى نتائجالطاعة . يقول تعالى : " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " (1) و قال : " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة و لكن يؤخرهم الى أجل مسمى فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" (2) و قال الامام الصادق (ع) :
" لما رأى ابراهيم ملكوت السماوات و الارض ، التفت فرأى رجلا يزني فدعا عليه فمات ، ثم رأى آخر فدعا عليه فمات ، ثم رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا ، فأوحى الله اليه يا إبراهيم إن دعوتك مستجابة فلا تدع على عبادي ، فإني لو شئت لم أخلقهم ، إني خلقت خلقيعلى ثلاثة أًصناف ، صنف يعبدني لا يشرك بي شيئا فأثيبه ، و صنف يعبد غيري فليس يفوتني ، و صنف يعبد غيري فأخرج من صلبه من يعبدني " (3)الثالث : لكي تتم الحجة على الناس ، فهم مع الفرصة التي يمنحها الرب لهم في الدنيا يسألونه الرجعة بعد الموت ليستأنفوا العمل قال الله تعالى : " حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت " (4)و قال بعض المفسرين : ان معنى قط النصيب و انهم ارادوا نصيبهم من الجنة(1) يونس / 99 .
(2) النحل / 61 .
(3) نور الثقلين / ج 1 / ص 732 .
(4) المؤمنون / 99 - 100 .
( لا من العذاب ) استهزأء و سخرية و انهم كذبوا بذلك بثالث الأصول الدينية ( المعاد ) بعد أن كذبوا بأولها ( التوحيد ) عندما قالوا : " اجعل الآلهة إلها واحدا ) ، و كذبوا بالثاني ( النبوة ) عندما قالوا : " أأنزل عليه الذكر من بيننا " .
و سواء هذا أو ذاك ، فان الله لم يستجب لأهوائهم ، بل ضرب مثلا من واقع داود الذي عجل الله له جزاءه في الدنيا ( و قطه ) دون أن ينقص من أجره في الآخرة شيء .
[ 17] و هكذا ينبغي للرساليين أن لا يهتموا بكلام من هذا النوع ، و إن كان ذلك صعبا بالذات إذا كان يمس بمقدساتهم ، لهذا يوصي الله نبيه بالصبر .
[ اصبر على ما يقولون ]
ثم يوجهنا السياق الى مثل من التاريخ ، و بالتحديد من حياة داود (ع) يناقض غرور هؤلاء الكافرين بالسلطة و الذي جرهم لتحدي الله عز وجل .
[ و اذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ]
و حين يذكر النبي اخوته السابقين من الانبياء ، يستأنس بهم و بصبرهم في الضراء و السراء ، و بتعاليهم على مؤثرات الحياة الدنيا و حين يذكر النبي لنا صبر الأنبياء و ذكرهم و انهم الأوابون الى الله في كل حال حتى عندما تزدحم على أبوابهم زخارف الدنيا ، فانهيسن أمامنا سنة سالكة ، و طريقا معبدا علينا الاستقامة عليه ، و الصبر على كل أذى فيه .
دعنا إذا نذكر داود ، فهو القوي ذو الأيدي ، و اليد : القوة ، و داود يملك أسباب القوة و عواملها فهو قوي من جهة فعبر عنه القرآن بذي الايدي ، و اليد كناية عن القوةو القدرة ، وهو من جهة أخرى مؤمن وعلامة ايمانه التوبة و من الصعب على البشر أن يجمع بين هاتين الصفتين ، لأن صاحب القوة عادة ما تستهويه زخارف الحياة و يركض وراءها ، حتى ولو خالفت الحق .
و كما يحتاج المؤمن للقوة حتى ينفذ خططه في الحياة و يبلغ أهدافه و تطلعاته ، فانه يحتاج الى الايمان ، و ذلك لكي يعود تائبا الى ربه بدافع الايمان كلما جرته القوة الى ساحل الغرور و المعصية .
[ 18 - 19] و تحدثنا الآيات عن جانب من القوة التي بلغها داود في حكمه ، فقد أخضع له الحياة بشقيها الجامد و المتحرك ، و هكذا تخضع الحياة الى كل من يتبع الحق ، لانه بالاضافة الى قوة الغيب التي تعينه حينذاك ، يهتدي به الى الاسباب و القوانين التي يمكنهتسخيرها ، فلقد سقطت الحجب بينه و بين حقائق الخليقة ، فاذا بها تستجيب له .
] إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي و الاشراق ]
و كل شيء يسبح الله بصورة مستمرة ، و لكن لا نفقه تسبيحه كما يقول تعالى : " تسبح له السماوات السبع و الارض ومن فيهن و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا " (1) و قد جعل الله الجبال تسبح عندما يسبح داود (ع) ولعلنا نستوحي من الآية أنه أعطي الطاقات الموجودة فيها، كالاحجار الكريمة والوقود .
[ و الطير محشورة كل له أواب ]
يعني مجموعة له يستفيد منها كيفما يشاء . و ربما كان الانسان قديما يستغرب لو سمع بهذه الآيات ، أما وقد تقدمت البشرية في العلم ، فهي تعتمد الآن الجبال في(1) الاسراء / 44
كثير من الشؤون ، كما أن هناك محاولات - نجح الكثير منها - للاستفادة من الطيور في مجالات الحياة المختلفة ، و توجد الآن تجارب جادة للاستعانة بها في الشؤون الطبية و العسكرية ، و من قصة سليمان التي مرت في سورة سبأ يتبين أنه كان (ع) يبعثها للاستكشاف .
[ 20] و بالاضافة الى هذه القوى المادية والامكانات التي تدخل كعنصر فعال في سيطرة داود و سلطانه ، كان الله يزيده قوة و تمكنا يوما بعد يوم ، و لو كان ظالما لما زاده مرور الأيام إلا ضعفا و وهنا .
= [ و شددنا ملكه ]
بمختلف أٍسباب القوة هذامن الناحية المادية . أما من الناحية التشريعية و الادارية فقد أعطي ما يقوي حكمه و سلطانه أيضا. قال تعالى :
[ وءاتيناه الحكمة و فصل الخطاب ]
و الحكمة تعني أن يحيط الأنسان علما بالخليقة و بنفسه و يعرف : كيف يتصرف فيها تصرفا سليما . أما فصل الخطاب فهو الكلام الذي يفهم الطرف الآخر الحقيقة بما يقطع دابر الشك ، و يزيل حجاب الجهل فداود (ع) إذا يصيب الحق بحكمه و يبينه أفضل البيان بخطابه ، و هذان الأمران من أهم ما يلزم المدير المسؤول سواء في موقع خطير كالولاية ، أو أقل من ذلك كالاسرة و المؤسسة و التنظيم . و النصوص الاسلامية تؤكد على ضرورة اختيار الاسلوب الأنسب كما تؤكد على المحتوى يقول تعالى : " ادع الى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة " (1)
(1) النحل / 125 .
قصة الخصمين مع داود (ع) :
[ 21] و يعود بنا السياق ليضرب لنا مثلا من حياة داود (ع) تتجسد فيه أوبته الى الله عز وجل ، و ذلك في قصة حدثت له . فبينما كان قائما يصلي في محرابه اذ اقتحم الجدار عليه شخصان ، و لم ياتياه من الطريق الطبيعي و هو الباب .
[ و هل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب ]
و صيغة السؤال هنا تستثير في الانسان حب الاطلاع و تشد مسامعه للسائل حيث يستفهمه عن شيء لا يعرفه لا سيما و المسؤول عنها قصة طريفة هي التسلق على سور المحراب ، بهدف التقاضي عند صاحبه فهل سمعت أعجب نبأ منها ؟
[ 22] و تتصل فصول القصة ببعضها في اسلوب معجز من التعبير و العرض ، و تسلط الآيات الضوء على النقاط و المواقف الهامة منها ، و التي تنسجم مع اهداف و قوعها في هذا السياق القرآني ، حيث الحديث عن السلطة و عن الملك الأواب .
بالطبع لما دخل هذان الخصمان على داود ، و بهذه الطريقة أخذته الخشية .
[ إذ دخلوا على داود ففزع منهم ]
لماذا فزع داود مع ان الخوف من الناس ليس مناسبا للأنبياء ؟
ربما أراد ربنا أن يذكر هذه النقطة في مقابل بيانه لسعة ملك داود ليقول للبشر مهما بلغتم من القدرة فأنتم بالتالي بشر و لن تصبحوا آلهة و البشر بطبيعته يخاف ، و يجهل و .. و .. فلماذا يغتر الانسان إذن ، و يعتز بما يملك ؟ فهذا داود الملك المسخر له الطيــور و الجبــال ، و النبي الكريم عند ربه يفزع حين يتسور عليه المحراب رجلان .
إن داود (ع) أوجس خيفة في نفسه و لعله ظهرت على ملامحه علائم الخوف و الوجل .
[ قالوا لا تخف ]
و عرضوا عليه أمرهم قالوا :
[ خصمان بغى بعضنا على بعض ]
أي جار و اعتدى .
[ فأحكم بيننا ]
أرادا منه أن يقضي بينهما ، و لكنهما اشترطا أن يكون حكمه :
[ بالحق ]
و اضافوا شرطا آخر فقالوا :
[ ولا تشطط و اهدنا إلى سواء الصراط ]
فليس المهم أن يقضي الحاكم بالحق و حسب ، انما لابد أن يكون وصوله الى الحق بطريق سليم ، كأن يعتمد على الاصول الشرعية لاستنتاج الحكم ، حتى يهدي المتخاصمين للحق اولا ، و ليخرجوا من عنده راضين مقتنعين بالقضاء ثانيا .
[ 23] و بعد أن اكملوا عرض جملة شروطهم ، بدأ صاحب النعجة الواحدة يعرض الموضوع على داود (ع) انتظارا للحكم و فقها . قال :
[ إن هذا أخي له تسع و تسعون نعجة و لي نعجة و احدة ]وربما كان يطمع أن يتمها مئة ، أو لانها أنثى فأراد أن تلد له .
[ فقال أكفلنيها ]
أضمها الى نعاجي و أتحمل مسؤوليتها ، و استمال قلبي بحديثه الذي اشتمل على المدح و الاطراء .
[ و عزني في الخطاب ]
أي غلبني بحججه و حيله فقبلت ذلك .
[ 24] و بعد أن انهى المدعي كلامه بادر داود و أصدر الحكم ضد الطرف الثاني ، من دون الاستماع الى دفاعه و دون ان يطالب بالبينة .
[ قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ]
و مضى السياق يستوحي عبرة جانبية للقصة متمثلة في خطر الشراكة بين الأطراف ، و أن الضمان الوحيد لتجنب هذا الخطر هو الإيمان .
[ و إن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض ]
و يستثني من قاعدة الظلم و الاعتداء التي هي ديدن أكثرية الشركاء :
[ إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات و قليل ما هم ]و الذي يدفع اولئك للاعتداء هي أهواؤهم و شهواتهم ، المتمثلة في مجموعة من(1) و النعجة هي انثى الضأن و النواعج من النساء البيضاوات ، و قد اوردنا الشطر الثاني من التعريف لاتصاله بتفسير لهذه الآية يتبناه البعض من المفسرين .
الصفات السلبية ، كالحسد و الطمع ، و حب الدنيا . و .. و .. أما المؤمنون فإنهم يتغلبون على كل ذلك بالايمان الذي يحصنهم ، و بالعمل الصالح الذي يثبت الإيمان و يعودهم على فعل الخير . و لكن القليل هم المؤمنون الذين يصرعون شهواتهم .
معنى الفتنة :
و بهذا الاستطراد أنهى داود (ع) القضية لصالح صاحب النعجة الواحدة ، أما بقية الآية فهو اضافة من عند الله عز وجل تتضمن نقدا لتصرفه عليه السلام و بيانا للخطأ الذي بدر منه و أخيرا موقفه من موعظة الله له .
[ و ظن داود أنما فتناه ]
ماذا كانت فتنة الله لداود التي انتبه اليها و تصورها فورا ، اذ انها جاءت في صورة نزاع بين اثنين كانا في الواقع ملكين اراد الله أن يعلم من خلال قضيتهما طريقة القضاء لداود ؟
في هذه الآية قولان :
الاول : أن الذين تسوروا هم الملائكة و كان الهدف امتحان داود (ع) فهو لم يعرف بأنهم ملائكة ، ثم أنهم لم يريدوا من سؤلاتهم هذه أن يحكم لهم داود في النعاج بالمعنى الظاهر و المتعارف لانهم أساسا لا يملكون نعاجا ، و لم تحدث لهم قضية من هذا النوع ، أنما أرادوا صرفه الى قضية اجتماعية و لكنه لم يتوجه الى مقصدهم في البداية ، ثم أدرك ذلك فتاب الى ربه توبة نصوحا .
و القضية الإجتماعية هي أنه كانت لديه ( 99) إمرأة بين حرة و أمة ، فعشقزوجة جميلة لرجل من بني اسرائيل يقال له ( أوريا ) فأراد أن يتزوجها لتتم له مائة زوجة ، فقدمه في أحد الحروب ليقتل و يتم له الأمر فقتل ، و تزوجها داود . فأرادت الملائكة أن تبين له خطأه هذا . في الرواية : " فكتب داود عليه السلام الى صاحبه الذي بعثه أن ضع التابوت بينك و بين عدوك ، و قدم أوريا بن حيان بين يدي التابوت فقدمه و قتل ، فلما قتل اوريا دخل عليه الملكان و قعدا و لم يكن تزوج أمرأة اوريا و كانت في عدتها ، و داود في محرابه يوم عبادته ، فدخل الملكان من سقف البيت و قعدا بين يديه ، ففزع داود منهما فقالا : " لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا الى سواء الصراط " ولداود حينئذ تسعة و تسعون أمراة ما بين مهيرة الى جارية ، فقال أحدهما لداود : " ان هذا أخي له تسع و تسعون نعجة و لي نعجة واحدة فقال اكفلنيهاوعزني في الخطاب " أي ظلمني و قهرني فقال داود كما حكى الله عز وجل : " لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه " الى قوله : " و خر راكعا و أناب " قال : فضحك المستعدى عليه من الملائكة و قال : حكم الرجل على نفسه ؛ فقال داود : أتضحك و قد عصيت ؟ لقد هممت أن أهشم فاك قال : فعرجا و قال الملك المستعدى عليه : لو علم داود انه أحق أن يهشم فاه منى ؛ ففهم داود الامر و ذكر الخطيئة فبقى أربعين يوما ساجدا يبكي ليله و نهاره ولا يقوم إلا وقت الصلاة حتى انخرق جبينه و سال الدم من عينيه " (1)
و هكذا نجد الملوك يفتشون عن هذه الثقافة عند ادعياء الدين لينشروها ، و يبراوا أنفسهم من الظلامات التي يرتكبونها .
و قد نقل الفخر الرازي في تفسيره الكبير انه حضر في بعض المجالس ، و حضر فيه بعض أكابر الملوك ، و كان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد و القصة الخبيثة لسبب اقتضى ذلك ، و يمضي الفخر الرازي في بيان فساد هذا الرأي و اسكات(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 449 .
ذلك الملك .
و هذا القول مردود عليه في اكثر الروايات نظرا لمتنه الذي يمس بكرامة الانبياء و تقواهم فعن الشيخ الصدوق رحمه الله ، باسناده الى أبي عبد الله (ع) ، أنه قال لعلقمة :
" إن رضا الناس لا يملك و ألسنتهم لا تضبط ألم ينسبوا داود (ع) الى أنه تبع الطير حتى نظر الى امرأة ( أوريا ) فهواها ، و أنه قدم زوجها أمام التابوت حتى قتل ثم تزوج بها " (1)و قال الامام أمير المؤمنين (ع) :
" لا أؤتى برجل يزعم أن داود تزوج إمرأة أوريا إلا جلدته حدين ، حدا للنبوة و حدا للاسلام " (2)و نجد هذا الرأي مكتوبا في التوراة الموجودة في ايدي الناس ، و هذا دليل على أنها محرفة ، وإلا كيف تنسب الى حاكم بل نبي من أنبياء الله هذه التهمة الرخيصة ، و هو يؤتمن على رسالة الله و عباده ؟
و الأشكل في الأمر أن هذا الرأي تسرب الى كثير من تفاسيرنا ، و حينما نقتبس افكارنا في تفسير القرآن من التوراة المحرفة ، و ننسب للانبياء هذا الظلم و الانحراف ، بل هذا الشذوذ ، عندها لا نرى ضيرا إذا حكمنا رجل كالمتوكل العباسي ، أو معاوية ابن أبي سفيانو ولده يزيد ، لأنه إذا كانت ثقافتنا مشوبة بهذه الافكار الباطلة ، فانها سوف تدعونا لإتباع السلاطين و الملوك الظلمة على أنهم خلفاء لله(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 446 .
(2) نور الثقلين / ج 4 / ص 446 نقلا عن المجمع .
و أمناء على الرسالة .
الثاني : الفتنة التي تعرض لها داود ، هو مبادرته لاصدار الحكم من دون سؤال صاحب النعجة الواحدة عن البينة ، ولا الاستماع الى رأي المدعي عليه ، إذ لا يجوز للقاضي - من الناحية الشرعية و المنطقية - أن يصدر حكما في قضية ما قبل التحقيق فيها ، و النظر في سائر الحيثيات التي تتصل بها .
يقــول الامام الرضا (ع) بعد أن ضرب يده على جبهته ، وهو يرد على الرأي الأول و يبين الرأي الثاني : " إنا لله و إنا اليه راجعون لقد نسبتم نبيا من أنبياء الله عليهم السلام الى التهاون بصلاته ، حتى خرج في أثر الطير ، ثم بالفاحشة ثم بالقتل ؟ فقال : يا ابن رسول الله فما كانت خطيئته ؟ فقال : و يحك ان داود عليه السلام انما ظن انه ما خلق الله خلقا هو أعلم منه ، فبعث الله عز وجل اليه الملكين فسورا المحراب فقال : " خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط و اهدنا الى سواء الصراط ان هذاأخي له تسع و تسعون نعجة ولي نعجة و احدة فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب " فعجل داود عليه السلام على المدعي عليه ، فقال : " لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه " ولم يسئل المدعي البينة على ذلك و لم يقبل على المدعي عليه ، فيقول له : ما تقول ؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ماذهبتم اليه الا تسمع الله عز وجل يقول : " يا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق الى آخر الآية " فقال ( أي الراوي ) : يابن رسول الله فما قصته مع أوريا ؟ قال الرضا (ع) : إن المرأة في أيام داود (ع)كانت اذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا ، فأول من أباح الله عز وجل له أن يتزوج بأمرأة قتل بعلها داود (ع) ، فتزوج بأمرأة أوريا لما قتل و انقضت عدتها فذلك الذي شق على الناس من قبل أوريا " (1)(1) المصدر / ص 446 .
[ فاستغفر ربه و خر راكعا و أناب ]
إنه لم يترك فرصة لوساوس الشيطان و تسويفاته ، إنما بادر مباشرة ، إلى الإستغفار و التوبة ، و أي باب للتوبة أوسع من الصلاة و الدعاء . ألم يقل الله تبارك و تعالى : " قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم " (1) و قال في الصلاة : " و استعينوا بالصبر و الصلاة و إنها لكبيرة إلا على الخاشعين " (2)[ 25] و حينما و فر (ع) شروط التوبة في نفسه ، من صدق الندم ، و إصلاح ما فسد ، و الضراعة إلى الرب بقلب منكسر ، استجاب الله له .
[ فغفرنا له ذلك ]
التوبة تزيل خطأ الإنسان ، و تمحو آثاره الرجعية ، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع ، بل و تقدمه خطوات إلى التوبة تزيد الإنسان حصانة ، و تقيه خطر الهلاك بالذنوب و الأخطاء . و ليس أضر على الإنسان من ذنب يعتز به ، و خطأ يصر عليه مستكبرا .
و أهم معطيات التوبة أنها ترفع الإنسان درجات عند ربه ، و تورثه المنازل الرفيعة في الجنة .
[ و إن له عندنا لزلفى و حسن مآب ]
و هذا خلاف لتصورات الانسان السلبية من أن التوبة تسبب له الذلة ، و أن العزة بالاثم هي الافضل ، لانها في نظره السبيل للرفعة .
(1) الفرقان / 77 .
(2) البقرة / 45 .
و القرآن انما يضرب لنا مثال الاعتراف بالخطأ و التوبة منه ، من واقع النبي داود العالم الذي بلغ و ولده سليمان ذروة السلطة ، لان التوبة تصعب على الانسان حينما يكون في موقع متقدم من المجتمع ، كما لو كان والدا بالنسبة لاسرته أو كان عالما أمام تابعيه ، وتصل الصعوبة ذروتها إذا كان حاكما و عالما في مستوى داود و لعل هذا من حكم تعرض الأنبياء للفتنة . و ان الله يكلهم الى أنفسهم ، و يرفع عنهم عصمته لحظات معدودة فيرتكبون الهفوات ، ثم يتوبون الى الله ليكونوا قدوات صالحة للبشرية في حقل التوبة - و هو أعظم حقل- كما هم قدوات في سائر الحقول . ولابد لنا و نحن نخوض الصراع أن نتذكر هؤلاء العظماء كما أمرنا الله حتى لا يتكبر أحدنا على النقد و الاستماع الى آراء الناس في تصرفاته و بالتالي لكي لا يتعالى أحدنا على المجتمع باسم انه يمثل طليعته المتقدمة .
[ 26] أهم شروط الحاكم الذي يتصرف في دماء الناس و أموالهم ، تمحوره حول الحق ، و لكن كيف يعرف صدق الحاكم الذي يدعي انه يحكم بالحق ؟ إنما عندما يخالف هواءه و يتراجع عن قرار اتخذه اذا عرف انه كان خاطئا ، و يعترف أمام الناس بذلك و يتوب إلى الله ، و يصلحمنهجه .
من هنا نجد السياق القرآني يذكرنا بان الرب استخلف عبده داود في الأرض بعد أن ابتلاه و عرف انه يخالف هواه و يتراجع عن الخطأ اذا عرفه .
[ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ]
ان الأرض و ما فيها من بشر و احياء و تراب أمانة الله في عنقك ، و عنق كل حاكم ولا تصان هذه الامانة إلا بتحكيم الحق ، أما لو تحكم الباطل فسوف تفسد الأرض و من عليها من الأحياء و الناس قال تعالى يصف الذي يتبع الباطل في حكمه : " و إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل و الله لا
يحب الفساد " (1) . و لهذا عقب القرآن مبينا أهم و ظائف الحاكم و ما يتصل به من مؤسسات تشريعية و قضائية و تنفيذية قائلا :
[ فاحكم بين الناس بالحق ]
و لكي يلتزم الحاكم بالحق يجب أن يتجاوز أهواءه و شهواته ، حتى لا تنعكس علاقاته الاجتماعية ، و لا ضغوط الناس و اغراءاتهم على آرائه في الحكم .
[ ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ]
ومن أجل أن نعرف معنى من معاني هذه الآية الكريمة تكفينا نظرة واحدة لواقع المسلمين ، الذين صاروا ضحية لأهواء الحاكمين في الأمة ، أو ليس أبعدوا الاسلام عن الحكم لانه يتناقض مع أهوائهم ، و لانهم لا يجدون فيه مبررا لنزواتهم و تصرفاتهم المنحرفة ؟؟ و هذاهو الضلال .
و من هذه الآية الكريمة استوحى الحديث الشريف ولاية الفقيه فقال الامام الصادق (ع) :
" فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فعلى العوام أن يقلدوه "و يضيف الامام (ع) :
" فأما من ركب من القبائح و الفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئا ولا كرامة " الى أن يقول : " و هم أضر على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد عليه اللعنة على الحسين بن علي (ع) و أصحابه ، فأنهم يسلبونهم(1) البقرة / 205 .
الارواح و الاموال " (1)
ثم يهدد ربنا اولئك الذين يبتعدون عن الحق و السبيل المستقيم بسبب أهوائهم فيقول :
[ إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ]و قـال يــوم الحساب و لم يقل القيامة ، لان الذي ينسى أنه محاسب أمام الله على كل حركاته و سكناته ، و على أهوائه بالخصوص ، يفقد اتزانه و ضوابطه في الحياة فيخالف الحق و يتبع الهوى من دون حساب .
أخطاء الأنبياء :
و كلمة أخيرة : لماذا نجد في القرآن تشهيرا بالأنبياء و أخطائهم كقوله تعالى عن آدم (ع) " و عصى آدم فغوى " (2) أو عن النبي يونس (ع) : " سبحانك إني كنت من الظالمين " (3) و عن داود " " فاستغفر ربه و خر راكعا و اناب " ( 4) و عن النبي الأكرم (ص) : " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر " (5)الجواب : هناك حكم كثيرة ، من أبرزها معرفة الناس أن الانبياء ليسوا بآلهة فلا يرفعونهم الى مقام الرب . هكذا جاء في كتاب الاحتجاج للطبرسي رحمه الله في(1) بح / ج 2 / ص 88 .
(2) طه / 121 .
(3) الانبياء / 87 .
(4) ص / 34 .
(5) الفتح / 2 .
حديث طويل عن أمير المؤمنين عليه السلام يقول فيه :
" و أما هفوات الانبياء عليهم السلام و ما بينه الله في كتابه ، فان ذلك من أدل الدلائل على حكمة الله عز وجل الباهرة و قدرته القاهرة و عزته الظاهرة ، لانه علم ان براهين الانبياء عليهم السلام تكبر في صدور أممهم و أن بعضهم من يتخذ بعضهم الها كالذيكان من النصارى في ابن مريم ، فذكرها دلالة على تخلفهم عن الكمال الذي انفرد به عز وجل ، ألم تسمع الى قوله في صفة عيسى حيث قال فيه و في أمه : " كانا يأكلان الطعام " يعني أن من أكل الطعام كان له ثقل ، و كل من كان له ثقل فهو بعيد مما ادعته النصارى لابن مريم " .
|