بينات من الآيات [ 27] في الآيات السابقة بين ربنا صفات الخليفة الذي يجعله في الأرض ( حيث ذكرتنا الآيات بعشرين صفة حسنة في خليفة داود ) و من أبرزها حكمه بين الناس بالحق .
[ و ما خلقنا السماء و الارض وما بينهما باطلا ]
كيف يتخذ الباطل الرب الذي لا يجعل خليفة في الأرض الا الصالحين و الذين يمتحنهم اشد الامتحان حتى يحكموا بالحق .
ان آيات الحكمة البالغة تتجلى في أصغر شيء خلقه الله ، في النحلة و النملة ، في الشعر و الوبر ، في الخلية الواحدة ، في الذرة الواحدة ، في البروتون و الالكترون . فكيف لا تتجلى الحكمة في مجمل خلق السماوات و الأرض ؟! ام كيف يخلقهما اللهباطلا بلا حكمة بلا هدف بلا تقدير ؟! سبحان الله و تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
[ ذلك ظن الذين كفروا ]
لانهم قيموا الحياة بافكار الكفر المسبقة لم يهتدوا الى الحق . و مع ذلك لم يصلوا في نفيه الى حد قطعي ( العلم ) لانهم أينما نظروا وإلى أي شيء منها وجدوا فيه آثار القدرة و الحكمة .
[ فويل للذين كفروا من النار ]
لأن الله خلق السماوات و الارض بالحق ، فانه لن يدع الكفار سدى بل لابد ان يجازيهــم باعمالــهم التي تجاوزت كل حد معقول في مخالفة الحق بل لهم الويل و الثبور .
[ 28] و تبيانا لهذه الحقيقة يهدينا الرب الى ان سنة الحق القائمة في كل شيء مخلوق تأبى تساوي المتقين الذين يتجنبون العذاب ، و أسبابه و عوامله . و الفجار الذين لا يبالون اي واد يقتحمون ، و اي ضلالة يتيهون فيها ، و اي جريمة يرتكبونها .
[ أم نجعل الذين ءامنوا و عملوا الصالحات ]
و بذلك كسبوا الحسنات .
[ كالمفسدين في الارض ]
و يبدو ان تخصيص المفسدين بالذكر ينسجم و قصة داود (ع) المتمثلة في شروط خليفة الله في الأرض .
و ان الخليفة الشرعي ليس كل من ملك الامور بالقوة ، انما الذي يملكها بالحق .
و لهذا لابد من التفريق بين حاكم و حاكم ، خلافا لما ذكره البعض من أن الحاكم الشرعي هو الذي حكم بالسيف ، سواء كان مصلحا أم مفسدا ، و الواقع انهم أرادوا تبرير مواقفهم من بعض أحداث التأريخ و رجاله ، فهم يؤمنون بأن عليا (ع) و معاوية سواء بينما يرفض ذلك منطق القرآن .
هل الامام علي (ع) الذي يطوي نهاره صائما و ليله قائما عابدا ، و يتقاسم قوته مع الفقراء ، بل و يؤثرهم على نفسه و عياله ( مسكينا و يتيما و أسيرا ) و يعدل في الرعية يستوي هو و الذي يغتصب حقوق الآخرين ، و يسفك دماء الناس ، و يتلاعب بمقدرات الأمة ؟! كلا..
إن السلطة سلاح ذو حين ، فهي إذا تسلمها المؤمنون تصبح و سيلة للاصلاح و الاعمار ، أما لو كان العكس فانها ، تمسي معولا يهدم المنجزات و يحطم الطاقات . و ربنا في هذه الآية لم يقابل " الذين آمنوا " بجماعة معينة " كالفجار " مثلا ، انماقابلهم بالمفسدين في الارض ، ليبين لنا بأن كل سلطة غير سلطة المؤمنين هي مفسدة في الارض .
[ أم نجعل المتقين كالفجار ]
إن ذلك لا يصح ولا يكون ما دام الحق هو أساس الحياة و مقياسها . الا أن تتبدل هذه المعادلة ، و هذا ليس الآ في ظن الكافرين .
[ 29] و الحق يتجلى في السماء و الأرض و ما بينهما . و آيات القرآن هي التجلي الآخر للحق ، و من تدبر في القرآن وجد انه الكتاب الناطق بما يجد في آيات الخليقة ، فاذا ادى قلبا واعيا و تبصر انه كتاب انزله خالق السماء و الأرض ، لأنه ليس سوى صورة صافية للخليقة .
[ كتاب أنزلناه إليك مبارك ]
و حدد الله لهذا الكتاب غايات سامية فقال :
1 - [ ليدبروا ءاياته ]
فالقرآن انزل لكي يعطي للانسان المؤمن البصيرة و الرؤية السليمــة فــي الحياة . و هذا لا يمكن بالمطالعة السطحية ، بل لابد من تفكر عميق في الآيات .
2 - و الهدف الآخر بعد ادراك البصيرة أن تنعكس على حياة الانسان فيتذكر بها و يصحح من خلالها في التفكير ، و في العمل منهجه .
[ و ليتذكر أولوا الألباب ]
لان العاقل هو الذي يعرف قيمة القرآن ، و أهميته ، و هو الذي يتعرف على بصائره . ولاشك أن الذي يحكم عقله في الحياة هو الذي يستفيد من القرآن ، أما الآخر الذي تحكمه شهواته فلن يتذكر به أبدا .
و نتسائل : ما هي صلة هذه الآية بالسياق ؟ و نجيب اولا : بأن إستنباط منهج الخلافة الاسلامية من القرآن صعب مستصعب لا يحتمله الا من امتحن الله قلبه بالايمان ، و عرف انه لا يمكن ان يعترف بالقرآن بسلطة تجانب قيمة الحق ، و منهج التوحيد . أوليست السلطة السياسية تجسد قيم المجتمع . فكيف تستطيع سلطة فاسدة تطبيق قيم القرآن الاصلاحية ؟!
و هكذا أشار السياق الى ضرورة التدبر و التذكر لتبصر هذه الحقيقة التي تتراكم عليها حجب الشهوات و الضغوط .
ثانيا : بأن منهج القرآن في توعية الانسان باليوم الآخر منهج فريد ، ولا يبلغ فهمه غير الذين يتدبرون في آيات الكتاب و يتذكرون بها .
[ 30] و ينقلنا السياق الى قصة سليمان (ع) بعد ان استوحى عبر قصة داود (ع) و تلتقي القصتان في أنهما مثل لتجاوز الانسان فتنة السلطة و القوة .
[ و وهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب ]
فميزة سليمان و عظمته الحقيقية ليست في انتمائه الى رجل عظيم كداود (ع) ولا في سلطانه انما في عبوديته لله سبحانه . ولو لم يكن من أهل الايمان لما امتدحه في كتابه . فبه استطاع أن يتجاوز اكبر فتن الحياة ، و هي فتنة السلطة فقد ملك (ع) ما لم يملكه أحد من الناس و لن يملكه من بعده ، و لكنه لم يغتر بزينة الدنيا ، انما تجاوزها و توجه لله ، يتعبد و يضع نفسه في موقع المذنب ثم يتوب وهو المعصوم من الذنوب و انما يعظم ربه عز وجل . و كيف يتكبر هؤلاء على ربهم وهم يعلمون بأن ما عندهم من فضله ، و أن طريق الاستزادة هو المزيد من التذلل له و التضرع اليه ؟!
[ 31] و تجسيدا لأوية سليمان وتعبده لله ، يعرض لنا القرآن صورة من حياته (ع) .
[ إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد ]
و هي الخيول المروضة من أجودها ، و كانت يستعرضها سليمان كلما أراد الجهاد .
[ 32] و في ذات يوم استعرضها و ربما لكثرتها بقي معها طويلا حتى غابت الشمس ( أو كادت ) وفاتته فضيلة صلاة العصر ، ولم يكن حينها وهو يعد العدةللجهاد مشغولا بأمر من أمور الدنيا ، و مع ذلك استغفر ربه و عده تقصيرا يستوجب التوبة .
[ فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ]و كونه سلطانا لم يمنعه من الاعتراف بالخطأ ، و لو كان بمقدار ترك الاولى بسبب عمل خير آخر يحبه الله .
فالمعنى شغلني الجهاد عن الصلاة ، و الاثنان واجبان ، الا أن الصلاة أفضل ، و هل يجاهد المؤمنون إلا لاقامتها ؟
[ 33] و لما توجه سليمان (ع) الى فوات الوقت ، استراح عن الجهاد فقضى صلاته ، ثم عاد ثانية ، فقال :
[ ردوها علي ]
يعني جياد الخيل ، لكي يستمر في تفقد الجيش .
[ فطفق مسحا بالسوق والأعناق ]
و كان المسح على اعناق الخيل و سيقانها عند أهل الخبرة طريقا لمعرفة الجيد منها ، و كان سليمان (ع) بعد إجراء هذه يقسمها على أفراد جيشه مما يدل على اهتمامه به .
قال ابن عباس سألت عليا (ع) عن هذه الآية ، فقال : ما بلغك فيها يا بن عباس ؟ قلت : سمعت كعبا يقول : اشتغل سليمان بعرض الافراس حتى فاتتهالصلاة ، فقال ردوها علي يعني الافراس و كانت أربعة عشر فأمر بضرب سوقها و اعناقها بالسيف فقتلها فسلبه الله ملكه اربع عشر يوما ، لانه ظلم الخيل بقتلها . فقال علي (ع) :
" كذب كعب لكن اشتغل سليمان بعرض الافراس ذات يوم لانه أراد جهاد العدو حتى توارت الشمس بالحجاب ( الى ان قال ) و إن أنبياء الله لا يظلمون ولا يأمرون بالظلم لانهم معصومون مطهرون " (1)[ 34] ثم أن القرآن يحدثنا عن الفتنة التي تعرض لها سليمان عليه السلام . فقد تمنى على الله ان يكون له ولد يرثه كما ورث داود (ع) لكن الله لم يستجب له إنما اسقط على كرسيه جسدا ميتا اجهضته امرأته .
[ و لقد فتنا سليمان و ألقينا على كرسيه جسدا ]
كتاية عن الابن الميت ، و كان يتمنى أن يجلس على كرسيه ولد يحكم بعده ، فتأثر بعض الشيء لذلك ، و لكنه فكر في نفسه و رجع الى ربه .
[ ثم أناب ]
[ 35] و قد اعتبر موقفه هذا - وهو النبي - زللا ، وأن هذه فتنة عليه أن يتجاوزها بالدعاء و الاستعانة بالله ، لانه علم أن عدم تحقيق الله لامنياته يدل على أن ذلك ليس من المصلحة أبدا .
[ قال رب اغفر لي ]
أن تمنيت عليك مالا يتفق مع حكمتك لان علمي قاصر عن ادراك ذلك ثم(1) المجمع / ج 7 / 8 / ص 475 .
طلب من الله شيئا آخر غير من خلاله أمنيته ، قال :
[ و هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب ]و في هذه الآية الكريمة تتبين آداب الدعاء عند الانبياء عليهم السلام .
ففي البداية يجب أن يعرف العبد بأن ما سيطلبه من الله ليس حقا له على الله استوجبه بعمله أوعبادته ، انما هو هبة يعطيها له الرب من عنده تفضلا إن شاء أو يمنعها ، و بالاضافة الى تناسب هذا الادب و مقام الربوبية ، فإنه يعطي المؤمن مناعة ضد ردود الفعل المحتملة لو لم يستجب له .
ثم أن الطلب يجب ان يكون عظيما و كبيرا ، و ينبغي للانسان ان يطلب من ربه وهو القادر العزيز الكريم مطالب جسيمة ، فيخرج من نظرته البشرية المحدودة التي تفرض عليه آمالا محدودة ، و يدعوالله انطلاقا من معرفته بصفاته و اسمائه الحسنى . فهذا سليمان (ع) يدعو الله أن يهبه ملكا عظيما لا ينبغي لاحد من بعده .
و يستوحى من السياق ان سليمان (ع) طلب من الله بديلا عن الأولاد الذين حرم منهم ، بان يختصه برحمة الهية خاصة لتمضي الاجيال تذكره ، به أو ليس الانسان يستمر بعقبه و بما اختص به . فسأل الله من الملك ما لم يعط أحدا ولا ينبغي لأحد ، و فعلا خصه الله بتسخيرالجن و الريح و الطير له ، كما تقرر الآيات التالية ، و بالأسم الأعظم حسبما نقرأ في آيات أخرى (1)و لكن ليس الملك لذات الملك و للذة الحياة الدنيا ، انما أراد من خلال الملك و السلطان أن يقيم حكومة الله في الارض ، ليقضي على واقع الشرك السياسي(1) نجد تأييدا لهذه الفكرة في الحديث رقم 56 من تفسير نور الثقلين / ج 4 / ص 459 - 460 .
و الاجتماعي و غيرهما ، و ينصر المؤمنين و يهدي المستضعفين الى الحق ، و أي طموح اعظم من هذا الطموح ؟!
إن سليمان كان يعرف انه نبي و يسير على الحق ، لهذا سأل الله الملك و القوة لتحقيق اهداف رسالته . و من يطلع على حياته يجدها جهادا من أجل اعلاء كلمة الله ، و لعل الاشارة الى الجياد في هذه السورة المباركة تهدينا الى هذه الحقيقة . و في سورة النمل حيث انتهت القصة باسلام بلقيس و قومها صورة من حياته المليئة بالجهاد .
الثالث من آداب الدعاء أن ينتهي بالثناء و الحمد لله و ذلك بذكر اسمائه الحســنى و في مقدمها اسم " الوهاب " الذي ذكره اكثر الانبياء في دعواتهم ، قال تعالى : " و لله الاسماء الحسنى فادعوه بها و ذروا الذين يلحدون في اسمائه سيجزون ما كانوايعملون " (1)
[ 36] و قد استجاب الله لدعوة نبيه ، بتمييز ملكه بما لا يتكرر مستقبلا .
[ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ]
فهي تجري كيفما يريد ، و أينما يريد .
وجاء في تفسير علي بن ابراهيم حديث ماثور عن امير المؤمنين عليه السلام انه قال :
" خرج سليمان بن داود من بيت المقدس و معه ثلاثمائة الف كرسي عن يمينه عليها الانس ، و ثلاثمائة الف كرسي عن يساره عليها الجن ، و أمر الطير فأظلتهم ،(1) الاعراف / 180 .
و امر الريح فحملتهم حتى ورد ايوان كسرى في المدائن ، ثم رجع فبات باصطخر ، فاضطجع ثم غدا فانتهى الى مدينة بركاوان ، ثم أمر الرياح فحملتهم حتى كادت اقدامهم يصيبها الماء ، و سليمان على عمود منها ، فقال بعضهم لبعض : هل رأيتم ملكا قط اعظم من هذا او سمعتم به؟ فقالوا : ما رأينا ولا سمعنا بمثله ، فناداهم ملك من السماء ثواب تسبيحة واحدة في الله اعظم مما رأيتم " (1)[ 37] والى جانب الريح أخضعت له الشياطين و كانت مهمتهم البناء والاعمار و كانوا يستخرجون المعادن من البحار .
[ و الشياطين كل بناء و غواص ]
و ليس بالضرورة أن يكون المقصود من الغوص المعنى المتعارف فقط ، و هو النزول الى قعر البحر للصيد و استخراج الطاقات الكامنة فيه ، بل تنسحب الكلمة كما كلمة البناء على المعنى المتقدم أيضا .
[ 38] و كان سليمان يوزع المهام على الشياطين ، فيعملون كيفما يريد ، و من يتمرد فانه يجازى بالسجن .
[ و ءاخرين مقرنين في الأصفاد ]
و يبدو من الآية أن الشياطين كانوا يصفدون جماعات جماعات فيقرن بعضهم بعضا ، و يحتمل أنهم كانوا يعتقلون كل فرد مع قرنائه في المعصية و المخالفة . المهم أن سليمان بهذه السيطرة و الهيمنة على الجن نسف الأفكار الجاهلية حول ألوهيتها .
(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 459 .
[ 39] و في نهاية الدرس يشير ربنا الى ملك سليمان فيقول :
[ هذا عطاؤنا ]
و يفوضه فيه بتصرف كيفما بدا له .
[ فامنن أو أمسك بغير حساب ]
أي اعط للناس مما تملك أو امنعهم ، ولا أحد يحاسبك و هذا اعلى مراتب التفويض .
[ 40] و يختتم الدرس بحقيقة هامة ، هي أن أهم مما يملكه الانسان في الدنيا ، قربه من الله و ثوابه عنده .
[ و إن له عندنا لزلفى و حسن مئاب ]
و كلمة أخيرة :
من أبعاد رسالة القرآن الكريم تصحيح رؤى البشر تجاه الرسل و رسالاتهم ، ذلك أن الشيطان يثير الوساوس في مصدر الأصلاح ، و ينبوع الفضائل ( الرسل و رسالاتهم ) فاذا به يلصق التهم بالأنبياء لأسقاط شخصياتهم في اعين الناس ، و يحرف قيم الدين و قد يجعلها بتأويلها سببا للضلالة .
و الله سبحانه يبعث بين الحين و الآخر رسالة و رسولا لتجديد ما درس من معالم دينه الحق لكي لا تزول فرصة الهداية للناس .
و هكذا حرفت اهواء بني اسرائيل التوراة و الأنجيل ، و أولت النصوص حول القيم ، و لفقت التهم حول الانبياء عليهم السلام . و انزل الله كتابه المجيد تبيانالكل شيء و تنزيها لمقام الرسل عليهم السلام . و هكذا نجد في القرآن بيانا لقصص الانبياء - خصوصا تلك التي نقلت على غير وجهها - ثم تفسيرا حسنا لموارد الغموض من حياتهم عليهم السلام .
و مما يؤسف له : ان طائفة من المفسرين راحوا ينقلون الأحاديث الأسرائيلية و يخوضون في اعراض الانبياء خوضا و بالتالي ينقضون ما عقده القرآن ، و يخالفون ما أراده ، و يسيرون تماما بعكس اتجاهه . بينما كان ينبغي أن يلتزموا بادب القرآن في الحديث عن الرسل ، الذي يتجلى في سورة الصافات و ص باحلى صورها .
|