فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 17] من هو الطاغوت ؟

كل من فرض نفسه زورا على الآخرين يعتبر طاغوتا ، إذ قد يطغى المرء في حدود نفسه فلا يعبد الله و يتجبر و يتكبر ، و يسمى طاغيا ، و يقول عنه الرب : " إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى " .

و قد يتجاوز حدود ذاته الى الآخرين ، فيحاول منع الناس عن عبادة الله ، و يدعوهم الى عبادته ، فيكون قد بالغ في الطغيان ، فيسمى بـ ( الطاغوت ) لأن هذه الصيغة تعني المبالغة ، كما نقول ملكوت مبالغة في الملك ، و جبروت مبالغة في السيطرة ، و الرحموت مبالغةفي الرحمة .

و ما هي عبادة الطاغوت ؟

قليل من الشعوب الخاضعة لحكم الجبابرة كانت تزعم أنهم آلهة فيسجدون لهم تعظيما ، إنما كان يستسلم أكثرهم للطاغوت رهبا و رغبا ، أو استرسالا ، و هكذا اعتبر طاعتهم لها عبادة و خضوعهم سجودا .

قال الإمام الصادق - عليه السلام - ( حسب رواية أبي بصير ) و هو يخاطب المؤمنين :

" أنتم هم ، و من أطاع جبارا فقد عبده " (1)و كيف يجتنب الطاغوت ؟


(1) المصدر / ص 481 .


الطاغوت حقيقة قائمة في كل مكان تقريبا ، فأنى توليت وجدت سلطة شيطانية مفروضة ، و شبكة فاسدة من أنصاره و تابعيه ، و المؤمن هو الذي يجتنب هذا الوضع ، و يطهر نفسه من تأثيراته الفاسدة ، فهو إذا يثور على الطاغوت و يتحداه حتى لا تشمله سيئاته ، و هذا بعض معاني الاجتناب ، و لكن آثار الطاغوت السلبية تنتشر في كل مكان ، و تصيب المؤمنين برذاذها شاؤوا أم أبوا ، فهذه أنظمته الإجتماعية و الإقتصادية ، و تلك أفكاره الجاهلية تملأ المحيط الذي يعيشه المؤمنون ولابد أنهم يخضعون لها حينا من الاحيان .

فماذا يصنعون ؟

إن عليهم الإنابة الى الله في كل حين ، فكلما هزمتك ضغوط السلطة الفاسدة نفسيا ، و ملت إليها أو خضعت لقوانينها ، او مالأتها خشية بطشها أو رغبة عطائها فلابد أن تعود الى طهرك ، و تتوب الى الله متابا ، لتكون لك البشرى على لسان نبيك المرسل .

[ و الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها و أنابوا إلى الله لهم البشرى ]و يدخلك الله في حصن عبوديته .

[ فبشر عباد ]

[ 18] لا يفرض الطاغوت على الناس هيمنته حتى ينشر بينهم فلسفته ، فهو كمدخنة كبيرة تنفث دائما تيارا من الدخان الأسود فتلوث الأجواء .

إن أجهزة إعلامه السلطوية تبث بين الناس الأفكار الشركية التي تبعدهم عنربهم ، و تشيع فيهم أفكارا باطلة تسلبهم ثقتهم بأنفسهم ، و تفرق كلمتهم و تضعهم في هالة من الأمنيات ، و تشيع فيهم أنه مرهوب الجانب ، و قراراته صائبة ، و هو رجل إلهي مقدس .

كما انها تبث فيهم العصبيات العرقية و القبلية و القومية ، و تحمد إليهم أصنام التراث و أنصاب المصالح المادية .

و حول الطاغوت يتحلق طائفة من تجار الدين و العلم ، يوحون إليه بالمكر ، و يزينون له باطله ، و يلمعون للناس وجهه .

و هكذا يصبح التخلص من دائرة نفوذ الطاغوت عملا عسيرا يحتاج إلى همة و اجتهاد ، و لعل هذا ما تشير إليه كلمة " و اجتنبوا " في الآية السابقة ، و التي تتخصص في هذه الآية باجتناب الثقافة الطاغوتية إذ يقول ربنا :

[ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ]

و هكذا يصف الذين تجانبوا الطاغوت و تاثيراته الشركية بأنهم لا يتبعون أي قول بل أحسنه .

و لكن كيف يتم ذلك ؟

أولا : إن عباد الله يتعاملون مع القول الذي يعبر عن الفكرة باهتمام منهم ، لا يسمعونه بل يستمعون إليه ، و فرق بينهما كبير ، فالسماع لا إهتمام فيه بعكس الإستماع ، و هكذا جاء في الحديث :

" كونوا نقاد الكلام "


ثانيا : إنهم يمارسون التعقل و التفكر ليعرفوا أحسن الحديث ، و بذلك يميزون بين الردىء و الجيد و بين الحسن و الأحسن ، فلا يكتفون بمعرفة الجيد بل يسعون لمعرفة الأحسن و فق قيم العقل و الوحي ، ذلك أن أحسن القول هو الأصلح لدنياهم حسب هدى العقل و الأنفع لأخراهم حسب هدى الوحي .

ثالثا : فإذا عرفوا الأحسن اتبعوه ، و لم يبحثوا عن العلم للعلم بل للعمل ، و لم يتعلموا العلم لينقلوه الى غيرهم بل ليعملوا به أولا .

[ أولئك الذين هداهم الله و أولئك هم أولوا الألباب ]إنهما حجتان في حجة ، حجة الوحي و حجة العقل ، و هما تجليان لنور الله ، الذي أودعه بقدر في ضمير كل بشر ، و أنزله بهيا عبر رسالاته ، و قد تجلى هذا النور في ضمير هؤلاء لأنهم اتبعوا أحسن القول ، و هكذا هدى الله يتنزل على قلب من يسعى إليه و يتبعه ، أولميقل ربنا سبحانه : " و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " و باطل أمنية أولئك الذين ينتظرون الهدى من دون سعي و جهاد .

و أستوحي من الآية فكرة اعتبرها مفتاحا لغيب الكتاب الحكيم ، و هي : إن كل كتاب ربنا حسن ، إلا أن الناس يختلفون في مدى الإنتفاع به ، فبعضه بالنسبة الى البعض أحسن من غيره لحاجته الملحة إليه ، و مثل القرآن مثل أنواع الطعام متشابه في فائدته و روعته و لذته إلا أن الناس يختلفون في انتفاعهم به .

فمثلا : آيات الجهاد تتجلى في عصر التحديات أكثر من آيات الصبر ، بينما تتجلى آيات الإنفاق للإغنياء بقدر تجلي آيات العفاف للفقراء .

و معرفة الظروف الإجتماعية و الشخصية تكون بالعقل ، فهو ليس دليلا مستقلا بين الأدلة الشرعية بالإضافة الى الكتاب و السنة و الإجماع ، بل هو النور الذي يعرفبه الكتاب ، و به نميز السنة ، و به نثق بالإجماع ، فلولا العقل كيف نهتدي الى معاني الكتاب ، و كيف نصدق أو نكذب بالرواة الذين نقلوا إلينا السنة ، و كيف يعكس الإجماع لنا السنة ؟

[ 19] و بعكس المؤمنين ، فإن غيرهم حين استسلم لضلالة الطاغوت حقت عليه كلمة العذاب حين أضله الله ، و سلبه هدى عقله بعد أن أساء التصرف معه .

[ أفمن حق عليه كلمة العذاب ]

و أضله الله و ألزمه التيه لأنه لم ينتفع بعقله و لم يتبع هدى ربه .

[ أفأنت تنقذ من في النار ]

إنه لا يتخلص من النار أبدا ، لأن وسيلته الوحيدة للإنقاذ رحمة الله و هو محروم منها .

[ 20] ذلك كان جزاء الذين اتبعوا الطاغوت . أما الذين اتقوا في الدنيا فهم يحبرون في الجنة .

[ لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف ]

و هي البيوت المرتفعة .

[ من فوقها غرف ]

مما يشبه العمارات المبنية بإتقان ذات طوابق عديدة .

[ مبنية تجري من تحتها الآنهار ]


و الذي يضمن هذا الجزاء الحسن لهم هو وعد الله ، أترى يخلف الله وعده ؟

[ و عد الله لا يخلف الله الميعاد ]

و يشوقنا الرسول - صلى الله عليه و آله - الى تلك الجنة في تفسيره للآية فيقول في جواب علي - عليه السلام - حين سأله عن تفسير الآية :

" بماذا بنيت هذه الغرف يا رسول الله ؟ فقال : يا علي تلك غرف بناها الله لأوليائه بالدر و الياقوت و الزبرجد ، سقوفها الذهب ، محبوكة (1) بالفضة ، لكل غرفة منها ألف باب من ذهب ، على كل باب منها ملك موكل به ، و فيها فرش مرفوعة ، بعضها فوق بعض منالحرير و الديباج بألوان مختلفة ، حشوها المسك و العنبر و الكافور ، و ذلك قول الله : " و فرش مرفوعة " فإذا دخل المؤمن الى منازله في الجنة وضع على رأسه تاج الملك و الكرامة ، و ألبس حلل الذهب و الفضة و الياقوت و الدر منظوما في الإكليل تحت التاج، و ألبس سبعين حلة حرير بألوان مختلفة ، منسوجة بالذهب و الفضة و اللؤلؤ و الياقوت الأحمر ، و ذلك قوله : " يحلون فيها من أساور من ذهب و لؤلؤا و لباسهم فيها حرير " فإذا جلس المؤمن على سريره اهتز سريره فرحا ، فإذا استقرت بولي الله منازله في الجنة استأذن عليه الملك الموكل بجنانه ليهنئه بكرامة الله إياه ، فيقول له خدام المؤمن و وصفاؤه (2) : مكانك فإن ولي الله قد اتكى على أريكته و زوجته الحوراء العيناء قد ذهبت اليه فاصبر لولي الله حتى يفرغ من شغله " (3)[ 21] حين نتأمل في نعم الله المبثوثة حولنا نزداد إيمانا بصدق وعد ربنا بنعم الجنة التي هي أنقى و أبقى .


(1) حبكه : شده و أحكمه .

(2) و صفاء جمع الوصيفة : الجارية .

(3) المصدر / ص 483 .


تعالوا إلى الروابي لننظر الى الغيث حين ينزل على الأرض فينشر الله عليها بركاته . تأملوا في طبقات الأرض ، و أمعنوا النظر في القنوات التي جعلها الله فيها و في الأحواض الكبيرة التي تنتهي إليها فتختزن مياه المطر بعد تنقيتها في جوف الأرض ثم تتفجر ينابيعمستمرة على مدار السنة .. أولا تشهدون يد القدرة الإلهية التي نظمت الخليقة أحسن تنظيم ؟!

[ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ]

كيف سخر الرياح لحمل السحب الثقيلة من أعالي البحار ، و كيف مررها بتيارات باردة ، و كيف لقحها بعواصف الرياح الهوج في جو السماء ؟! ثم كيف هداها الى حيث أمرها بإلقاء حملها ؟! تبارك الله رب القدرة و الرحمة .

و الماء هو الماء ، و لكنه ينقسم الى ما يصرف آنيا ، و ما يختزن في باطن الأرض .

[ فسلكه ينابيع في الأرض ]

من الربيع الى الخريف ، و من الشتاء الى قيض الصيف .

[ ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ]

فإذا بالماء الواحد يجعله الله نباتات مختلفة .

[ ثم يهيج فتراه مصفرا ]

فحين تينع الثمار ، و تيبس الحبوب ، لا تستقر في مواقعها ، بل تميل الى الصفرة بعد الخضرة إستعدادا لحصادها .

[ ثم يجعله حطاما ]


يابسا تذره الرياح ، و الحطام ما يتفتت من النبت ، أولا ترون آثار القدرة و التدبير في كل هذه الدورة الحياتية السريعة ؟!

[ إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ]

يعرفون الله من خلال آياته ، و يعرفون صنع الله فيما يأتي من خلال صنعه فيما مضى ، و يعرفون سنة الله الواحدة في الخلق فكما تمر النباتات بالدورة الحياتية يمر الإنسان بذات الدورة ، و عليه أن يستعد للرحيل ، و يتزود للمسير بالتقوى ، و يأخذ من دار الغرور لدار الجزاء .

و كلمة أخيرة : إن هذه الدورة النباتية تعكس النبات في حالتين : عندما يزهو في اخضراره ، و حينما يكون حطاما . إنه ذات النبات يمر بحالتين ، كذلك الانسان قد يكون في ذروة إيمانه و قد يكون في حضيض الكفر . هل يستويان مثلا ؟!


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس