فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 30] من أبرز و أخطر مصيبات البشر إنغلاق قلبه عن حقائق الخليقة ، و إيمانه بمقاييس ذاتية ، يقيم بها الأحداث و الأشخاص من حوله ، فكيف يتخلص الإنسان من هذه المصيبة التي تعم سائر أبناء آدم ، و تعبير آخر كيف يتقي الإنسان شح ذاته ، و يخرج من زنزانة نفسهالضيقة الى رحاب الحق ؟

لا ريب أن وعي الموت و النشور ثم الوقوف أمام محكمة الحق أقرب السبل للخلاص من هذه البلية ، ذلك أن اعتقاد الانسان بوجود مقاييس موضوعية ثابتة عند الله ، و أنه سوف يعرض عليها بأفكاره و أقواله و أعماله ، و سوف يحاكم وفق تلك المقاييس شاء أم ابى ، كل ذلك يعيده الى رشده ، و ينمي عقله على حساب هواه ، و يجعله يبحث عن تلك المقاييس اليوم و قبل فوات الأوان .

هكذا يدعونا الإيمان بالبعث الى الإيمان بكل الحقائق ، و هوكما أسلفنا حجر الزاوية في بناء صرح المعرفة عند الانسان ، و قبل الإيمان بالبعث لابد من وعي الموت .

[ إنك ميت و إنهم ميتون ]


فإذا مات الرسول (ص) رغم عظمته وجلال مقامه فهل يبقى أحد منا ؟! قال تعالى : " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفئن مت فهم الخالدون " (1)و يبدو لي أن الخطاب ليس خاصا برسول الله (صً) فكل من يقرأ القرآن معني بهذا الخطاب ، لأن القرآن نزل على لغة ( إياك أعني و اسمعي يا جاره ) .

هكذا تبعث هذه الآية في أنفسنا يقظة ، و في أعصابنا رعشة ، و في عقولنا إثارة ، و في أفئدتنا سكينة ، فأي هيبة عظيمة للموت ، هذا الباب الذي لا يعود منه من دخله ، و لا ينجو منه من هرب منه ، و اين يذهب أعزتنا الذين نحملهم كل يوم الى المقابر مرغومين ، و نقف عند أجداثهم مرهوبين ، و يهمس في آذاننا داعية الحق آنئذ قائلا :

و إذا حملت الى القبور جنازة فاعلم بآنك بعدها محمول ..


و يقول الإمام علي ( عليه السلام ) :

" لو رأى العبد أجله و سرعته إليه لأبغض الأمل و ترك طلب الدنيا " (2)[ 31] و هل تنتهي المشكلة عند الموت ؟ كلا ..

[ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ]

فخلافاتكم في الدنيا تنتقل الى الآخرة ، و ربنا سبحانه هو الحكم يومئذ ، و الموازين و القوانين يومئذ غيرها في الدنيا ، و علينا أن نبحث عنها و أن نطبق حياتنا(1) الأنبياء / 34 .

نور الثقلين / ج 4 / ص 489 .


وفقها إن أردنا الحياة .

[ 32] و محور المعايير هنالك الصدق ، و أظلم الناس لنفسه من كذب على الله و كذب بالصدق ، و لكن كيف يكذب على الله ؟

يزعم الإنسان حينما يقسو قلبه ، و ينغلق عن الحقائق ، بأن ذاته هي الحق ، و يكون مثله مثل ذلك الذي سئل : أين مركز الدنيا ؟ فقال : حيث يقف حماري ، لقد كان يزعم هو و الكثير من أمثاله بانهم مركز الحياة ، فالعالم يبدأ من حيث هم ، و ليس من حيث هي ، و يتصورون أن الحق ما يرونه ، و الباطل ما يرفضونه ، و هذا هو الكذب على الله ، و حين يعرفون دين الله تراهم تبعا لهذه الحالة النفسية يحقون الباطل و يبطلون الحق ، و هكذا يكذبون على الله افتراءا عليه .

[ فمن أظلم ممن كذب على الله ]

و بيان الرسول لهذه الحقيقة شاهد على صدقه ، إذ من يكذب على الله يهون على نفسه هذا الذنب ثم يرتكبه ، بينما نرى الرسول بالعكس تماما يبين مدى جريمة الكذب على الله .

و كثير من الناس يمارسون الكذب على الله و هم لا يشعرون ، و ذلك حين يقولون : هذا حلال و هذا حرام ، دون سلطان من الله أتاهم .

و جرم الكاذب على الله عظيم ، و لا يعادله إلا تكذيب الصدق الذي يجيء من عند الله ، إذ الإنسان مسؤول عن معرفة الصدق و التصديق به ، و لايجوز أن ينطوي على نفسه و يقول : من أين نعرف صدق هذا الداعية ؟

[ و كذب بالصدق إذ جاءه ]


و جزاء هذا و ذاك الإقامة في جهنم ، لأنهما معا كافران .

[ أليس في جهنم مثوى للكافرين ]

و يترك السياق الجواب عليهم لكي تقر ألسنتهم به .

[ 33] و في مقابل هؤلاء يقف الصادقون فحين يخرجون عن ذواتهم يرون الحق بوضوح ، لأن مشكلة الذي لا يرى الحق إنغلاق نفسه ، فهل تدخل الشمس غرفة مغلقة مسدلة الستائر ؟! كلا .. فعلى الإنسان أن يفتح صدره ، و يزيل الستائر و الحجب من ذاته ، لكي يدخل نور الله أرجاء قلبه .

[ و الذي جاء بالصدق و صدق به ]

" جاء بالصدق " أي دعا إليه كالرسول ، " و صدق به " أي التزم بما آمن ، فلا يكفي الإيمان بصدق شيء من دون العمل بمضمون هذا الإيمان ، و الصديق هو الذي يؤمن في الأوقاف الحرجة ، حيث لا تسمح له السلطات ولا يؤيده الناس .

و جاء في تفسير مجمع البيان : قيل الذي جاء بالصدق محمد (ص) ، و صدق به علي بن أبي طالب ، و هو المروي عن أئمة الهدى من آل محمد عليهم السلام . (1)و الصديق يتقي بصدقه عذاب الله :

[ أولئك هم المتقون ]

القرآن عادة ما يربط بين الفكر و العمل برباط التقوى ، و التقوى حقيقة تدور حولها كل الحقائق ، و هذا ما تشير إليه الآية : " إنما يتقبل الله من المتقين " . (2)(1) المصدر / ص 489 .

(2) المائدة / 27 .


[ 34] و في الجنة :

[ لهم ما يشاءون عند ربهم ]

لأنهم تركوا ما يشاؤونه في الدنيا ، فأهواؤهم كانت تدعوهم للخضوع الى الطاغوت ، و الميل للمجتمع الفاسد ، و الإنسياق وراء شهوة البطن و الفرج .. و هكذا أعطاهم الله ما يشاؤون ، أو لأنهم أعطوا للمحتاج ما يشاء أعطاهم الله ما يشاؤون .

و كلمة " ما " تعني الإطلاق ، فهم لا يتمنون على الله شيئا إلا أعطاهم .

و قيل : إن ما عند ربهم يشاؤونه ، فقد أعد الله لهم نعيما في الجنة يشاؤونه ، ولا تعارض في المعنيين .

[ ذلك جزاء المحسنين ]

بعد مرحلة التقوى يأتي الإحسان ، و الإحسان هو العطاء ، و نتساءل : هل يمكن أن يعطي الإنسان شيئا دون أن يخرج من قوقعة ذاته ؟

كلا .. فالذي يعيش في حدود نفسه و شهواتها لا يستطيع أن يعطي ، و إنما يعطي من يفكر في حاجات الآخرين قبل حاجات نفسه ، فالاحسان إذن أرفع مراحل التكامل البشري ، فقد يكون الانسان متقيا و لكن لا يعطي إلا بحساب ، و المحسن موقن بالخلف فيستسهل البذل .

و الظاهر أن الإيمان و التقوى يكتمل بالإحسان ، وهو أعلى المراحل في المسيرة الإيمانية .


[ 35] و يبقى المتقون خائفين من سيئاتهم التي إن بقيت أكلت جانبا من حسناتهم ، ولكن الله يطمئنهم حين يعدهم بغفرانها :

[ ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ]

إذا كان الخط العام للإنسان في الحياة سليما فإن هفواته تغتفر له ، كما لو كانت إستراتيجية القائد سليمة فإن أخطاءه التكتيكية لا تؤثر عليه ، بعكس ما إذا كانت استراتيجيته خاطئة فإن صواب خططه المرحلية لا ينفعه شيئا .

و هكذا إذا كان الخط العام لحياة شخص سليما ، فتولى الله و رسوله و أولي الأمر حقا ، و نهض بواجباته في التحصن ضد الإنحرافات السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية ، فلم ينصر ظالما ، و لا خذل مظلوما ، و لا أكل أموال الناس بالباطل ، ولا أدلى بها الى الحكام، و بالتالي اجتنب فواحش الذنوب ، ثم ارتكب اللمم و هي الصغائر ، أو حتى الكبائر بلا جحود ولا إًصرار ، ثم تاب الى ربه متابا فإنه ترجى له مغفرة الله .

أما من كان خطه العام منحرفا فكان وليا لأعداء الله ، معينا للظلمة على عباد الله ، فإن كثرة صلاته و صومه لا تنفعه ، كذلك لو عاش على الحرام حتى نبت لحمه و عظمه منه .

و لعل المعيار الأساسي في ذلك ألا تكون السيئة الصادرة من منطلق سيء ، إذ قد يرتكب المرء ذنبا و لكن قلبه لا يزال مطمئنا بالإيمان فيمكن تدارك الأمر ، و لكن الذي يرتكب الموبقات وهو جاحد بربوبية الرب ، مستحل للمحرمات ، فإن توبته الى الله بعيدة .

و تشجيعا لحالة الإحسان في الأمة ألغى الإسلام الضمان عن المحسنين الذينيقعون في الخطا ، فقال سبحانه : " ما على المحسنين من سبيل " و مضت هذه الآية قاعدة فقهية استنبط العلماء منها أحكاما كثيرة حيث اسقطوا بها الضمان من الذين يريدون الإحسان و لكنهم يخطئون فيلحقون ضررا بالطرف الآخر ، كمن أراد إنقاذ غريق فتسبب جهلهبطريقة الإنقاذ الى المساهمة في غرقه .

[ و يجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ]

[ 36] و من العقبات التي تعترض طريق المؤمنين المحسنين خشية الناس ، و الخوف من مقاطعتهم و هجرهم ، و لكن الله و عدهم بكفايتهم شر الناس ، و الله سبحانه هو الذي يحفظ السموات و الارض أن تزولا ، فكيف لا يحفظ عبده ؟!

[ أليس الله بكاف عبده ]

بلى . إن الله يكفي عبده شر جور السلاطين ، و كيد الحاسدين ، و بغي الظالمين .

[ و يخوفونك بالذين من دونه ]

بإثارة الرعب في قلبك ممن هو من دونه سبحانه ، أن يضلوك عن سبيله .

[ و من يضلل الله فما له من هاد ]

لا يعلمون أن المهيمن هو الله ، و ان الأنداد من دونه ، و السلطات الطاغوتية ، و المجتمع الفاسد ، و . و . لا تملك أي قوة ، و لأنهم توجهوا إلى غير الله فقد سلب منهم الله نور الهداية فأضلهم .

[ 37] ومرة اخرى يؤكد الله على فكرة الكفاية بقوله :


[ و من يهد الله فما له من مضل ]

أي لا توجد قوة قادرة على إضلال امرء إذا اراد الله هدايته .

جاء في الحديث عن أبي عبد الله (ص) لثابت ابن سعيد :

" يا ثابت ! مالكم و للناس ؟! كفوا عن الناس ، و لا تدعوا أحدا إلى أمركم ، فوالله لو أن أهل السموات و الأرضين اجتمعوا على أن يهدوا عبدا يريد الله ضلالته ما استطاعوا على أن يهدوه ، و لو أن أهل السموات و أهل الأرضين اجتمعوا على أن يضلــوا عــبدا يريد الله هداه ما استطاعوا أن يضلوه . كفوا عن الناس ، و لا يقول أحد : عمي ، اخي ، و ابن عمي ، و جاري ، فإن الله إذا أراد بعبد خيرا طيب روحه فلا يسمع معروفا إلا عرفه ، و لا منكرا إلا أنكره ، ثم يقذف في قلبه كلمة يجمع بها أمره " (1)و هذا الحديث يفسره قوله تعالى : " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " . (2)[ أليس الله بعزيز ذي انتقام ]

إن الله عزيز ، و من عزته انتقامه من الكفار ، و من مظاهر إنتقامه إضلاله للمعاندين كما أن من مظاهر عزته هدايته للمحسنين .

[ 38] و من أمثلة عزة الله خلقه السموات و الأرض و تدبيره لهما :

[ و لئن سألتهم من خلق السموات و الأرض ليقولن الله ](1) نور الثقلين / ج 4 / ص 490 .

(2) الكهف / 6 .


إن الله هو الذي خلق السموات و الأرض ، و هما بيده ، فلا تنظر إلى محيط دولة يحكمها قزم ، و تقول : هذا ربي . كلا .. فالذي خلق السموات و الأرض ربك و ربه ، و انتما تحت سيطرته ، و ما يملك فهو له سبحانه .

[ قل أفرءيتم ما تدعــون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره ]فلو اجتمعت كل سلطات العالم لتمنع عن أحد ضرر فيروس بسيط كفيروس الإيدز مثلا أتراهم يقدرون ؟ كلا ..

فكل أجهزة الطب المتقدمة في الولايات المتحدة لم تستطع إنقاذ حياة الرئيس الأمريكي كنيدي بعد إصابته برصاصات قاتلة ، و كذا لم تستطع الإتحاد السوفيتي أن تنقذ حياة طاغوتها ستالين .

[ أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ]

فلو شاءت إرادة الله إنزال الماء من السماء على بلد معين ، و أراد طاغوت هذا البلد منعه فهل يستطيع ؟! كلا .. إن مشكلة الإنسان هو خضوعه النفسي للطاغوت ، و إذا لم يخضع له نفسيا فهو لا يستطيع أن يفعل شيئا .

[ قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ]

فالله يكفيني ، و عليه توكلي .

و هذه الآيات الثلاث تسلية للرسول ومن يحمل رسالة ربه ألا يهن أو يخاف من الكفار و ممن يدعون من دونه ، فقد ضمن الله ما يلي :


1 - كفايته للرسول و من يحمل رسالته من بعده من تخويف الكافرين له .

2 - إنه سبحانه يضلل الكافرين ومن يدعون من دونه ، و لن يهديهم سواء السبيل .

3 - إن الله سوف يهدي الذين آمنوا حين يتمسكون بهداه ، و لن يضلهم أعمالهم .

4 - إن الله عزيز ذو انتقام ، لا يرد بأسه عن الذين كفروا ، فسوف يأخذهم أخذ عزيز منتقم .

5 - إن الله حين يريد بالمؤمنين خيرا فلن تستطيع قوة أن تهزمهم ، و إن حمايتهم و حسبهم و كفايتهم على الله ، لأن الله اراد ذلك .

[ 39] و حين يطمئن الله الرسول يأمره بتحديهم .

[ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون ]هذا التحدي من الرسول (ص) ينبع من روح الإطمئنان بسبب حماية الله و كفايته و حسب ، و هذه الروح يجب أن يتحلى بها الرساليون ، و يقولون كما قال الرسول (ص) : يا قوم ! أعملوا ما شئتم ، و امكروا ما شئتم ، و أظلموا ما شئتم ، و اقتلوا ما شئتم ، إننا ماضون علىالطريق فسوف تظهر النتائج سريعا .

[ 40] و هناك تعلمون :

[ من ياتيه عذاب يخزيه و يحل عليه عذاب مقيم ]

ففي محكمة العدل الإلهية يتقرر من الصالح ومن المفسد ، فهناك الميزان الحق ،و المقاييس السليمة .. و تذكرة القرآن بذلك اليوم تحقق التعادل في النفوس السليمة . فلا تأبه بالمعايير المادية الخاطئة .

[ 41] إذا فمن اهتدى بالكتاب فقد آمن يوم الفزع الأكبر ، و من ضل فقد ضل على نفسه ، و هو الخاسر الوحيد ، إذ يخسرون في يوم القيامة أنفسهم و أهليهم .

[ إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق ]

القرآن هو ذلك المقياس يوم القيامة ، و سياتي مجسدا يوم القيامة ، فلابد من أن نجعله مقياسا لنا في الدنيا .

[ فمن اهتدى فلنفسه و من ضل فإنما يضل عليها ]

فالهدى له ، و الضلالة عليه .

[ و ما أنت عليهم بوكيل ]

كل إنسان لابد أن يواجه مصيره بنفسه ، و يختار طريقه بإرادته ، و يتحمل مسؤولية اختياره ، و لا أحد يتحمل مسؤولية أحد ، حتى الرسول ليس و كيلا عن قومه ، إنما هو نذير .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس