بينات من الآيات [16] كانت حرب الأحزاب من الأزمات الصعبة التي مرت بها الأمة الاسلامية ، و كان من ايجابياتها - كما سائر الأزمات - انها كشفت واقع فريق المنافقين ، و القرآن لا يذكر تفاصيل هذه الحادثة في هذه السورة ، انما يذكر ببعض النقاط الحساسة منها .
فيؤكد لنا بأن الانسان لا يستطيع ان يدعي القدرة على الخلاص من الموت أو القتل بالفرار ، أو ان ذلك ينفعه . كلا .. فهو قد يبعده عن ذلك لحظات و أياما ، و لكنه لن يكون سببا للبقاء و الاستمرار ، فما يدفعه المجتمع و حتى الانسان الفرد عن الهزيمة يفوق ما يدفعه حين الاستقامة و الاستمرار أضعافا مضاعفة ، فهو بالفرار من المعركة يعطي العدو زخما من القوة و الثقة بالنفس .
[ قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل و إذا لا تمتعون إلا قليلا ]بينما تهب الشجاعة للانسان عمرا طويلا ، لأن الشجاع يقاوم الأعداء ومن ثم يضمن استمراره .
[17] و بالاضافة الى ان الفرار من الموت لا يجدي نفعا ، اذ انه يدركهم انى كانوا ، بالاضافة الى ذلك فانه يغضب الرب ، و هم لا يملكون من دونه وليا ولا نصيرا ، فاذا أراد بهم سوء فلا عاصم لهم منه يمنعهم من عذابه ، و إذا أراد بهم رحمة فلا أحد قادر على منعرحمته عنهم .
[ قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوء أو أراد بكم رحمة ]ان الهزيمة امام الاعداء مظهر من مظاهر ضعف الايمان بالله و تعلق القلب بالشركاء من دونه ، و هكذا ينسف القرآن هذه الفكرة بقوله :
[ و لا يجدون لهم من دون الله وليا و لا نصيرا ]
[18 - 19] ثم يذكرنا القرآن بجانب من صفات المنافقين و هي :
أولا : انهم يبحثون عن امثالهم ، أولا اقل مثلهم عمليا ، فاذا بهم يثبطون أناس عن المواجهة مع العدو عند الحرب ، حتى يكون المجتمع مثلهم فيتخلصون من اللوم و ممن يسمهم بالجبن .
[ قد يعلم الله المعوقين منكم و القائلين لإخوانهم هلم إلينا ]اي المثبطين الذين يبثون روح الهزيمة و الضعف في المجتمع ، و " قد " تفيد التأكيد و ليس الامكان و التحقيق .
ثانيا : الجبن و عدم الإقدام ، و قليلا ما يتواجدون حين المعارك الحاسمة ، و هكذا فان الصعوبات و المشاكل هي التي تكشف المنافقين على حقيقتهم فاذا بهم - وقد ادعوا الشجاعة سابقا - تخور عزيمتهم في لحظة المواجهة ، و تدور أعينهم من الخوف ، كما المغشي عليهمن الموت ، و اذا انجلى الخطر بصمود المؤمنين و استقامتهم في ساحة الصراع تجدهم مرة أخرى بألسنتهم السليطة يشتمون و يحملون الآخرين المسؤولية ، و حدة كلامهم تكون بمقدار هزيمتهم و جبنهم في الأزمات .
[ و لا يأتون البأس إلا قليلا * أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ]ثالثا : السعي من اجل المغانم ، و الأخذ من المجتمع الاسلامي بحرص شديد يوازي شحهم و بخلهم عن الانفاق لصالح الاسلام و المسلمين ، و أساسا لا ينتمي هؤلاء للمسلمين إلا سعيا وراء المصلحة .
[ أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم و كان ذلك على الله يسيرا ]و انمـا احبط الله أعمالهم لانها لا تقوم على اساس صحيح و اهداف مبدئية شريفة ، كما نزع عنهم اسم المؤمنين لان انتماءهم للمؤمنين ظاهري ، و انتماؤهم الحقيقي هو للكفار أو لذواتهم و شهواتهم .
[20] رابعــا : ومن خوف المنافقين انهم حتى بعد انتهاء المعركة لصالح المسلمين ، و انسحاب الأحزاب لما تطمئن نفوسهم ، فهم يزعمون أن المعركة لا زالت قائمة ، و يعيشون حالة الخوف و الرعب ، و كيف تطمئن نفوسهم و هي خالية من الايمان و ذكر الله ؟!
[ يحسبون الأحزاب لم يذهبوا ]
فهم وجلون على مصيرهم و مصالحهم من قوى الشرك .
[ و إن يأت الأحزاب ]
يتمنون لو كانوا بعيدين عن المسلمين ، كما سكان البادية الذين همهم سماع الاخبار بعيدا عن المسؤولية ، و هذه من صفات المنافقين انهم في ساعة العسرة و الخطر ينهزمون في داخلهم .
[ يودوا لو أنهم بادون ]
خارجون الى ( البدو ) في الصحراء .
[ في الأعراب يسئلون عن أنبائكم ]
ليعرفوا مصير المعركة حتى يتكيفوا معه ، فهم لا يصنعون الأحداث بل يتقلبون معها .
[ و لو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا ]
مما يدل على ان المنافقين ينهزمون نفسيا بتلك التمنيات ، و عمليا بالفرار من بين المسلمين حفاظا على حياتهم ، ولو لم يحالفهم الحظ بالفرار و الهزيمة ما كانوا يؤثرون في المعادلة أبدا ، لأنهم غير مستعدين للتضحية ولا للقتال المستميت .
و تدل هذه الآية : " ما قاتلوا الا قليلا " على احد معنيين :
الاول : أنهم لو كانوا في المسلمين لم يقاتلوا الأحزاب - على افتراض عودتهم - لأنهم يبحثون عن المعارك التي يكون فيها العدو ضعيفا و قليلا ، بحثا عن المغانم حيث يكون النصر فيها للمسلمين ، و حتى في هذه الحالة فإنهم لا يؤدون دورا أساسيا ، و لا يدخلون قلبالمعركة .
الثاني : انهم لو صادف ميجيء الاحزاب للقتال مرة ثانية ، ولم يتمكنوا من الفرار فانهم لن يؤدوا مهامات خطرة في القتال ، بل سيكتفون بالأدوار الهامشية التي لا تكلفهم شيئا من التضحية ، كما أنها تحافظ على شخصياتهم و مكانتهم في المجتمع المسلم .
|