أقول : يعني بأسماء الله التي بها خلقت هذه الأشباح فانها بتمامها كانت مستورة على الملائكة الأرضية الا نوعا واحدا لكل صنف منهم كما أنها مستورة على سائر المخلوقات سوى الأنبياء والأولياء .
إن كنتم صادقين : بأنكم أحقّاء بالخلافة من آدم وأن جميعكم تسبحون وتقدسون وأن ترككم هاهنا أصلح من إيراد من بعدكم أي فكما لم تعرفوا غيب من في خلالكم ممن ترون أشخاصها فبالحري أن لا تعرفوا الغيب الذي لم يكن .
(32) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم بكل شيء الحكيم المصيب بكل فعل .
أقول : وإنما اعترفوا بالعجز والقصور لما قد بان لهم من فضل آدم ولاحت لهم الحكمة في خلقه فصغر حالهم عند أنفسهم وقل علمهم لديهم وانكسرت
سفينة جبروتهم فغرقوا في بحر العجز وفوضوا العلم والحكمة إلى الله وإنما لم يعرفوا حقائق الأشياء كلها لاختلافها وتباينها وكونهم وحدانية الصفة إذ ليس في جبلتهم خلط وتركيب ولهذا لا يفعل كل صنف منهم إلا فعلا واحدا فالراكع منهم راكع ابدا والساجد منهم ساجد أبدا والقائم منهم قائم أبدا كما حكى الله عنهم بقوله : ( وما منا الا له مقام معلوم ) ولهذا ليس لهم تنافس وتباغض بل مثالهم مثال الحواس فان البصر لا يزاحم السمع في إدراك الأصوات ولا الشم يزاحمهما ولا هما يزاحمان الشم فلا جرم مجبولون على الطاعة ولا مجال للمعصية في حقهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون فكل صنف منهم مظهر لاسم واحد من الاسماء الإلهية لا يتعداه ففاقهم آدم بمعرفته الكاملة ومظهريته الشاملة .
(33) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم .
أقول : يعني أخبرهم بالحقائق المكنونة عنهم والمعارف المستورة عليهم ليعرفوا جامعيتك لها وقدرة الله تعالى على الجمع بين الصفات المتباينة والأسماء المتناقضة ومظاهرها بما فيها من التضاد في مخلوق واحد كما قيل : ليس على الله
( 115 )
بمستنكر أن يجمع العالم في واحد .
فلما أنبأهم بأسمائهم فعرفوها أخذ عليهم العهود والمواثيق للأنبياء والأولياء بالإيمان بهم والتفضيل لهم على أنفسهم فعند ذلك قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض سرّهما وأعلم ما تبدون من ردكم علي وما كنتم تكتمون من اعتقادكم أنه لا يأتي أحد يكون أفضل منكم وعزم إبليس على الاباء على آدم أن أمر بطاعته فجعل آدم حجة عليهم .
(34) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وذلك لما كان في صلبه من أنوار نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته المعصومين عليهم السلام وكانوا قد فضلوا على الملائكة باحتمالهم الأذى في جنب الله فكان السجود لهم تعظيما وإكراما ولله سبحانه عبودية ولآدم عليه السلام طاعة .
قال علي بن الحسين حدثني أبي عن أبيه عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا عباد الله إن آدم عليه السلام لما رآى النور ساطعا من صلبه إذ كان الله قد نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره رأى النور ولم يتبين الأشباح فقال : يا رب ما هذه الأنوار فقال عز وجل : ( أنوار وأشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك ولذلك أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنت وعاء لتلك الأشباح فقال آدم يا رب لو بينتها لي فقال الله عز وجل : انظر يا آدم إلى ذروة العرش فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا التي في ظهره كما ينطبع وجه الانسان في المرآة الصافية فرأى أشباحنا فقال ما هذه الأشباح يا رب فقال الله : يا آدم هذه أشباح أفضل خلائقي وبرياتي هذا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانا الحميد المحمود في فعالي شققت له إسما من إسمي وهذا علي وأنا العلي العظيم شققت له إسما من إسمي وهذه فاطمة وأنا فاطر السموات والأرض فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي وفاطم أوليائي عمّا يعّيرهم ويشينهم فشققت لها إسما من إسمي وهذا الحسن وهذا الحسين وأنا المحسن المجمل شققت إسميهما من إسمي هؤلاء خيار خليقتي وكرام بريتي بهم آخذ وبهم اعطي وبهم اعاقب وبهم اثيب فتوسل بهم إليّ يا آدم إذا دهتك داهية فاجعله إليّ شفعاءك فاني آليت على
( 116 )
نفسي قسما حقا أن لا أخيب بهم آملا ولا أرد بهم سائلا فلذلك حين زلت منه الخطيئة دعا الله عز وجل بهم فتيب عليه وغفرت له فسجدوا إلا إبليس في المعاني عن الرضا عليه السلام كان اسمه الحارث سمي إبليس لأنه ابلس من رحمة الله أبى واستكبر أخرج ما كان في قلبه من الحسد وكان من الكفرين . في العيون عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه أول من كفر وأنشأ الكفر .
والعياشي عن الصادق عليه السلام مثله والقمي عنه عليه السلام الاستكبار هو أول معصية عصي الله بها . قال عليه السلام : فقال إبليس رب اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرب ولا نبي مرسل فقال جل جلاله لا حاجة لي في عبادتك إنما عبادتي من حيث اريد لا من حيث تريد .
(35) وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة في الكافي والعلل والقمي عن الصادق عليه السلام أنها كانت من جنان الدنيا يطلع فيها الشمس والقمر ولو كانت من جنان الخلد ما خرج منها أبدا ، وزاد القمي ولم يدخلها إبليس وكلا منها رغدا واسعا حيث شئتما بلا تعب ولا تقربا هذه الشجرة العياشي عن الباقر عليه السلام يعني لا تأكلا منها قيل وإنما علق النهي بالقرب الذي هو من مقدمات التناول مبالغة في تحريمه ، ووجوب الاجتناب عنه وتنبيها على أن القرب من الشيء يورث داعية وميلانا يأخذ بمجامع القلب ويلهيه عما هو مقتضى العقل والشرع .
وفي تفسير الامام أنها شجرة علم محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم آثرهم الله تعالى بها دون سائر خلقه لا يتناول منها بأمر الله الا هم ومنها ما كان يتناوله النبي صلى الله عليه وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام بعد إطعامهم المسكين واليتيم والأسير حتى لم يحسوا بعد بجوع ولا عطش ولا تعب ولا نصب وهي شجرة تميزت من بين سائر الأشجار بأن كلا منها إنما يحمل نوعا من الثمار وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البر والعنب والتين والعناب وسائر أنواع الثمار والفواكه والأطعمة فلذلك اختلف الحاكون بذكرها ، فقال بعضهم : برة ، وقال آخرون : هي عنبة ، وقال آخرون : هي عنابة وهي الشجرة التي من
( 117 )
تناول منها باذن الله ألهم علم الأولين والآخرين من غير تعلم ومن تناول بغير اذن الله خاب من مراده وعصى ربه .
أقول : وفي رواية أنها شجرة الحسد ، وفي رواية اخرى أنها شجرة الكافور .
وفي العيون باسناده إلى عبد السلام بن صالح الهروي قال : قلت للرضا عليه السلام يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت فقد اختلف الناس فيها فمنهم من يروي أنها الحنطة ومنهم من يروي أنها العنب ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد فقال كل ذلك حق قلت فما معنى هذه الوجوه على اختلافها فقال يا أبا الصلت ان شجرة الجنة تحمل أنواعا وكانت شجرة الحنطة وفيها عنب ليست كشجرة الدنيا وإن آدم لما أكرمه الله تعالى ذكره باسجاده ملائكته له وبادخاله الجنة قال في نفسه هل خلق الله بشرا أفضل مني فعلم الله عز وجل ما وقع في نفسه فناداه ارفع رأسك يا آدم وانظر إلى ساق عرشي فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا : لا إله إلا الله محمد رسول
الله صلى الله عليه وآله وعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة فقال آدم يا رب من هؤلاء فقال عز وجل : هؤلاء من ذريتك وهم خير منك ومن جميع خلقي ولولاهم ما خلقتك ولا خلقت الجنة والنار ولا السماء والأرض فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهى عنها وتسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم فأخرجهما الله تعالى عن جنته وأهبطهما عن جواره إلى الأرض .
أقول : كما أن لبدن الانسان غذاء من الحبوب والفواكه كذلك لروحه غذاء من العلوم والمعارف وكما أن لغذاء بدنه أشجارا تثمرها فكذلك لروحه أشجار تثمرها ولكل صنف منه ما يليق به من الغذاء فان من الانسان من يغلب فيه حكم
( 118 )
البدن على حكم الروح ومنه من هو بالعكس ولهم في ذلك درجات يتفاضل بها بعضهم على بعض ولاهل الدرجة العليا كل ما لأهل الدرجة السفلى وزيادة ولكل فاكهة في العالم الجسماني مثال في العالم الروحاني مناسب لها كما مرت الاشارة إليه في المقدمة الرابعة .
ولهذا فسرت الشجرة تارة بشجرة الفواكه وأخرى بشجرة العلوم وكان شجرة علم محمد صلى الله عليه وآله وسلم إشارة إلى المحبوبية الكاملة المثمرة لجميع الكمالات الإنسانية المقتضية للتوحيد المحمدي الذي هو الفناء في الله والبقاء بالله المشار إليه بقوله عليه السلام لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل فان فيها من ثمار المعارف كلها وشجرة الكافور إشارة إلى برد اليقين الموجب للطمأنينة الكاملة المستلزمة للخلق العظيم الذي كان لنبينا (ص) ودونه لأهل بيته عليهم السلام فلا منافاة بين الروايات ولا بينها وبين ما قاله أهل التأويل انها شجرة الهوى والطبيعة لأن قربها إنما يكون بالهوى والشهوة الطبيعية وهذا معنى ما ورد أنها شجرة الحسد فان الحسد إنما ينشأ منها فتكونا من الظلمين بمعصيتكما والتماسكما درجة قد أوثر بها غيركما إذا رمتما بغير حكم الله .
(36) فأزلهما وقرىء فأزالهما الشيطان عنها بوسوسته وخديعته وإيهامه وعداوته وغروره بأن بدأ بآدم ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة الا ان تكونا ملكين ان تناولتما منها تعلمان الغيب وتقدران على ما يقدر عليه من خصه الله تعالى بالقدرة أو تكونا من الخالدين لا تموتان ابدا وقاسمهما حلف لهما أني لكما لمن الناصحين وكان إبليس بين لحيي الحية أدخلته الجنة وكان آدم يظن أن الحية هي التي تخاطبه ولم يعلم أن إبليس قد اختبى بين لحييها فرد آدم على الحية أيتها الحية هذا من غرور إبليس كيف يخوننا ربنا أم كيف تعظمين الله بالقسم به وانت تنسبينه إلى الخيانة وسوء النظر وهو أكرم الأكرمين أم كيف أروم التوصل إلى ما منعني منه ربي وأتعاطاه بغير حكمة فلما أيس إبليس من قبول آدم (ع) منه عاد ثانية بين لحيي الحية فخاطب حواء من حيث يوهمها أن الحية هي التي تخاطبها وقال يا حواء أرأيت هذه الشجرة التي كان الله عز وجل حرمها عليكما فقد أحلها لكما بعد
( 119 )
تحريمها لما عرف من حسن طاعتكما له وتوقيركما إياه وذلك أن الملائكة الموكلين بالشجرة التي معها الحراب يدفعون عنها سائر حيوانات الجنة لا تدفعك عنها إن رمتها فاعلمي بذلك إنه قد أحل لك وابشري بأنك إن تناولتها قبل آدم (ع) كنت أنت المسلطة عليه الآمرة الناهية فوقه فقالت حواء : سوف أجرب هذا فرامت الشجرة فأرادت الملائكة أن يدفعوها عنها بحرابها فأوحى الله إليها إنما تدفعون بحرابكم من لا عقل له يزجره فأما من جعلته متمكنا مميزا مختارا فكلوه إلى عقله الذي جعلته حجة عليه فان أطاع استحق ثوابي وإن عصى وخالف أمري استحق عقابي وجزائي فتركوها ولم يتعرضوا لها بعدما هموا بمنعها بحرابهم فظنت أن الله نهاهم عن منعها لأنه قد أحلها بعدما حرمها فقالت صدقت الحية وظنت أن المخاطب لها هي الحية فتناولت منها ولم تنكر من نفسها شيئا فقالت لآدم عليه السلام ألم تعلم أن الشجرة المحرمة علينا قد ابيحت لنا تناولت منها ولم يمنعني املاكها ولم أنكر شيئا من حالي فلذلك اغتر آدم عليه السلام وغلط فتناول فأخرجهما مما كانا فيه من النعم وقلنا يا آدم ويا حواء ويا أيتها الحية ويا إبليس اهبطوا بعضكم لبعض عدو فآدم وحواء وولدهما عدو للحية وإبليس ، وإبليس والحية وأولادهما أعداؤهم وكان هبوط آدم وحواء والحية من الجنة فان الحية كانت من احسن دوابها وهبوط إبليس من حواليها فانه كان يحرم عليه دخول الجنة .
أقول : لعله إنما يحرم عليه دخول الجنة بارزا بحيث يعرف وذلك لأنه قد دخلها مختفيا في فم الحية ليدلّيهما بغرور كما ورد في حديث آخر وبهذا يرتفع التنافي بين هذا الحديث وبين الحديث الذي مر انها لو كانت من جنان الخلد لم يدخلها إبليس أراد به دخولها وهو في فم الحية فليتدبر .
ولكم في الارض مستقر منزل ومقر للمعاش ومتاع منفعة إلى حين حين الموت يخرج الله منها زروعكم وثماركم وبها ينزهكم وينعمكم وفيها بالبلايا يمتحنكم يلذذكم بنعيم الدنيا تارة لتذكروا به نعيم الآخرة الخالص مما ينغص نعيم الدنيا ويبطله ويزهد فيه ويصغره ويمتحنكم تارة ببلايا الدنيا التي تكون في خلالها الزحمات وفي تضاعيفها النقمات ليحذركم بذلك عذاب الأبد الذي لا يشوبه عافية ،
( 120 )
وفي رواية القمي : إلى حين يعني إلى يوم القيامة .
أقول : لا منافاة بين الروايتين لأن الموت هو القيامة الصغرى للأكثرين والكبرى للآخرين ، ولذا ورد من مات فقد قامت قيامته .
(37) فتلقى آدم من ربه كلمات يقولها فقالها وقرئ بنصب آدم ورفع كلمات فتاب عليه بها إنه هو التواب الكثير القبول للتوبة الرحيم بالتائبين .
أقول : التوبة بمعنى الرجوع والانابة فإذا نسبت إلى الله تعالى تعدت بعلى وإذا نسبت إلى العبد تعدت بإلى ولعل الأول لتضمين معنى الاشفاق والعطف ومعنى التوبة من العبد رجوعه إلى الله بالطاعة والانقياد بعدما عصى وعتا ومعناها من الله رجوعه بالعطف على عبده بإلهامه التوبة أولا ثم قبوله إيّاها منه آخرا فللّه توبتان وللعبد واحدة بينهما قال الله : ( ثم تاب عليهم ليتوبوا ) أي ألهمهم التوبة ليرجعوا ثم إذا رجعوا قبل توبتهم لأن هو التواب الرحيم ولهذه الآية معنى آخر يأتي في سورة التوبة ان شاء الله .
وفي الكافي عن أحدهما عليهما السلام أن الكلمات ( لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءً وظلمت نفسي فاغفر لي وأنت خير الغافرين لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءً وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني إنك أنت أرحم الراحمين لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءً وظلمت نفسي فتب على إنك التواب الرحيم ) وفي رواية : ( بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ) ، وفي أخرى : بحق محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي تفسير الإمام «ع» لما زلت من آدم الخطيئة واعتذر إلى ربه عز وجل قال : يا رب تب عليّ واقبل معذرتي واعدني إلى مرتبتي وارفع لديك درجتي فلقد تبين نقص الخطيئة وذلها بأعضائي وسائر بدني قال الله تعالى : يا آدم أما تذكر امري إياك بأن تدعوني بمحمد وآله الطيبين عند شدائدك ودواهيك وفي النوازل التي تبهضك . قال آدم : يا رب بلى ، قال الله عز وجل : فبهم بمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين خصوصا فادعني أجبك إلى ملتمسك وأزدك فوق مرادك . فقال آدم : يا
( 121 )
رب إلهي وقد بلغ عندك من محلهم لأنك بالتوسل بهم تقبل توبتي وتغفر خطيئتي وانا الذي اسجدت له ملائكتك وابحته جنتك وزوجته حواء اَمَتَكَ وأخدمته كرام ملائكتك . قال الله تعالى : يا آدم إنما أمرت الملائكة بتعظيمك بالسجود لك إذ كنت وعاء هذه الأنوار ولو كنت سألتني بهم قبل خطيئتك أن أعصمك منها وأن أفطنك لدواعي عدوك إبليس حتى تحترز منها لكنت قد جعلت ذلك ولكن المعلوم في سابق علمي يجري موافقا لعلمي فالآن فبهم فادعني لأجيبك فعند ذلك قال آدم : اللهم بجاه محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهم لما تفضلت بقبول توبتي وغفران زلتي وإعادتي من كراماتك إلى مرتبتي قال الله عز وجل : قد قبلت توبتك وأقبلت برضواني عليك وصرفت آلائي ونعمائي إليك وأعدتك إلى مرتبتك من كراماتي ووفرت نصيبك من رحماتي فذلك قوله عز وجل ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم ) .
(38) قلنا اهبطوا منها جميعا امروا أولا بالهبوط وثانيا بأن لا يتقدم أحدهم الآخرين فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون : قيل ما مزيدة لتأكيد الشرط ولذلك حسن النون وإن لم يكن فيه معنى الطلب والشرط الثاني مع جوابه جواب للشرط الأول .
(39) والذين كفروا وكذبوا بآيتنا ولآلآئنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون : ذكر العياشي حديثا طويلا في محاجة آدم ربه في خطيئته قال في آخره : بلى يا رب الحجة لك علينا ظلمنا أنفسنا وعصينا وإن لم تغفر لنا وترحمنا نكن من الخاسرين ، والقمي عن الصادق عليه السلام : أن آدم هبط على الصفا وحواء على المروة فمكث آدم أربعين صباحا ساجدا يبكي على خطيئته وفراقه للجنة قال : فنزل جبرائيل على آدم وقال : يا آدم ألم يخلقك الله بيديه ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته قال : بلى . قال : وأمرك أن لا تأكل من تلك الشجرة فلم عصيته فقال : يا جبرئيل إن إبليس حلف لي بالله أنه لي ناصح وما ظننت أن أحدا خلقه الله يحلف بالله عز وجل كاذبا . فقال له جبرائيل عليه السلام : يا آدم تب إلى الله . وعنه عليه السلام قال : سأل موسى ربه أن يجمع بينه وبين آدم فجمع فقال له موسى : يا ابت ألم
( 122 )
يخلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأمرك أن لا تأكل من تلك الشجرة فلم عصيته . قال يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي في التوراة قال : بثلاثين ألف سنة قال : فهو ذلك . قال الصادق عليه السلام : فحج آدم موسى .
وفي العيون عن الرضا عليه السلام أن الله تعالى قال لهما لا تقربا هذه الشجرة وأشار لهما إلى شجرة الحنطة ولم يقل لهما ولا تأكلا من هذه الشجرة ولا مما كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة وإنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما . ثم قال : وكان ذلك من آدم قبل النبوة ولم يكن ذلك منه بذنب كبير استحق به دخول
النار وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي إليهم فلما اجتباه الله تعالى وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة . قال الله تعالى : ( وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى وقال : أن الله اصطفى آدم ونوحا ) ، الآية .
وفي رواية ان الله عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض ليتم مقادير أمر الله عز وجل فلما اهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عز وجل : إن الله اصطفى آدم ونوحا الآية . والقمي عن الباقر عليه السلام كان عمر آدم منذ خلقه الله إلى أن قبضه تسعمائة وثلاثين سنة ودفن بمكة ونفخ فيه يوم الجمعة بعد الزوال ثم برأ زوجته من أسفل أضلاعه وأسكنه جنته من يومه ذلك فما استقر فيها الاّ ست ساعات من يومه ذلك حتى عصى الله فأخرجهما من الجنة بعد غروب الشمس وما باتا فيها .
والعياشي عن الصادق عليه السلام ان الله تعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة ثم برأ زوجته من أسفل أضلاعه الحديث كما مر ، وزاد في آخره وصيرا بفناء الجنة حتى أصبحا وبدت لهما سوءاتهما فناداهما ربهما : ألم أنهكما عن تلكما الشجرة فاستحى آدم من ربه فخضع وقال : ربنا ظلمنا أنفسنا واعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا . قال الله لهما : اهبطا من سماواتي إلى الأرض فانه لا يجاورني في جنتي عاص ولا في سماواتي . ثم قال عليه السلام : إن آدم لما أكل من
( 123 )
الشجرة ذكر ما نهاه الله عنها فندم فذهب ليتنحى من الشجرة فأخذت الشجرة برأسه فجرته إليها وقالت له : أفلا كان فرارك من قبل أن تأكل مني .
(40) يا بني إسرائيل ولد يعقوب .
في العلل عن الصادق عليه السلام في حديث يعقوب هو إسرائيل ومعنى إسرائيل (1) عبد الله لأن اسرا هو العبد وأيل هو الله . وفي رواية اسرا هو القوة وايل هو الله اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم أن بعثت محمدا وأقررته في مدينتكم ولم اجشمكم الحط والترحال إليه وأوضحت علاماته ودلائل صدقه كيلا يشتبه عليكم حاله وأوفوا بعهدي الذي أخذه على أسلافكم أنبياؤهم وأمروهم أن يؤدوه إلى أخلافهم ليؤمنن بمحمد العربي القرشي الهاشمي المبان بالآيات والمؤيد بالمعجزات الذي من آياته علي بن أبي طالب عليه السلام شقيقه ورفيقه عقله من عقله وعلمه من علمه وحلمه من حلمه مؤيد دينه بسيفه أُوفِ بعهدكم الذي أوجبت به لكم نعيم الأبد في دار الكرامة وإياي فارهبون في مخالفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإني القادر على صرف بلاء من يعاديكم على موافقتي فهم لا يقدرون على صرف انتقامي عنكم إذا آثرتم مخالفتي ، والعياشي عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن هذه الآية فقال أوفوا بولاية علي فرضا من الله أوف لكم بالجنة .
أقول : ويجري في كل عهد لله على كل احد .
القمي : قال رجل للصادق عليه السلام يقول الله عز وجل : ( ادعوني استجب لكم ) وانا ندعو فلا يستجاب لنا فقال إنكم لا تفون لله بعهده فانه تعالى يقول أوفوا بعهدي اوف بعهدكم والله لو وفيتم الله سبحانه لوفى لكم .
(41) وآمنوا بما أنزلت على محمد من ذكر نبوته وإمامة أخيه وعترته مصدقا لما
____________
(1) العياشي عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن قول الله يا بني إسرائيل فقال هم نحن خاصة . وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سمع يقول انا عبدك إسمي أحمد وانا عبد الله إسمي إسرائيل فما أمره فقد أمرني وما عناه فقد عناني . منه قدس الله سره .
( 124 )
معكم فان مثل هذا الذكر في كتابكم ولا تكونوا أول (1) كافر به قيل تعريض بأن الواجب أن تكونوا أول من آمن به لأنهم كانوا أهل النظر في معجزاته والعلم بشأنه والمستفتحين به والمبشرين بزمانه .
وفي تفسير الإمام عليه السلام هؤلاء يهود المدينة جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخانوه وقالوا نحن نعلم أن محمدا نبي وأن عليا وصيه ولكن لست أنت ذلك ولا هذا ولكن يأتيان بعد وقتنا هذا بخمسماءة سنة .
ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا في المجمع عن الباقر عليه السلام في هذه الآية أن حي بن اخطب وكعب بن أشرف وآخرين من اليهود كان لهم مأكلة على اليهود في كل سنة فكرهوا بطلانها بأمر النبي فحرفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته وذكره فذلك الثمن الذي اريد به في الآية وإياي فاتقون في كتمان أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمر وصيه .
(42) ولا تلبسوا الحق بالباطل : لا تخلطوه به بأن تقروا به من وجه وتجحدوه من وجه وتكتموا عطف على النهي أو نصب باضمار أن الحق من نبوة هذا وإمامة هذا وأنتم تعلمون أنكم تكتمونه تكابرون علومكم وعقولكم .
(43) وأقيموا الصلاة : المكتوبة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأقيموا أيضا الصلاة على محمد وآله الطاهرين وآتوا الزكاة من أموالكم إذا
وجبت ومن أبدانكم إذا الزمت ومن معونتكم إذا التمست .
وفي الكافي عن الكاظم عليه السلام أنه سئل عن صدقة الفطرة أهي مما قال الله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فقال نعم ، والعياشي عنه عليه السلام مثله .
وعن الصادق عليه السلام هي الفطرة التي افترض الله على المؤمنين .
وفي رواية : نزلت الزكاة وليست للناس الأموال وإنما كانت الفطرة واركعوا
____________
(1) أول أفعل لا فعل له وقيل أصله أوءل فأبدلت همزته واواً تخفيفاً بغير قياس أو أول من آل يؤل أي رجع فقلبت همزته واوا فادغمت . منه قدس سره .
( 125 )
مع الراكعين تواضعوا مع المتواضعين لعظمة الله في الانقياد لأولياء الله ، وقيل أي في جماعاتهم للصلاة .
أقول : وهذا فرد من افراد ذاك .
(44) أتأمرون الناس بالبر بالصدقات وأداء الامانات وتنسون أنفسكم تتركونها وأنتم تتلون الكتاب التوراة الآمرة لكم بالخيرات الناهية عن المنكرات أفلا تعقلون ما عليكم من العقاب في أمركم بما به لا تأخذون وفي نهيكم عما انتم فيه منهمكون نزلت في علماء اليهود ورؤسائهم المردة المنافقين المحتجنين (1) أموال الفقراء المستأكلين للأغنياء الذين كانوا يأمرون بالخير ويتركونه وينهون عن الشر ويرتكبونه .
القمي : نزلت في الخطباء (2) والقصاص وهو قول أمير المؤمنين عليه السلام وعلى كل منبر منهم خطيب مصقع يكذب على الله وعلى رسوله وعلى كتابه .
أقول : وهي جارية في كل من وصف عدلا وخالف إلى غيره .
وفي مصباح الشريعة عن الصادق عليه السلام قال : من لم ينسلخ من هواجسه ولم يتخلص من آفات نفسه وشهواتها ولم يهزم الشيطان ولم يدخل في كنف الله وامان عصمته لا يصلح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة فكل ما أظهر يكون حجة عليه ولا ينتفع الناس به ، قال الله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ويقال له يا خائن أتطالب خلقي بما خنت به نفسك وأرخيت عنه عنانك .
(45) واستعينوا بالصبر عن الحرام على تأدية الأمانات وعن الرئاسات الباطلة على الاعتراف بالحق واستحقاق الغفران والرضوان ونعيم الجنان .
أقول : وعن سائر المعاصي وعلى أصناف الطاعات وأنواع المصيبات وعلى
____________
(1) الإحتجان ضم الشيء واحتواؤه ، منه قدس الله سره .
(2) وفي المجمع عن أنس بن مالك قال قال رسول الله (ص) : مررت ليلة أسرى بي على أناسي تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل ، فقال هؤلاء خطباء من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم . منه قدس الله سره .
( 126 )
قرب الوصول إلى الجنان .
وفي الكافي والفقيه والعياشي عن الصادق عليه السلام في هذه الآية أن الصبر الصيام وفيهما وقال عليه السلام إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم فان الله تعالى يقول استعينوا بالصبر يعني الصيام ، والعياشي عن الكاظم عليه السلام مثله والصلوا ة الصلوات الخمس والصلاة على النبي وآله الطاهرين .
أقول : وكل صلاة فريضة أو نافلة لما روي في المجمع والعياشي عن الصادق عليه السلام ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غم من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل
مسجده فيركع ركعتين فيدعو الله فيهما أما سمعت الله يقول : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) .
وفي الكافي عنه عليه السلام قال : كان علي عليه السلام إذا هاله شيء فزع إلى الصلاة ثم تلا هذه الآية واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها القمي يعني الصلاة وقيل الاستعانة بهما ، وفي تفسير الامام عليه السلام إن هذه الفعلة من الصلوات الخمس والصلاة على محمد وآله مع الانقياد لأوامرهم والايمان بسرهم وعلانيتهم وترك معارضتهم بلم وكيف لكبيرة : عظيمة .
أقول : يعني لثقيلة شاقة كقوله تعالى : ( كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ) إلا على الخاشعين الخائفين عقاب الله في مخالفته في أعظم فرائضه .
أقول : وذلك لأن نفوسهم مرتاضة بأمثالها متوقعة في مقابلتها ما يستخف لأجله مشاقها ويستلذ بسببه متاعبها كما قال نبينا صلى الله عليه وآله وسلم جعلت قرة عيني في الصلاة وكان يقول روّحنا أو ارحنا يا بلال .
(46) الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم : في التوحيد والاحتجاج والعياشي عن أمير المؤمنين عليه السلام يوقنون أنهم يبعثون والظن منهم يقين وفيهما قال عليه السلام : اللقاء البعث والظن هاهنا اليقين .
وفي تفسير الإمام عليه السلام يقدرون ويتوقعون أنهم يلقون ربهم اللقاء الذي هو أعظم كرامته لعباده وأنهم إليه راجعون إلى كراماته ونعيم جناته قال : وإنما قال
( 127 )
يظنون لأنهم لا يدرون بماذا يختم لهم لأن العاقبة مستورة عنهم لا يعلمون ذلك يقينا لأنهم لا يأمنون أن يغيروا ويبدلوا . قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يزال المؤمن خائفا ، من سوء العاقبة ولا يتيقن الوصول إلى رضوان الله حتى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له الحديث . ويأتي تمامه في سورة حم السجدة ان شاء الله عند تفسير ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، الآية .
(47) يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم إذ بعثت موسى وهارون إلى أسلافكم بالنبوة فهدياهم إلى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووصية علي عليه السلام وإمامة عترته الطيبين عليهم السلام واخذا عليهم بذلك العهود التي إن وفوا بها كانوا ملوكا في الجنان وأني فضلتكم على العالمين هناك أي فعلته بأسلافكم فضلتهم في دينهم بقبول ولاية محمد وآله عليهم السلام وفي دنياهم بتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وسقيهم من الحجر ماء عذبا وفلق البحر لهم وانجائهم وغرق أعدائهم فضلتهم بذلك على عالمي زمانهم الذين خالفوا طريقتهم وحادوا عن سبيلهم .
أقول : وإنما خاطب الله الأخلاف بما فعل بالأسلاف أو فعلوه من الخير والشر لأن القرآن نزل بلغة العرب وهم يخاطبون بمثل ذلك يقول الرجل للتميمي الذي أغار قومه على بلدة وقتلوا من فيها أغرتم على بلدة كذا وفعلتم كذا وقتلتم أهلها وإن لم يكن هو معهم مع أن الأخلاف راضون بما فعل بالأسلاف أو فعلوه ، كذا في تفسير الإمام (1) عليه السلام عن السجاد عليه السلام وقد مضى تحقيقه في المقدمة الثالثة .
(48) واتقوا يوما وقت النزع لا تجزي نفس عن نفس شيئا لا تدفع عنها عذابا قد استحقته ولا يقبل وقرئ بالتاء منها شفاعة بتأخير الموت عنها ولا يؤخذ منها عدل أي فداء مكانها تمات وتترك هي ولا هم ينصرون .
أقول : يعني في دفع الموت والعذاب .
وفي تفسير الإمام عليه السلام هذا يوم الموت فان الشفاعة والفداء لا يغني عنه
____________
(1) أورد عند تفسير قوله تعالى : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت . منه قدس سره .
( 128 )
فأما في القيامة فانا وأهلنا نجزي عن شيعتنا كل جزاء لنكونن على الأعراف بين الجنة والنار محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبون من آلهم (ع) فنرى بعض شيعتنا في تلك العرصات فمن كان منهم مقصرا وفي بعض شدائدها فنبعث عليهم خيار شيعتنا كسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار ونظرائهم في العصر الذي يليهم ثم في كل عصر إلى يوم القيامة فينقضون عليهم كالبزاة والصقور ويتناولونهم كما يتناول البزاة والصقور صيدها فيزفونهم إلى الجنة زفا وانا لنبعث على آخرين من محبينا خيار شيعتنا كالحمام فيلتقطونهم من العرصات كما يلتقط الطير الحب وينقلونهم إلى الجنان بحضرتنا وسيؤتى بالواحد من مقصري شيعتنا في أعماله بعد أن حاز الولاية والتقية وحقوق إخوانه ويوقف بإزائه ما بين ماءة وأكثر من ذلك إلى ماءة ألف من النصاب فيقال له هؤلاء فداؤك من النار فيدخل هؤلاء المؤمنون الجنة وأولئك النصاب النار وذلك ما قال الله عز وجل ( ربما يود الذين كفروا ) يعني بالولاية لو كانوا مسلمين في الدنيا منقادين للإمامة ليجعل مخالفوهم من النار فداؤهم .
(49) وإذ نجيناكم واذكروا إذ انجينا أسلافكم .
أقول : هذا تفصيل لما أجمله في قوله واذكروا نعمتي من آل فرعون وهم الذين كانوا يدنون إليه بقرابته بدينه ومذهبه يسومونكم كانوا يعذبونكم .
أقول : يعني يكلفونكم العذاب من سامه الأمر كلفه إياه وأكثر ما يستعمل في العذاب والشر . سوء العذاب شدة العذاب وكان من عذابهم الشديد أنه كان فرعون يكلفهم عمل البناء والطين ويخاف أن يهربوا عن العمل فأمر بتقييدهم وكانوا ينقلون ذلك الطين على السلاليم إلى السطوح فربما سقط الواحد منهم فمات أو زمن ولا يحفلون بهم إلى أن أوحى الله إلى موسى عليه السلام قل لهم لا يبتدئون عملا إلا بالصلاة على محمد وآله الطيبين فيخفف عليهم فكانوا يفعلون ذلك فيخفف عليهم يذبحون أبناءكم وذلك لما قيل لفرعون أنه يولد في بني إسرائيل مولود يكون على يده هلاكك وزوال ملكك فأمر بذبح أبنائهم ويستحيون نساءكم يبقونهن ويتخذونهن إماء ثم قال ما ملخصه إنه : ربما يسلم أبناءهم من الذبح وينشئون في محل غامض بصلاتهم على محمد وآله الطيبين وكذلك نساؤهم يسلمن من الافتراش بصلواتهم عليه وآله وفي ذلكم وفي ذلك الإنجاء منهم بلاء نعمة من ربكم عظيم كبير قال الله
( 129 )
تعالى : يا بني إسرائيل اذكروا إذ كان البلاء يصرف عن أسلافكم ويخف بالصلاة على محمد وآله الطيبين أفما تعلمون أنكم إذا شاهدتموهم فآمنتم بهم كانت النعمة عليكم أعظم وأفضل وفضل الله لديكم أجزل .
(50) وإذ فرقنا بكم البحر واذكروا إذ جعلنا ماء البحر فرقا ينقطع بعضه من بعض فأنجيناكم هناك وأغرقنا آل فرعون فرعون وقومه وأنتم تنظرون إليهم وهم يغرقون وذلك أن موسى لما انتهى إلى البحر أوحى الله إليه قل لبني إسرائيل جددوا توحيدي واقروا بقلوبكم ذكر محمد سيد عبيدي وإمائي واعقدوا على أنفسكم ولاية علي أخي محمد وآله الطيبين وقولوا اللهم جوزنا على متن هذا الماء فان الماء يتحول لكم أرضا فقال لهم موسى ذلك فقالوا : تورد علينا ما نكرهه وهل فررنا من فرعون الا من خوف الموت وانت تقتحم بنا هذا الماء الغمر بهذه الكلمات وما يدرينا ما يحدث من هذه علينا . فقال لموسى كالب بن يوحنا وهو على دابة له وكان ذلك الخليج أربعة فراسخ يا نبي الله : الله أمرك بهذا أن نقوله وندخل قال : نعم . قال : وانت تأمرني به قال : بلى ، فوقف وجدد على نفسه من توحيد الله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وولاية علي والطيبين من آلهما ما أمره به ثم قال اللهم بجاههم جوزني على متن هذا الماء ثم أقحم فرسه فركض على متن الماء وإذا الماء من تحته كأرض لينة حتى بلغ آخر الخليج ثم عاد راكضا ثم قال لبني إسرائيل : يا بني إسرائيل أطيعوا موسى فما هذا الدعاء الا مفتاح أبواب الجنان ومغاليق ابواب النيران ومستنزل الأرزاق والجالب على عباد الله وإمائه رضاء الرحمن المهيمن الخلاق فأبوا وقالوا نحن لا نسير الا على الأرض فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر وقل اللهم صل على محمد وآله الطيبين لما فلقته ففعل فانفلق وظهرت الأرض إلى آخر الخليج فقال موسى ادخلوها قالوا : الأرض وحلة نخاف أن نرسب فيها فقال الله : يا موسى قل اللهم بحق محمد وآله الطيبين جففها فقالها فأرسل الله عليها ريح الصبا فجفت وقال موسى : ادخلوها قالوا : يا نبي الله نحن اثنتا عشرة قبيلة بنو إثني عشر أباً فان دخلنا رام كل فريق منا تقدم صاحبه ولا نأمن وقوع الشر بيننا فلو كان لكل فريق منا طريق على حدة لآمنا مما نخافه فأمر الله موسى أن يضرب البحر بعددهم إثنتي عشرة ضربة
( 130 )
في إثني عشر موضعا إلى جانب ذلك ويقول اللهم بجاه محمد وآله الطيبين بين لنا الأرض وامط الماء عنا فصار فيه تمام إثني عشر طريقا وجف قرار الأرض بريح الصبا فقال ادخلوها قالوا : كل فريق منا يدخل سكة من هذه السكك لا يدري ما يحدث على الآخرين فقال الله عز وجل فاضرب كل طود من الماء بين هذه السكك فضرب وقال اللهم بجاه محمد وآله الطيبين لما جعلت في هذه الماء طيقانا واسعة يرى بعضهم بعضا ثم دخلوها فلما بلغوا آخرها جاء فرعون وقومه فدخل بعضهم فلما دخل آخرهم وهم بالخروج أولهم أمر الله تعالى البحر فانطبق عليهم فغرقوا وأصحاب موسى ينظرون إليهم قال الله عز وجل لبني إسرائيل في عهد محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان الله فعل هذا كله بأسلافكم لكرامة محمد صلى الله عليه وآله ودعاء موسى دعاء تقرب بهم فما تعقلون إن عليكم الايمان بمحمد وآله صلى الله عليهم إذ قد شاهدتموه الآن .
(51) وإذ واعدنا موسى وقرئ وعدنا بغير ألف أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون كان موسى ابن عمران يقول لبني إسرائيل إذا فرج الله عنكم وأهلك أعدأكم أتيتكم بكتاب من ربكم يشتمل على أوامره ونواهيه ومواعظه وعبره وأمثاله فلما فرج الله عنهم أمره الله عز وجل أن يأتي للميعاد ويصوم ثلاثين يوما فلما كان في آخر الأيام استاك قبل الفطر فأوحى الله عز وجل إليه يا موسى أما علمت أن خلوق فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك صم عشراً آخر ولا تستك عند الافطار ففعل ذلك موسى فكان وعد الله عز وجل أن يعطيه الكتاب بعد اربعين ليلة فأعطاه إياه فجاء السامري فشبه على مستضعفي بني إسرائيل وقال وعدكم موسى أن يرجع إليكم بعد أربعين ليلة وهذه عشرون ليلة وعشرون يوما تمت أربعون اخطأ موسى ربه وقد اتاكم ربكم اراد أن يريكم أنه قادر على أن يدعوكم إلى نفسه بنفسه وإنه لم يبعث موسى لحاجة منه إليه فأظهر لهم العجل الذي كان عمله فقالوا له فكيف يكون العجل إلهنا قال لهم إنما هذا العجل يكلمكم منه ربكم كما كلم موسى من الشجرة فالإله في العجل كما كان في الشجرة فضلوا بذلك وأضلوا فقال موسى : يا ايها العجل أكان
فيك ربنا كما يزعم هؤلاء فنطق العجل وقال عز ربنا عن أن يكون العجل حاويا له أو
( 131 )
شيء من الشجرة والأمكنة عليه مشتملا لا والله يا موسى ولكن السامري نصب عجلا مؤخره إلى حائط وحفر في الجانب الآخر في الأرض واجلس فيه بعض مردته فهو الذي وضع فاه على دبره وتكلم بما تكلم لما قال هذا إلهكم وإله موسى يا موسى بن عمران ما خذل هؤلاء بعبادتي واتخاذي إلها الا لتهاونهم بالصلاة على محمد وآله الطيبين وجحودهم لموالاتهم ونبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصية الوصي قال الله تعالى : فإذا خذل عبدة العجل بتهاونهم بالصلاة على محمد وعلي فما تخافون من الخذلان الأكبر في معاندتكم لهما وقد شاهدتموهما وتبينتم آياتهما ودلائلهما .
والقمي : إن بني إسرائيل لما ذهب موسى إلى الميقات ليأتيهم بألواح التوراة ووعدهم بالرجعة بعد ثلاثين يوما فعندما انتهت الثلاثون يوما ولم يرجع موسى إليهم جاءهم إبليس في صورة شيخ وقال لهم إن موسى قد هرب ولا يرجع إليكم ابدا فاجمعوا إليّ حلّيكم حتى اتخذ لكم إلها تعبدونه وكان السامري يوم أغرق الله فرعون واصحابه على مقدمة موسى وهو من خيار من اختصه موسى فنظر السامري إلى جبرئيل عليه السلام وهو على مركوب في صورة رمكة فكانت كلما وضعت حافرها على موضع من الأرض تحرك موضع حافرها فجعل السامري يأخذ التراب من تحت حافر رمكة جبرئيل فصره في صرة وحفظه وكان يفتخر به على بني إسرائيل فلما اتخذ إبليس لهم العجل قال للسامري هات التراب الذي عندك فأتاه به فألقاه في جوف العجل فتحرك وخار ونبت له الوبر والشعر فسجد بنو إسرائيل للعجل ، وكان عدد من سجد له سبعين ألفا .
(52) ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون أي عفونا عن أوائلكم عبادتهم العجل لعلكم يا أيها الكائنون في عصر محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بني إسرائيل تشكرون تلك النعمة على أسلافكم وعليكم بعدهم وإنما عفا الله عز وجل عنهم لأنهم دعوا الله بمحمد ( وآله صلى الله عليهم ) وجددوا على أنفسم الولاية بمحمد وعلي وآلهما الطاهرين فعند ذلك رحمهم وعفا عنهم .
(53) وإذ اتينا موسى الكتاب واذكروا إذ أتينا موسى التوراة المأخوذ عليكم
( 132 )
الإيمان به والانقياد لما يوجبه والفرقان أتيناه أيضا فرّق ما بين الحق والباطل وفرق ما بين المحق والمبطل وذلك انه لما أكرمهم الله بالكتاب والايمان به أوحى الله إلى موسى هذا الكتاب قد أقروا به وقد بقي الفرقان فرق ما بين المؤمنين والكافرين فجدد عليهم العهد به فاني آليت على نفسي قسما حقا ان لا أتقبل من أحد إيمانا ولا عملا الا به قال موسى ما هو يا رب قال الله يا موسى : تأخذ عليهم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم خير النبيين وسيد المرسلين وأن أخاه ووصيه عليا خير الوصيين وأن أولياءه الذين يقيمهم سادة الخلق وأن شيعته المنقادين له ولخلفائه نجوم الفردوس الأعلى وملوك جنات عدن قال فأخذ عليهم موسى ذلك فمنهم من اعتقده حقا ومنهم من أعطاه بلسانه دون قلبه قال فالفرقان النور المبين الذي كان يلوح على جبين من آمن بمحمد وعلي وعترتهما وشيعتهما وفقد من جبين من أعطى ذلك بلسانه دون قلبه لعلكم تهتدون أي لعلكم تعلمون أن الذي يشرف العبد عند الله هو اعتقاد الولاية كما تشرف به أسلافكم وقيل أريد بالكتاب التوارة وبالفرقان المعجزات الفارقة بين المحق والمبطل في الدعوى وبالاهتداء الاهتداء بتدبر الكتاب والتفكر في الآيات .
(54) وإذ قال موسى لقومه : واذكروا يا بني إسرائيل إذ قال موسى لقومه عبدة العجل ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم أضررتم بها باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم (1) الذي برأكم وصوركم قيل فأعزموا على التوبة والرجوع إلى من خلقكم فاقتلوا أنفسكم يقتل بعضكم بعضا يقتل من لم يعبد العجل من عبده ذلكم ذلك القتل خير لكم عند بارئكم لأنه كفارتكم فهو خير من أن تعيشوا في الدنيا ثم تكونوا في النار خالدين فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم قبل توبتكم قبل استيفاء القتل لجماعتكم وقبل اتيانه على كافتكم وأمهلكم للتوبة واستبقاكم للطاعة وذلك أن موسى لما أبطل الله على يديه أمر العجل فأنطقه بالخبر عن تمويه السامري وأمر موسى عليه السلام أن يقتل من لم يعبده من عبده تبرأ أكثرهم وقالوا لم نعبد ووشى بعضهم ببعض فقال الله عز وجل لموسى عليه السلام : ابرد هذا العجل المذهب بالحديد بردا (2) ثم ذره في
____________
(1) يعني من خلقكم بريئا من التفاوت مميزا بعضكم من بعض بصورة وهيئة مختلفة واصله تركيب . بري لخلوص الشيء من غيره . منه قدس الله سره .
(2) البرادة السحالة بالمهملتين وهي فتات الذهب والفضة « منه » .
( 133 )
البحر فمن شرب ماءه اسود شفتاه وأنفه ان كان ابيض اللون وابيضتا ان كان اسود وبان ذنبه ففعل فبان العابدون فأمر الله الاثني عشر ألفا أن يخرجوا على الباقين شاهرين السيوف ويقتلوهم ونادى مناديه الا لعن الله احدا اتقاهم بيد أو رجل ولعن الله من تأمل المقتول لعله تبينه حميما أو قريبا فيتعداه إلى الأجنبي فاستسلم المقتولون فقال القاتلون نحن أعظم مصيبة منهم نقتل بأيدينا آباءنا وابناءنا واخواننا وقراباتنا ونحن لم نعبد فقد ساوى بيننا وبينهم في المصيبة فأوحى الله إلى موسى يا موسى إني إنما امتحنتهم بذلك لأنهم ما اعتزلوهم لما عبدوا العجل ولم يهجروهم ولم يعادوهم على ذلك قل لهم من دعا الله بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وآله الطاهرين الطيبين يسهل عليه قتل المستحقين للقتل بذنوبهم فقالوها فسهل عليهم ولم يجدوا لقتلهم ألما فلما استحر القتل فيهم وهم ستماءة ألف الا اثني عشر ألفا وقف الله الذين عبدوا العجل بمثل هذا التوسل فتوسلوا بهم واستغفروا لذنوبهم فأزال الله القتل عنهم .
والقمي إن موسى لما رجع من الميقات وقد عبد قومه العجل قال لهم بعد الغضب عليهم والعتب لهم توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم قالوا وكيف نقتل أنفسنا قال لهم ليعمد كل واحد منكم إلى بيت المقدس ومعه سيف أو سكين فإذا صعدت المنبر تكونوا أنتم متلثمين لا يعرف أحدكم صاحبه فاقتلوا بعضكم بعضا فاجتمع الذين عبدوا العجل وكانوا سبعين ألفا فلما صلى بهم موسى عليه السلام وصعد المنبر أقبل بعضهم يقتل بعضا حتى نزل الوحي قل لهم يا موسى ارفعوا القتل فقد تاب الله عليكم وكان قد قتل منهم عشرة آلاف .
(55) وإذ قلتم قال أسلافكم : يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة أخذتهم وأنتم تنظرون وهم ينظرون إلى الصاعقة تنزل بهم .
(56) ثم بعثناكم من بعد موتكم بسبب الصاعقة .
أقول : قيد البعث بالموت لأنه قد يكون عن اغماء ونوم وفيه دلالة واضحة على جواز الرجعة التي قال بها أصحابنا نقلا عن أئمتهم وقد احتج بهذه الآية أمير المؤمنين عليه السلام على ابن الكواحين أنكرها كما رواه عنه الأصبغ بن نباتة .