بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسّلام على خير خلقه أجمعين محمّد وآله الطيبين الطاهرين،وبعد؛
كنا ذات ليلة من ليالي شهررمضان منذ أكثر من عشرين عاماً جلوسا في المسجد،وأحسستُ ساعتها من الحاضرين شيئاً من الصّفاء ونحنُ في شهْر صفّدتْ فيه الشياطين،خطرلي أن أتحدّثَ عن شيء طالما وددتُ الحديث عنه؛فذكرتُ للحاضرين أنّني إلى ليْلتنا تلك لم أتقبّلْ تصرّفات معاوية بن أبي سُفْيان في حقّ الإمام عليّ عليه السلام مع أنّي قرأت عن ذلك ماقرأتُ وأبديتُ عجْزي عن الجمْع بيْن سلوك مُعاويَة وبين ما يسْكُن خيالَنا حوْل مََن صحبوا النّبيّ صلى الله عليه وآله وعاينُوا الوحْي وشهدُوا المُعجزات؛وكـأنّني كنتُ أرفضُ إضفاءَ الشّرعيّة على سلوك مُعاويَة.كنتُ أتوقّع من الحاضرين أن يُدْلُوا بما لديْهم لَعلّي أستفيدُ شيئاً يبدّد الإبْهام والغُموض،لكنّني فوجئْت بتصرّفٍٍ ما كان يخْطر ببالي،فقد انْبرى لي أحدُهم وهومن الدّعاة الكبارالذين يتصوّرون أنّ شهادة أحدهم تعدلُ شهادةَ خُزيمةَ بن ثابت الأنْصاريّ،وقال لي بكلّ صرامة وحزْم:"لوْلا أنّنا نعْرفك لكانَ لنا معك شأن،وـ ابتداءً من اليوم ـلاحقَّ لك في أن تَطرحَ مثلَ هذه المواضيع،وهذا أوّلُ إنْذاروآخرُإنْذار"!!وأنا الذي كنت أتصوّرأنّني سأجدُ في طرْحي للقضيّة ما يبرّرما كنت قد اطّلعْتُ عليهْ من أعْمال مُعاوية التي تشمئزّ منْها النّفوس،مع أنّني لم أزدْ على أن اسْتبْعدْتُ سهولةَ تقبّل سلوك مُعاويَة،لأنّ اعتقاد عدالة جميع الصّحابة لا يسمحُ بالقدْح في واحد منْهم،ولم يكن القصدُ من سُؤالي قدْحاًـ شهد الله ـ وإنّما كنتُ أريدُ إرْضاءَ ضميري والتوفيقَ بين مُعْتقَدي وسُلوكي؛وقدْ كنّا أيّامها نشنّع على الحاكمين بأعْمال لا تبْلغ عُشرما وصلَ إليه مُعاويَة.كلُّ ما في المسألة أنّ وجْداني لا يسْمح لي بالكيْل بمكْياليْن.
لقد كان إنذار صاحبنا في محلّه،لأنّه أيقظني من نوْمٍ ونبّهني من غفْلة وشعرْتُ ساعتَها أنّني في سجن فكريّ كبير،وتداعَت الأفْكار،ورحتُ أفكّرفي الخروج من الوطن!لأنّه إذا كان هذا هو الردّ،ولا حقّ لي ابتداءً من ذلك اليوْم في طرح الإشْكالات،فمعْناه أنّ البحْث ممْنوع،وأنّ الحوارالنّزيه المتحرّرمن التقْليد الأعْمى ممْنوع،ولا أدْري ما الفرق حينئذ بين ذلك وبين استبداد العسكريّين الذي طالما ندّدنا به،وماقيمة الحياة إذا كان أمْسُ المرْء خيْراً من يوْمه وغَده.هنالك رُحْتُ أسائلُ نفْسي متعجّباً من حال هؤلاء الذين يردّدون لنا دائما ً"متى استعْبدْتم النّاس وقد ولدْتهم أمّهاتُهم أحْراراً "وفي نفْس الوقْت يُمارسون في حقّنا وصايةً فكريّةً ما أنْزلَ اللهُ بها من سلْطان،وقد نصبوا أنْفسهم حُماةً للشّريعة مُدافعين عن السّنّة.ومرّت السّنُون،وكتب الله في العمر بقيّة فرأيْنا حماة الشّريعة المُدافعين عن عَدالة جميع الصّحابة يسُبّ بعضُهم بعضاً ويطعنُ بعضُهم في بعض وهم يتنافسون في الانْتخابات ويتسابقُون إلى مُصافحة من كانُوا يُسمّونه الطّاغوت!ولله في خلْقه شؤون .
لا أعتقد أنّ صاحبنا كان مقتنعاً بمايقول حينما أجابني بتلك الطريقة،ولا أعتقد أنّه كان لديه معلوماتٌ كافيةٌ عن مُعاويَة والذين في قلوبهم مرض،لكنّه ـ في مايبدوـ ردّد ماعلّموه من أنّ الخوض في مثل تلك الأموريُؤثِّرعلى عقائد النّاس ويزرع الفرقة ويفتح الأبواب أمام الزّنادقة وأعداء الدّين.ولست أدري كيف صارالحديث عن مُعاويَة من عقائد المسلمين!ولعلّ أساتذته يدرون؛لكنّني اليوم،بعد مرورأكثرمن عشرين عاماً،أُدركُ سبب تصرّفه بتلك الطّريقة وفي وُسعي أن أُثبتَ له أنّ الحديث عن الصّحابة لاعلاقةَ له بالعقائد،وأنّه هو نفسه ضحيّة لُعْبة شُرع فيها في حياة النّبيّ صلى الله عليه وآله ،ولم ينقَض منهاإلاّ شوط أو بعض شوط.
الحديث عن مُعاويَة بن أبي سُفْيان،لا يعني الحديث عن شخصيّة تاريخيّة معيّنة فحسب،بل هو يعني الحديث عن حقْبة من تاريخ المسلمين تجلّت فيها التّضاربات والتّناقضات بين المُعتقَد والسّلوك،كما يعني الحديث عن أشخاص كان لهم دورفي تثبيت الاستبداد ووُصول مُعاويَة إلى ما وصل إليه ورسْم صورته الحكوميّة التي عرفها النّاسُ بعد رحيله.هذا مع أنّ القرآن الكريم حرص على قرْن الإيمان بالعمل،وجعلَ العمل الصالحَ دليلا على صحّة الإيمان،والعمل الفاسدَ دليلا على فساد قلب صاحبه.ويمكن القول أنّ مثقفي المسلمين لم يختلفوا في مُعاويَة بن أبي سُفْيان جهلاً بحقيقته وواقع أمره،لأنّ أخباره أوسع من أن تخفى،وإنّمااختلفوا فيه لكونه يمثّل عند طائفة منهم حارسَ الحدود في قضيّة عدالة جميع الصحابة.وسيبقى مُعاوية بن أبي سُفْيان حارس الحدود طالما بقي شيء اسمُه عدالة جميع الصحابة.وقد كنتُ أيّام كنت على المذهب السّابق أجد في كتب التّاريخ أعمالاً لمُعاويَة بن أبي سُفْيان تدَعُني في حيْرة من أمري أبحث عن حلّ،لأنّني من جهة ملزمٌ بالاعتقاد بعدالة جميع الصّحابة،ومن جهة أخرى ملزمٌ بتقديم كلام النّبيّ صلى الله عليه وآله على كلام كلّ آدميّ،وطالما ردّدوا لنا قول مالك – ونحن في المغرب العربي على مذهب مالك - :" كلّ واحد يؤخذ من قوله ويُردّ إلاّ صاحب هذا القبر"[1]،وقول أحد كبار رؤساء المذاهب الإسْلاميّة:" إذا صحّ الحديث مخالفاً لكلامي فاضربوا بكلامي عرض
الحائط"،وهذه من عويصات القضايا،وليس يسلم منها إلاّ من رحم الله.وأذكرعلى سبيل المثال قصّةً وقعت لي مع بعض من دَرَسوا في جامعات المملكة العربية السعودية من الحريصين على الدّقّة في التّعبير،وهو نفسه ذكرلنا مرّةً حديث "لوسرقتْ فاطمةُ بنتُ محمّد لقطعتُ يدَها.."ولأنّني مُولعٌ بمُطالعة كُتب التّاريخ وتتبُّع قصص الشّخصيّات المؤثّرة فقد وقعتْ عيْني على شيء رهيب في أحد مجلدات تاريخ ابن كثير،ولا أبالغ إن قلت إنّه صدمني! نعم،يروي ابن كثير قصّة سارق جيء به ليقام عليه الحدّ فاستعطفَ مُعاويَة ومدحَه بأبيات فعفا عنه وأمرَ بتخلية سبيله! [2]
بعد قراءتي للقصّة أكثرَمن مرّة لم يكن همّي إلا ملاقاة صاحبنا لعلّه يبدّد الشكوك التي داهمتني،لأنّ هذا العمل مُنافٍٍ تماماً لحديث "لوسرقت فاطمة بنت محمّد لقطعت يدَها "[3].وكنتُ أرجُو أن يكون لدى الأستاذ المذكوردليلٌ أو شبْهُ دليل،والتَقيْنا،ورويتُ له القصّة،وفوجئت بأنّه لم يطّلع عليها،وقبل أن يتحقّقَ من ذلك
ويتثبّتَ قال لي بكلّ بساطة "هذا غيرُصحيح[!] ووعدني أن ينظُرَفي المسألة.وانتظرتُ يوماً فأسبوعاً فشهراً فسَنةً فإلى يومنا هذا.
والحديث عن مُعاويَة يمثّل أيضا الصّراعَ القائم بين أنصارالقيم والمبادئ السّامية وبين أنصارالمنافع والمصالح الشخصيّة.ولا أتصوّرأن يكون مُعاويَة لدى العقلاء صالحاً ليُعرَض نموذجاً للمسلم المعتدل المؤتمَن على الدّين،وقد تحقّق عنْدي– وعنْد كثير ممّن عرفت ـ أنّ الرّجلَ مع تأخُّر إسلامه لم يترك حرمة من حرمات الإسْلام إلاّ وهتكها أومهّد لهتْكها،وأظهراستخفافه بأحاديث النّبيّ صلى الله عليه وآله في كثير من المواطن،وإنما شفع له عند كثيرين كونُه استلم القيادة وتربّع على كرسيّ الحكم.ولأنّ مسألة الحكم عند المسلمين تمثّل أهمّ قضيّة سُلّت لأجْلها السيوفُ فإنّ الحقّ يصيردائراً مدارها.وخيردليل على ذلك أنّ فيهم من يقول عن الخارج على الحاكم إنّه إذا تغلّب صارهو الحاكمَ الشرعيّ وتجبُ مبايعتُه ولا يحلُّ الخروجُ عليه،هذا مع أنّه استحلّ الخروج ونقض البيعةَ وقاتل الحاكمَ،وهذا لعمري مما تَحارُله العقول.فمسألة الاستيلاء على الحكم سهّلت كثيرا من الأمورولمّعت كثيرا من الوجوه وما أكثرما همّشت كلام النّبيّ صلى الله عليه وآله وفعلَه وتقريرَه.تُرى أكان مُعاويَة بن أبي سُفْيان يحظى بكل هذا التّسامح لوْلمْ يكنْ حاكماً؟!
إنّه لاخلاف بين المسلمين في تأخّر إسلام مُعاويَة بن أبي سفْيان،ولا خلاف بينهم في سفكه لدماء كثيرمن الصّحابة،وتعدّيه على حرمة النّبيّ صلى الله عليه وآله في ما يصعب تبريره،ولكنه الخليفة!ولابدّ من المحافظة على مقام وسُمعة الخليفة،لأنّه رمز الشّريعة وظلّ الله تعالى في الأرض!ومن تجرّأ وذكرَه بما لا يُناسب مقام الخلافة دفع ثمن ذلك كائنا من كان،ولا يشفع له عمل صالح ولا سابقة جهاد.[4]
وقد بيّن الله تعالى في القرآن الكريم الهدف من جعل الخليفة في الأرض فقال في سورة "ص": يا داوود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين النّاس بالحقّ ولاتتّبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله إنّ الذين يضلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب." فتبيّن من ذلك أنّ الهدف هوالحُكم بالحقّ واجتناب الهوى،ويعجزالمؤرّخون وعلماءُ الرّجال عن إثبات شيء من ذلك لمُعاويَة.إضافة إلى أنّه خرج على من لا يختلف المسلمون في أنّه مِن النّبيّ صلى الله عليه وآله بمنزلة هارون من موسى،لم يُعارضه إلاّ بنو أُميّة،وبنوأُميّة معروفون ومواقفهم من الإسْلام معلومة.فإذا كان الدّفاع عن الحاكم المسلم دفاعا عن الشّريعة فإنّ معنى ذلك أنّ الشّريعة متقلّبة ذات أطوار،لأنّ العقلاء يفهمون معنى الدّفاع حينما يتعلّق الأمربرجُل يحاولُ جهدَ طاقَته أن يهتديَ بهدْي النّبيّ صلى الله عليه وآله في كلّ أموره،ولا يتجرّأ على المقدّسات ولا يتجاسر على الحُرمات؛أمّا حينما يصبح الحاكم مُعلناً باستخفافه بالدّين فإنّ الدّفاع عنه ليس من الإسْلام في شيء .
ولايعجل القارئ الكريم في الحكم عليّ قبل أن يطّلع على ما في الصفحات التّالية،ولا يَتَصوّرأنّني ورثتُ بغض مُعاويَة،فإنّ ولادتي وتربيتي ودراستي كلّها كانت في مجتمع سنّيّ،والمجتمع السنّيّ– في الغالب – لا يذكر مُعاويَة إلاّ بخير،ولا يذكرأبا طالب إلاّ بالموت على الكفر.ولا يفوتني هُنا بالمناسبة أن أخبرالقارئ الكريم أنّني كنت دائماً أشعربمرارة تعترض حلقي حينما أمرّ أثناء مطالعاتي بذكرأبي طالب عمّ النّبيّ صلى الله عليه وآله ،لأنّ الحسرة كانت تعصرقلبي إذ أرى رجلاً مثلَه يبذل مابذَلَ من نصرة للنبيّ صلى الله عليه وآله ودفاع عنه،ويتولّى كفالته ويقدّمه على أولاده ويفضّله عليهم،ومع ذلك لايستحقّ التفاتةً ممّن وسعتْ رحمتُه كلّ شيء ويموت على غيرالإسْلام!أليس هذا أشبه بجزاء سنمّار؟! بينما لايأْلُوأبوسُفْيان جهداً في محاولةإطفاء نورالله تعالى،فيجيّش الجيوش ويدبّرالمُؤامرات ليل نهار،ويهتف هتافه المعلوم "اُعْلُ هُبَل"،ويقول يوم حنين ماقال،ويقول يوم اليرموك ماقال،ومع ذلك يُسلم ويحسُن إسلامه ويموت على الإسْلام!!لقد قالوا لنا إنّها حكمة الله يهدي من يشاء،ولكن أليس غريباً أن تكون حكمةُ الله دائماً تصبُّ لمصلحة بني أُميّة دون غيرهم؟!
قلت:إنّ الحديث عن مُعاويَة يقتضي الكلام عن(بني أُميّة)لأنّهم عشيرته وعن أبي سُفْيان وهند بنت عتبة لأنّهماوالداه،وعن(يزيد) ابنه لأنّه يمثّل محطّة مهمّة في مسارالمسلمين.كما يقتضي ذلك الحديثَ عن أيّام مُلكه،وما جرى فيها من الأحداث التي لا تزال آثارها تمزّق المسلمين وتشتّت صفوفهم إلى اليوم.وقداعتمدت في البحث على كتب المخالفين لأهل بيت النّبيّ صلى الله عليه وآله من باب "شَهدَ شاهدٌ منْ أهْلها "،وخصصْتُ بذلك منهم من لا يُشكّ في مباينته للإماميّة كابن تَيْميَة وابن قيّم الجوزية وابن كثيروالذّهبيّ وابن خَلْدُون وابن حجرالعسقلانيّ،أخذتُ على نفسي ألاّ أرجعَ إلى كُتُب أتْباع مدرسة الإماميّة إلاّ في ما تقتضيه الضّرورة الملحّة التي لا مفرّمنها،وماتوفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.وأنبّه إلى أنّ بعض الأحاديث الواردة في الكتاب تعدّدت بألفاظ مختلفة طالت بعضَها أيدي المحرّفين من المتقدّمين أو المتأخّرين،والخوضُ في ذلك أبعدََ ممّا تقتضيه الضّرورة يُخرجنا عن موضوع الكتاب ويحوّل البحث إلى أخذ وردّ ليْسا من غرض الكتاب،على أنّني أُشيرإلى ورود الحديث بلفظ آخرويبقى لمن أراد التحقّق والبحثَ أكثر أن يطالع ويخلص بنفسه إلى النتّيجة التي ترضي ضميرَه؛كما لا يفوت التّنبيه إلى حذْف الأسانيد الطويلة رَوْماً للاختصار،مع ذكْر أوّل الإسناد وآخره بينهما علامة [..]ويبقى لمن يريد التّثبّت والتحقيق أن يطالعها كاملة في المراجع المشارإليها بالهامش.
ولايخفى أنّ لمُعاويَة بن أبي سُفْيان شخصيّة جذبت اهتمام الباحثين،فكتب حوله مََن كَتب،مِن مدارس وانتماءات مختلفة،إسلاميّة وغيرإسلاميّة؛منهم من خصّص له بحثا مستقلاًّ كما هو شأن العقّاد وابن عقيل،ومنهم من خصّص له فصلاً أو فصليْن ضمْن إطاربحْث معيّن؛وكتب عنه المُستشرقون أيضا،فكان منهم مَن التزم بمنهج معيّن اضطرّ معه إلى مناقشة الحقائق بما يناسب القواعد التي تبنّاها،وكان منهم من حمَلتْهُ عداوته للإسلام على أن يُمارس التحريف والتزييف،والنّقدُ العلميّ النزيه كفيلٌ بالغرْبَلة والتّصْفية ليذهب الزّبد جفاء ويبقى ما ينفع النّاس.وأتصوّر– والله أعلم– أنّه ينبغي للمستبصرين الملتحقين بأهل البيت عليهم السّلام أن يكتبوا حول مُعاويَة ويحقّقوا،لأنّهم كانوا ضحاياه يوما من الأيام،ولا يليق بهم أن يتفرّجوا على ذويهم وأصدقائهم وهم يستطيعون أن يؤدّوا إليهم خدمة ولو من باب إقامة الحجّة.وقولي"ضحاياه"لايعني أنّني أحْكم على الرّجل من البداية،وإنّما هو تعبيرعن تجربة شعوريّة يعرفها كلّ من سارَعلى ذلك الدّرب،وإخبارعن آثار تيّار فكريّ عملَ قروناً متطاولة لجعْل عداوة آل النّبيّ صلى الله عليه وآله شيئاً مقبولاً لدى أهل الفبلة،وهوأخطرما وجدت إلى الآن نظراً لما تؤول إليه عاقبة مُعتقِدِه ومَن يعمل على نشره.
ثمّ إنّ مِن المتقدّمين من وقع في شبهة مفادُها أنّ الدّفاع عن مُعاويَة هو دفاع عن الإسْلام،ورووا لذلك أموراً منها ما ذكره المزّيّ في تهذيب الكمال ج 1 ص 339: .... عن أبي الحسن علي بن محمّد القابسي،قال:سمعت أبا علي الحسن بن أبي هلال يقول:سُئل أبو عبد الرحمن النسائي عن مُعاويَة بن أبي سُفْيان صاحب النّبيّ صلى الله عليه وسلم،فقال:إنّما الإسْلام كَدَارٍٍ لها بابٌ،فباب الإسْلام الصّحابة،فمن آذى الصّحابة إنّماأراد الإسْلام،كمن نقر الباب إنّما يريد دخول الدّار،قال:من أراد مُعاويَة فإنّماأراد الصحابة(اهـ).[5] وهذا لعمري مما يحيّرعقول المتدبّرين،لأنّ قائلَه مطّلع على أعمال مُعاويَة فكيف يقول بعد ذلك عمّن فرّق المسلمين وجعل بأسهم بينهم
إنّ من أراده فقد أراد الدّين؟!وهل أرادَ الدّينََ غيرُه؟وهل ترك مُعاويَة ُحرمةً من حرمات الدّين لم يستخففْ بها؟وكيف يكون لذلك معنى وقد ثبت أنّ اليهود كانوا يستخفّون بشخص النّبيّ صلى الله عليه وآله في مجلس معاوية ولا يغيّربقول ولا فعل؟
ثمّ إنّ هذا الكلام لاينفع معاوية لأنّه حجّةٌ عليه؛فإنّ مُعاويَة ينطبق عليه أنّه آذى الصّحابة،بل آذى خيرة الصّحابة عليّاً والحسن والحسين عليهم السّلام
و أبا ذرّ وعمّاراً وعمروبن الحمق وحجْر بن عديّ.فمن آذى الصّحابة إنمّا أراد الإسْلام،ومُعاويَة قد آذى الصّحابة فإذاً مُعاويَة قد أراد الإسْلام.ولا يجرمنّكم شنآن قوْمٍ على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى.
وليت شعري كيف يهضم النّاس مثل هذا بعد أن علم المسلمون أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله سمّى جماعة مُعاويَة "القاسطين"وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم:"وأمّا القاسطون فكانوا لجهنّم حطبا"؟! وسمّاهم الفئة الباغيةَ والبغيُ مُحرّم بنصّ الكتاب العزيز" قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبّي الفَواحِشَ ماظهرَمنها وما بَطَنَ والإثْمَ والْبَغْيَ بغَيْرِالحقّ وأنْ تُشْركُوا بالله ما لمْ يُنَزّلْ به سُلطاناً وأنْ تقولوا على الله مالاتَعلمُون"[6].على أنّه يُفترَضُ أن يكونَ تراثُ المسلمين أبعدَ ما يكونُ من المجاملةِ والانْسيَاق خَلْفَ
الهوى والعواطِف،لأنَّ الحقّ لا يُعرَف بالرّجَال وإنّما يُعرف الرّجالُ بالحقّ.وللحَقّ قوانينُ وقَواعدُ يَستوى فيها الكبيرُ والصّغيرُوالعربيّ والأعجميّ.وقد تظافرت الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة للحثّ على اتّباع الحقّ وتحرّيه ولوعلى النّفس،وتُحذّرمن الحُكم بغيرالحقّ ومن اتّباع الهوى لمافي ذلك من اضطراب الحال في الدّنْيا وسوء المآل في الآخرة،لكنّ نخبةَ المسلمين من مُحدّثين ومُؤرّخين ورجاليّين ومُفسّرين لم يَلْتقوا حول هذه النّقطة،إلاّمن رَحم الله،وصاربعضُهم يصرّح أنّ الحقّ ما عليه هو وجماعتُه،وماعدا ذلك من آية أو حديث فهو إمّا منسوخٌ أو مؤوّلٌ!وصار النّبيّ صلى الله عليه وآله بذلك تابِعاً لامَتبُوعاً.ولايَفُوتني هنا أنْ أؤَكّدَ أنَّ الذين نَهوا النّاس عن الحديث عمّا جرى في صدْرالإسْلام زعما ًمنهم أنّ ذلك أسْلَمُ لدِينِ المرْء إنّما أسْدَوا إلى الشّيطان خدْمة وحَرموا أجيالاً من المسلمين من إعْمال الفكروالتدبّروالتبصّر،وهذا بنفسه يكشف عن تعصّبهم وانْسيَاقهم خلْفَ الهوى وعَدم مُبالاتهم بمَصيرمَن يأتي بعدهم،إذ لَوأنّ البحثَ في ذلك بدأ من القَرْن الأوّل ثمّ أثراه من جاء فيما بعدُ لكان بين أيدينا اليومَ مادّة علميّةٌ غزيرةٌ كفيلةٌ بتَبْديد كثيرمن الشّبهات واستئصال كثيرمن العداوات والحزازات،ولكنْ َيظْهر أنّ أولئك كانت تهمُّهُمْ مَراكزُهُم ومَواقعُهم الاجتماعيّةُ وما يحصّّلونه من جاه وهميّ أكثرَمما يهمّهم تاريخُ الإسْلام والمسلمين ونصرةُ الحقّ ومُبَاينةُ الباطل وأهْلِه؛وقد مرّعلى النّاس زمانٌ كان نجاح الفَقيه فيه متوقّفاً على مدى دفاعه عن مُعاويَة وطائفته ومُحاربة شيعَة أهْل البيت عليهم السّلام،[7]وتعاظمَ ذلك في القرن الثامن حتى أنتج لنا أمثالَ ابن تَيْميَة
وابن قيّم الجوزيّة وابن كثير والذّهبيّ وآخرين يأتي الحديث عنهم إنْ شاء الله تعالى.واليوم أيضاً تتعالى أصواتٌ مُشابهَة ناسية أومُتناسية أنّ حولها من وسائل الاتّصال ما يسمح للمرء أن يطّلع على كثيرممّاجرى وما يجري دون مغادرة بيتَه،وبدلَ أن يستفيد أصحاب تلك الأصوات من ذلك تراهم يقلّدون أسلافهم ويدعون إلى التّعامي والتّغافل وتجاهل القيَم وتهميش من يدعو إلى الدّفاع عنها وهُمْ يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً."قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا*الذين ضل سعيهم في الحياة الدّنْياوهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ".[8]لقد وردت في صحاح المسلمين أحاديث تدعوإلى طاعة وُلاة الأمر وَإنْ فَجرُوا وفَسقُوا،ووردت أيضاً أحاديث تدعوإلى مُحاربة الحاكم الجائروتحذّرمن الرّكون إليه،والقسم الثّاني أقرب إلى التّعاليم القرآنية التي تؤكّد أنّ العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين.وتحذّرمن الركون إلى الطالمين[9]؛والأمّة في زماننا أحوج ما تكون إلى أحاديث العزة والإباء،ومن بين الأحاديث ما جاء في صحيح ابن حبان[10] قال : ...عن عامربن السمط عن
معاوية بن إسحاق بن طلحة قال حدثني ثم استكتمني أن أحدّث به ماعاش معاوية فذكرعامر قال سمعه وهو يقول حدثني عطاء بن يسار وهو قاضي المدينة قال سمعت ابن مسعود وهو يقول قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم سيكون أمراء من بعدي يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يقولون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهومؤمن لا إيمان بعده.قال عطاء فحين سمعت الحديث منه انطلقت به إلى عبد الله بن عمرفأخبرته فقال أنت سمعت ابن مسعود يقول هذا كالمدخل عليه في حديثه قال عطاء فقلت هومريض فما يمنعك أن تعودَه قال فانطلقْ بناإليه فانطلقَ وانطلقتُ معه فسأله عن شكواه ثم سأله عن الحديث قال فخرج ابنُ عمروهو يقلّب كفّه وهويقول ما كان ابن أم عبْد يكذب على النّبيّ صلى الله عليه وسلم(اهـ)[11].أقول:وأنت ترى في هذا الحديث كيف يستكتم الصحابة
والتابعون بعضهُم بعضاً في الحديث تقيّةً من معاوية ما عاش.
[1] يعني النّبيّ (صلى الله عليه وآله
[2] القصة مذكورة في البداية والنهاية ج 8ص 154 نقلها ابن كثيرعن الماوردي، وستأتي مفصلة في فصل
( مُعاويَة وإبطال الحدود ).
[3] مسند أحمد ج3 ص 386 و سنن الدارمي ج2 ص173 و صحيح البخاري ج4ص151 وصحيح مسلم ج5ص114و سنن ابن ماجه ج2ص851 و سنن أبي داوود ج2ص332و سنن الترمذي ج2ص442وسنن النسائي ج8ص71 و المُستَدرك ج4 ص 379 و السنن الكبرى للبيهقي ج8ص254و صحيح ابن حبان ج10 ص248 .
[4] خير دليل على ذلك أبو الأعلى المودودي بعد صدور كتابه (الخلافة والملك) وسيّد قطب بعد صدور كتابه ( كتب وشخصيات).
[5] العلامة ( اهـ ) تشير إلى نهاية النّضّ
[6] سورة الأعراف 33
[7] المقصود بنجاح الفقيه شهرته واستقرار وضعيته الاجتماعية وربّما تقلّب في المناصب الرفيعة .
[8] سورة الكهف (104/103 )
[9] ولا تركنوا إلى الذين طلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون (هود 113 )
[10] صحيح ابن حبان - ابن حبان البستي ـ ج 1ص 403 مؤسسة الرسالة 1414 تحقيق شعيب الأرنؤوط
[11] علامة (اهـ) أو(انتهى ) إشارة إلى نهاية النص .