مكتبة العقائد الإمامية

فهرس الكتاب

 

 

 

 

السيد محمد الكثيري - المغرب

مؤلف كتاب: ( السلفية بين أهل السنة والإمامية )

كلمة مركز الطباعة:

اكتوى المؤلف الكثيري وهو باحث مغربي مختص في علم الاجتماع الديني بنار الاختلافات التي شغلت أبناء الصحوة الإسلامية وأدت إلى تخبط عقيدي وفقهي تمثل في أزمة من مظاهرها الانقسام وتكاثر الفرق والتكفير فعقد العزم على مواصلة مسيرة البحث لمعرفة أسباب هذه الأزمة ونتائجها وقرر السفر إلى الشرق حيث يجد المراجع والمصادر الخاصة بالمذاهب الإسلامية.

وكشف سفر المعرفة حقائق منها أن في العالم الإسلامي حدوداً مذهبية أيديولوجية يتم الحفاظ عليها أكثر من الحفاظ على الحدود الجغرافية – السياسية وأن فيه (أصناماً ذهبية براقة) ينبغي أن نعرف حقيقتها وأثار هذا السفر أسئلة كثيرة تتعلق بدعاة سلفية جديدة يقفون وراء الفتن المذهبية التي تمزق وحدة المسلمين.

في سبيل الإجابة عن هذه الأسئلة كان لا بد من متابعة تاريخية تتبين نشوء المذاهب وتكونها وتوضح طبيعة آراء السلفيين التي تصنف المسلمين بين (سلفي) مؤمن و (بدعي) كافر بوصف هذه الآراء اختيارات مجتزأة محرفة واجتهادات حرفية ظاهرية لا تمثل الحقيقة الإسلامية أو آراء السلف وأعماله إضافة إلى أنها كانت ولا تزال نتاج سياق تاريخي سياسي اجتماعي أخرجها إلى الوجود لتحقيق أهداف معينة.

تركزت الإجابات في هذا الكتاب الموسوم بعنوان السلفية بين أهل السنة والإمامية وهو يتألف من قسمين كبيرين:

القسم الأول يبحث في السلفية:

الخلفيات التاريخية والمذهبية ويتضمن بحث عدة قضايا:

أولاها: تعريف السلفية والحشوية وأهل السنة والجماعة والشيعة الإمامية وثانيتها: تعريف المذهب الحنبلي (رحم الحشوية) ودور السياسة في انتشار المذاهب الفقهية وأحمد بن حنبل وعصره والمذهب الفقهي والأصولي المنسوب إليه.

وثالثتها: تقي الدين ا بن تيمية الحراني الحنبلي ودوره في عقلنة الحشو وفي إثارة الحروب والفتن بين المسلمين وعلاقته بالتصوف ورابعتها محمد بن عبد الوهاب النجدي الحنبلي وقيام الدعوة السلفية الحشوية في بلاد نجد حيث عضد السيف القلم فانتشرت الدعوة وظهرت للوجود دولة تتخذ السلفية الجديدة مذهباً في الدين وأساساً للشرعية السياسية ومن يطلع على ما كتبه مؤرخها (ابن بشر) يجد أن قوامها مجموعة من البدو يتزعمهم فقيه حنبلي حكم على باقي المسلمين بالكفر والارتداد وأباح دماءهم وأموالهم وقد أتيح لهذه الدولة الدعم الغربي ومال النفط فعملت على أن تجعل السلفية دعوة عالمية مستخدمة القوة العسكرية والمال وتحريف التراث والكذب وإشعال الفتن.

والقســم الثـــاني:

يبحث في (أهل السنة والإمامية في مواجهة السلفية) ويتضمن بحث عدة قضايا منها:

مواقف أهل السنة والشيعة والإمامية من السلفية الجديدة منها بخاصة وآراؤهم في ما تذهب إليه في مختلف الأمور.

ويبدو واضحاً منذ البداية أن أتباع هذه السلفية لا يقتنعون بالحجة الساطعة لأن سلطانهم له حجتان قاطعتان عليهما يعتمد وهما الحسام البتار والدرهم والدينار.

ويعود المؤلف في بيان ذلك إلى جذور الصراع وتاريخيته منذ فدك المغتصبة إلى محنة التشيع في أيام الأمويين والعباسيين ويتوقف عند يوميات الصراع السلفي مع الشيعة الإمامية ومنها بخاصة فتاوى ابن تيمية وما آلت أليه من فتن ومذابح وصولاً إلى ما يعانيه شيعة المنطقة الشرقية في نجد وإلى أكاذيب السلفية وهجمتهم الإعلامية الشرسة على الجمهورية الإسلامية والى محاربة الكتاب الشيعي ثم يورد ردود المستبصرين المسلمين على دعاة السلفية فيما يتعلق بأمامة أهل البيت والشيعة والصحابة أضافة إلى أن الكتاب يتضمن ثبتاً بالمؤلفات التي ترد دعاوا السلفيين.

يهدف هذا الكتاب كما يبدو إلى تحصيل معرفه تضيئ وتكشف وتبين فيميز المسلم ويختار وهو على بينة من أمره وبهذا يسهم في الجهد الرامي إلى تجاوز الأزمة القائمة في العالم الأسلامي.

طباعة مركز الغدير – 1997 م بيروت – لبنان

 

مقدمة مختصرة عن اختياره مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

قبل عقد ونصف من الزمن كنت في زيارة لأحد اقاربي شيخ طاعن في السن (ومقدم) في الطريقة التيجانية يقيم في منزله حلقات الذكر والدعاء , فكان اتباع هذه الطريقة يأمون بيته في كل وقت للذكر والزيارة. وقد صادف يوم زيارتي أن جائه رجل في الخمسينات من عمره , وبعد أن سلم وجلس بجوار الشيخ بدأ يحدثه عن زيارته للأماكن المقدسة.

قال الرجل أنه زار مكة والمدينة وقد التقى بالشيخ أبو بكر الجزائري الواعظ السلفي المشهور.

حيث دار بينهما نقاش طويل حول زيارة القبور والتوسل بالأولياء. قال الرجل أنه أفحم الواعظ السلفي فلم يجد ما يرد به عليه إلا أعتراضه على حلق اللحية وقد كان الرجل حليق.

فقال له أنك لو تركت لحيتك فستكون مسلماً جيداً. لكن هذا المريد التيجاني رد عليه بقوة قائلاً:

أن الله سبحانه وتعالى لم يقل أنه ينظر إلى لحاكم بل قال أنه ينظر إلى قلوبكم , فحار الشيخ أبو بكر الجزائري في جوابه وانتهى الحوار.

كان الرجل يحدث أصحابه بفخر واعتزاز وقد ظهرت الغبطة والسرور على وجوه الحاضرين ومنهم شيخ الطريقة, وكأنه يحدثهم عن أنتصار مهم في معركة حامية الوطيس.

أنتقل الحاضرون بعد ذلك لنقاش بعض القضايا , فسمعت أسم ابن تيمية يتردد على ألسنتهم, قال أحدهم أن الرحالة أبن بطوطة ذكر في رحلاته أن ابن تيمية ذكر حديث النزول , نزول الله إلى السماء الدنيا وأنه – أي أبن تيمية – نزل درجة من على المنبر قائلاً كنزولي هذا

وتابع الحاضرون نقاشاتهم بين مستنكر لما قاله أبن تيمية وبين معلق عليه...

لم أكن أعرف وقتها أن هناك صراعاً عقائديا مريراً بين هؤلاء الطرقيين وبين المذهب الفقهي والأصولي المنتشر في جزء كبير من شبه الجزيرة العربية , لأنني كنت في بدايات تحصيلي العلوم الدينية. كما أن الكتب التي كانت تغزو الساحة أنذاك ومن بينها فتاوى ابن تيمية لم تكن تدعو لمذهب فقهي أو أصولي معين, أو معروف لدى أبناء الصحوة الإسلامية. وإنما هي دعوة للتشبث بالسنة النبوية والعمل بمقتضاها ورفض التقليد في الدين.

وقد واكب ذلك انتشار كبير لأراء وفتاوى تخالف المذهب المالكي وأشهرها القبض في الصلاة بدل الأسبال.

أما الحوارات الفقهية والأصولية لتي كانت تدور في ساحات الجامعة وداخل الفصول, فكانت تثير الكثير من التساؤلات, وذلك لوجود طلبة ممن لديهم اطلاع جيد على العلوم الأسلامية.

فالآراء الجديدة كانت تجد معارضة قوية ويتحول النقاش في أحيان كثيرة إلى خصام واتهام الطرف الأخر بالجهل وقلة الأطلاع. وبعد ذلك ينقسم الطلبة إلى تيارين مختلفين ومتنافسين, ويبدأ كلا الفريقين في الدعوة لأختياراته الفقهية بالخصوص وتكثير الأتباع.

لقد شاركت في الكثير من هذه الحوارات والنقاشات الساخنة , وانتصرت لبعض الأراء الفقهية معتمداً على ما تجود به المكتبات من كتب حديثة طبعت في بيروت والقاهرة وفي بعض الأحيان في السعودية , ولم نكن نعرف عن أصحابها شيئاً اللهم إلا ابتدائها ببسم الله الرحمن الرحيم , واحتضانها عشرات الأحاديث النبوية والآيات القرآنية !؟.

كنا نعتقد ونحن نناقش ونجادل أن حججنا قوية بما فيه الكفاية , وأن المخالف لنا أنما هو معاند ومكابر, متشبث بتقليد الأباء والأجداد دون علم أو تحقيق.

لكن أحداً منا لم يكن يخطر بباله أن حقائقه الجديدة التي يدعوا لها أنما هي انتصار لمذهب فقهي وأصولي تجتاح كتبه الساحة الإسلاميةفي غفلة من باقي المذاهب الإسلامية الأخرى. كل ما هنالك أن هذه الآراء التي نقرأها هي جديدة بالنسبة لنا.

فمثلاً عندما قرأنا عن صفة صلاة النبي (ص) وجدنا أنه عليه السلام كان يضع يده اليمنى على اليسرى, لكننا وأباءنا نسدل أيدينا في الصلاة. وقد ورثنا ذلك خلف عن سلف دون أن نعرف الأدلة على ذلك وعندما قرأنا كتب تخالف ما نحن عليه وتنتصر بقول الرسول (ص) لم نجد بداً من اعتناق الرأي الجديد وضربنا بغيره عرض الحائط

لكن السؤال الكبير الذي لم نكن نجد له جواب شافي, كان في حل هذا التناقض والأختلاف العلمي والنظري الذي بدأ يقسم الساحة إلى تيارين مختلفين ومتصارعين. فأغلب الفقهاء المالكية على سبيل المثال لا يقبضون في الصلاة بل يسدلون أيديهم. كما يؤيدون ما تقوم به الزوايا من مراسيم واحتفالات سنوية بالأولياء بل أن الكثير منهم يشارك مشايخ الطرق الصوفية مجمل عقائدهم في التوسل والشفاعة ودعاء الأولياء وبناء القبور والأضرحة, هذه العقائد والأختيارات الفقهية درج الجميع عليها منذ قرون خلت.

وأذاً كيف لم تصلهم هذه الأحاديث التي اكتشفناها نحن مؤخراً وعملنا بها؟!! في التوحيد والشرك ومحاربة البدع وصولاً إلى القبض في الصلاة وغير ذلك من المسائل الفرعية؟!.

لن أكون مجانباً للصواب إذا قلت بأن مسألة التمذهب والمذهبية أو الأختيارات الفقهية والأصولية.

كانت قضايا مبهمة لدينا ولدى غالبية الملتزمين الشباب من جيلنا.

أولاً: لندرة الكتب التي تعالج هذه القضية الشائكة.

ثانياً: لعدم معرفتنا بتفاصيلها وخلفياتها التاريخية ونحن في بداية التحصيل العلمي الديني.

زد على ذلك خلو الساحة من أي تعدد مذهبي فقهي أو أصولي , لأن منطقة المغرب العربي هي منطقة نفوذ تاريخي للمذهب المالكي. لذلك كانت معرفتنا باقي المذاهب الفقهية والأصولية الأخرى هزيلة بل نكاد لا نعرف شئ عن المذاهب الأسلامية خارج أطار أهل السنة والجماعة.أن هذه الأختلافات الفرعية ولأصولية التي شغلت أبناء الصحوة الأسلامية مبكراً , كانت تبشر بأزمة خطيرة بدأت ملامحها تظهر وتعمق , ليس فقط على مستوى التعدد الحركي أو الأنتماءات السياسية ولكن في التمزق الفكري الديني. كل شاب يختار الألتزام بتعاليم الدين عليه أن يقرأ الكتب الأسلامية في العقائد والفقه بمفرده , أن يدرس ويفهم ثم يختار ويطبق ما توصل اليه من مفاهيم وأراء في العقيدة وفي الأسلام ككل. ويهون الخطب لو كان الأمر ليقف عند هذا الحد , بل يتجاوزه في أغلب الأحيان , لأن ما سيتوصل إليه هذا الشاب الملتزم سيتحول إلى ميزان وقانون يحاكم به المجتمع والأفراد من حوله. فمن قبل بما توصل اليه من آراء وفتاوى فهو على الحق, ومن خالفه فهو بالتأكيد على الباطل ؟!.

من هنا بدأ التمزق يغزو كيان الصحوة الأسلامية داخل كل بلد , وتعددت الخلافات وكثرت الأحكام الفقهية المتناقضة والمتضاربة. وفتح باب الأجتهاد على مصراعية أمام أبناء الصحوة دون شرط أو قيد., سوى أمتلاك كتب الحديث النبوي والقدرة على القرأة والفهم.

وبين عشية وضحاها يصبح الشاب المراهق فقيهاً مجتهدا, يقضي في الدماء والأعراض والأموال. ولنا أن نتصور ماذا كانت النتيجة, ظهور مذاهب فقهية وأصولية بعدد أبناء الصحوة, لأن كل ملتزم أو متدين يلتحق بصفوف الصحوة هو مشروع فقيه مجتهد, ومفكر إسلامي يحمل هموم الأمة الإسلامية ويفكر في إيجاد الحلول لمشاكلها المستعصية !!.

هذا التخبط والأختلاف العقائدي والفقهي العقيم الذي بدأ يمزق جسد الصحوة الإسلامية كان سبب في انتشار موجه من القلق الفكري والروحي داخل صفوف أبناء الصحوة, دفع البعض الى التحرر تدريجياً من الألتزام الديني والتوجه نحو الأنشغالات الدنيوية والنظرة إلى (الإسلام الجديد) بنوع من الحذر والريبة. ومنهم من هرب قاصد الطرق الصوفية على أعتبار أن التعبد هو الحقيقة الوحيد التي لا يمكن أن يختلف حولها مع تجنب بعض مظاهر الشرك. وبقيت فئات عريضة داخل هذه البؤرة تتخبط في الأختلاف والتناقض وتتوزعها كيانات فكرية وحركية لا تتوقف عن الأنقسام والتكاثر, كل كيان يسفه أحلام خصومه, بل يكفرهم ويرمي بهم بعيداً عن جماعة المسلمين.

الواقع أنني كنت ممن اكتوى بنار هذا الأختلاف وأصابه شرر من لهيبها المتطاير , أيام بل شهور وشهور من القلق الفكري والعقائدي كادت أن تعصف بكياني الأيماني والألتزامي.

لكن العناية الألهية ادركتني في الوقت المناسب فانتشلتني من هذا التخبط الذي حشرت فيه, وأمدتني بالقوة والعزم الكافيين لمواصلة مسيرة البحث والدراسة لمعرفة أسباب الخلاف وعوامله ومن يقف وراءه.

فعقدت العزم لدراسة المذاهب الأسلامية المتعددة والتعرف على رجالاتها وكتبهم والبحث عن الدراسات المهمة التي تعالج قضية المذهبية وتاريخ المذاهب.

و لم يكن ذلك متيسراً في وطني لقلة المراجع والمصادر الخاصة بالمذاهب الإسلامية المختلفة قررت السفر إلى الشرق لتحقيق هذا الغرض.

لن أسترسل في ذكر تفاصيل أسفاري وقراءاتي وتخصصي في علم الأجتماع الديني, لكنني قد أكون اكتشفت حقائق كثيرة كانت غائبة عني وعن ابناء جيلي من ابناء الصحوة. منها أن العالم الإسلامي لا تتوزعه جغرافية سياسية فقط, وأنما هناك جغرافية مذهبية وأيديولوجيه كذلك. حدود خفية ودقيقة يتم الحفاظ عليها وحراستها أكثر من الحدود السياسية الجغرافية.

فالجزائر مثلاً كان اريد لها أن تكون سلفية ؟!. فكان ذلك وأغرقت الأسواق بالمنتجات الفكرية السلفية التي غذت نهم أبناء الصحوة للمعرفة. ولبست الحقيقة رداء السلفية في الجزائر, وحوربت الحقائق الأخرى بضراوة وشراسة. إن البحث والدراسة العميقة لتاريخ الإسلام بشكل عام وتاريخ المذاهب الفقهية والأصولية بشكل خاص وعلاقة ذلك بالأجتماع والسياسة يكشف عن حقائق مهمة وخطيرة تنزل أصناماً ذهبية براقة من عليائها لترمي بها في مزابل التاريخ, لأنها العار الأبدي على جبين الأنسانية, ورمزاً للأنحراف والظلم اللذين شيدا صروح النفاق والكفر.

أما هذا الكتاب وفصوله الستة فيأتي كمساهمة في إيجاد إجابات لمئات التساؤلات التي تطرحها مسيرة الصحوة الإسلامية اليوم على المستوى العقائدي والمذهبي , ومحاولة لتسليط الضوء على أسباب وعلل الإختلاف الديني ومن يقف وراء الفتن المذهبية والحروب الطائفية التي تمزق وحدة المسلمين في الوقت الراهن كل ذلك من خلال متابعة تاريخية شاملة لنشوء المذهب الحنبلي في الفقه والعقائد ورصد ليومياته في الدعوة والإنتشار وعلاقته بخصومه ومخالفيه من المذاهب الإسلامية الأخرى مع عرض لبعض خصوصياته العقائدية والفقهية.

هذا المذهب الذي إنبعث فجأة من مقبرة التاريخ نافضا غبار السنين مستفيدا من الظروف المؤاتية ليكتسح الساحة الإسلامية ليس كمذهب إجتهادي في الفقه والأصول ولكن كحقيقة إسلامية مطلقة تقسم جماعة المسلمين إلى (سلفي) مؤمن و(بدعي) كافر !!!.

سيجد القارئ أن هذه المتابعة التاريخية الطويلة والضرورية هي جديد هذا الكتاب وتجاوز للنقص الذي شكت منه الكتب والدراسات التي عالجت هذا الموضوع من زاوية أن الفكر الوهابي أو السلفي يقف مباشرة وراء هذا التمزق العقائدي والفقهي العميق الذي تعيشه الساحة الإسلامية السنية خصوصا.

فالتركيز على معالجة قضايا التوحيد والشرك وحصرها في إطار مسائل التوسل والشفاعة وبناء القبور والدخول في مناقشات عقيمة مع أتباع المذهب الحنبلي المعاصرين (السلفية), من خلال تجميع وحشد الأحاديث المخالفة والمناقضة لما يذهبون إليه, لم يؤد إلى وضوح قضايا التوحيد الشائكة أمام أعين أبناء الصحوة الإسلامية مما ساعد على إنتشار الفكر العقائدي السلفي الذي يرفع شعار التوحيد ويدعو للإبتعاد عن الشرك ومظاهره.

والسبب كما قلت يرجع إلى إهمال وعدم إعتبار الخلفية التاريخية والمذهبية للآراء والأفكار.

فلو عم أبناء الصحوة أن مجمل ما يصلهم اليوم وبشكل عام ويقرأونه ويؤمنون به على أنه رأي الصحابة وعمل السلف الصالح ليس سوى إختيارات المذهب الحنبلي في العقائد والفقه , وإجتهادات رجالاته عبر التاريخ ؟! في مقابل آراء وإجتهادات وإختيارات المذاهب الأخرى التي ظهرت للوجود قبل المذهب الحنبلي بل قبل أن يولد مجتهدوه الكبار بقرون عدة.

والكل يدعي إرتباطه بالسلف الصالح والصحابة ويسند أقواله وأفعاله لهم؟!!

ولو أتيح لغالبية أبناء الصحوة سبيل الإطلاع ومعرفة آراء وأفكار مذاهب أخرى لا يعرفون عنها شيئا, فمما لا شك فيه أنهم سيراجعون عددا لا بأس به من أفكار قدمت لهم على أنها عمل السلف الصالح ومعتقد صحابة رسول الله (ص) وبالتالي الحقيقة الإسلامية.

لذلك وتأكيدا لهذه الحقيقة إرتأيت في الفصل الأخير وأنا ارد على إتهامات السلفية للشيعة الإمامية أن أترك المجال لمجموعة من أبناء أهل السنة والسلفية لترد على هرطقات دعاة السلفية إنطلاقا من إطلاعهم الجديد على مذهب التشيع وإقتناعهم بحقائقه التي كانت غائبة عنهم أو لنقل غيبت عنهم, فأعتنقوا عقائد التشيع بعدما عرفوها وأصبحوا دعاتها والمدافعين عنها بكل حزم وقوة.

إن الخلفيات التاريخية والمذهبية والسياسية وكذا الإجتماعية هي التي تعطي للفكرة أو منظومة الأفكار الأبعاد الداخلية العميقة والصورة الشكلية الخارجية. فتظهر الحقيقة من خلا ل هذا العمق وهذه الصورة واضحة جلية ليس فيها لبس أو إشكال.

وهذا هو الذي يساعد الإنسان على حسن الإختيار والتمييز بين الحق والباطل ليعيش ويموت على بينة إن هذا الكتاب الذي جعل هدفه توضيح مجموعة من المغالطات وعلى رأسها الحقيقة السلفية التي ليست هي الحقيقة الإسلامية المطلقة كما يدعى وإنما مجرد (حقيقة؟!) مذهبية محكومة بنمط إجتهادي حنبلي متميز وتسبح في فضاء سياسي وإجتماعي وجغرافي هو المسؤول عن إخراجها للوجود ونشرها في الأفاق البعيدة.

جهد كذلك ولو بشكل غير مباشر على إزاحة بعض الأقنعة عن وجوه ورجالات وكيانات مذهبية وسياسية مختلفة حيث تتشابك المصالح المادية مع الأهواء الشيطانية وصراع الإرادات الشريرة لتصنع تاريخا مزيفا ودينا محرفا وواقعا تتخبط فيه الأنفس والأرواح من شدة الحيرة والقلق.

فراجع اخي القارئ كتابي لتعرف حقيقة الأمر.

السيد محمد الكثيري

بيروت 6/3/1996