ص 3
بسم الله الرحمن الرحيم
ص 5
دحض المعارضة بحديث: اهتدوا بهدى عمار

ص 7
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد
وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.
ص 9
قوله: وقوله واهتدوا بهدى عمار . أقول: وهذه المعارضة ساقطة الوجوه: 1 - احتجاج
(الدهلوي) بهذا الحديث ينافي ما التزم به إن الاحتجاج بهذا الحديث يتنافى مع
التزامه بعدم النقل إلا من كتبنا، على أنه لا طريق صحيح له عندهم أيضا، ولو سلمنا
صحته فإنه ليس في مرتبة حديث الثقلين الثابت تواتره، بالاضافة إلى أنه ليس مثله في
الظهور والدلالة. 2 - إن عمارا من شيعة علي عليه السلام إن عمارا رضي الله تعالى
عنه من كبار المتمسكين بالثقلين وأتباع مولانا أمير المؤمنين عليه السلام. فلو كان
رسول الله صلى الله عليه وآله قد أمر بالاهتداء بهدى عمار فليس إلا من جهة كونه
آخذا بالكتاب العزيز ومعتصما بالأئمة الطاهرين،
ص 10
واتخاذه ذلك شعارا له ودثارا، فالمهتدي بهداه متبع للثقلين، والمتبع لخطاه متمسك
بالحبلين. ومما يدل على هذا بوضوح: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله عمارا باتباع
أمير المؤمنين عليه السلام واقتفاء أثره، ولقد امتثل رضي الله تعالى عنه هذا الأمر
فاختص بأمير المؤمنين ولازمه ولم يفارقه حتى استشهد. والشواهد التاريخية على هذا
الأمر كثيرة جدا، فقد رووا: عن علقمة بن قيس والأسود بن يزيد، قالا: أتينا أبا
أيوب الأنصاري، فقلنا: إن الله تبارك وتعالى أكرمك بمحمد صلى الله عليه وسلم، إذ
أوحى إلى راحلته فبركت على بابك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيفا لك، فضيلة
فضلك الله عز وجل بها، ثم خرجت تقاتل مع علي بن أبي طالب!! قال: مرحبا بكما وأهلا،
إنني أقسم لكما بالله، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت الذي
أنتما فيه وما في البيت غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي جالس عن يمينه وأنا
قائم بين يديه إذ حرك الباب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس انظر من في
الباب، فخرج ونظر ورجع، فقال: هذا عمار بن ياسر، قال أبو أيوب: فسمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول يا أنس افتح لعمار الطيب المطيب، ففتح أنس الباب، فدخل عمار
فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام ورحب به وقال: يا عمار إنه
سيكون في أمتي بعدي هنات واختلاف حتى يختلف السيف بينهم حتى يقتل بعضهم بعضا ويتبرء
بعضهم من بعض، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الذي عن يميني - يعني عليا - وإن سلك كلهم
واديا وسلك علي واديا فاسلك وادي علي وخل الناس طرا. يا عمار، إن عليا لا يزيلك عن
هدى، يا عمار، إن طاعة علي من طاعتي. وطاعتي من طاعة الله عز وجل . أنظر: (الشريعة
للاجري) و(فردوس الأخبار) و(فرائد السمطين - 1 / 178) و(المودة في القربى) و(مناقب
الخوارزمي 57، 124) و(ينابيع
ص 11
المودة 128، 250) و(مفتاح النجا - مخطوط) و(كنز العمال 12 / 212). وأخرج الحافظ
الخطيب البغدادي عنهما قالا: أتينا أبا أيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين، فقلنا
له: يا أبا أيوب إن الله أكرمك بنزول محمد صلى الله عليه وسلم [في بيتك] وبمجئ
ناقته تفضلا من الله [تعالى] وإكراما لك حتى أناخت ببابك دون الناس [جميعا] ثم جئت
بسيفك على عاتقك تضرب [به] أهل لا إله إلا الله؟ فقال: يا هذا إن الرائد لا يكذب
أهله، إن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرنا بقتال ثلاثة مع علي [رضي الله عنه]
بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، فأما الناكثون فقد قاتلناهم [قابلناهم] وهم
أهل الجمل وطلحة والزبير، وأما القاسطون فهذا منصرفنا عنهم [من عندهم] - يعني
معاوية وعمرا [وعمرو بن العاص] - وأما المارقون منهم [فهم] أهل الطرفاوات وأهل
السقيفات [السعيفات] وأهل النخيلات وأهل النهروان [النهروانات] والله ما أدري أين
هم ولكن لا بد من قتالهم إن شاء الله [تعالى]. [ثم] قال: وسمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول لعمار: يا عمار تقتلك الفئة الباغية وأنت إذ ذاك مع الحق والحق معك،
يا عمار [بن ياسر] إن رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس [كلهم] واديا [غيره] فاسلك
مع علي فإنه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى، يا عمار من تقلد سيفا [و] أعان به
عليا [رضي الله عنه] على عدوه قلده الله يوم القيامة وشاحين من در ومن تقلد سيفا
أعان به عدو علي [رضي الله عنه] قلده [الله] يوم القيامة وشاحين من نار. قلنا: يا
هذا حسبك رحمك الله، حسبك رحمك الله (1). وروى المتقي الهندي في فضائل عمار: عن
حذيفة، أنه قيل له: إن عثمان قد قتل، فما تأمرنا؟
(هامش)
(1) تاريخ بغداد 13 / 186 - 187. (*)
ص 12
قال: إلزموا عمارا. قيل: إن عمارا لا يفارق عليا. قال: إن الحسد هو أهلك للجسد،
وإنما ينفركم من عمار قربه من علي فوالله لعلي أفضل من عمار أبعد ما بين التراب
والسحاب، وإن عمارا من الأخيار. كر (1). ورواه القندوزي في (ينابيع المودة 128)،
وعبد الحق الدهلوي في (رجال المشكاة) بترجمة عمار ثم قال: ذكر هذه الأحاديث
السيوطي في جمع الجوامع ولها طرق عديدة كثيرة . 3 - تخلف عمار عن بيعة أبي بكر.
والعجب من (الدهلوي) كيف يستند إلى هذا الحديث ويحتج به؟! فإن عمارا رضي الله تعالى
عنه من المتخلفين عن بيعة أبي بكر والمنحازين إلى أمير المؤمنين عليه السلام، قال
اليعقوبي: وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار، ومالوا مع علي بن
أبي طالب، منهم العباس بن عبد المطلب والفضل بن عباس والزبير بن العوام وخالد بن
سعيد والمقداد بن عمرو وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر والبراء بن
عازب وأبي بن كعب (2). وانظر (المختصر في أخبار البشر 1 / 156) و(تتمة المختصر 1
/ 187) وغيرهما. وقد أفصح عمار رضي الله عنه عن اعتقاده الراسخ وإيمانه الثابت في
مواقع، منها: حين بويع عثمان بن عفان، فقد قال المسعودي: وقد كان عمار حين بويع
عثمان بلغه قول أبي سفيان صخر بن حرب في دار عثمان
(هامش)
(1) كنز العمال 16 / 141. 2. تاريخ اليعقوبي 2 / 114. (*)
ص 13
عقيب الوقت الذي بويع فيه عثمان ودخل داره ومعه بنو أمية، فقال أبو سفيان أفيكم أحد
من غيركم؟ وقد كان عمي، قالوا: لا، قال: يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي
يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم، ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة. فانتهره عثمان
وسائه ما قال، ونمى هذا القول إلى المهاجرين والأنصار وغير ذلك من الكلام. فقام
عمار في المسجد فقال: يا معشر قريش أما إذا صدفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ههنا
مرة وههنا مرة، فما أنا بآمن من أن ينزعه الله فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله
ووضعتموه في غير أهله (1). 4 - إعراض عمر بن الخطاب عن هدى عمار لقد كذب عمر بن
الخطاب عمارا وأعرض عن هداه وأغلظ له الكلام حتى قال له نوليك ما توليت ، أي
جعله مصداق قوله تعالى: * [ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير
سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا] *. وقد بحث هذا الموضوع في
(تشييد المطاعن) بالتفصيل، وإليك رواية أخرجها: أحمد في (المسند 4 / 265). ومسلم في
(الصحيح 1 / 110). وأبو داود في (السنن 1 / 135). والنسائي في (السنن 1 / 165 بشرح
السيوطي). والطبري في (التفسير 5 / 113). والعيني في (عمدة القاري 4 / 19). وابن
الأثير في (جامع الأصول 8 / 149، 151).
(هامش)
(1) مروج الذهب 2 / 342. (*)
ص 14
والشيباني في (تيسير الوصول 3 / 115). وغيرهم، واللفظ لأحمد قال: ثنا عبد الرحمن
بن مهدي ثنا سفيان عن سلمة - يعني ابن كهيل - عن أبي ثابت عبد الله بن عبد الرحمن
بن أبزى، قال: كنا عند عمر فأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنا نمكث الشهر
والشهرين لا نجد الماء، فقال عمر: أما أنا فلم أكن لأصلي حتى أجد الماء. فقال عمار:
يا أمير المؤمنين تذكر حيث كنا بمكان كذا ونحن نرعى الإبل، فتعلم أنا أجنبنا؟ قال:
نعم. قال: فإني تمرغت في التراب، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فضحك وقال:
كان الصعيد الطيب كافيك، وضرب بكفيه الأرض ثم نفخ فيها ثم مسح بهما وجهه وبعض
ذراعيه. قال: اتق الله يا عمار! قال: يا أمير المؤمنين إن شئت لم أذكره ما عشت - أو
ما حييت - قال: كلا والله، ولكن نوليك من ذلك ما توليت . وفي هذا الحديث نقاط:
الأولى: إن عمر بن الخطاب لم يأخذ بحديث عمار استكبارا، وهذا ينافي الاهتداء بهداه.
الثانية: إنه طعن في حديثه، وقد اعترف بذلك الشيخ ولي الله (والد الدهلوي) عند
الكلام على ضروب اختلاف الصحابة، حيث قال: منها: أن صحابيا سمع حكما في قضية أو
فتوى ولم يسمعه الآخر، فاجتهد برأيه في ذلك وهذا على وجوه... ثالثها: أن يبلغه
الحديث ولكن لا على الوجه الذي يقع به غالب الظن، فلم يترك اجتهاده بل طعن في
الحديث.. روى الشيخان أنه كان من مذهب عمر بن الخطاب أن التيمم لا يجزي الجنب الذي
لا يجد ماءا، فروى عنده عمار: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر،
فأصابته جنابة ولم يجد ماءا، فتمعك في التراب، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:
ص 15
إنما كان يكفيك أن تفعل هكذا - وضرب بيديه الأرض، فمسح بهما وجهه ويديه -. فلم يقبل
عمر، ولم ينهض عنده حجة، لقادح خفي رآه فيه، حتى استفاض الحديث في الطبقة الثانية
من طرق كثيرة، واضمحل وهم القادح فأخذوا به (1). ولنعم ما أفاد العلامة السيد
محمد قلي أحله الله دار السلام في كتابه (تشييد المطاعن) حيث قال في هذا المقام:
إن عدم قبول عمر حديث عمار وعدم جعله حجة رد صريح للشريعة، لأن عمارا صحابي ثقة
عادل جليل الشأن فلماذا لا تقبل روايته ولا تكون حجة؟ وإذا كان حديث عمار لا ينهض
حجة، ولا يوجب إنكاره طعنا، فلماذا يكون إنكار أحاديث الصحابة موجبا للطعن؟ وذلك،
لأن عمارا من أجلة الصحابة وأعاظمهم وأكابرهم، وله فضائل ومناقب عظيمة لم تكن لكثير
من كبار الأصحاب، فمتى جاز إنكار حديثه جاز عدم قبول أحاديث غيره من الصحابة.
فالعجب، أن أهل السنة يقبحون عدم قبول الأحاديث التي ينسبونها إلى عوام الصحابة
وجهالهم - بل إلى فجارهم - بل يحسبونه قدحا في الدين، ولكن لا ينكرون على عمر رده
حديث عمار، بل هو إمامهم الأعظم ومقتداهم الأفخم؟! قال العلامة فضل الله التوربشتي
شارح المصابيح في كتاب المعتمد في المعتقد: لقد أراد الزنادقة أحداث دين في
الشريعة، وجعلوا أساسه القدح في خلافة أبي بكر، وهذا يفضي إلى الطعن في جميع
الصحابة، والطعن فيهم يقتضي الطعن في الدين، لأن القرآن والسنة والأحكام المستفادة
منهما إنما وصلتنا عن طريق الصحابة، فإذا كان ما يقولون في الصحابة حقا لم يبق أي
اعتماد على أخبارهم، فلا تثبت الشريعة، نعوذ بالله من الضلال.
(هامش)
(1) الانصاف في بيان الاختلاف: 16. (*)
ص 16
وليعلم الآن، أن المحافظة على هذه المسألة على مصداق أهل السنة والجماعة محافظة على
أبواب الشريعة، والتهاون بها إضاعة لها جميعا، والله ناصر وولي دينه. وعلى ضوء هذا
نقول: إن طعن عمر في رواية عمار - الذي بلغ من جلالة القدر وعظم الشأن ما لم يبلغه
من الصحابة إلا قليل كما صرح بذلك في كتبهم - يقتضي الطعن في الدين... ودعوى: إن
سبب عدم قبول عمر حديث عمار هو وجود قادح خفي فيه مردودة: بأن هذا الاحتمال في
هكذا حديث صحيح رواه صحابي ثقة عن رسول الله صلى الله عليه وآله (مع أن دين أهل
السنة يبتني على أحاديث الأصحاب، وإن أصل أصولهم - أعني إمامة أبي بكر - إنما ثبتت
بعناية الصحابة) يفتح بابا للملاحدة والكفار في ردهم آيات الكتاب والسنة النبوية
والدين، بدعوى (وجود القادح الخفي !! وبالجملة: فإن حسن ظن أهل السنة دعاهم إلى
هذه التكلفات الباردة في سبيل إصلاح ما لا يصلح، وإلا فبديهي أنه لا وجه لإنكار ورد
حديث عمار إلا العناد وعدم الاعتداد بأحكام رب العباد. والأعجب أن أهل السنة يقبلون
الخبر الموضوع: نحن معاشر الأنبياء لا نورث) بل يحتجون به في مقابل أهل الحق - مع
ما فيه وفي ناقله من وجوه القدح -، ولكن حديث عمار لا ينهض حجة عندهم، رغم كونه
مقبولا بالاجماع، ورغم عجزهم عن بيان القادح الخفي !! وعلى ضوء كلام المخاطب
نفسه - في المطعن الثاني عشر من مطاعن أبي بكر -: إن رواية أبي هريرة وأبي الدرداء
وأمثالهما يفيد القطع كالآيات الكريمة نقول: إن خبر عمار - وهو أفضل منهما إجماعا -
يفيد القطع كذلك، وهو كالآية الشريفة من القرآن العزيز، فعدم قبوله رد له قطعا.
ولقد ثبت من كلام (شاه ولي الله): حتى استفاض الحديث.. إن دعوى وجود القادح
الخفي فيه باطلة عاطلة، وإن أهل السنة رأوا ظن عمر
ص 17
لا طائل تحته فأعرضوا عن مذهبه، ولله الحمد . الثالثة: إنه لم يتحرج عمر بن الخطاب
من تكذيب عمار، وقد اعترف بذلك جماعة أكابر العلماء، قال عبد العلي في مسألة إنكار
المروي عنه روايته: المانع للحجية استدل بما روى مسلم أن رجلا أتى عمر فقال: إني
أجنبت فلم أجد ماءا، فقال: لا تصل. فقال عمار لعمر رضي الله عنه: أما تذكر يا أمير
المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد الماء، فأما أنت فلم تصل وأما أنا
فتمعكت أي تقلبت في الأرض بحيث أصاب التراب جميع البدن فصليت، فقال النبي صلى الله
عليه وآله وأصحابه وسلم: إنما يكفيك أن تسمح بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما
وجهك، وقد وقع في سنن أبي داود إنما يكفيك ضربتان، فلم يذكر أمير المؤمنين عمر، فما
رجع عمر رضي الله عنه عن مذهبه، فإنه لا يرى التيمم للجنب، وفي رواية مسلم، فقال
عمر: اتق الله يا عمار. وأنت لا يذهب عليك أن أمير المؤمنين عمر أنكر إنكار التكذيب
لا إنكار السكوت، فليس هذا من الباب في شيء (1). ومن الواضح: إن تكذيب آحاد
المؤمنين الصادقين معصية يذم العقلاء فاعلها، فكيف بتكذيب هذا الصحابي؟! .
الرابعة: لقد خاطب عمر عمارا بقوله: اتق الله يا عمار . وهذا الكلام لا يقال إلا
لمن ارتكب بدعة محرمة. نص على ذلك العيني في (شرح كنز الدقائق 1 / 233) والزيلعي في
(شرح كنز الدقائق 3 / 60 - 61) في الجواب عن حديث فاطمة بنت قيس في وجوب النفقة
والسكنى للمطلقة البائن، قال العيني: وحديث فاطمة لا يجوز الاحتجاج به لوجوه:
أحدها إن كبار الصحابة أنكروا عليها كعمر - على ما تقدم - وابن مسعود وزيد بن
(هامش)
(1) فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت 2 / 125. (*)
ص 18
ثابت وأسامة بن زيد وعائشة رضي الله عنهم، حتى قالت لفاطمة - فيما رواه البخاري -
ألا تتقي الله؟! وروي أنها قالت لها: لا خير لك فيه. ومثل هذا الكلام لا يقال إلا
لمن ارتكب بدعة محرمة . فما ظنك بعمر القائل هذا الكلام لعمار؟ وهل هو مهتد
بهداه؟. الخامسة: لقد قال لعمار: نوليك ما توليت ولا ريب أنه قد آذاه بهذه
الكلمة الغليظة الشديدة، فقد جعله - والعياذ بالله - مصداقا لقوله تعالى: * [ومن
يشاقق...] *، فهل هو مهتد بهدى عمار كما يقول الحديث؟! * ومما يدل على أن عمر لم
يكن مهتديا بهدى عمار رضي الله عنه بل كان يعاديه: عزله إياه عن ولاية الكوفة من
دون تقصير منه بعد استعماله من دون طلب منه، والأفظع قوله له بعد عزله - مستهزءا به
- أساءك عزلنا إياك فأجابه قائلا: والله لقد ساءتني الولاية وساءني العزل .
قال ابن سعد: أخبرنا عفان بن مسلم، قال نا خالد بن عبد الله، قال نا داود عن
عامر، قال قال عمر لعمار: أساءك عزلنا إياك؟ قال لئن قلت ذلك [ذاك] لقد ساءني حين
استعملتني وساءني حين عزلتني (1). وقال ابن الأثير: ولما عزله عمر قال له:
أساءك العزل؟ قال: والله لقد ساءتني الولاية وساءني العزل (2). 5 - اعتداء عثمان
على عمار لقد آذى عثمان بن عفان عمارا واعتدى عليه وظلمه قولا وفعلا مرة بعد أخرى،
وذلك كله معروف، والشواهد عليه كثيرة جدا، وإليك بعضها: قال ابن قتيبة: ما أنكر
الناس على عثمان رحمه الله. قال ذكروا أنه
(هامش)
(1) الطبقات الكبرى 3 / 256. (2) أسد الغابة 4 / 46. (*)
ص 19
اجتمع ناس من أصحاب النبي عليه السلام، فكتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان
من سنة رسول الله وسنة صاحبيه... ثم تعاهد القوم، ليدفعن الكتاب في يد عثمان، وكان
ممن حضر الكتاب عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وكانوا عشرة، فلما خرجوا بالكتاب
ليدفعوه إلى عثمان - والكتاب في يد عمار - جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحده،
فمضى حتى جاء دار عثمان فاستأذن عليه فأذن له في يوم شات، فدخل عليه وعنده مروان بن
الحكم وأهله من بني أمية، فدفع إليه الكتاب فقرأه فقال له: أنت كتبت هذا الكتاب؟
قال: نعم، قال: ومن كان معك؟ قال: كان معي نفر تفرقوا فرقا منك قال: ومن هم؟ قال:
لا أخبرك بهم، قال: فلم اجترأت علي من بينهم؟ فقال مروان: يا أمير المؤمنين، إن هذا
العبد الأسود - يعني عمارا - قد جرأ عليك الناس وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه.
قال عثمان: اضربوه، فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه فغشي عليه، فجروه حتى
طرحوه على باب الدار فأمرت به أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأدخل منزلها،
وغضب فيه بنو المغيرة وكان حليفهم، فلما خرج عثمان لصلاة الظهر عرض له هشام بن
الوليد بن المغيرة فقال: أما والله لئن مات عمار بن ضربه هذا لأقتلن به رجلا عظيما
من بني أمية، فقال عثمان: لست هناك (1). وقال ابن عبد ربه: ومن حديث الأعمش -
يرويه أبو بكر بن أبي شيبة - قال: كتب أصحاب عثمان عيبه وما ينقم الناس عليه في
صحيفة، فقالوا: من يذهب بها إليه؟ فقال عمار: أنا، فذهب بها إليه، فلما قرأها قال
أرغم الله انفك قال: وبأنف أبي بكر وعمر، قال: فقام إليه فوطئه حتى غشي عليه. ثم
ندم عثمان وبعث إليه طلحة والزبير يقولان: اختر إحدى ثلاث إما
(هامش)
(1) الإمامة والسياسة 1 / 32. (*)
ص 20
أن تعفو وإما أن تأخذ الأرش وإما أن تقتص، فقال والله لا قبلت واحدة منها حتى ألقى
الله. قال أبو بكر: فذكرت هذا الحديث للحسن بن صالح فقال: ما كان على عثمان أكثر
مما صنع (1). وقال المسعودي: وفي سنة خمس وثلاثين كثر الطعن على عثمان رضي الله
عنه وظهر عليه النكير لأشياء ذكروها من فعله، منها: ما كان بينه وبين عبد الله بن
مسعود وانحراف هذيل عن عثمان من أجله، ومن ذلك ما نال عمار بن ياسر من الفتق والضرب
وانحراف بني مخزوم عن عثمان من أجله.. (2). وقال ابن عبد البر في (الاستيعاب 3 /
136): وللحلف والولاء اللذين بين بني مخزوم وبين عمار وأبيه ياسر كان اجتماع بني
مخزوم إلى عثمان حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب حتى انفتق له فتق
في بطنه ورغموا وكسروا ضلعا من أضلاعه، فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا: والله لئن مات لا
قتلنا به أحدا غير عثمان (3). وقال اليعقوبي: فأقام ابن مسعود مغاضبا لعثمان
حتى توفي، وصلى عليه عمار بن ياسر وكان غائبا، فستر أمره، فلما انصرف رأى القبر،
فقال قبر من هذا؟ فقيل: قبر عبد الله بن مسعود، قال: فكيف دفن قبل أن أعلم؟ فقالوا:
ولي أمره عمار بن ياسر وذكر أنه أوصى أن لا يخبر به، ولم يلبث إلا يسيرا حتى مات
المقداد فصلى عليه عمار، وكان أوصى إليه ولم يؤذن عثمان به، فاشتد غضب عثمان على
عمار وقال: ويلي على ابن السوداء، أما لقد كنت به عليما (4). وروى الطبري وابن
الأثير في قصة مسير الحسن عليه السلام وعمار
(هامش)
(1) العقد الفريد 2 / 192. (2) مروج الذهب 2 / 338. (3) الاستيعاب 3 / 136. (4)
تاريخ اليعقوبي 2 / 160. (*)
ص 21
رضي الله عنه إلى الكوفة - واللفظ للأول: فأقبلا حتى دخلا المسجد، فكان أول من
أتاهما مسروق بن الأجدع، فسلم عليهما وأقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان على ما
قتلتم عثمان رضي الله عنه؟ قال: على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا، فقال: والله ما
عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لكان خيرا للصابرين (1). وفي (النهاية)
و(تاج العروس) و(لسان العرب) في مادة صبر : وفي حديث عمار حين ضربه عثمان،
فلما عوتب في ضربه إياه قال: هذي يدي لعمار فليصطبر. معناه: فليقتص . رسول الله:
من عادى عمارا عاداه الله إذا عرفت ذلك وأحطت خبرا بصنيع عثمان فلنورد طرفا من
الأحاديث الواردة في ذم بغض عمار رضي الله عنه: قال ابن عبد البر ومن حديث خالد
بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أبغض عمارا أبغضه الله تعالى.
قال خالد: فما زلت أحبه من يومئذ (2). وقال الحافظ ابن حجر: عن خالد بن الوليد
قال: كان بيني وبين عمار كلام فاغلظت له، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
فجاء خالد فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: من عادى عمارا عاداه الله
ومن أبغض عمارا أبغضه الله (3). وفي (أسد الغابة 4 / 45) عن أحمد بن جنبل
و(المشكاة 5 / 641 هامش المرقاة) واللفظ للأول: عن علقمة عن خالد بن الوليد قال:
كان بيني وبين عمار كلام فاغلظت له في القول، فانطلق عمار يشكوني إلى النبي
(هامش)
(1) الطبري 3 / 497، الكامل 3 / 116. (2) الاستيعاب 3 / 1138. (3) الإصابة 2 / 506.
(*)
ص 22
صلى الله عليه وسلم، فجاء خالد وهو يشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال فجعل
يغلظ له ولا يزيده إلا غلظة والنبي ساكت لا يتكلم فبكى عمار فقال: يا رسول الله ألا
تراه؟ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه وقال: من عادى عمارا عاداه الله ومن
أبغض عمارا أبغضه الله. قال خالد: فخرجت فما كان شيء أحب إلي من رضى عمار فلقيته
فرضي . وروى المتقي الهندي: كف يا خالد عن عمار، فإنه من يبغض عمارا يبغضه الله
ومن يلعن عمارا يلعنه الله. ابن عساكر عن ابن عباس. من يحقر عمارا يحقره الله، ومن
يسب عمارا يسبه الله، ومن يبغض عمارا يبغضه الله. ع. وابن قانع. طب ض عن خالد بن
الوليد. يا خالد: لا تسب عمارا، إنه من يعادي عمارا يعاديه الله، ومن يبغض عمارا
يبغضه الله، ومن يسب عمارا يسبه الله ومن يسفه عمارا يسفهه الله، ومن يحقر عمارا
يحقره الله. ظ وسمويه، طب. ك. عن خالد بن الوليد . (1) وانظر أيضا (كنز العمال 16
/ 142). وقال نور الدين الحلبي: وفي الحديث: من عادى عمارا عاداه الله ومن أبغض
عمارا أبغضه الله، عمار يزول مع الحق حيث يزول، [عمار] خلط الإيمان بلحمه ودمه،
عمار ما عرض عليه أمران إلا اختار الأرشد منهما. وجاء: إن عمارا دخل على النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: مرحبا بالطيب المطيب، إن عمار بن ياسر حشي ما بين أخمص قدميه
إلى شحمة أذنه إيمانا، وفي رواية: إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط
الإيمان بلحمه ودمه. وتخاصم عمار مع خالد بن الوليد في سرية كان فيها خالد أميرا،
فلما جاء إليه صلى الله عليه وسلم استبا عنده، فقال خالد: يا رسول الله أيسرك أن
(هامش)
(1) كنز العمال 13 / 298، 16 / 142. (*)
ص 23
هذا العبد الأجدع يشتمني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خالد لا تسب عمارا
فإن من سب عمارا فقد سب الله ومن أبغض عمارا أبغضه الله ومن لعن عمارا لعنه الله،
ثم إن عمارا قام مغضبا، فقام خالد فتبعه حتى أخذ بثوبه واعتذر إليه فرضي عنه (1).
6 - مخالفة عبد الرحمن بن عوف لعمار لقد خالف عبد الرحمن بن عوف عمارا، ولم يهتد
بهداه فضل وأضل... فقد روى الطبري (التاريخ 3 / 297) وابن الأثير (3 / 37) وابن عبد
ربه (العقد الفريد 2 / 182) في قصة الشورى واللفظ للأول ما نصه: فلما صلوا الصبح
جمع الرهط وبعث إلى من حضره من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار وإلى
أمراء الأجناد، فاجتمعوا حتى التج المسجد بأهله فقال: أيها الناس، إن الناس قد
أحبوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم، وقد علموا من أميرهم، فقال سعيد بن زيد: إنا
نراك لها أهلا فقال: أشيروا علي بغير هذا، فقال عمار: إن أردت أن لا يختلف المسلمون
فبايع عليا، فقال المقداد بن الأسود: صدق عمار، إن بايعت عليا قلنا سمعنا وأطعنا.
قال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان، فقال عبد الله ابن أبي
ربيعة: صدقت إن بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا، فشتم عمار ابن أبي سرح وقال: متى
كنت تنصح المسلمين، فتكلم بنو هاشم وبنو أمية فقال عمار: أيها الناس إن الله عز وجل
أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه، فأنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم؟! . 7 - بغض
سعد بن أبي وقاص لعمار إن هذا الحديث دليل على ضلال سعد بن أبي وقاص، لما ذكروا من
(هامش)
(1) السيرة الحلبية 2 / 265. (*)
ص 24
أنه كان مهاجرا لعمار بن ياسر، وقد روى ابن قتيبة وابن عبد ربه أنه: قال له سعد:
إن كنا لنعدك من أفاضل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى إذا لم يبق من عمرك إلا -
ظئم الحمار أخرجت ربقة الإسلام من عنقك، ثم قال له: أيما أحب إليك مودة على دخل أو
مصارمة جميلة؟ بل مصارمة جميلة، فقال: علي أن لا أكلمك أبدا (1). 8 - ترك المغيرة
نصيحة عمار إن هذا الحديث دليل ساطع على ضلال المغيرة بن شعبة، فقد روى ابن قتيبة
ما هذا نصه: ثم دخل المغيرة بن شعبة، فقال له علي: هل لك يا مغيرة في الله؟ قال:
فأين هو يا أمير المؤمنين؟ قال: تأخذ سيفك فتدخل معنا في هذا الأمر فتدرك من سبقك
وتسبق من معك، فإني أرى أمورا لا بد للسيوف أن تشحذ لها وتقطف الرؤس بها. فقال
المغيرة: فإني والله يا أمير المؤمنين ما رأيت قاتل عثمان مصيبا ولا قتله صوابا،
وإنها لمظلمة تتلوها ظلمات فأريد يا أمير المؤمنين إن أذنت لي أن أضع سيفي وأنا في
بيتي حتى تنجلي الظلمة ويطلع قمرها فنسري مبصرين نقفوا آثار المهتدين ونتقي سبيل
الجائرين، قال علي: قد أذنت لك فكن من أمرك على ما بدا لك. فقام عمار فقال: معاذ
الله يا مغيرة تقعد أعمى بعد أن كنت بصيرا يغلبك من غلبته ويسبقك من سبقته، انظر ما
ترى وتفعل، وأما أنا فلا أكون إلا في الرعيل الأول. فقال له المغيرة: يا أبا
اليقظان إياك أن تكون كقاطع السلسلة فر من الضحل فوقع في الرمضاء. فقال علي لعمار:
دعه فإنه لن يأخذ من الآخرة إلا ما خالطته الدنيا،
(هامش)
(1) المعارف 550، العقد الفريد 2 / 188. (*)
ص 25
وأما والله يا مغيرة إنها للوثبة المودية تودي من قام فيها إلى الجنة ولها اختان
بعدها فإذا غشيتاك فنم في بيتك. فقال المغيرة: أنت والله يا أمير المؤمنين أعلم مني
ولئن لم أقاتل معك لا أعين عليك، فإن يكن ما فعلت صوابا فإياه أردت، وإن أخطأ فمنه
نجوت، ولي ذنوب كثيرة لا قبل لي بها إلا الاستغفار منها (1). 9 - تخلف كبار
الأصحاب عما دعاهم عمار إليه إن هذا الحديث دليل واضح على ضلالة عبد الله بن عمر
وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة، فإنهم لم يتبعوا عمارا ولم يهتدوا بهداه، فقد ذكر
ابن قتيبة: اعتزل عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة عن مشاهد علي
وحروبه، قال: وذكروا أن عمار بن ياسر قام إلى علي فقال يا أمير المؤمنين ائذن لي
آتي عبد الله بن عمر فأكلمه لعله يخف معنا في هذا الأمر، فقال علي: نعم، فأتاه فقال
له: يا أبا عبد الرحمن إنه قد بايع عليا المهاجرون والأنصار ومن إن فضلناه عليك لم
يسخطك وإن فضلناك عليه لم يرضك، وقد انكرت السيف في أهل الصلاة، وقد علمت أن على
القاتل القتل وعلى المحصن الرجم، وهذا يقتل بالسيف وهذا يقتل بالحجارة، وإن عليا لم
يقتل أحدا من أهل الصلاة فيلزم حكم القاتل. فقال ابن عمر: يا أبا اليقظان إن أبي
جمع أهل الشورى الذين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فكان أحقهم
بها علي، غير أنه جاء معه أمر فيه السيف ولا اعرفه، ولكن الله ما أحب أن لي الدنيا
وما عليها وإني أظهرت أو أضمرت عداوة علي. قال: فانصرف عنه، فأخبر عليا بقوله، فقال
لو أتيت محمد بن مسلمة الأنصاري، فأتاه عمار فقال له محمد: مرحبا بك يا أبا اليقظان
على فرقة ما
(هامش)
(1) الإمامة والسياسة 1 / 50. (*)
ص 26
بيني وبينك، والله لولا ما في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لبايعت عليا ولو إن
الناس كلهم عليه لكنت معه، ولكنه يا عمار كان من النبي أمر ذهب فيه الرأي. فقال
عمار: كيف؟ قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا رأيت المسلمين يقتتلون أو
إذا رأيت أهل الصلاة، فقال عمار: فإن كان قال لك: إذا رأيت المسلمين فوالله لا ترى
مسلمين يقتتلان بسيفهما أبدا، وإن كان قال لك أهل الصلاة فمن سمع هذا معك؟ إنما أنت
أحد الشاهدين، فتريد من رسول الله قولا بعد قوله يوم حجة الوداع: دماؤكم وأموالكم
عليكم حرام إلا بحدث فتقول يا محمد لا تقاتل المحدثين، قال: حسبك يا أبا اليقظان.
قال: ثم أتى سعد بن أبي وقاص فكلمه فأظهر سعد الكلام القبيح، فانصرف عمار إلى علي.
فقال له علي: دع هؤلاء الرهط، أما ابن عمر فضعيف، وأما سعد فحسود وذنبي إلى محمد بن
مسلمة إني قتلت قاتل أخيه يوم خيبر مرحب اليهودي (1). 10 - مخالفة أبي موسى
الأشعري لعمار ويقتضي هذا الحديث أن يعتقد أهل السنة بضلالة أبي موسى الأشعري، فإنه
عوضا عن الاهتداء بهدى عمار خالفه وعانده، فقد روى الطبري في (التاريخ 3 / 497)
وابن الأثير في (الكامل 3 / 116) وابن خلدون في (التاريخ 2 / 159) في قصة مجئ الحسن
وعمار سلام الله عليهما إلى الكوفة وقد كان أبو موسى الوالي عليها (واللفظ للأول):
فخرج أبو موسى فلقي الحسن فضمه إليه، وأقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان أعدوت
فيمن عدا على أمير المؤمنين فأحللت نفسك مع الفجار؟
(هامش)
(1) الإمامة والسياسة 1 / 53. (*)
ص 27
فقال لم أفعل ولم يسؤني . وروى البخاري في (الصحيح 9 / 70) والحاكم في (المستدرك 3
/ 117) وابن الأثير في (جامع الأصول 10 / 431) وسبط ابن الجوزي في (تذكرة الخواص
69) وجماعة عن أبي وائل أنه قال - واللفظ للبخاري -. دخل أبو موسى وأبو مسعود على
عمار حيث بعثه علي إلى أهل الكوفة يستنفرهم فقالا: ما رأيناك أتيت أمرا أكره عندنا
من إسراعك في هذا الأمر منذ أسلمت، فقال عمار: ما رأيت منكما منذ أسلمتما أمرا أكره
عندي من إبطائكما عن هذا الأمر، وكساهما حلة حلة، ثم راحوا إلى المسجد . 11 -
مخالفة أبي مسعود الأنصاري لعمار إن هذا الحديث يبين ضلالة أبي مسعود الأنصاري،
فإنه اقتفى أثر أبي موسى في التخلف عن هدى عمار وإنكاره الاستنفار لنصرة أمير
المؤمنين عليه السلام، كما علم مما تقدم في الوجه السابق. وأخرج البخاري بعد الحديث
المتقدم: حدثنا عيدان عن أبي حمزة عن الأعمش عن شقيق بن سلمة، قال: كنت جالسا مع
أبي مسعود وأبي موسى وعمار، فقال أبو مسعود: ما من أصحابك أحد إلا لو شئت لقلت فيه
غيرك وما رأيت منك شيئا منذ صحبت النبي صلى الله عليه وسلم أعيب عندي من استسراعك
في هذا الأمر. قال عمار: يا أبا مسعود وما رأيت منك ومن صاحبك هذا شيئا منذ صحبتما
النبي صلى الله عليه وسلم أعيب عندي من ابطائكما في هذا الأمر. فقال أبو مسعود -
كان موسرا - يا غلام هات حلتين، فأعطى إحداهما أبا موسى والأخرى عمارا، وقال: روحا
فيهما إلى الجمعة (1). والجدير بالذكر تستر اليافعي على الرجلين لفرط فظاعة
معاملتهما مع
(هامش)
(1) صحيح البخاري 9 / 70. (*)
ص 28
عمار رضي الله عنه في تاريخه وقوله: وعاتبه رجلان جليلان ممن توقف عن القتال لما
التقى الفريقان في كلام معناه: ما رأينا منك قط شيئا نكرهه سوى إسراعك في هذا
الأمر، يعني في القتال مع علي، أو نحو ذلك من المقال (1). ومثل هذا عندهم كثير،
ولكن لن يصلح العطار ما أفسده الدهر . 12 - خروج طلحة والزبير على علي وعمار معه
ويتضح من هذا الحديث ضلالة طلحة والزبير، إذ لم يهتديا بهدى عمار يوم الجمل، على أن
الزبير كان يعلم وجوده في جيش أمير المؤمنين عليه السلام. قال الطبري: قال قرة بن
الحارث: كنت مع الأحنف بن قيس وكان جون بن قتادة ابن عمي مع الزبير بن العوام،
فحدثني جون بن قتادة قال: كنت مع الزبير فجاء فارس يسير - وكانوا يسلمون على الزبير
بالإمرة - فقال: السلام عليك أيها الأمير. قال: وعليك السلام، قال: هؤلاء القوم قد
أتوا مكان كذا وكذا ولم أر قوما أرث سلاحا ولا أقل عددا ولا أرعب قلوبا من قوم
أتوك، ثم انصرف عنه. قال ثم جاء فارس فقال: السلام عليك أيها الأمير، فقال: وعليك
السلام، قال: جاء القوم حتى أتوا مكان كذا وكذا فسمعوا بما جمع الله عز وجل من
العدد والعقد والحد، فقذف في قلوبهم الرعب فولوا مدبرين. قال الزبير: أيها عنك
الآن، فوالله لو لم يجد ابن أبي طالب إلا العرفج لدب إلينا فيه، ثم انصرف. ثم جاء
فارس وقد كادت الخيول أن تخرج من الرهج فقال: السلام عليك أيها الأمير. قال: وعليك
السلام، قال: القوم قد أتوك، فلقيت عمارا فقلت له فقال لي: فقال الزبير: إنه ليس
فيهم، فقال: بلي والله إنه لفيهم، قال: والله ما جعله الله فيهم، فقال: والله لقد
جعله الله فيهم، قال: والله ما
(هامش)
(1) مرآة الجنان - حوادث 87. (*)
ص 29
جعله الله فيهم، فلما رأى الرجل يحالفه قال لبعض أهله: إركب. فانظر أحق ما يقول؟
فركب معه فانطلقا وأنا انظر إليهما حتى وقفا في جانب الخيل قليلا ثم رجعا إلينا،
فقال الزبير لصاحبه ما عندك؟ قال: صدق الرجل. قال الزبير: يا جدع أنفاه، أو يا قطع
ظهراه. قال: محمد بن عمارة قال عبيد الله قال فضيل: لا أدري أيهما قال. قال: ثم
أخذه أفكل فجعل السلاح ينتقض. قال: فقال جون: ثكلتني أمي، هذا الذي كنت أريد أن
أموت معه أو أعيش معه، والذي نفسي بيده ما أخذ هذا ما أرى إلا لشيء قد سمعه أو رآه
من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما تشاغل الناس انصرف فجلس على دابته، ثم ذهب،
فانصرف جون فجلس على دابته فلحق بالأحنف، ثم جاء فارسان حتى أتيا الأحنف وأصحابه
فنزلا فأتيا فأكبا عليه فناجياه ساعة ثم انصرفا، ثم جاء عمرو بن جرموز إلى الأحنف
فقال: أدركته في وادي السباع فقتلته، فكان يقول: والذي نفسي بيده إن صاحب الزبير
الأحنف (1). 13 - كلمات عائشة القارصة ويدل الحديث على ضلال عائشة بنت أبي بكر،
قال الطبري: كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة قالا: أمر علي نفرا بحمل
الهودج من بين القتلى، وقد كان القعقاع وزفر بن الحارث أنزلاه عن ظهر البعير،
فوضعناه إلى جنب البعير فأقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه نفر فأدخل يده فيه، فقالت:
من هذا؟ قال: أخوك البر، قالت: عقوق، قال عمار بن ياسر: كيف رأيت ضرب بنيك اليوم يا
أمه؟ قالت: من أنت؟ قال: أنا ابنك البار عمار، قالت: لست لك بأم. قال: بلي وإن
كرهت، قالت: فخرتم أن ظفرتم وأتيتم مثل ما نقمتم، هيهات والله لن يظفر من كان هذا
(هامش)
(1) الطبري 3 / 520. (*)
ص 30
دأبه (1). وانظر (مروج الذهب 2 / 362) وغيره من التواريخ. 14 - سرور معاوية بمقتل
عمار إن هذا الحديث من أوضح الأدلة والبراهين على ضلالة معاوية بن أبي سفيان، رئيس
الفئة الباغية.. فلقد اعرض عن هدى عمار ثم فرح بمقتله بصفين فلما ذكر بقول رسول
الله صلى الله عليه وآله له ويحك يا ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية قال: إنما
قتله الذين جاءوا به . راجع للوقوف على ذلك: 1 - الطبقات 3 / 253، 259. 2 - المسند
2 / 164، 206 3 - تاريخ الطبري 4 / 2 - 3 و4 / 28 - 29 4 - الكامل 3 / 148، 157،
158. 5 - الإمامة والسياسة 1 / 126 6 - المستدرك 3 / 378 7 - العقد الفريد 2 / 203،
204. 8 - الروض الأنف 4 / 264 - 265. 9 - تفسير ابن العربي 2 / 519 بتفسير قوله
تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا. 10 - فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13 /
26 11 - عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 24 / 192 12 - شرح صحيح مسلم لأبي عبد
الله السنوسي 13 - الرياض المستطابة لعماد الدين العامري - ترجمة عمار.
(هامش)
(1) الطبري 3 / 538. (*)
ص 31
14 - وفاء الوفاء 1 / 329 - 332 15 - المصنف لابن أبي شيبة 5 / 81. 16 - كنز العمال
16 / 143 17 - المرقاة في شرح المشكاة 5 / 447 18 - الخميس في تاريخ النفس النفيس 2
/ 277 19 - نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض 3 / 166 20 - الخصائص للنسائي 133
- 135 وغيرها من مصادر التاريخ والأخبار. رسول الله: عمار تقتله الفئة الباغية
وإليك نصوص بعض عبارات أعلام القوم في هذا الباب: قال محمد بن سعد البصري المعروف
بكاتب الواقدي بترجمة عمار عليه الرحمة: أخبرنا أبو معاوية الضرير، عن الأعمش عن
عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: إني لأسير مع معوية في منصرفه عن
صفين بينه وبين عمرو بن العاص، قال: فقال عبد الله بن عمرو: يا أبة! سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية. قال: فقال
عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول هذا؟ قال: فقال معاوية: ما نزال تأتينا بهنة تدحض
بها في بولك، أنحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاءوا به. قال: أخبرنا يزيد بن هارون عن
العوام بن حوشب، قال: حدثني أسود بن مسعود، عن حنظلة بن خويلد العنزي قال: بينا نحن
عند معوية إذ جاء رجلان يختصمان في رأس عمار، يقول كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال
عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما نفسا لصاحبه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية. قال: فقال معاوية: ألا تغني عنا مجنونك يا عمرو
فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله
ص 32
صلى الله عليه وسلم فقال: أطع أباك حيا ولا تعصه، فأنا معكم ولست أقاتل . وقال
أيضا أخبرنا محمد بن عمر، حدثني عبد الحارث بن الفضيل، عن أبيه، عن عمارة بن
خزيمة بن ثابت، فال: شهد خزيمة بن ثابت الجمل وهو لا يسل سيفا وشهد صفين وقال: أنا
لا أسل أبدا حتى يقتل عمار فأنظر من يقتله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: تقتله الفئة الباغية. قال فلما قتل عمار بن ياسر قال خزيمة: قد بانت لي
الضلالة واقترب، فقاتل حتى قتل، وكان الذي قتل عمار بن ياسر أبو غادية المزني طعنه
برمح فسقط وكان يومئذ يقاتل في محضة فقتل يومئذ وهو ابن أربع وتسعين سنة، فلما وقع
أكب عليه رجل آخر فاحتز رأسه فأقبلا يختصمان فيه كلاهما يقول: أنا قتلته. فقال عمرو
بن العاص والله إن يختصمان إلا في النار، فسمعها منه معوية فلما انصرف الرجلان قال
معاوية لعمرو بن العاص: ما رأيت مثل ما صنعت قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما:
إنكما تختصمان في النار فقال عمرو: هو والله ذاك والله إنك لتعلمه، ولوددت أني مت
قبل هذه بعشرين سنة . وقال أبو بكر ابن أبي شيبة العبسي في مصنفه: حدثنا يزيد بن
هارون، قال أخبرنا العوام بن حوشب، قال: حدثني أسود بن معسود عن حنظلة بن خويلد
العنزي، قال: إني لجالس عند معوية إذ أتاه رجلان يختصمان في رأس عمار، كل واحد
منهما يقول: أنا قتلته قال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما نفسا لصاحبه، فإني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية فقال: معاوية: ألا
تغني عن مجنونك يا عمرو فما بالك معنا؟ قال: إني معكم ولست أقاتل، إن أبي شكاني إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم أطع أباك ما دام حيا ولا
تعصه، فأنا معكم ولست أقاتل .
ص 33
وقال أحمد بن حنبل الشيباني في مسنده في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص حدثنا
أبو معاوية، ثنا: الأعمش، عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: إني
لأسير مع معاوية في منصرفه من صفين بينه وبين عمرو بن العاص، قال فقال عبد الله بن
عمرو بن العاص: يا أبت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: ويحك يا ابن
سمية تقتلك الفئة الباغية. قال: فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول هذا؟ فقال
معاوية: لا تزال تأتينا بهنة أنحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاءوا به. حدثنا أبو
نعيم، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الرحمن بن أبي زياد مثله أو نحوه . وقال أيضا:
حدثنا يزيد. أنا: العوام، حدثني أسود بن مسعود، عن حنظلة ابن خويلد العنبري، قال:
بينما أنا عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار يقول كل منهما: أنا قتلته
فقال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما نفسا لصاحبه فإني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية. قال معاوية: فما بالك معنا؟ قال: إن أبي
شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أطع أباك ما دام حيا ولا تعصه فأنا
معكم ولست أقاتل . وقال: حدثنا الفضل بن دكين، ثنا: سفيان، عن الأعمش، عن عبد
الرحمن ابن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: إني لأساير عبد الله ابن عمرو بن
العاص ومعاوية فقال عبد الله بن عمرو لعمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول تقتله الفئة الباغية، يعني عمارا فقال عمرو لمعاوية: اسمع ما يقول هذا! فحدثه
فقال: أنحن قتلناه؟ إنما قتله من جاء به. حدثنا أبو معوية، ثنا: الأعمش، عن عبد
الرحمن بن أبي زياد، فذكر نحوه . وقال: حدثنا أسود بن عامر: ثنا يزيد بن هارون،
أنا: العوام: حدثني أسود بن مسعود، عن حنظلة بن خويلد العنبري، قال: بينما أنا عند
ص 34
معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار يقول كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال عبد
الله: ليطب به أحدكما نفسا لصاحبه فإني سمعت، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: تقتله الفئة الباغية. فقال معاوية ألا تغني عنا مجنونك يا عمرو فما بالك
معنا؟! قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى
الله عليه وسلم أطع أباك ما دام حيا ولا تعصه. فأنا معكم ولست أقاتل . وقال أحمد
في مسند عمرو بن العاص: ثنا عبد الرزاق، قال ثنا: معمر، عن طاووس، عن أبي بكر بن
محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، قال لما قتل عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو
بن العاص فقال قتل عمار وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقتله الفئة
الباغية. فقام عمرو بن العاص فزعا يرجع حتى دخل على معوية، فقال له معاوية: ما
شأنك؟ قال: قتل عمار! فقال معوية: قد قتل عمار فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية فقال له معاوية: دحضت في بولك؟ أو نحن
قتلناه؟! إنما قتله علي وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بين رماحنا، أو قال: بين سيوفنا
. وقال أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب (الخصائص) في مقام سياق طرق حديث الفئة
الباغية: أنبأنا أحمد بن سليمان، قال: ثنا: يزيد، قال: أنبأنا العوام عن الأسود
بن مسعود، عن حنظلة بن خويلد، قال: كنت عند معوية فأتاه رجلان يختصمان في رأس عمار
يقول كل واحد منهما: أنا قتلته! فقال عبد الله ابن عمرو: ليطب به نفسا أحدكما
لصاحبه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتلك الفئة الباغية. قال
[أبو عبد الرحمن]: خالف شعبة فقال: عن العوام، عن رجل، عن حنظلة بن سويد، أخبرنا
محمد بن المثنى، [حدثنا محمد]، أخبرنا شعبة، عن العوام بن حوشب، عن رجل من بني
شيبان، عن حنظلة بن سويد، قال: جئ برأس عمار فقال عبد الله بن عمرو: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ص 35
يقول: تقتلك الفئة الباغية. أخبرني محمد بن قدامة، قال: ثنا: جرير، عن الأعمش [عن
عبد الرحمن] عن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
يقتل عمارا الفئة الباغية [قال أبو عبد الرحمن]: خالفه أبو معوية فرواه عن الأعمش
عن عبد الرحمن بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، أخبرنا عبد الله بن محمد قال
[حدثنا] أبو معوية: حدثنا الأعمش، عن عبد الرحمن ابن أبي زياد وأخبرنا عمرو بن
منصور الشيباني، أخبرنا [أبو نعيم، عن سفيان]، عن عن الأعمش، عن عبد الرحمن بن أبي
زياد، عن عبد الله بن الحارث،: قال: إني لأساير عبد الله بن عمرو بن العاص ومعوية
فقال عبد الله ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: عمار تقتله الفئة
الباغية. قال عمرو: يا معوية اسمع ما يقول هذا! فجذبه فقال: نحن قتلناه؟! إنما قتله
من جاء به، لا تزال داحضا في بولك . وقال ابن قتيبة الدينوري ثم حمل عمار
وأصحابه فالتقى عليه رجلان فقتلاه وأقبلا برأسه إلى معاوية يتنازعان فيه كل يقول:
أنا قتلته. فقال لهما عمرو بن العاص: والله إن تتنازعان إلا في النار، سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتل عمارا الفئة الباغية. فقال معاوية قبحك الله من
شيخ! فما تزال تتزلق في بولك! أو نحن قتلناه؟! إنما قتله الذين جاءوا به. ثم التفت
إلى أهل الشام فقال: إنما نحن الفئة الباغية التي تبغي دم عثمان . وقال الطبري في
خبر رسل الإمام عليه السلام إلى معاوية وتكلم يزيد ابن قيس، فقال: إنا لم نأتك
إلا لنبلغك ما بعثنا به إليك ولنؤدي عنك ما سمعنا منك، ونحن على ذلك لن ندع أن ننصح
لك وأن نذكر ما ظننا أن لنا عليك به حجة، وإنك راجع به إلى الألفة والجماعة، إن
صاحبنا من قد عرفت وعرف المسلمون فضله، ولا أظنه يخفى عليك أن أهل الدين والفضل لن
يعدلوا بعلي ولن يمثلوا بينك وبينه، فاتق الله يا معاوية ولا تخالف عليا فإنا والله
ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى ولا أزهد في الدنيا ولا أجمع
ص 36
لخصال الخير كلها منه. فحمد الله معوية وأثنى، ثم قال: أما بعد! فإنكم دعوتم إلى
الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأما الطاعة لصاحبكم
فإنا لا نراها، إن صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا وآوى ثارنا وقتلتنا وصاحبكم
يزعم أنه لم يقتله فنحن لا نرد ذلك عليه، أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون أنهم
أصحاب صاحبكم فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به. ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة. فقال
له شبث: أيسرك يا معاوية أنك أمكنت من عمار تقتله؟ فقال معاوية: وما يمنعني من ذلك
والله لو أمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان رضي الله عنه ولكن كنت قاتله بناتل
مولى عثمان! فقال له شبث: وآله الأرض وآله السماء ما عدلت معتدلا، لا والذي لا إله
إلا هو لا تصل إلى عمار حتى تندر الهام عن كواهل الأقوام وتضيق الأرض الفضاء عليك
برحبها! فقال له معاوية: إنه لو قد كان ذلك كان الأرض عليك أضيق . وقال في خبر عن
عبد الرحمن السلمي في مقتل عمار: فلما كان الليل قلت لأدخلن إليهم حتى أعلم هل
بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا؟ وكنا إذا توادعنا من القتال تحدثوا إلينا وتحدثنا
إليهم فركبت فرسي وقد هدأت الزجل ثم دخلت فإذا أنا بأربعة يتسايرون: معوية أبو
الأعور السلمي وعمرو بن العاص وعبد الله بن عمرو وهو خير الأربعة، فأدخلت فرسي
بينهم مخافة أن يفوتني ما يقول أحد الشقين فقال عبد الله لأبيه: يا أبة! قتلتم هذا
الرجل في يومكم هذا؟ وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله ما قال؟ قال: وما
قال؟ قال: ألم تكن معنا ونحن نبني المسجد والناس ينقلون حجرا حجرا ولبنة لبنة عمار
ينقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين، فغشي عليه فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: ويحك يا بن سمية الناس ينقلون حجرا حجرا ولبنة
لبنة وأنت تنقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين رغبة منك في الأجر، وأنت ويحك مع ذلك
تقتلك الفئة الباغية! فدفع عمر وصدر فرسه ثم جذب معاوية إليه فقال: يا معاوية!
ص 37
أما تسمع ما يقول عبد الله؟ قال: وما يقول؟ فأخبره الخبر، فقال معاوية: إنك شيخ
أخرق ولا تزال تحدث بالحديث وأنت تدحض في بولك! ونحن قتلنا عمارا؟ إنما قتل عمارا
من جاء به. فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون: إنما قتل عمارا من جاء به، فلا
أدري من كان أعجب هو أو هم . وقال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه القرطبي مقتل
عمار بن ياسر العتبي: قال لما التقى الناس بصفين نظر معاوية إلى هشام بن عتبة الذي
يقال له المرقال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: أرقل يا ميمون! وكان أعور والراية
بيده وهو يقول: أعور يبغي نفسه محلا: قد عالج الحياة حتى ملا * لا بد أن يفل أو
يفلا فقال معاوية لعمرو بن العاص: يا عمرو! هذا المرقال والله لئن زحف بالراية زحفا
إنه ليوم أهل الشام الأطول ولكني أرى ابن السوداء إلى جنبه، يعني عمارا وفيه عجلة
في الحرب وأرجو أن تقدمه إلى الهلكة، وجعل عمار يقول: يا عتبة تقدم! فيقول: يا أبا
اليقظان! أنا أعلم بالحرب منك، دعني أزحف بالراية زحفا! فلما أضجره وتقدم أرسل
معوية خيلا فاختطفوا عمارا فكان يسمي أهل الشام قتل عمار فتح الفتوح . وقال
أيضا: أبو ذر، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده أم سلمة
زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده
بالمدينة أمر باللبن يضرب وما يحتاج إليه، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فوضع ردائه، فلما رأى ذلك المهاجرون والأنصار وضعوا أرديتهم وأكسيتهم يرتجزون
ويقولون ويعلمون: لئن قعدنا والنبي يعمل * ذاك إذا لعمل مضلل قالت: وكان عثمان بن
عفان رجلا نظيفا متنظفا فكان يحمل اللبنة ويجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعه نفض كفيه
ونظر إلى ثوبه فإذا أصابه شيء من التراب نفضه! فنظر إليه علي رضي الله عنه فأنشد:
ص 38
لا يستوي من يعمر المساجدا * يدأب فيها راكعا وساجدا وقائما طورا وطورا قاعدا * ومن
يرى عن التراب حائدا فسمعها عمار بن ياسر فجعل يرتجز بها وهو لا يدري من يعني،
فسمعه عثمان فقال: يا بن سمية! ما أعرفني بمن تعرض؟ ومعه جريدة، فقال: لتكفن أو
لأعترضن بها وجهك! فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل حائط، فقال: عمار
جلدة ما بين عيني وألفي، فمن بلغ ذلك منه فقد بلغ مني وأشار بيده فوضعها بين عينيه،
فكف الناس عن ذلك وقالوا لعمار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غضب فيك ونخاف
أن ينزل فينا قرآن! فقال: أنا أرضيه كما غضب، فأقبل عليه فقال: يا رسول الله! ما لي
ولأصحابك؟ قال ومالك ولهم؟ قال: يريدون قتلي يحملون لبنة ويحملون علي لبنتين، فأخذ
به وطاف به في المسجد وجعل يمسح وجهه من التراب ويقول: يا بن سمية! لا يقتلك أصحابي
ولكن تقتلك الفئة الباغية. فلما قتل بصفين وروى هذا الحديث عبد الله بن عمرو بن
العاص، قال معوية: هم قتلوه لأنهم أخرجوه إلى القتل. فلما بلغ ذلك عليا قال: ونحن
قتلنا أيضا حمزة لأنا أخرجناه . وقال أبو عبد الله الحاكم النيسابوري بترجمة عمار:
أخبرني أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصنعاني. ثنا: إسحق بن إبراهيم بن عباد.
أنبأ: عبد الرزاق عمر معمر، عن ابن طاووس، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن
أبيه، أخبره قال: لما قتل عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال:
قتل عمار وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية. فقام
عمرو فزعا حتى دخل على معوية فقال له معوية: ما شأنك؟ فقال: قتل عمار بن ياسر!
فقال: قتل عمار فماذا؟ فقال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يقتله
الفئة الباغية. فقال له معوية: أنحن قتلناه؟ إنما قتله علي وأصحابه جاءوا به حتى
ألقوه بين رماحنا، أو قال: سيوفنا. صحيح على شرطهما ولم يخرجاه بهذه السياقة.
ص 39
أخبرنا أبو زكريا الغبري ثنا: محمد بن عبد السلام، ثنا: إسحق ثنا، عطاء ابن مسلم
الحلبي، قال: سمعت! لأعمش يقول: قال أبو عبد الرحمن السلمي: شهدنا صفين فكنا إذا
توادعنا دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء في عسكر هؤلاء، فرأيت أربعة يسيرون معوية بن أبي
سفيان وأبو الأعور السلمي وعمرو بن العاص وابنه، فسمعت عبد الله بن عمرو يقول لأبيه
عمرو: وقد قتلنا هذا الرجل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما قال. قال.
أي الرجل؟ قال عمار بن ياسر، أما تذكر يوم بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد
فكنا نحمل لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين، فمر على رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: أتحمل لبنتين لبنتين وأنت ترحض؟! أما إنك ستقتلك الفئة الباغية وأنت من
أهل الجنة. فدخل عمرو على معوية فقال: قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما قال. فقال: أسكت فوالله ما تزل تدحض في بولك! أنحن قتلناه؟! إنما
قتله علي وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بيننا! . وقال أبو المؤيد الموفق بن أحمد
الخوارزمي: وكان الذي قتل عمارا أبو غادية المزني طعنه برمح فسقط وكان يومئذ
يقاتل وهو ابن أربعة وتسعين، فلما وقع أكب عليه رجل آخر فاجتز رأسه فأقبلا يختصمان
كلاهما يقول: أنا قتلته؟ فقال عمرو بن العاص: والله إن يختصمان إلا في النار،
فسمعها معاوية فلما انصرف الرجلان قال معاوية لعمرو: ما رأيت مثل ما صنعت! قوم
بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما: إنكما تختصمان في النار؟! فقال عمرو: هو والله ذلك
إنك لتعلمه ولوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة . قال: في اليوم السادس والعشرين
من حروب صفين قتل أبو اليقظان عمار ابن ياسر وأبو الهيثم بن التيهان نقيب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ورضي عنهما. روي أن الحرث بن باقور أخا ذي الكلاع برز إلى عمار
وضربه عمار فصرعه وكان من برز إليه قتله فينشد: نحن ضربناكم على تنزيله * واليوم
نضربكم على تأويله
ص 40
ضربا يزبل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله أو يرجع الحق إلى سبيله! واستسقى
عمار فأتي بلبن في قدح فلما رآه كبر ثم شربه وقال: إن النبي صلى الله عليه وآله قال
لي: آخر زادك من الدنيا ضياح من لبن، ويقتلك الفئة الباغية! فهذا آخر أيامي من
الدنيا ثم حمل وأحاط به أهل الشام واعترضه أبو الغادية الفزاري وابن جوفي السكسكي،
فأما أبو الغادية فطعنه وأما ابن جوفي فاجتز رأسه الشريف، وقد كان ذو الكلاع سمع
عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعمار بن ياسر: يا بن سمية!
تقتلك الفئة الباغية. قال ذو الكلاع، وتحت أمره ستون ألفا من الفرسان يقول لعمرو بن
العاص: ويحك أنحن الفئة الباغية؟! وكان في شك من ذلك، فيقول عمرو: إنه سيرجع إلينا،
واتفق أنه أصيب ذو الكلاع يوم أصيب عمار، فقال عمرو: لو بقي ذو الكلاع لمال بعامة
قومه ولأفسد علينا جندنا. وقتل أبو الهيثم وجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فلما رأى ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص قال لأبيه: أشهد لسمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم، يقول لعمار: تقتلك الفئة الباغية فقال عمرو لمعاوية: صدق رسول الله
صلى الله عليه وسلم، أنحن قتلنا عمارا؟ إنما قتله الذي جاء به فألقاه تحت رماحنا
وسيوفنا. وفرح بقتل عمار أهل الشام، وقال معاوية: قتلنا عبد الله بن بديل وهاشم بن
عتبة وعمار بن ياسر، فاسترجع النعمان بن بشير وقال: والله إنا كنا نعبد اللات
والعزى، وعمار يعبد الله ولقد عذبه المشركون بالرمضاء وغيرها من ألوان العذاب، فكان
يوحد الله ويصبر على ذلك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صبرا آل ياسر؟ موعدكم
الجنة. وقال له: عمارا يدعو الناس إلى الجنة ويدعونه إلى النار، وقال ابن جوفي من
أهل الشام: أنا قتلت عمارا. فقال عمرو بن العاص: ماذا قال حين ضربته؟ قال: قال
اليوم ألقى
ص 41
الأحبة محمدا وحزبه. فقال عمرو: صدقت، أنت صاحبه والله ما ظفرت يداك وقد أسخطت ربك.
وعن السدي، عن يعقوب بن أسباط، قال إحتج رجلان بصفين في سلب عمار وفي قتله، فأتيا
عبد الله بن عمرو بن العاص يتحاكمان إليه، فقال: ويحكما أخرجا عني فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: أولعت قريش بعمار، عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى
النار، قاتله وسالبه في النار . وقال السهيلي: وفي جامع معمر بن راشد أن
عمارا كان ينقل في بنيان المسجد لبنتين، لبنة عنه ولبنة عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم والناس ينقلون لبنة واحدة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: للناس أجر ولك
أجران، وآخر زادك من الدنيا شربة لبن، وتقتلك الفئة الباغية! فلما قتل يوم صفين دخل
عمرو على معاوية فزعا فقال: قتل عمار! فقال معاوية فماذا؟ فقال عمرو: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتلك الفئة الباغية! فقال: دحضت في بولك، أنحن
قلناه؟! إنما قتله من أخرجه . وقال ابن الأثير الجزري في خبر رسل أمير المؤمنين
إلى معاوية: وقال يزيد بن قيس: إنا لم نأت إلا لنبلغك ما أرسلنا به إليك ونؤدي
عنك ما سمعنا منك، ولن ندع أن ننصح وأن نذكر ما يكون به الحجة عليك ويرجع إلى
الألفة والجماعة، إن صاحبنا من عرف المسلمون فضله ولا يخفى عليك، فاتق الله يا
معوية ولا تخالفه! فإنا والله ما رأينا في الناس رجلا قط أعمل بالتقوى ولا أزهد في
الدنيا ولا أجمع لخصال الخير كلها منه. فحمد الله معاوية ثم قال: أما بعد، فإنكم
دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأما الطاعة
لصاحبكم فإنا لا نراها، لأن صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا وآوى ثارنا، وصاحبكم
يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نرد عليه ذلك فليدفع إلينا قتلة عثمان لنقتلهم ونحن
نجيبكم إلى الطاعة والجماعة! فقال شبث بن ربعي: أيسرك يا معاوية أن يقتل عمارا؟!
ص 42
فقال: وما يمنعني من ذلك لو تمكنت من ابن سمية لقتلته بمولى عثمان! فقال شبث: والذي
لا إله غيره لا تصل إلى ذلك حتى تندر الهام عن الكواهل وتضيق الأرض والفضاء عليك!
فقال معوية: لو كان ذلك لكانت عليك أضيق! وتفرق القوم عن معوية . وقال في ذكر مقتل
عمار عليه الرحمة: وخرج عمار بن ياسر على الناس فقال: اللهم إنك تعلم أني لو أعلم
أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته! اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك
في أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحني عليه حتى تخرج من ظهري لفعلته! وإني لا أعلم
اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم عملا هو أرضى لك منه
لفعلته، والله إني لأرى قوما ليضربنكم ضربا يرتاب منه المبطلون، وأيم الله لو
ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر، لعلمت أنا على الحق، وأنهم على الباطل. ثم قال:
من يبتغي رضوان الله ربه ولا يرجع إلى مال ولا ولد؟ فأتاه عصابة فقال: اقصدوا بنا
هؤلاء القوم الذين يطلبون دم عثمان، والله ما أرادوا الطلب بدمه ولكنهم ذاقوا
الدنيا واستحبوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه منها،
ولم يكن لهم سابقة يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم، فخدعوا أتباعهم وقالوا:
إمامنا قتل مظلوما، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا فبلغوا ما ترون، فلولا هذا ما تبعهم
من الناس رجلان. اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما
أحدثوا في عبادك العذاب الأليم. ثم مضى ومعه تلك العصابة، فكان لا يمر بواد من
أودية صفين إلا تبعه من كان هناك من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء إلى
هاشم بن عتبة ابن أبي وقاص، وهو المرقال وكان صاحب راية علي وكان أعور، فقال: يا
هاشم! أعورا وجبنا * لا خير في أعور لا يغشى الباس * اركب يا هاشم! فركب ومضى معه
وهو يقول:
ص 43
أعور يبغي أهله محلا * قد عالج الحياة حتى ملا لا بد أن يفل أو يفلا * يتلهم بذي
الكعوب تلا وعمار يقول: تقدم يا هاشم الجنة تحت ضلال السيوف والموت تحت أطراف
الأسل، وقد فتحت أبواب السماء وتزينت الحور العين، اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه،
وتقدم حتى دنا من عمرو بن العاص، فقال له: يا عمرو، بعث دينك بمصر؟! تبا لك! فقال
له: لا ولكن أطلب بدم عثمان! فقال: أنا أشهد على علمي فيك أنك لا تطلب بشيء من فعلك
وجه الله وأنك إن لم تقتل اليوم تمت غدا، فانظر إذا أعطي الناس على قدر نياتهم ما
نيتك؟ لقد قاتلت صاحب هذه الراية ثلاثا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه
الرابعة ما هي بأبر وأتقى! ثم قاتل عمار ولم يرجع وقتل . قال: وقال عبد الرحمن
السلمي: لما قتل عمار دخلت عسكر معوية لأنظر هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا، وكنا
إذا تركنا القتال تحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم، فإذا معوية وعمرو وأبو الأعور وعبد
الله بن عمرو يتسايرون، فأدخلت فرسي بينهم لئلا يفوتني ما يقولون. فقال عبد الله
لأبيه: يا أبة! قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما قال! قال: وما قال؟ قال: ألم يكن المسلمون ينقلون في بناء مسجد النبي صلى الله
عليه وسلم لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فغشي عليه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه
وسلم فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: ويحك يا بن سمية! الناس ينقلون لبنة لبنة
وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة في الأجر وأنت مع ذلك تقتلك الفئة الباغية؟؟ فقال
عمرو لمعوية: أما تسمع ما يقول؟ قال: وما يقول؟ فأخبره فقال معوية: أنحن قتلناه؟!
إنما قتله من جاء به! فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون: إنما قتل عمارا من
جاء به، فلا أدري من كان أعجب أهو أم هم؟! . وقال محيي الدين ابن عربي الأندلسي في
تفسيره، وإن طائفتان من المؤمنين إلى آخره، الاقتتال لا يكون إلا للميل إلى
الدنيا والركون إلى الهوى
ص 44
والانجذاب إلى الجهة السفلية والتوجه إلى المطالب الجزئية، والاصلاح إنما يكون من
لزوم العدالة في النفس التي هي ظل المحبة التي هي ظل الوحدة، فلذلك أمر المؤمنون
الموحدون بالإصلاح بينهما على تقدير بغيهما، والقتال مع الباغية على تقدير بغي
إحداهما حتى يرجع لكون الباغية مضادة للحق دافعة له، كما خرج عمار رضي الله عنه مع
كبره وشيخوخته في قتال أصحاب معوية ليعلم بذلك أنهم الفئة الباغية . وقال سبط ابن
الجوزي: وحكى ابن سعد في (الطبقات) عن عبد الله ابن عمرو بن العاص أنه قال لأبيه:
قتلتم عمارا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: تقتلك الفئة الباغية!؟
فسمعه معاوية فقال: لإنك شيخ أخرق ما تزال تأتينا بهنة تدحض بها في بولك! أنحن
قتلناه؟! أنما قتله الذي أخرجه وفي رواية: فبلغ ذلك عليا فقال: ونحن قتلنا حمزة
لأنا أخرجناه إلى أحد. وذكر ابن سعد أيضا أن ذا الكلاع لما بلغه هذا قال لعمرو: نحن
الفئة الباغية وهم بالرجوع إلى عسكر علي وكان تحت يده ستون ألفا فقتل ذو الكاع فقال
معاوية: لو بقي ذو الكلاع لأفسد علينا جندنا بميله إلى ابن أبي طالب! . وقال أيضا:
وقال الواقدي: لما طعن أبو الغادية عمارا بالرمح وسقط أكب عليه آخر فاجتز رأسه ثم
أقبلا إلى معاوية يختصمان فيه، كل منهما يقول: أنا قتلته، فقال لهما عمرو: والله إن
تختصمان إلا في النار! فقال معوية: ما صنعت؟ قوم بذلوا نفوسهم دوننا تقول لهم هذا؟!
فقال عمرو: هو والله كذلك وأنت تعلمه وإني والله وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين
سنة! . وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: فائدة - روى حديث تقتل عمارا الفئة
الباغية جماعة من الصحابة منهم قتادة (أبو قتادة. ظ) بن النعمان كما تقدم وأم
سلمة عند مسلم، وأبو هريرة عند الترمذي، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي،
وعثمان بن عفان وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع
ص 45
وخزيمة بن ثابت ومعوية وعمرو بن العاص وأبو اليسر وعمار نفسه، وكلها عند الطبراني
وغيره طرقها صحيحة أو حسنة. وفيه عن جماعة آخرين يطول عدهم. وفي هذا الحديث علم من
أعلام النبوة وفضيلة ظاهرة لعلي ولعمار ورد على النواصب الزاعمين أن عليا لم يكن
مصيبا في حروبه . وقال بدر الدين العيني في شرح حديث إذا تواجه المسلمان فكلاهما
من أهل النار : وقال الكرماني: علي رضي الله عنه ومعاوية كلاهما كانا مجتهدين
غاية ما في الباب أن معاوية كان مخطئا في اجتهاده له أجر واحد وكان لعلي رضي الله
عنه أجران. قلت: المراد (فالمراد. ظ) بما في الحديث المتواجهان بلا دليل من
الاجتهاد ونحوه، إنتهى. قلت: كيف يقال كان معاوية مخطئا في اجتهاده، فما كان الدليل
في اجتهاده!! وقد بلغه الحديث الذي قال صلى الله عليه وسلم: ويح ابن سمية تقتله
الفئة الباغية! وابن سمية هو عمار ابن ياسر، وقد قتله فئة معاوية، أفلا يرضى معاوية
سواء بسواء حتى يكون له أجر واحد . وقال محمد بن خلفة الوشتاني الآبي في شرح حديث
قتل عمار: والحديث حجة بينة للقول بأن الحق مع علي وحزبه وإنما عذر الآخرون
بالاجتهاد، وأصل البغي الحسد، ثم استعمل في الظلم، وعلى هذا حمل الحديث عبد الله
ابن عمرو العاص يوم قتل عمار، وغيره تأوله فتأوله معاوية وكان أولا يقول: إنما قتله
من أخرجه لينفي عن نفسه صفة البغي ثم رجع فتأوله على الطلب وقال: نحن الفئة
الباغية، أي الطالبة لدم عثمان، من البغاء بضم الباء والمد وهو الطلب. قلت: البغي
عرفا الخروج عن طاعة الإمام مغالبة له، ولا يخفى عليك بعد التأويلين أو خطؤهما،
فأما الأول فواضح وكذا الثاني لأن ترك علي القصاص من قتلة عثمان للذين قاموا بطلبه
ورأوه مستندا في اجتهادهم ليس لأنه تركه جملة واحدة وإنما تركه لما تقدم، وفيه أن
عدم القصاص منكر قاموا بتغييره والقيام بتغيير المنكر إنما هو ما لم يؤد إلى مفسدة
أشد. وأيضا المجتهد إنما
ص 46
يحسن به الظن إذا لم يبين مستند اجتهاده، أما إذا بينه فكان خطأ فكيف؟. ولله در
الشيخ حيث كان يقول الصحبة حصنت على ما حارب عليا! . وقال أبو عبد الله محمد بن
محمد بن يوسف السنوسي في شرح حديث قتل عمار: والحديث حجة بينة للقول بأن الحق مع
علي وحزبه وإنما عذر الآخرون بالاجتهاد، وأصل البغي الحسد ثم استعمل في الظلم، وغير
تأويله معوية رضي الله عنه فكان يقول: إنما قتله من أخرجه لينفي عن نفسه صفة البغي
ثم رجع فتأوله على الطلب وقال: نحن الفئة الباغية، أي الطالبة لدم عثمان، من البغاء
بضم الباء والمد وهو الطلب (ب 1): البغي عرفا لخروج عن طاعة الإمام مغالبة له، ولا
يخفى بعد التأويلين أو خطؤهما، ولله در الشيخ حيث كان يقول: الصحبة حصنت على من
حارب عليا رضي الله عنه . وقال عماد الدين يحيى بن أبي بكر العامري في ترجمة سيدنا
عمار: قتل رضي الله عنه بصفين سنة سبع وثلثين عن ثلث وخمسين سنة وكان من أصحاب
علي وقتله أصحاب معوية، وبقتله استدل أهل السنة على تصحيح جانب علي لأن النبي صلى
الله عليه وسلم كان قد قال له: ويح ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية، وقال: ويح عمار
يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، وقال قبل أن يقتل: ائتوني بشربة لبن فإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن. وكان آدم
طوالا لا يغير شيبة، رضي الله عنه ورحمه . وقال نور الدين السمهودي: وأسند (2)
أيضا أن علي بن أبي طالب كان يرتجز وهو يعمل فيه ويقول: لا يستوي من يعمر المساجدا
* يدأب فيها قائما وقاعدا ومن يرى عن الغبار حائدا.
(هامش)
(1) أي: قال: الآبي. (2) ابن زبالة. (*)
ص 47
وأسند هو أيضا ويحيى من طريقه والمجد ولم يخرجه عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت:
بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده فقرب اللبن وما يحتاجون إليه، فقام رسول
الله صلى الله عليه وسلم فوضع ردائه، فلما رأى ذلك المهاجرون الأولون والأنصار
ألقوا أرديتهم وأكسيتهم وجعلوا يرتجزون ويعملون ويقولون: لئن قعدنا والنبي يعمل.
البيت وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه رجلا نظيفا متنظفا وكان يحمل اللبنة فيجافي
بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كمه ونظر إلى ثوبه فإن أصابه شيء من التراب نفضه، فنظر
إليه علي بن أبي طالب فأنشأ يقول: لا يستوي من يعمر المساجدا الأبيات المتقدمة،
فسمعها عمار بن ياسر فجعل يرتجز بها وهو لا يدري من يعني بها فمر بعثمان فقال: يا
ابن سمية! ما أعرفني بمن تعرض ومعه جريدة فقال: لتكفن أو لاعترض بها وجهك! فسمعه
النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل بيتي تعني أم سلمة. وفي كتاب يحيى: في ظل
بيته، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: إن عمار بن ياسر جلدة ما بين
عيني وأنفي فإذا بلغ ذلك من المرء فقد بلغ ووضع يده بين عينيه، فكف الناس عن ذلك ثم
قالوا لعمار: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غضب فيك ونخاف أن ينزل فينا القرآن!
فقال: أنا أرضيه كما غضب، فقال: يا رسول الله! ما لي ولأصحابك؟ قال: مالك وما لهم؟
قال: يريدون قتلي يحملون لبنة لبنة ويحملون علي اللبنتين والثلاث فأخذ بيده فطاف به
في المسجد وجعل يمسح وفرته بيده من التراب ويقول: يا ابن سمية لا يقتلك أصحابي ولكن
تقتلك الفئة الباغية. وقد ذكر ابن إسحاق القصة بنحوه كما في (تهذيب) ابن هشام، قال:
وسألت غير واحد من أهل العلم بالشعر عن هذا الرجز فقالوا: بلغنا أن علي ابن أبي
طالب ارتجز به، فلا ندري أهو قائله أم غيره، وإنما قال ذلك علي رضي الله عنه مطائبة
ومباسطة كما هو عادة الجماعة، إذا اجتمعوا على عمل
ص 48
وليس ذلك طعنا. وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل أبي جعفر الخطمي، قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يبني المسجد وعبد الله بن رواحة يقول: أفلح من يعالج المساجد
فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ابن رواحة: يتلوا القرآن قائما وقاعدا،
فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيح في ذكر بناء المسجد: وكنا
نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل ينفض
التراب عنه ويقول: ويح عمار! تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى
النار، وقال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن. وأسند ابن زبالة ويحيى، عن مجاهد،
قال: رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يحملون الحجارة على عمار وهو يبني
المسجد فقال: ما لهم ولعمار، ويدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار وذلك فعل
الأشقياء الأشرار! وأسند الثاني أيضا عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحمل كل رجل
منهم لبنة لبنة وعمار بن ياسر لبنتين، لبنة عنه ولبنة عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ظهره وقال: يا ابن سمية! لك
أجران وللناس أجر، وآخر زادك من الدنيا شربة من لبن وتقتلك الفئة الباغية. وفي
(الروض) للسهيلي أن معمر بن راشد روى ذلك في جامعه بزيادة في آخره وهي: فلما قتل
يوم صفين دخل عمرو على معاوية رضي الله عنهما فزعا فقال: قتل عمار! فقال معاوية:
فماذا؟ فقال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية.
فقال معوية: دحضت في بولك، أنحن قتلناه؟ إنما قتله من أخرجه. وروى البيهقي في
(الدلائل) عن عبد الرحمن (أبي عبد الرحمن. ظ) السلمي أنه سمع عبد الله بن عمرو بن
العاص يقول لأبيه عمرو: قد قتلنا هذا الرجل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيه ما قال قال: أي رجل؟ قال: عمار بن ياسر، أما تذكر يوم بنى رسول الله صلى الله
عليه وسلم المسجد، فكنا
ص 49
نحمل لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين، فمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: تحمل لبنتين وأنت ترحض! أما إنك ستقتلك الفئة الباغية وأنت من أهل الجنة.
فدخل عمرو على معوية فقال: قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما قال فقال: اسكت، فوالله ما تزال تدحض في بولك! أنحن قتلناه؟! إنما قتله علي
وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بيننا. قلت: وهو يقتضي أن هذا القول لعمار كان في
البناء الثاني للمسجد، لأن إسلام عمرو كان في الخامسة كما سبق. وقال السمهودي في
(خلاصة الوفاء): ولأحمد عن أبي هريرة: كانوا يحملون اللبن إلى بناء المسجد ورسول
الله صلى الله عليه وسلم معهم، ثم قال: فاستقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
عارض لبنة على بطنه فطننت أنها ثقلت عليه فقلت: ناولنيها يا رسول الله! فقال: خذ
غيرها يا أبا هريرة فإنه لا عيش إلا عيش الآخرة. وهذا في البناء الثاني لأن إسلام
أبي هريرة متأخر. وكذا ما في الصحيح في ذكر بناء المسجد: كنا نحمل لبنة لبنة وعمار
لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل ينفض التراب ويقول: ويح عمار
تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، لأن البيهقي روى في
(الدلائل) عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه سمع عبد الله بن العاص يقول لأبيه عمرو: قد
قتلنا هذا الرجل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما قال! قال: أي رجل؟
قال قال: عمار بن ياسر، أما تذكره يوم بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد،
فكنا نحمل لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين، فمر على رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وذكر نحو رواية الصحيح. ثم قال: فدخل عمرو على معوية فقال: قتلنا هذا الرجل
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال! فقال: اسكت فوالله ما تزال تدحض في
بولك، أنحن قتلناه؟ إنما قتله علي وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بيننا. وإسلام عمرو
رضي الله عنه كان في السنة الخامسة فلم يحضر إلا البناء الثاني .
ص 50
وقال الملا علي المتقي: عن خالد بن الوليد عن ابنة هشام بن الوليد ابن المغيرة
وكانت تمرض عمارا قالت: جاء معوية إلى عمار يعوده فلما خرج من عنده قال: أللهم لا
تجعل منيته بأيدينا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتل عمارا
الفئة الباغية (ع. كر) . وقال في (شرح الفقه الأكبر) في ذكر خلافة أمير المؤمنين
عليه السلام: ومما يدل على صحة خلافته دون خلافة غيره الحديث المشهور الخلافة
بعدي ثلثون سنة ثم يصير ملكا عضوضا وقد استشهد علي (رض) على رأس ثلاثين سنة عن
وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما يدل على صحة اجتهاده وخطأ معوية في مراده
ما صح عنه صلى الله عليه وسلم في حق عمار بن ياسر: تقتلك الفئة الباغية. وأما ما
نقل أن معوية أو أحدا من أشياعه قال: ما قتله إلا علي (رض) حيث حمله على المقاتلة
فروي عن علي كرمه الله وجهه أنه قال في المقابلة: فيلزم أن النبي صلى الله عليه
وسلم قتل عمه حمزة! فتبين أن معوية ومن بعده لم يكونوا خلفاء بل ملوكا وأمراء .
وقال في (شرح الشفاء) في فصل الإخبار بالغيوب: وإن عمارا وهو ابن ياسر تقتله
الفئة الباغية. رواه الشيخان، ولفظ مسلم: قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
لعمار: تقتلك الفئة الباغية. وزاد: وقاتله في النار. فقتله، أي عمارا، أصحاب معوية،
أي بصفين، ودفنه علي رضي الله تعالى عنه في ثيابه وقد نيف على سبعين سنة، فكانوا هم
البغاة على علي بدلالة هذا الحديث ونحوه، وقد ورد: إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع
الحق، وقد كان مع علي رضي الله تعالى عنهما، وأما تأويل معوية أو ابن العاص بأن
الباغي علي وهو قتله حيث حمله على ما أدى إلى قتله، فجوابه ما نقل عن علي كرم الله
وجهه أنه يلزم منه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قاتل حمزة عمه. والحاصل أنه
لا يعدل عن حقيقة العبارة إلى مجاز الإشارة إلا بدليل ظاهر من عقل أو نقل يصرفه عن
ظاهره، نعم، غاية العذر عنهم أنهم اجتهدوا وأخطأوا فالمراد بالباغية الخارجة
المتجاوزة لا الطالبة كما ظنه بعض
ص 51
الطائفة . وقال في (المرقاة - شرح المشكوة): (وعن أبي قتادة) صحابي مشهور (أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار) أي ابن ياسر (حين يحفر الخندق) حكاية حال
ماضية (فجعل يمسح رأسه) أي رأسه عمار عن الغبار ترحما عليه من الأغيار (ويقول بؤس)
بضم موحدة وسكون همز، ويبدل، وبفتح السين مضافا إلى (ابن سمية) وهي بضم السين وفتح
الميم وتشديد التحتية أم عمار وهي قد أسلمت بمكة وعذبت لترجع عن دينها فلم ترجع
وطعنها أبو جهل فماتت، ذكره ابن الملك. وقال غيره: كانت أمه ابنة أبي حذيفة
المخزومي زوجها ياسرا وكان حليفه فولدت له عمارا فأعتقه أبو حذيفة أي: يا شدة عمار
أحضري فهذا أوانك، واتسع في حذف حرف النداء من أسماء الأجناس وإنما يحذف من أسماء
الأعلام، وروى بوس بالرفع على ما في بعض النسخ، أي: عليك بؤس أو يصيبك بوس، وعلى
هذا ابن سمية منادى مضاف، أي: يا ابن سمية! وقال شارح المغني : يا شدة ما يلقاه
ابن سمية من الفئة الباغية، نادى بؤسه وأراد نداءه وخاطبه بقوله: (تقتلك الفئة
الباغية) أي الجماعة الخارجة على إمام الوقت وخليفة الزمان. قال الطيبى: ترحم عليه
بسبب الشدة التي يقع فيها عمار من قبل الفئة الباغية يريد به معاوية وقومه فإنه قتل
يوم صفين. وقال ابن الملك: إعلم أن عمارا قتله معوية وفئته فكانوا طاغين باغين بهذا
الحديث، لأن عمار كان غي عسكر علي وهو المستحق للإمامة فامتنعوا عن بيعته. وحكي أن
معاوية كان يتأول معنى الحديث ويقول: نحن فئة باغية طالبة لدم عثمان، وهذا كما ترى
تحريف، إذ معنى طلب الدم غير مناسب هنا لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر الحديث في
إظهار فضيلة عمار وذم قاتله لأنه جاء في طريق: ويح! قلت: ويح، كلمة تقال لمن وقع في
هلكة لا يستحقها فيترحم عليه ويرثي له، بخلاف ويل، فإنها كلمة عقوبة تقال للذي
ص 52
يستحقها ولا يترحم عليه هذا. وفي (الجامع الصغير) برواية الإمام أحمد والبخاري عن
أبي سعيد مرفوعا: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة يدعونه إلى
النار. هذا كالنص الصريح في المعنى الصحيح المتبادر من البغي المطلق في الكتاب كما
في قوله تعالى: وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وقوله سبحانه: فإن بغت إحداهما
على الأخرى فإطلاق اللفظ الشرعي على إرادة المعنى اللغوي عدول من العدل وميل إلى
الظلم الذي هو وضع الشيء في غير موضعه. والحاصل أن البغي بحسب المعنى الشرعي
والاطلاق العرفي خص عموم معنى الطلب اللغوي إلى طلب الشر الخاص بالخروج المنهى، فلا
يصح أن يراد به طلب دم خليفة الزمان وهو عثمان رضي الله عنه. وقد حكي عن معوية
تأويل أقبح من هذا حيث قال: إنما قتله علي وفئته حيث حمله على القتال وصار سببا
لقتله في المال، فقيل له في الجواب: فإذن قاتل حمزة هو النبي صلى الله عليه وسلم،
حيث كان باعثا له على ذلك والله سبحانه وتعالى حيث أمر المؤمنين بقتال المشركين!
والحاصل أن هذا الحديث فيه معجزات ثلث: إحديها أنه سيقتل، وثانيها أنه مظلوم،
وثالثها أن قاتله باغ من البغاة، والكل صدق وحق. ثم رأيت الشيخ أكمل الدين قال:
الظاهر أن هذا أي التأويل السابق عن معوية وما حكي عنه أيضا من أنه قتله من أخرجه
للقتل وحرضه عليه كل منهما افتراء عليه! أما الأول فتحريف للحديث، وأما الثاني
فلأنه ما أخرجه أحد بل هو خرج بنفسه وما له مجاهدا في سبيل الله قاصدا لإقامة
الفرض، وإنما كان كل منهما افتراء على معاوية لأنه رضي الله عنه أعقل من أن يقع في
شيء ظاهر الفساد على الخاص والعام. قلت: فإذا كان الواجب عليه أن يرجع عن بغيه
بإطاعته الخليفة ويترك المخالفة وطلب الخلافة المنيفة، فتبين بهذا أنه كان في
الباطن باغيا
|