ص 252
تولى كبره منهم له عذاب عظيم * لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا
وقالوا هذا إفك مبين * لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك
عند الله هم الكاذبون * ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما
أفضتم فيه عذاب عظيم * إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم
وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم * ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم
بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم * يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين *
ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم] *(1). أليس الذين جاءوا بالإفك من
الصحابة والصحابيات وتلك أسماؤهم مسجلة في الكتب؟ فهل كلهم ثقة مؤتمن؟. 15 - الوليد
بن عقبة لقد نص القرآن الكريم على فسق الوليد بن عقبة بن أبي معيط - أخي عثمان لأمه
- وعلى عدم جواز الاعتماد على خبره بقوله تعالى: * [يا أيها الذين آمنوا إن جائكم
فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين] *(2). قال
ابن عبد البر بترجمته: ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن - فيما علمت - أن
قوله عز وجل: * [إن جائكم فاسق بنبأ] * نزلت في الوليد بن عقبة (3). كما يشهد
قوله تعالى: * [أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون] *(4) على فسقه كذلك، قال
ابن عبد البر: ومن حديث الحكم عن
(هامش)
(1) سورة النور 12 - 18. (2) سورة الحجرات 6. (3) الاستيعاب 4 / 1553. (4) سورة
السجدة 18. (*)
ص 253
سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة في قصة
ذكرها: أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون... (1). وقد ذكر ابن طلحة الشافعي
تلك القصة عن أبي الحسن الواحدي وأبي إسحاق الثعلبي، وأورد قصيدة حسان بن ثابت التي
ضمنها إياها، وتكلم على القصة بالتفصيل، فليراجع (2). ومن عجائب الأمور: أن يخرج له
أبو داود في سننه، ويعدوه من رجال الصحاح ويروي جماعة عنه، كما لا يخفى على من راجع
كتب رجال الحديث. 16 - بعض الأصحاب لقد كذب النبي صلى الله عليه وآله جماعة من
الأصحاب في قصة أهل هجرة الحبشة فيما رواه المتقي: عن الشعبي قال: لما أتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم قتل جعفر بن أبي طالب ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم
امرأته أسماء بنت عميس حتى فاضت عبرتها فذهب بعض حزنها، ثم أتاها فعزاها ودعا بني
جعفر فدعا لهم ودعا لعبد الله بن جعفر أن يبارك له في صفقة يده، فكان لا يشتري شيئا
إلا ربح فيه، فقالت له أسماء: يا رسول الله إن هؤلاء يزعمون أنا لسنا من المهاجرين،
فقال: كذبوا، لكم الهجرة مرتين، هاجرتم إلى النجاشي وهاجرتم إلي. ش (3). * وكذب
جماعة منهم في قصة عمل عامر بن الأكوع في حديث أخرجه الشيخان في غزوة خيبر عن سلمة
بن الأكوع - واللفظ لمسلم - قال: فلما تصاف القوم كان سيف عامر فيه قصر فتناول به
ساق يهودي ليضربه ويرجع ذباب سيفه فأصاب ركبة عامر فمات منه، قال: فلما قفلوا قال
سلمة
(هامش)
(1) الاستيعاب 4 / 1554. (2) مطالب السؤل 57. (3) كنز العمال 15 / 294. (*)
ص 254
- وهو آخذ بيدي - قال: فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساكنا قال: مالك؟
قلت له: فداك أبي وأمي زعموا أن عامرا حبط عمله. قال: من قاله؟ قلت: فلان وفلان
وأسيد بن حضير الأنصاري، فقال: كذب من قاله، إن له لأجرين - وجميع بين إصبعيه - إنه
لجاهد مجاهد قل عربي مشي بها مثله . * وقال رسول الله صلى الله عليه وآله في خطبة
له بعد نزول: * [إنما وليكم الله... الآية] * - رواها شهاب الدين أحمد قال: اتقوا
الله أيها الناس حتى تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعلموا أن الله بكل شيء
محيط، وإنه سيكون من بعدي أقوام يكذبون علي فيقبل منهم، ومعاذ الله أن أقول على
الله إلا الحق، أو أنطق بأمره إلا الصدق وما آمركم إلا ما أمرني به، ولا أدعوكم إلا
إلى الله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. فقام إليه عبادة بن الصامت فقال:
ومتى ذاك يا رسول الله؟ ومن هؤلاء؟ عرفناهم لنحذرهم. قال: أقوام قد استعدوا لنا من
يومهم وسيظهرون لكم إذا بلغت النفس مني ههنا - وأومأ صلى الله عليه وبارك وسلم إلى
حلقه -. فقال عبادة: إذا كان ذلك فإلى من يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وبارك
وسلم: عليكم بالسمع والطاعة للسابقين من عترتي والآخذين من نبوتي، فإنهم يصدونكم عن
الغي ويدعونكم إلى الخير وهم أهل الحق ومعادن الصدق، يحيون فيكم الكتاب والسنة
يجنبونكم الالحاد والبدعة ويقمعون الحق أهل الباطل، لا يميلون مع الجاهل (1). فهل
كلهم ثقة مؤتمن؟ * لقد صرح أمير المؤمنين عليه السلام - في كلام له - بكذب بعض
الأصحاب على رسول الله صلى الله عليه وآله، روى ذلك سبط ابن الجوزي
(هامش)
(1) توضيح الدلائل على تصحيح الفضائل - مخطوط. (*)
ص 255
حيث قال: ومن كلامه في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبه قال الشعبي:
حدثني من سمع عليا عليه السلام وقد سئل عن سبب اختلاف الناس في الحديث، فقال عليه
السلام: الناس أربعة، منافق مظهر للايمان [و] مضيع للاسلام [وقلبه يأبى الإيمان] لا
يتأثم ولا يتحرج، كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو علم الناس [حاله] لما
أخذوا عنه ولكنهم قالوا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فأخذوا بقوله، وقد
أخبر الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصف، ثم إنهم عاشوا بعده فتقربوا إلى
أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان فولوهم الأعمال وجعلوهم على رقاب
الناس فأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس تبع للملوك إلا من عصمه الله عز وجل... هذه
رواية الشعبي، وفي رواية كميل بن زياد عنه أنه قال: إن في أيدي الناس حقا وباطلا
وصدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا وعاما وخاصا ومحكما ومتشابها وحفظا ووهما، وقد كذب على
رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده حتى قام خطيبا فقال: من كذب على متعمدا
فليتبوء مقعده من النار، وإنما يأتيك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس، وذكرهم.
قلت: وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث - وهو قوله صلى الله عليه
وآله من كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار - مائة وعشرون من الصحابة ذكرتهم في
كتابي المترجم ب حق اليقين ، وأما طريق علي عليه السلام فأخبرنا غير واحد عن
عبد الأول الصوفي أنبأ [نا] ابن المظفر الداودي، أنبأ [نا] ابن أعين السرخسي، أنبأ
[حدثنا] الفربري ثنا البخاري ثنا علي بن الجعد ثنا شعبة عن منصور عن ربعي بن خراش
قال: سمعت عليا عليه السلام يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من كذب
علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار. أخرجاه في الصحيحين وأخرجه أحمد في المسند،
والجماعة (1).
(هامش)
(1) تذكرة خواص الأمة 142. (*)
ص 256
فكيف يكون كلهم ثقة..؟ * ولقد كان عمر بن الخطاب يخوف الناس في عهده في الحديث عن
رسول الله صلى الله عليه وآله، لذا لم يعتمد معاوية - مع كونه من أكذب الناس - على
كثير من الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وآله إلا ما كان منها في عهد عمر، قال
الذهبي بترجمة عمر: ابن علية عن رجاء ابن أبي سلمة: قال: بلغني أن معاوية كان
يقول: عليكم من الحديث بما كان في عهد عمر، فإنه قد أخاف الناس في الحديث عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم (1). وقال عمر لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله - فيما
رواه ابن عبد البر بإسناده -: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأنا شريككم. قال ابن عبد البر: وهذا يدل على أن نهيه عن الاكثار وأمره بالإقلال من
الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان خوف الكذب على رسول الله صلى
الله عليه وسلم (2). * وكذب عوف بن مالك الصحابي قوما من الصحابة فكذبهم عمر كذلك
فقد روى ابن أبي الحديد في سيرة عمر: حضر [ت] عند عمر قوم من الصحابة، فأثنوا
عليه وقالوا: والله ما رأينا يا أمير المؤمنين رجلا أقضى منك بالقسط و[لا] أقول،
ولا أشد على المنافقين منك، إنك لخير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال
عوف بن مالك كذبتم والله، أبو بكر بعد رسول الله خير منه [أمته]، رأينا أبا بكر،
فقال عمر صدق عوف والله وكذبتم، لقد كان أبو بكر والله أطيب من ريح المسك وأنا أضل
من بعير أهلي (3). * وكذبت جماعة من الصحابيات في قضية زفاف عائشة، فقد أخرج
(هامش)
(1) تذكرة الحفاظ - ترجمة عمر. (2) جامع بيان العلم 400. (3) شرح النهج 12 / 36.
(*)
ص 257
أحمد قائلا: ثنا عبد الرزاق أنا سفيان عن ابن أبي الحسين عن شهر بن حوشب عن أسماء
بنت يزيد قالت: كنا فيمن جهز عائشة وزفها، قالت: فعرض علينا النبي صلى الله عليه
وسلم لبنا، فقلنا: لا نريده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجمعن جوعا وكذبا
(1). * ومما استفاض نقله: إن بعض نساء النبي صلى الله عليه وآله علمن إحدى زوجاته -
حسدا منهن لها وعنادا للنبي صلى الله عليه وآله - أن تستعيذ بالله منه حين يدخل
عليها، كي ينتهي ذلك إلى تطليق النبي إياها. وممن روى ذلك ابن سعد والحاكم والطبري،
وجماعة من شراح البخاري، وابن عبد البر وابن الأثير... ونحن نكتفي برواية ابن سعد
حيث قال: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال:
تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بنت النعمان وكانت من أجمل أهل زمانها
وأشبه (أشبهم. ظ)، قال: فلما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج الغرائب قالت
عائشة قد وضع يده في الغرائب، يوشكن أن يصرفن وجهه عنا، وكان خطبها حين وفدت كندة
عليه إلى أبيها فلما رآها نساء النبي صلى الله عليه وسلم حسدنها فقلن لها: إن أردت
أن تحظي عنده فتعوذي بالله منه إذا دخل عليك، فلما دخل وألقى الستر مد يده إليها
فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: أمن عائذا لله، الحقي بأهلك. أخبرنا هشام بن محمد،
حدثني ابن الغسيل عن حمزة بن أبي أسيد الساعدي عن أبيه - وكان بدريا - قال: تزوج
رسول الله أسماء بنت النعمان الجونية، فأرسلني فجئت بها، فقالت حفصة لعائشة - أو
عائشة لحفصة - إخضبيها أنت وأنا أمشطها، ففعلنا [ففعلن] ثم قالت لها إحداهما: إن
النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: أعوذ بالله منك،
فلما دخلت عليه وأغلق الباب وأرخى الستر مد يده إليها، فقالت: أعوذ
(هامش)
(1) المسند 6 / 459. (*)
ص 258
بالله منك، فقال بكمه على وجهه فاستتر به وقال: عذت معاذا - ثلاث مرات -. قال أبو
أسيد: ثم خرج علي فقال: يا أبا أسيد ألحقها بأهلها ومتعها برازقيتين - يعني
كرباستين - فكانت تقول: أدعوني الشقية. أخبرنا هشام بن محمد السائب، حدثني زهير بن
معاوية الجعفي: إنها ماتت كمدا (1). 17 - معقل بن سنان لقد رد أمير المؤمنين عليه
السلام خبر معقل بن سنان الأشجعفي في المفوضة فيما رواه جماعة كالغزالي والآمدي
وأبي الوليد الباجي وعبد العزيز البخاري وابن الهمام وغيرهم، قال المتقي: عن علي
أنه قال في المتوفى عنها ولم يفرض لها صداقا: لها الميراث وعليها العدة ولا صداق
لها، وقال: لا يقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله. ص ق (2). 18 - هشام بن
حكيم وكذب عمر بن الخطاب هشام بن حكيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
فقد أخرج البخاري قائلا: حدثنا سعيد بن عفير [قال] حدثني الليث [قال] حدثني عقيل
عن ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد
القاري حدثاه أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان
في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف
كثيرة لم يقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى
(هامش)
(1) الطبقات الكبرى 8 / 145. (2) كنز العمال 11 / 29. (*)
ص 259
سلم فلببته بردائه فقلت: من أقرئك هذه السورة التي [سمعتك] تقرأ؟ قال: أقرأنيها
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
أقرأنيها على غير ما قرأت. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أنزلت. ثم قال اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي
أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل [على]
سبعة أحرف، فاقرؤا ما تيسر منه (1). 19 - رجل من الصحابة كذبه الشعبي - وهو من
كبار التابعين - قال الذهبي: قال الحاكم في ترجمة الشعبي: ثنا إبراهيم بن مضارب
العمري [القمري] ثنا محمد بن إسماعيل ابن مهران نا عبد الواحد بن نجدة الحوطي نا
بقية نا سعيد بن عبد العزيز حدثني ربيعة بن يزيد قال: قعدت إلى الشعبي بدمشق في
خلافة عبد الملك. فحدث رجل من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
اعبدوا ربكم ولا تشركوا به شيئا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الأمراء، فإن
كان خيرا فلكم، وإن كان شرا فعليهم وأنتم منه براء. فقال له الشعبي: كذبت (2).
20 - طلحة والزبير وعبد الله بن الزبير لقد كذب هؤلاء - وهم من مشاهير الصحابة - في
حرب الجمل في
(هامش)
(1) صحيح البخاري 6 / 227. (2) تذكرة الحفاظ - ترجمة الشعبي -. (*)
ص 260
قضية الحوأب وحملوا الناس على أن يشهدوا زورا... في قصة معروفة رواها المؤرخون
بأجمعهم، كابن قتيبة والطبري وأبناء الأثير وخلدون والوردي والشحنة، وأبي الفداء
والمسعودي والسمعاني والحموي.... قال الطبري: شراء الجمل لعائشة رضي الله عنها
وخبر كلاب الحوأب: حدثني إسماعيل بن موسى الفزاري قال: نا علي بن عابس الأزرق قال:
ثنا أبو الخطاب الهجري عن صفوان بن قبيصة الأحمسي قال: حدثني العرني صاحب الجمل
قال: بينما أنا أسير على جمل إذ عرض لي راكب فقال: يا صاحب الجمل [أ] تبيع جملك؟
قلت: نعم، قال: بكم؟ قلت: بألف درهم. قال: مجنون أنت؟ جمل يباع بألف درهم؟ قال قلت:
نعم جمل [جملي] هذا. قال: ومم ذلك؟ قلت: ما طلبت عليه أحدا قط إلا أدركته ولا طلبني
وأنا عليه أحد قط إلا فته. قال: لو تعلم لمن نريده لأحسنت بيعنا. قال قلت: ولمن
تريده؟ قال: لأمك. قلت: لقد تركت أمي في بيتها قاعدة ما تريد براحا. قال: إنما
أريده لأم المؤمنين عائشة، قلت: فهو لك، خذه بغير ثمن، قال: لا ولكن ارجع معنا إلى
البرحل فلنعطك ناقة مهرية، وزادوني أربعمائة أو ستمائة درهم. فقال لي: يا أخا عرينة
هل لك دلالة بالطريق؟ قال قلت: نعم أنا من أدرك [أدل] الناس قال: فسر معنا، فسرت
معهم فلا أمر على واد ولا ماء إلا سألوني عنه حتى فرطنا ماء الحوأب، قال: فصرخت
عائشة بأعلى صوتها ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، ثم قالت: أنا والله صاحبة كلاب
الحوأب طروقا، ردوني، تقول ذلك ثلاثا، فأناخت وأناخوا حولها وهم على ذلك، وهي تأبى
حتى كانت الساعة التي أناخوا فيها من الغد. قال: فجاءها ابن الزبير فقال: النجاء
النجاء فقد أدرككم والله علي بن أبي طالب. قال: فارتحلوا. وشتموني فانصرفت (1).
(هامش)
(1) تاريخ الطبري 3 / 475. (*)
ص 261
وفي (الكامل): فقال لها عبد الله بن الزبير: إنه كذب، ولم يزل بها وهي تمتنع،
فقال لها: النجاء النجاء! قد أدرككم علي بن أبي طالب، فارتحلوا نحو البصرة (1).
ولم يسم ابن خلدون القائل، فقال: فقالت عائشة ردوني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول - وعنده نساؤه - ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب، ثم ضربت عضد بعيرها
فأناخته وأقامت بهم يوما وليلة إلى أن قيل: النجا النجا قد أدرككم علي، فارتحلوا
نحو البصرة (2). وفي (مروج الذهب) فقال [ابن] الزبير: بالله ما هذا الحوأب ولقد
غلط فيما أخبرك به، وكان طلحة في ساقة الناس فلحقها فأقسم أن ذلك ليس بالحوأب، وشهد
معهما خمسون رجلا ممن كان معهم، فكان ذلك أول شهادة زور أقيمت في الإسلام (3).
وقال ابن قتيبة... وأتى عبد الله بن الزبير فحلف لها بالله لقد خلفتيه أول الليل،
وأتاها ببينة زور من الأعراب فشهدوا بذلك، فزعموا أنها أول شهادة زور شهد بها في
الإسلام (4). وفي (شرح النهج) فقال لها الزبير: مهلا يرحمك الله، فإنا قد جزنا
ماء الحوأب بفراسخ ثيرة، فقالت: أعندك من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة ليست على ماء
الحوأب؟ فلفق لها الزبير وطلحة خمسين أعرابيا جعلا لهم جعلا فحلفوا لها وشهدوا أن
هذا الماء ليس [ب] ماء الحوأب، فكانت هذه أول شهادة زور في الإسلام، فسارت عائشة
لوجهها (5).
(هامش)
(1) الكامل 3 / 107. (2) تاريخ ابن خلدون المجلد 2 / 1065. (3) مروج الذهب 2 / 358.
(4) الإمامة والسياسة 1 / 63. (5) شرح النهج 9 / 311. (*)
ص 262
21 - زوجة رفاعة لقد كذبت هذه الصحابية على زوجها الثاني بحضرة رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، فيما أخرجه البخاري في كتاب اللباس باب الثياب الخضر من [صحيحه]
ورواه البغوي والرازي والخازن والسيوطي والشربيني والزمخشري كلهم بتفسير قوله عز
وجل فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره (1). قال الزمخشري: روي
عن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:
إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإن عبد الرحمن ابن الزبير تزوجني، وإنما معه مثل هدبة
الثوب، وإنه طلقني قبل أن يمسني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدين أن
ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك. وروي أنها لبثت ما شاء الله ثم
رجعت فقالت: إنه كان قد مسني، فقال لها كذبت في قولك الأول فلن أصدقك في الآخر،
فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتت أبا بكر رضي الله عنه فقالت:
أأرجع إلى زوجي الأول؟ فقال: قد عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لك ما
قال، فلا ترجعي إليه. فلما بعض أبو بكر رضي الله عنه قالت مثله لعمر رضي الله عنه
فقال: إن أتيتيني بعد مرتك هذه لأرجمنك، فمنعها (2). 22 - الغميصا - أو الرميصا
وقد كذبت هذه الصحابية على زوجها الثاني عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
فقد أخرج النسائي ما نصه: أخبرنا علي بن حجر قال أخبرنا
(هامش)
(1) سورة البقرة: 230. (2) الكشاف 1 / 275. (*)
ص 263
هشيم قال أخبرنا يحيى عن أبي إسحاق عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس أن
الغميصا - أو الرميصا - أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها أنه لا يصل
إليها، فلم تلبث أن جاء زوجها فقال: يا رسول الله هي كاذبة وهو يصل إليها، ولكنها
تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ليس ذلك لها حتى
تذوق عسيلته (1). 23 - فاطمة بنت قيس لقد كذبها عمر بن الخطاب في حديثها عن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يجعل للمطلقة ثلاثا سكنى ولا نفقة، وقد روى
ذلك من الفقهاء الطلحاوي في (معاني الآثار) والسرخسي في (المبسوط) والكاساني في
(بدائع الصنائع) والمرغيناني في (الهداية) في كتاب الطلاق ومن الأصوليين الآمدي
في (الأحكام) والغزالي في (المستصفى) والبخاري في (كشف الأسرار) وعبد العلى في
(فواتح الرحموت) وغيرهم. بل لقد كذبها جماعة من الأصحاب فيما ذكروا. قال العيني:
وحديث فاطمة لا يجوز الاحتجاج به من وجوه، الأول: إن كبار الصحابة رضي الله عنهم
أنكروا عليها كعمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد وعائشة رضي الله عنهم،
حتى قالت لفاطمة فيما رواه البخاري ألا تتقي الله. وروي أنه قالت لها: لا خير لك
فيه. ومثل هذا الكلام لا يقال إلا لمن ارتكب بدعة محرمة (2). 24 - بسرة بنت صفوان
ولقد كذب جماعة من الصحابة والصحابيات هذه الصحابية المهاجرة
(هامش)
(1) السنن للنسائي 2 / 97. (2) شرح كنز الدقائق للعيني 1 / 233. (*)
ص 264
في حديثها، فيما رواه الطحاوي في (معاني الآثار) والعيني في (شرح الهداية) في كتاب
الطهارة، وعبد العزيز البخاري في (كشف الأسرار) في تقسيم الراوي . قال عبد
العزيز البخاري: وكذلك حديث بسرة أي وكحديث فاطمة في المبتوتة حديث بسرة بنت
صفوان الذي تمسك به الشافعي في أن مس الفرج نفسه أو غيره بباطن الكف بلا حائل حدث،
من هذا القسم وهو المستنكر، فإن عمر وعليا وابن مسعود وابن عباس وعمارا وأبا
الدرداء وسعد بن أبي وقاص وعمران بن الحصين رضي الله عنهم لم يعملوا به، حتى قال
علي رضي الله عنه لا أبالي أمسسته أم أرنبة أنفي، وكذا نقل عن جماعة من الصحابة،
وقال بعضهم: إن كان نجسا فاقطعه. وتذاكر عروة ومروان الوضوء من مس الفرج، فقال
مروان: حدثتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالوضوء
من مس الفرج، فلم يرفع عروة بحديثها رأسا، وروى ابن زيد عن ربيعة أنه كان يقول: هل
يأخذ بحديث بسرة أحد، والله لو أن بسرة شهدت على هذه النعل لما أجزت شهادتها، إنما
قوام الدين الصلاة، وإنما قوام الصلاة الطهور، فلم يكن في صحابة رسول الله صلى الله
عليه وسلم من يقيم هذا الدين إلا بسرة!! قال ابن زيد: على هذا أدركنا مشايخنا، ما
منهم أحد يرى في مس الذكر وضوءا. وعن يحيى بن معين أنه قال: ثلاثة من الأخيار لا
يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: خبر مس الذكر. ووقعت هذه المسألة في زمن
عبد الملك بن مروان، فشاور الصحابة، فأجمع من بقي منهم على أنه لا وضوء فيه وقالوا:
لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت. يعنون بسرة بنت
صفوان (1).
(هامش)
(1) كشف الأسرار 2 / 711. (*)
ص 265
25 - عائشة وحفصة لقد ادعتا باطلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فردهما
النبي فيما أخرجه الحاكم وابن عبد البر وابن الأثير وابن حجر العسقلاني، وهذا نص ما
جاء في (المستدرك) قال: أخبرنا دعلج بن أحمد السجزي ثنا عبد العزيز ابن معاوية
البصري ثنا شاذ بن فياض أبو عبيدة ثنا هاشم بن سعيد عن كنانة عن صفية رضي الله عنها
قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: يا بنت حي ما يبكيك؟
قلت: بلغت [بلغني] أن حفصة وعائشة ينالان مني ويقولان نحن خير منها، نحن بنات عم
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه. قال: ألا قلت: كيف تكونون [تكونان] خيرا مني
وأبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد (1). * وقصة تواطؤهما في أمر العسل مشهورة، وقد
نزل بها القرآن ورويت في الصحاح والمسانيد، فأخرجها البخاري في كتاب التفسير، وكتاب
الأيمان والنذور، ومسلم في كتاب الطلاق. ورواه جلال الدين السيوطي في (الدر
المنثور) بتفسير سورة التحريم عن ابن سعد وعبد بن حميد والبخاري وابن المنذر وابن
مردويه.... قال البخاري في كتاب الطلاق: حدثني الحسن بن محمد بن [ال] صباح حدثنا
حجاج عن ابن جريح قال: زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول: سمعت عائشة رضي الله
عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب ابنة جحش ويشرب عندها عسلا،
فتواصيت أنا وحفصة إن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني [ل]
أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا بل شربت
عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له، فنزلت * [يا أيها النبي لم تحرم ما
(هامش)
(1) المستدرك 4 / 29. (*)
ص 266
أحل الله لك] * إلى: أن تتوبا إلى الله لعائشة وحفصة وإذ أسر النبي إلى بعض
أزواجه حديثا لقوله: بل شربت عسلا (1). * وكذبت عائشة عندما أرسلها النبي صلى
الله عليه وآله لتطلع على امرأة من كلب خطبها... روى ذلك جماعة منهم ابن قتيبة
والخطيب بترجمة (محمد بن أحمد أبي بكر المؤدب) من [تاريخه] وابن القيم في (أخبار
النساء ص 9)، وهذه رواية ابن قتيبة: عن عائشة رضي الله عنها قالت خطب رسول الله
صلى الله عليه وسلم امرأة من كلب، فبعثني أنظر إليها، فقال لي: كيف رأيت؟ فقلت: ما
رأيت طائلا، فقال: لقد رأيت خالا بخدها اقشعر كل شعرة منك على حدة، فقالت: ما دونك
سر (2). * وكذبت عائشة في كلام لها رواه أحمد حيث قال: ثنا محمد بن عبيد ثنا
وائل [حدثني وائل بن داود] قال: سمعت البهي يحدث أن [عن] عائشة قال: ما بعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمره عليهم، وأن [لو] بقي بعده
استخلفه (3). فقولها وإن بقي بعده استخلفه كذب صريح لدى عامة المسلمين، لأن
رسول الله صلى الله عليه وآله لم يكن ليستخلف زيدا أبدا، لأنه ليس من قريش، ولأنه
مفضول إجماعا.... * وكذبت عائشة حيث أنكرت أن عليا كان وصيا فيما رواه أحمد في
[المسند] قائلا: ثنا إسماعيل عن ابن عون عن إبراهيم عن الأسود قال: ذكروا عند
عائشة أن عليا كان وصيا، فقالت: متى أوصى إليه؟ فقد كنت مسندته إلى صدري، أو قالت
في حجري، فدعا بالطست، فلقد انخنث في حجري وما شعرت أنه مات، فمتى أوصى إليه؟ .
(هامش)
(1) صحيح البخاري 7 / 56 - 57. (2) عيون الأخبار لابن قتيبة. كتاب النساء: 19. (3)
المسند 6 / 226 - 227. (*)
ص 267
ولو أردنا ذكر وجوه فساد إنكارها وصاية أمير المؤمنين عليه السلام لطال بنا المقام،
فلنكتف بكلمة موجزة لابن روزبهان اعترف فيها هذا المكابر العنيد بوصاية علي عليه
السلام، فإنه قال في [إبطال الباطل] في الرد على العلامة الحلي رحمه الله أقول:
ما ذكره المصنف من علم أمير المؤمنين فلا شك في أنه من علماء الأمة والناس محتاجون
إليه فيه، كيف لا وهو وصي النبي صلى الله عليه وسلم في إبلاغ العلم وبدائع حقائق
المعارف، فلا نزاع فيه لأحد . وقولها: فقد كنت مسندته إلى صدري... كذب آخر،
ومن العجيب اعترافها هي بذلك كما في بعض الأحاديث، فقد قال الحافظ الكنجي: أخبرنا
أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن الحسن الصالحي، أخبرنا الحافظ أبو القاسم الدمشقي،
أخبرنا أبو غالب بن البنا، أخبرنا أبو الغنائم بن المأمون، أخبرنا إمام أهل الحديث
أبو الحسن الدارقطني، أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد ابن بشر الجبلي، حدثنا علي
بن الحسين بن عبيد بن كعب حدثنا إسماعيل بن ريان، حدثنا عبد الله بن مسلم الملائي،
عن أبيه عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم - وهو في بيتها لما حضره الموت - ادعوا لي حبيبي، فدعوت له أبا بكر، فنظر إليه
ثم وضع رأسه، ثم قال: ادعوا لي حبيبي، فدعوت له عمر، فلما نظر إليه وضع رأسه، ثم
قال: ادعوا لي حبيبي فقلت: ويلكم؟ ادعوا له عليا، فوالله ما يريد غيره، فلما رآه
فرج [أفرج] الثوب الذي كان عليه ثم أدخله فيه [منه]، فلم يزل محتضنه حتى قبض ويده
عليه (1). * ولقد خانت عائشة حين كتمت اسم علي عليه السلام في حديثها عن خروج
رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه متوكأ على رجلين، وذلك لأنها - كما قال ابن
عباس - لا تطيب له نفسا .
(هامش)
(1) كفاية الطالب 262. (*)
ص 268
وقد أخرج ذلك الشيخان وأحمد وهذا لفظه: ثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن عبيد
الله بن عبد الله عن عائشة قالت: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت
ميمونة، فاستأذن نسائه أن يمرض في بيتي فأذن له، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
معتمدا على العباس وعلى رجل آخر، ورجلاه تخطان في الأرض، وقال عبيد الله [ف] قال
ابن عباس: أتدري من ذلك الرجل؟ هو علي بن أبي طالب ولكن عائشة لا تطيب له [لها]
نفسا (1). وأضاف شراح البخاري: العيني وابن حجر القسطلاني في شرحه ما يلي بلفظ
الأول: قلت: وفي رواية الاسماعيلي من رواية عبد الرزاق عن معمر: ولكن عائشة لا
تطيب نفسا له بخير. وفي رواية ابن إسحاق في المغازي عن الزهري: ولكنها لا تقدر على
أن تذكره بخير، وقال بعضهم: وفي هذا رد على من زعم أنها أبهمت الثاني لكونه لم
يتعين في جميع المسافة ولا معظمها قلت: أشار بهذا إلى الرد على النووي ولكنه ما صرح
باسمه لاعتنائه به ومحاماته له (2). ثم قال ابن حجر: ولم يقف الكرماني على هذه
الزيادة فعبر عنها بعبارة شنيعة، وفي هذا رد على من تنطع فقال: لا يجوز أن يظن ذلك
بعائشة، ورد على من زعم أنها أبهمت الثاني لكونه لم يتعين في جميع المسافة، إذ كان
تارة يتوكأ على الفضل وتارة على أسامة وتارة على علي، وفي جميع ذلك الرجل الآخر هو
العباس، واختص بذلك إكراما له. وهذا توهم ممن قاله، والواقع خلافه، لأن ابن عباس في
جميع الروايات الصحيحة جازم بأن المبهم علي فهو المعتمد والله أعلم (3). * ولقد
اتهم الزهري - وهو من مشاهير التابعين والمنحرفين عن
(هامش)
(1) المسند 6 / 34. (2) عمدة القاري في شرح البخاري 5 / 192. (3) فتح الباري في شرح
البخاري 2 / 123 - 124. (*)
ص 269
أهل البيت عليهم السلام - عائشة في حديثين، فقد قال أبو جعفر الاسكافي في (التفضيل)
على ما نقل عنه ابن أبي الحديد المعتزلي: روى الزهري عن [أن] عروة بن الزبير حدثه
قال: حدثتني عائشة، قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله إذ أقبل العباس
وعلي، فقال: يا عائشة إن هذين يموتان على غير ملتي، أو قال: ديني. وروى عبد الرزاق
عن معمر قال: كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي عليه السلام، فسألته
عنهما يوما فقال: ما نصنع بهما وبحديثهما؟ [و] الله أعلم بهما، إني لأتهمهما في بني
هاشم. قال: فأما الحديث الأول فقد ذكرناه. وأما الحديث الثاني فهو: إن عروة زعم أن
عائشة حدثته قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل العباس وعلي فقال: يا
عائشة إن سرك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا، فنظرت فإذا
العباس وعلي بن أبي طالب (1). أقول: ولما كانت وجوه إثبات كذب وفسق كثير من
الصحابة والصحابيات كثيرة لا تحصى، فإننا نقف هنا ونمسك عن ذكر البقية ونختم البحث
بما ذكره أبو الفداء الأيوبي عن الحسن البصري والشافعي وهذا نصه: قال القاضي جمال
الدين ابن واصل: وروى ابن الجوزي بإسناده عن الحسن البصري أنه قال: أربع خصال كن في
معاوية لو لم يكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة وهي: أخذه الخلافة بالسيف من غير
مشاورة وفي الناس بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه يزيد وكان سكيرا
خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادا وقد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجر بن عدي وأصحابه، فيا ويلا له من حجر
وأصحاب حجر.
(هامش)
(1) شرح النهج 4 / 63. (*)
ص 270
وروي عن الشافعي رحمة الله عليه أنه أسر إلى الربيع: [أنه] لا يقبل شهادة أربعة من
الصحابة وهم: معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة وزياد (1). والشافعي شيخ المزني...
فثبت بطلان قول المزني كلهم ثقة مؤتمن والحمد لله رب العالمين.
(هامش)
(1) المختصر في أخبار البشر 1 / 186. (*)
ص 271
تفنيد كلام ابن عبد البر حول حديث النجوم في توجيه معناه

ص 273
وأورد ابن عبد البر عن البزار قوله: والكلام أيضا منكر عن النبي صلى الله عليه
وسلم، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناده صحيح: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين [المهديين] بعدي، فعضوا عليها بالنواجذ وهذا الكلام يعارض حديث عبد الرحيم
لو ثبت فكيف ولم يثبت؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه.
ثم اعترض عليه بقوله: وليس كلام البزار بصحيح على كل حال، لأن الاقتداء بأصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم منفردين، إنما هو لمن جهل ما يسأل عنه، ومن كانت هذه حاله
فالتقليد لازم له، ولم يأمر أصحابه أن يقتدي بعضهم ببعض إذا تأولوا تأويلا سائغا
جائزا ممكنا في الأصول، وإنما كل واحد منهم نجم جائز أن يقتدي به العامي الجاهل،
بمعنى ما يحتاج إليه من دينه، وكذلك سائر العلماء من [مع] العامة. والله أعلم
(1).
(هامش)
(1) جامع بيان العلم 358. (*)
ص 274
أقول: واعتراضه على كلام البزار غير وارد، وقد نشأ من عدم فهمه مرامه، فإن معنى
كلامه هو: أن حديث النجوم يقتضي جواز اختلاف الصحابة في الأحكام الشرعية، وأن الناس
من أيهم أخذوا كانوا على الهدى، لكن النبي صلى الله عليه وآله لا يبيح الاختلاف من
بعده منهم، فالحديث منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم. هذا أصل استدلال البزار على
نكارة هذا الحديث من جهة معناه بعد أن أبطله من جهة سنده، وأما كلام ابن عبد البر
فغير متوجه عليه، إذ لو سلمنا قوله بأن الأمر بالاقتداء في الحديث متوجه إلى جهال
الأمة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باقتداء بعض الأصحاب ببعض فإن الاشكال
- وهو لزوم إباحة الاختلاف - باق على حاله. وذلك: لأن حديث النجوم يدل بوضوح على أن
كل واحد من الصحابة أهل للاقتداء به، وإن اختلافهم غير مانع عن ذلك، فيجوز الاقتداء
بكل واحد من المختلفين، وهذا الأمر يجوز الاختلاف والتفرق في الدين ويؤدي إلى
اختلاف الأمة لا محالة. وباختصار: أمره صلى الله عليه وآله الأمة بالاقتداء
بالأصحاب - وهم مختلفون فيما بينهم أشد الاختلاف - يستلزم: 1 - جواز اختلاف الأصحاب
في المسائل الشرعية والأحكام الدينية. 2 - إباحة وقوع الاختلاف في الأمة. ولكن
الاختلاف منهي عنه كتابا وسنة فالحديث منكر عن النبي صلى الله عليه وآله . وإليك
بعض كلمات ابن عبد البر نفسه في هذا الشأن فإنه قال ما نصه: وقد ذكر المزني رحمه
الله في هذا حججا أنا أذكرها هنا إن شاء الله. قال المزني: قال الله تبارك وتعالى:
* [ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا] * فذم الاختلاف، وقال * [ولا
تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا...] *
ص 275
الآية. وقال: * [فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله
واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا] * وعن مجاهد وعطاء وغيرهما في تأويل ذلك قال:
إلى الكتاب والسنة. قال المزني: فذم الله الاختلاف وأمر [عنده] بالرجوع إلى الكتاب
والسنة فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمه، ولو كان التنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع
عنده إلى الكتاب والسنة. قال: وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
إحذروا زلة العالم. وعن عمر ومعاذ وسلمان مثل ذلك في التخويف من زلة العالم. قال:
وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطأ بعضهم بعضا، ونظر بعضهم في
أقاويل بعض وتعقبها، ولو كان قولهم كله صوابا عندهم لما فعلوا ذلك، وقد جاء عن ابن
مسعود في غير مسألة أنه قال: أقول فيها برأيي فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطأ
فمني [و] استغفر الله.... وقال ابن عبد البر أيضا: أخبرني قاسم بن محمد قال حدثنا
خالد بن سعيد قال حدثنا محمد بن وطيس قال حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال
سمعت اشهب يقول: سئل مالك عن اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خطأ
وصواب، فانظر في ذلك. وذكر يحيى بن إبراهيم بن حزين قال حدثني اصبغ قال قال أبو
القاسم: سمعت مالكا والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ليس كما قال ناس فيه توسعة، ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب. قال يحيى: وبلغني أن
الليث بن سعد قال: إذا جاء الاختلاف أخذنا فيه بالأحوط... قال إسماعيل القاضي: إنما
التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي، فأما
أن تكون توسعة لأن يقول الانسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا،
ولكن
ص 276
اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا. قال أبو عمرو: كلام إسماعيل هذا حسن جدا.
وفي سماع اشهب: سئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم أتراه من ذلك في سعة؟ فقال: لا والله حتى يصيب الحق، ما الحق إلا واحد، قولان
يكونان صوابين جميعا؟ ما الحق والصواب إلا واحد. قال: وكذلك اختلاف أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم من المتخالفين، وما رد فيه بعضهم على بعض
لا يكاد يحيط به كتاب فضلا عن أن يجمع في باب، وفيما ذكرنا منه دليل على ما عنه
سكتنا. وفي رجوع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض دليل واضح على
أن اختلافهم عندهم خطأ وصواب، ولولا ذلك كان يقول كل واحد منهم: جائز ما قلت أنت
وجائز ما قلت أنا، وكلانا نجم يهتدى به، فلا علينا شيء من اختلافنا. قال أبو عمرو:
والصواب مما اختلف فيه وتدافع وجه واحد، ولو كان الصواب في وجهين متدافعين ما خطأ
السلف بعضهم بعضا في اجتهادهم وقضائهم وفتواهم، والنظر يأبى أن يكون الشيء وضده
صوابا، ولقد أحسن القائل: إثبات ضدين معا في حال اقبح ما يأتي من المحال (1).
قلت: أليس هذا تصريحا بنكارة حديث النجوم وهو ما ذكره الحافظ البزار؟ ثم ذكر موارد
من رجوع بعض الصحابة إلى قول بعض... ومع هذا كيف يكون كل واحد منهم نجما؟!
(هامش)
(1) جامع بيان العلم 348 - 349. (*)
ص 277
دحض المعارضة بقول الأمير عليه السلام إنما الشورى للمهاجرين والأنصار

ص 279
قوله: وإذا دل هذا الحديث على إمامة العترة، فكيف يصح الحديث الصحيح المروي عن علي
بن أبي طالب عليه السلام بصورة متواترة عند الشيعة يقول فيه: إنما الشورى للمهاجرين
والأنصار.؟ أقول: هذا مردود بوجوه. الأول: لقد اثبتنا دلالة حديث الثقلين على إمامة
الأئمة الاثني عشر من العترة الطاهرة، بالدلائل القاهرة والبراهين الساطعة التي لا
تبقي ريبا ولا تذر شكا في ذلك، فتشكيك (الدهلوي) فيه واه. الثاني: تعبيره عن إنما
الشورى للمهاجرين والأنصار ب الحديث المروي تخديع وتضليل، لأنه إنما ورد عنه
ذلك في بعض كتب السير والتواريخ وفي ضمن كتاب له إلى معاوية بن أبي سفيان، على سبيل
الالزام له به. الثالث: دعوى تواتره عند الشيعة باطلة. الرابع: إن هذا الكلام لا
ينافي دلالة حديث الثقلين على إمامة الأئمة عليهم السلام، لأن المهاجرين والأنصار
مأمورون بأجمعهم باتباع الثقلين، فلو
ص 280
أجمعوا على رجل مع الاهتداء بهدى الكتاب والعترة صحت إمامته، ومن الواضح أن ذلك لن
يتحقق إلا بالنسبة إلى رجل من أهل بيت العصمة، ومنه يظهر بطلان خلافة غيره. الخامس:
إن ما اجتمع عليه المهاجرون والأنصار كلهم حق، لأن أهل البيت عليهم السلام من
المهاجرين بل هم سادتهم بلا نزاع. وعلى هذا يكون التمسك بهكذا إجماع عين التمسك
بالعترة المأمور به في حديث الثقلين، وعين التمسك بالكتاب بمقتضى الحديث المذكور،
فلا تنافي. السادس: إن هذا الكلام يدل على لزوم المشورة من جميع المهاجرين
والأنصار، ولا ريب في أن بيعة أبي بكر لم تكن عن مشورة، بل كانت - على حد تعبير عمر
- فلتة وقى الله شرها، فمن دعا إلى مثلها فاقتلوه ثم قال: من بايع رجلا من
غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا . قال البخاري:
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد
الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس، قال: كنت اقرئ رجالا من المهاجرين
منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر
حجة حجها إذ رجع إلى عبد الرحمن فقال: لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال:
يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول لي قد مات عمر لقد بايعت فلانا فوالله ما كانت
بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت. فغضب عمر ثم قال إني إنشاء الله لقائم العشية في الناس
فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغضبوهم أمورهم. قال عبد الرحمن: فقلت يا أمير
المؤمنين! لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاء الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على
قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير وأن لا
يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها،
ص 281
فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس
فتقول ما قلت متمكنا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها. فقال عمر: أما
والله إنشاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة. قال ابن عباس: فقدمنا
المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلنا الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد
سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر فجلست حوله تمس ركبتي ركبته، فلم
أنشب أن خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل:
ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف قط قبله، فأنكر علي وقال: ما عسيت أن يقول
ما لم يقل قبله! فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأنثى على الله بما هو
أهله ثم قال: أما بعد، فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين
يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي أن لا يعقلها
فلا أحل لأحد أن يكذب علي. إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه
الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، فلذا رجم رسول
الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل
والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله! فيضلوا بترك فضيلة أنزلها الله، والرجم في
كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل
أو الاعتراف. ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه
كفر أن ترغبوا عن آبائكم أو أن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم الإثم، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم وقولوا: عبد الله ورسوله.
ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول: والله لو مات عمر بايعت فلانا! فلا يغترن امرؤ أن
يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وانها كانت
ص 282
كذلك ولكن الله وقى شرها! وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع
رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا. وإنه قد
كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا واجتمعوا
بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا علي والزبير ومن معها، واجتمع المهاجرون إلى
أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر! انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار،
فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا رجلان صالحان فذكر ما تمالأ عليه القوم،
فقال: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا:
لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم فقلت: والله لنأتينهم! فانطلقنا حتى أتيناهم
في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا سعد بن
عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا يوعك. فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأنثى على الله. بما
هو أهله ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط
وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحصنونا من الأمر،
فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر،
وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك! فكرهت أن
أغضبه فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في
تزويري إلا قال بديهة مثلها أو أفضل حتى سكت! فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له
أهل ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا، وقد رضيت
لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح -
وهو جالس بيننا - فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني
ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر! اللهم إلا أن تسول لي نفسي
عند الموت شيئا
ص 283
لا أجده الآن. فقال قائل من الأنصار! أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير
ومنكم أمير يا معشر قريش! فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف، فقلت:
أبسط يدك يا أبا بكر! فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار، ونزونا
على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة فقلت: قتل الله سعد بن عبادة!
قال عمر: وأنا والله ما وجدنا فيما حضر من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن
فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا
نرضى (1) وإما نخالفهم، فيكون فساد، فمن بايع رجل على غير مشورة من المسلمين فلا
يبايع هو ولا الذي بايعه تغره أن يقتلا (1). وقال ابن هشام قال ابن إسحق: وكان
من حديث السقيفة حين اجتمعت بها الأنصار أن عبد الله بن أبي بكر حدثني عن ابن شهاب
الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس، قال أخبرني
عبد الرحمن بن عوف قال: وكنت منزله بمنى أنتظره وهو عند عمر في آخر حجة حجها عمر،
قال: فرجع عبد الرحمن بن عوف من عند عمر فوجدني في منزله في منى أنتظره وكنت أقرئه
القرآن، قال ابن عباس: فقال لي عبد الرحمن بن عوف: لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين
فقال: يا أمير المؤمنين! هل لك في فلان يقول: والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد
بايعت فلانا والله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت. قال: فغضب عمر فقال: إني
إنشاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغضبوهم أمرهم،
قال عبد الرحمن فقلت: يا أمير المؤمنين! لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس
وغوغاءهم وانهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس وإني أخشى أن تقوم
فتقول
(هامش)
(1) صحيح البخاري 8 / 210. (*)
ص 284
مقالة يطير بها أولئك عنك كل مطير ولا يعوها ولا يضعوها على مواضعها، فامهل حتى
تقدم المدينة فإنها دار السنة وتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت بالمدينة
متمكنا فيعي أهل الفقه مقالتك ويضعوها على مواضعها. قال: فقال عمر: أما والله إنشاء
الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي
الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زالت الشمس فأجد سعيد بن زيد بن عمرو
بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر فجلست حذوه تمس ركبتي ركبته فلم أنشب أن خرج عمر بن
الخطاب فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد: ليقولن العشية على هذا المنبر مقالة لم
يقلها منذ استخلف! قال: فأنكر علي سعيد بن زيد ذلك وقال: ما عسى أن يقول مما لم يقل
قبله! فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال:
أما بعد! فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها ولا أدري لعلها بين يدي أجلي،
فمن عقلها ووعاها فليأخذ بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعيها فلا يحل
لأحد أن يكذب علي. إن الله بعث محمدا وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية
الرجم فقرأناها وعلمناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده
فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد رجم في كتاب الله فيضلوا بترك
فريضة أنزلها الله وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال
والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ثم إنا قد كنا نقرأ فيما نقرأ من
كتاب الله، لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أو كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم إلا
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم وقولوا عبد
الله ورسوله. ثم إنه قد بلغني أن فلانا قال: والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد
بايعت فلانا فلا يغرن امرء أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت! وإنها قد كانت
كذلك إلا أن الله قد وقى شرها،
ص 285
وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلا عن غير مشورة من
المسلمين فإنه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا. إنه كان من خبرنا حين
توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا فاجتمعوا بأشرافهم (بأسرهم.
ظ) في سقيفة بني ساعدة، وتخلف عنا علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ومن معهما.
واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من
الأنصار، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان فذكرا لنا ما تمالا عليه
القوم وقالا: أين تريدون؟ يا معشر المهاجرين! قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار،
قالا: فلا عليكم أن لا تقربوهم يا معشر المهاجرين! اقضوا أمركم! قال: قلت: والله
لنأتينهم. فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل
فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ فقالوا: وجع، فلما جلسنا تشهد
خطيبهم فأثنى على الله بما هو له أهل ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة
الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد دفت دافة من قومكم، قال: وإذا هم
يريدون أن يجتازونا (يختزلونا. ظ) من أصلنا ويغتصبونا الأمر. فلما سكت أردت أن
أتكلم وقد زورت في نفسي مقالة قد أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت
أداري منه بعض الحد، فقال أبو بكر على رسلك يا عمر! فكرهت أن أغضبه، فتكلم وهو كان
أعلم (أحلم. ظ) مني وأوفر. فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري إلا قالها في
بديهة أو مثلها أو أفضل حتى سكت قال: أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ولن
تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت
لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو
جالس بيننا ولم أكره شيئا مما قال غيرها، كان: والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني
ذلك إلى إثم أحب إلى أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر.
ص 286
قال: فقال قائل من الأنصار، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير
يا معشر قريش! قال: فكثر اللفظ وارتفعت الأصوات حتى تخوفت الاختلاف فقلت: أبسط يدك
يا أبا بكر! فبسط يده فبايعته ثم بايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار، ونزونا على سعد
بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة! قال: فقلت: قتل الله سعد بن عبادة!
(1). وقال أحمد بن إسحق بن جعفر المعروف باليعقوبي: واستأذن قوم من قريش عمر في
الخروج للجهاد، فقال: قد تقدم لكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني آخذ
بحلاقيم قريش على أفواه هذه الحرة، لا تخرجوا فتسللوا بالناس يمينا وشمالا، قال عبد
الرحمن بن عوف: فقلت: نعم يا أمير المؤمنين! ولم تمنعنا من الجهاد؟ فقال: لئن أسكت
عنك فلا أجيبك خير لك من أن أجيبك، ثم اندفع يحدث عن أبي بكر حتى قال: كانت بيعة
أبي بكر فلتة وقى الله شرها فمن عاد بمثلها فاقتلوه (2). وقال محمد بن جرير
الطبري: حدثني علي بن مسلم، قال: ثنا: عباد ابن عباد، قال: ثنا: عباد بن راشد
قال: حدثنا عن الزهري عن عبيد الله بن [عبد الله بن] عتبة عن ابن عباس، قال: كنت
اقرئ عبد الرحمن ابن عوف القرآن، قال: فحج عمر وحججنا معه، قال: فإني لفي منزل بمنى
إذ جاءني عبد الرحمن بن عوف، فقال: شهدت أمير المؤمنين اليوم وقام إليه رجل فقال:
إني سمعت فلانا يقول: لو قد مات أمير المؤمنين لقد بايعت فلانا، قال: فقال أمير
المؤمنين: إني لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوا
الناس أمرهم، قال فقلت: يا أمير المؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وإنهم
الذين يغلبون على مجلسك وإني لخائف إن قلت اليوم مقالة ألا يعوها ولا يحفظوها ولا
يضعوها على مواضعها،
(هامش)
(1) سيرة ابن هشام 2 / 658. (2) تاريخ اليعقوبي 2 / 147 - 148. (*)
ص 287
وأن يطيروا بها كل مطير. ولكن أمهل حتى تقدم المدينة تقدم دار الهجرة والسنة وتخلص
بأصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار فتقول ما قلت متمكنا فيعوا مقالتك ويضعوها
على مواضعها فقال: والله لأقومن بها في أول مقام أقومه بالمدينة قال: فلما قدمنا
المدينة وجاء يوم الجمعة هجرت للحديث الذي حدثنيه عبد الرحمن فوجدت سعيد ابن زيد قد
سبقني بالتهجير، فجلست إلى جنبه عند المنبر ركبتي إلى ركبته، فلما زالت الشمس لم
يلبث عمر أن خرج فقلت لسعيد وهو مقبل: ليقولن أمير المؤمنين اليوم على هذا المنبر
مقالة لم يقل قبله، فغضب وقال: أي مقالة يقول لم يقل قبله!؟ فلما جلس عمر على
المنبر أذن المؤذ [نو] ن فلما قضى المؤذن أذانه قام عمر فحمد الله وأثنى عليه وقال:
أما بعد، فإني أريد أن أقول مقالة قد قدر أن أقولها من وعاها وعقلها وحفظها، فليحدث
بها حيث تنتهي به راحلته ومن لم يعها فإني لا أحل لأحد أن يكذب علي، إن الله عز وجل
بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب وكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله
ورجمنا بعده، وإني قد خشيت أن يطول بالناس زمان فيقول قائل: والله ما نجد الرجم في
كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وقد كنا نقول (نقرأ. ظ): لا ترغبوا عن
آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول: لو قد
مات أمير المؤمنين بايعت فلانا فلا يغرن أمراءا أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة،
فقد كانت كذلك غير أن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر.
وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن عليا والزبير ومن
معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة وتخلفت عنا الأنصار بأسرها واجتمع المهاجرون إلى أبي
بكر، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم
فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدرا فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين فقلنا نريد
إخواننا هؤلاء من الأنصار، قالا: فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم فقلنا: والله
لنأتينهم.
ص 288
قال: فأتيناهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة. قال: وإذا بين أظهرهم رجل مزمل،
قال: قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما شأنه؟ قالوا: وجع، فقام رجل منهم
فحمد الله وقال: أما بعد، فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر قريش رهط
نبينا وقد دفت إلينا من قومكم دافة، قال: فلما رأيتم يريدون أن يختزلونا من أصلنا
ويغصبونا الأمر، وقد كنت زورت في نفسي مقالة أقدمها بين يدي أبي بكر، وقد كنت أداري
منه بعض الحد وكان هو أوقر مني وأحلم، فلما أردت أن أتكلم قال على رسلك فكرهت أن
أعصيه فقام فحمد الله وأثنى عليه فما ترك شيئا كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو
تكلمت إلا قد جاء به أو بأحسن منه وقال: أما بعد، يا معشر الأنصار! فإنكم لا تذكرون
منكم فضلا إلا وأنتم له أهل وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش وهم
أوسط دارا ونسبا، ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي
وبيد أبي عبيدة بن الجراح وإني والله ما كرهت من كلامه شيئا غير هذه الكلمة إن كنت
لأقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلي من أو أؤمر على قوم فيهم أبو بكر،
فلما قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب؟ منا
أمير ومنكم أمير يا معشر قريش! قال: فارتفعت الأصوات وأكثر اللغظ. فلما أشفقت
الاختلاف قلت لأبي بكر: أبسط يدك أبايعك! فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون وبايعه
الأنصار، ثم نزونا على سعد حتى قال قائلهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت. قتل الله
سعدا! وإنا والله ما وجدنا أمرا هو أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم
ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما أن نتابعهم على ما لا نرضى أو نخالفهم
فيكون فساد (1).
(هامش)
(1) تاريخ الطبري 2 / 445 - 447. (*)
ص 289
وقال أيضا: ثنا عبيد الله بن سعيد، قال: ثنا عمي، قال: نا: سيف ابن عمر عن سهل
وأبي عثمان عن الضحاك بن خليفة، قال: لما قام الحباب ابن المنذر انتضى سيفه وقال:
أنا: جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، أنا أبو شبل في عرينة الأسد يعزى إلى الأسد!
فحامله عمر فضرب يده فندر السيف فأخذه ثم وثب على سعد ووثبوا على سعد، وتتابع القوم
على البيعة وبايع (تمانع. ظ) سعد، وكانت فلتة كفلتات الجاهلية قام أبو بكر دونها،
وقال قائل حين وطئ سعد: قتلتم سعدا! فقال عمر: قتله الله إنه منافق واعترض عمر
بالسيف صخرة فقطعه . وقال أبو حاتم محمد بن حبان التميمي البستي: أخبرنا محمد بن
الحسن ابن قتيبة النحمي بعسقلان، ثنا: محمد بن المتوكل، ثنا: عبد الرزاق أنا: معمر
عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس، قال: كنت عند عبد الرحمن
بن عوف في خلافة عمر بن الخطاب، فلما كان في آخر حجة حجها عمر أتاني عبد الرحمن بن
عوف في منزلي عشاءا، فقال: لو شهدت أمير المؤمنين! اليوم وجاءه رجل وقال: يا أمير
المؤمنين! إني سمعت فلانا يقول: لو قد مات أمير المؤمنين لبايعت فلانا! فقال عمر:
إني لقائم العشية في الناس ومحذرهم - هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا المسلمين
أمرهم - فقلت: يا أمير المؤمنين! إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاهم وإنهم الذين
يغلبون على مجلسك، وإني أخشى أن تقول فيهم اليوم مقالة لا يعونها ولا يضعونها
مواضعها وأن يطيروا بها كل مطير، ولكن أمهل يا أمير المؤمنين! حتى تقدم المدينة
فإنها دار السنة ودار الهجرة فتخلص بالمهاجرين والأنصار وتقول ما قلت متمكنا فيعوا
مقالتك ويضعونها مواضعها. قال عمر: أما والله لأقومن به في أول مقام أقومه
بالمدينة. قال ابن عباس: فلما قدمنا المدينة وجاء يوم الجمعة هجرت لما حدثني عبد
الرحمن بن عوف، فوجدت سعيد بن زيد بن نقيل قد سبقني بالتهجر جالسا إلى جنب المنبر
فجلست إلى جنبه تمس ركبتي ركبته، فلما زالت الشمس خرج
ص 290
علينا عمر فقلت وهو مقبل: أما والله ليقولن اليوم أمير المؤمنين على هذا المنبر
مقالة لم يقل قبله! قال فغضب سعيد بن زيد فقال: وأي مقالة يقول لم يقل قبله؟ فلما
ارتقى عمر المنبر أخذ المؤذن في أذانه فلما فرغ من أذانه. قام عمر فحمد الله وأثنى
عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد، فإني أريد أن أقول مقالة قد قدر لي أن أقولها،
فمن وعاها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته ومن خشي أن لا يعيها فإني لا أحل لأحد أن
يكذب علي: إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل
عليه آية الرجم، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، وإني خائف أن يطول
بالناس زمان فيقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله! فيضلوا بترك فريضة أنزلها
الله، ألا وإن الرجم على من أحصن إذا زنا وقامت عليه البينة أو كان الحمل أو
الاعتراف. ثم إنا قد كنا نقرأ ولا ترغبوا عن آبائكم ثم إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا:
عبد الله ورسوله . ثم إنه بلغني أن فلانا منكم يقول: لو قد مات أمير المؤمنين لقد
بايعت فلانا، فلا يغرن امرأ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، فقد كانت كذلك إلا
أن الله وقى شرها ودفع عن الإسلام والمسلمين ضرها، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق
مثل أبي بكر. وإنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليا
والزبير ومن تبعهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة، وتخلفت عنا الأنصار في سقيفة بني
ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت: با أبا بكر! انطلق بنا إلى إخواننا من
الأنصار، فانطلقنا نؤمهم فلقينا رجلين صالحين من الأنصار شهدا بدرا فقالا: أين
تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا: نريد إخواننا هؤلاء الأنصار قالا: فارجعوا مضوا
الأمر أمركم بينكم: فقلت والله لنأتينهم فأتيناهم فإذا هم مجتمعون في سقيفة بني
ساعدة بين أظهرهم رجل مزمل قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، قال: قلت: ما شأنه؟
قالوا: وجع.
ص 291
فقام خطيب الأنصار فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد! فنحن
الأنصار وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر قريش رهط منا وقد دفت إلينا دافة منكم. وإذا
هم يريدون أن يختزلون أصلنا ويختصلوا بأمر دوننا وقد كنت زورت في نفسي مقالة أريد
أن أقوم بها بين يدي أبي بكر وكنت أداري من أبي بكر بعض الحد، وكان أوقر مني وأحلم،
فلما أردت الكلام قال: على رسلك. فكرهت أن أغضبه، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه
ووالله ما ترك كلمة قد كنت زورتها إلا جاء بها أو أحسن منها في بديهته، ثم قال: أما
بعد! وأما ما ذكرتم فيكم من خير يا معشر الأنصار فأنتم له أهل ولن تعرف العرب هذا
الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب دارا ونسبا، ولقد رضيت لكم أحد هذين
الرجلين فبايعوا أيهما شئتم وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح، فوالله ما كرهت مما
قال شيئا غير هذه الكلمة، كنت لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى ثم أحب إلي من
أن أقدم على قوم فيهم أبو بكر! فلما قضى أبو بكر مقالته فقام رجل من الأنصار فقال:
أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، وإلا أجلنا
الحرب فيما بيننا وبينكم جذعة! قال معمر: فقال قتادة: قال عمر: فإنه لا يصلح سيفان
في غمد ولكن منا الأمراء ومنكم الوزراء! قال معمر عن الزهري في حديثه فارتفعت
الأصوات بيننا وكثر اللغظ حتى أشفقت الاختلاف، فقلت: يا أبا بكر! أبسط يدك أبايعك!
فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون وبايعه الأنصار. قال: ونزونا على سعد بن عبادة
حتى قال قائل: قتلتم سعدا قال قلت: قتل الله سعدا، وإنا والله ما رأينا فيما حضرنا
أمرا كان أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما
أن نبايعهم على ما لا نرضى وإما أن نخالفهم فيكون فساد. فلا يغرن امرأ يقول: كانت
بيعة أبي بكر فلتة وقد كانت كذلك إلا أن الله وقى شرها؟ وليس فيكم من يقطع إليه
الأعناق مثل أبي بكر فمن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنه لا يبايع لا هو
ولا الذي بايعه بعده. قال
ص 292
الزهري وأخبرني عروة أن الرجلين الذين لقياهم من الأنصار عويم بن ساعدة ومعن بن
عدي، والذي قال أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب خباب ابن المنذر (1). وقال
الشهرستاني في كتاب [الملل والنحل] الخلاف الخامس في الإمامة وأعظم خلاف بين
الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على
الإمامة في كل زمان! وقد سهل الله تعالى ذلك في الصدر الأول، فاختلف المهاجرون
والأنصار فيها وقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير واتفقوا على رئيسهم سعد بن عبادة
الأنصاري فاستدركه أبو بكر وعمر في الحال بأن حضرا سقيفة بني ساعدة وقال عمر: كنت
أزور في نفسي كلاما في الطريق فلما وصلنا إلى السقيفة أردت أن أتكلم فقال أبو بكر:
مه يا عمر! فحمد الله وأثنى عليه وذكر ما كنت أقدره في نفسي كأنه يخبر عن غيب! فقبل
أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي إليه فبايعته وبايعه الناس وسكنت النائرة. ألا
إن بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. فأيما رجل بايع
رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنهما تغرة أن يقتلا، وإنما سكنت الأنصار عن دعواهم
لرواية أبي بكر عن النبي عليه السلام: الأئمة من قريش! وهذه البيعة هي التي جرت في
السقيفة، ثم لما عاد إلى المسجد إنثال الناس عليه وبايعوه عن رغبة سوى جماعة من بني
هاشم وأبي سفيان من بني أمية وأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه كان مشغولا بما أمره
النبي صلى الله عليه وسلم من تجهيزه ودفنه وملازمة قبره من غير منازعة ولا مدافعة
. وقال السيوطي في (تاريخ الخلفا): روى الشيخان أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
خطب الناس مرجعه من الحج فقال في خطبته: قد بلغني
(هامش)
(1) الثقات لابن حبان - (*)
ص 293
أن فلانا منكم يقول: لو مات عمر بايعت فلانا فلا يغترن امرأ أن يقول أن بيعة أبي
بكر كانت فلتة، ألا وإنها كذلك إلا أن الله وقى شرها، وليس فيكم اليوم من قطع إليه
الأعناق مثل أبي بكر. وإنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
عليا والزبير ومن معهما تخلفوا في بيت فاطمة وتخلف الأنصار عنا بأجمعها في سقيفة
بني ساعدة واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت له: يا أبا بكر! انطلق بنا إلى
إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا رجلان صالحان فذكرا لنا الذي صنع
القوم فقال: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلت: نؤيد إخواننا من الأنصار فقالا:
عليكم أن لا تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين فقلت: والله لنأتينهم،
فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون وإذا بين ظهرانيهم رجل
مزمل فقلت: من هذا؟ قالوا ابن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: وجع، فلما جلسنا قام
خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله وقال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام
وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد دفت دافة منكم تريدون أن تختزلونا من أصلنا
وتحصنوننا من الأمر! فلما سكت أردت أن أتكلم، وقد كنت زورت مقالة أعجبتني أردت أن
أقولها بين يدي أبي بكر، وقد كنت أداري منه بعض الحد، وهو كان أحلم مني وأوقر، فقال
أبو بكر: على رسلك! فكرهت أن أغضبه وكان أعلم مني، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في
تزويري إلا قالها في بداهته وأفضل حتى سكت. فقال: أما بعد! فما ذكرتم من خير فأنتم
أهله ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا
وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح،
فلم أكره مما قال غيرها، وكان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب
إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر! فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك
وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش
ص 294
وكثر اللغظ وارتفعت الأصوات حتى خشيت الاختلاف فقلت أبسط يدك يا أبا بكر! فبسط يده
فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار، أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا هو
أوفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة
فإما أن نتابعهم على ما لا نرضى وإما أن نخالفهم فيكون فيه فساد . وقال ابن حجر
المكي في (الصواعق): روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب
بعد القرآن بإجماع من يعتد به: أن عمر رضي الله عنه خطب الناس مرجعه من الحج فقال
في خطبته: قد بلغني أن فلانا منكم يقول: لو مات عمر بايعت فلانا! فلا يغترن (يغرن.
ظ) أمرا أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، ألا وإنها كذلك إلا أن الله وقى شرها،
وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر. وإنه كان من خبرنا حين توفي
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليا والزبير ومن معهما تخلفوا في بيت فاطمة
وتخلفت الأنصار عنا بأجمعها في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت
له: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم - أي نقصدهم -
حتى لقينا رجلان صالحان فذكر لنا الذي صنع القوم، قالا أين تريدون يا معشر
المهاجرين؟ فقلنا: تريد إخواننا من الأنصار فقالا: لا عليكم أن تقربوهم واقضوا
أمركم يا معشر المهاجرين! فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني
ساعدة فإذا هم مجتمعون فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن
عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: وجع. فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله
وقال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا
وقد دفت دافة منكم أي دب قوم منكم بالاستعلاء والترفع علينا تريدون أن تخزلونا من
أصلنا وتحصنونا من الأمر أي تنحونا عنه وتستبدون به دوننا. فلما سكت أردت أن أتكلم
وقد كنت زورت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي
ص 295
أبي بكر، وقد كنت أداري منه بعض الحد وهو كان أحلم مني وأوقر. فقال أبو بكر: على
رسلك! فكرهت أن أغضبه وكان أعلم مني والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا
قالها في بديهة وأفضل حتى سكت، فقال: أما بعد، فما ذكرتم من خير فأنتم أهله ولم
تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت
لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح فلم أكره ما
قال غيرها ولإن والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر
على قوم فيهم أبو بكر. فقال قائل من الأنصار - أي هو الحباب بمهملة مضمومة فموحدة -
ابن المنذر: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب أي أنا يشتفى برأيي وتدبيري وأمنع
بجلدتي ولحمتي كل نائبة تنوبهم، دل على ذلك ما في كلامه من الاستعارة بالكناية
المخيل لها بذكر ما يلائم المشبه به، إذ موضوع الجذيل المحكك - وهو بجيم فمعجمة -
تصغير جذل عود ينصب في العطن لتحتك به الإبل الجرباء، والتصغير للتعظيم، والعذق
بفتح العين النخلة بجملها، فاستعارة لما ذكرناه، والمرجب بالجيم، وغلط من قال
بالحاء، من قولهم، نخلة وجبة، وترجيبها ضم أعذاقها إلى سعفاتها وشدها بالخوض لئلا
ينفضها الريح أو يصل إليها أكل. منا أمير ومنكم أمير، يا معشر قريش. وكثر اللغط
وارتفعت الأصوات حتى خشيت الاختلاف فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر! فبسط يده فبايعته
وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار، أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا هو أوفق من
مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما أن
نبايعهم على ما لا نرضى وإما أن نخالفهم فيكون فيه فساد . وقال: ولا يقدح في
حكاية الإجماع تأخر علي والزبير والعباس وطلحة مدة لأمور، منها أنهم رأوا أن الأمر
تم بمن تيسر حضوره حينئذ من أهل الحل والعقد، ومنها أنهم لما جاؤا وبايعوا اعتذروا
كما مر عن الأولين من طرق
ص 296
بأنهم أخروا عن المشورة مع أن لهم فيها حقا لا للقدح في خلافة الصديق، هذا مع
الاحتياج في هذا الأمر لخطره إلى الشورى التامة، ولهذا مر عن عمر بسند صحيح أن تلك
البيعة كانت فلتة ولكن وقى الله شرها! . السابع: لقد كان أمير المؤمنين عليه
السلام يرى بطلان خلافة أبي بكر لأنها كانت من غير مشورة من المسلمين، ويشهد بما
ذكرنا ما رواه الشريف الرضي رحمه الله في (نهج البلاغة) حيث قال: وقال عليه
السلام: واعجبا أتكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة. وروي له شعر في
هذا المعنى: فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب وإن كنت
بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالتي أقرب . قال ابن أبي الحديد: حديثه عليه
السلام في النثر والنظم المذكور مع أبي بكر وعمر، أما النثر فإلى عمر توجيهه لأن
أبا بكر لما قال لعمر: امدد يدك، قال له عمر أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله
في المواطن كلها، شدتها ورخائها فامدد أنت يدك. فقال علي عليه السلام: إذا احتججت
لاستحقاقه الأمر بصحبته إياه في المواطن [كلها] فهلا سلمت الأمر إلى من قد شركه في
ذلك وزاد عليه بالقرابة؟! وأما النظم فموجه إلى أبي بكر، لأن أبا بكر حاج الأنصار
في السقيفة فقال نحن عشيرة [عترة] رسول الله صلى الله عليه وآله وبيضته التي تفقأت
عنه، فلما بويع احتج على الناس ببيعته [بالبيعة] وأنها صدرت عن أهل الحل والعقد،
فقال علي عليه السلام: أما احتجاجك على الأنصار بأنك من بيضة رسول الله صلى الله
عليه وآله ومن قومه فغيرك أقرب نسبا منك إليه، وأما احتجاجك بالاختيار ورضا الجماعة
بك فقد كان قوم من جملة الصحابة
ص 297
غائبين لم يحضروا العقد فكيف يثبت (1). الثامن: لقد استخلف أبو بكر عمر غير مشورة
من المسلمين، بل لقد أمره عليهم بالرغم منهم، وتلك كتبهم تنطق بذلك، فقد روى القاضي
أبو يوسف بإسناده قال: لما حضرت الوفاة أبا بكر رضي الله عنه أرسل إلى عمر
يستخلفه، فقال الناس: أتستخلف علينا فظا غليظا لو قد ملكنا كان أفظ وأغلظ؟ فماذا
تقول لربك إذا لقيته وقد استخلفت علينا عمر؟ قال: أتخوفونني ربي [بربي]؟ أقول:
اللهم أمرت خير أهلك (2). وقال ابن سعد: وسمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم بدخول عبد الرحمن وعثمان على أبي بكر وخلوتهما به، فدخلوا على أبي بكر فقال
[له] قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك لعمر علينا وقد ترى
غلظته... (3). وروي بإسناده عن عائشة قالت: لما ثقل أبي دخل عليه فلان وفلان
فقالوا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تقول لربك إذا قدمت عليه غدا
وقد استخلفت علينا ابن الخطاب؟ فقال أجلسوني، أبالله ترهبوني؟ أقول: استخلفت عليهم
خيرهم.... عن عائشة قالت: لما حضرت أبا بكر الوفاة استخلف عمر فدخل عليه علي وطلحة
فقالا: من استخلفت؟ قال: عمر، قالا: فماذا أنت قائل لربك؟ قال: أبالله تفرقاني؟
لأنا أعلم بالله وبعمر منكما، أقول: استخلفت عليهم خير أهلك (4).
(هامش)
(1) شرح نهج البلاغة 18 / 416. (2) الخراج: 11. (3) طبقات ابن سعد 3 / 199. (4)
طبقات ابن سعد 3 / 274. (*)
ص 298
ورواه المحب الطبري (1) والمتقي (2) والوصابي (3). وروى ابن أبي شيبة في (المصنف):
إن أبا بكر حين حضره الموت أرسل إلى عمر يستخلفه، فقال الناس: تستخلف علينا فظا
غليظا؟ ولو قد ولينا كان أفظ وأغلظ، فما تقول لربك إذا لقيته وقد استخلفت علينا
عمر... . ورواه شاه ولي الله (والد الدهلوي) (4). وقال محمد بن جرير الطبري وعقد
أبو بكر في مرضته التي توفي فيها لعمر بن الخطاب عقد الخلافة من بعده وذكر أنه لما
أراد العقد له دعا عبد الرحمن بن عوف فيما ذكر ابن سعد عن الواقدي عن ابن أبي سبرة
عن عبد المجيد بن سهيل عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: لما نزل بأبي بكر - رحه -
الوفاة دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر! فقال: يا خليفة رسول الله! هو
والله أفضل من رأيك فيه من رجل ولكن فيه غلظة: فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقا
ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه، ويا أبا محمد! قد رمقته فرأيتني إذا
غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضى عنه وإذا لنت له أراني الشدة عليه! لا تذكر يا
أبا محمد مما قلت لك شيئا. قال: نعم! ثم دعا عثمان بن عفان فقال: يا أبا عبد الله!
أخبرني عن عمر، قال: أنت أخبر به، فقال أبو بكر على ذاك، يا أبا عبد الله! قال:
اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته وأن ليس فينا مثله! قال أبو بكر رحمه الله:
رحمك الله يا أبا عبد الله! لا تذكر مما ذكرت لك شيئا قال: أفعل. فقال له أبو بكر:
لو تركته ما عدوتك! وما أدري لعله تاركه، والخيرة له ألا يلي من أموركم شيئا ولوددت
أني كنت خلوا من أموركم وأني كنت فيمن مضى من
(هامش)
(1) الرياض النضرة 1 / 237. (2) كنز العمال 5 / 398. (3) الاكتفاء في فضل الأربعة
الخلفاء - مخطوط. (4) قرة العينين 27. (*)
ص 299
سلفكم، يا أبا عبد الله! لا تذكرن مما قلت لك من أمر عمر ولا مما دعوتك له شيئا!
ثنا: ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا يونس بن عمرو عن أبي السفر، قال:
أشرف أبو بكر على الناس من كنفيه وأسماء ابنة عميس ممسكته موشومة اليدين وهو يقول:
أترضون بمن أستخلف عليكم فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قرابة وإني
قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا! فقالوا: سمعنا وأطعنا! حدثني عثمان
بن يحيى عن عثمان القرقساني قال: ثنا سفيان بن عيينة عن إسمعيل عن قيس، قال رأيت
عمر بن الخطاب وهو يجلس والناس معه، وبيده جريدة وهو يقول: أيها الناس! اسمعوا
وأطيعوا قول خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه يقول: إني لم الكم نصحا، قال:
ومعه مولى لأبي بكر يقال له: شديد، معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر. قال أبو
جعفر: وقال الواقدي: حدثني إبراهيم بن أبي النضر عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث،
قال: دعا أبو بكر عثمان خاليا فقال له: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد
أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين: أما بعد قال ثم أغمي عليه فذهب عنه فكتب
عثمان: أما بعد، فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم الكم خيرا [منه]. ثم أفاق
أبو بكر فقال: اقرأ علي فقرأ عليه فكبر أبو بكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن
افتلتت نفسي في غشيتي! قال: نعم! قال: جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله وأقرها أبو
بكر رضي الله عنه من هذا الموضع. ثنا: يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا يحيى بن عبد
الله بن بكير، قال: ثنا الليث بن سعد، قال: ثنا علوان عن صالح بن كيسان عم عمر بن
عبد الرحمن ابن عوف عن أبيه أنه دخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مرضه الذي
توفي فيه، فأصابه مهتما فقال له عبد الرحمن: أصبحت والحمد لله بارئا فقال أبو بكر
رضي الله عنه: أتراه؟ قال: نعم! قال: إني وليت أمركم
ص 300
خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه من ذلك يريد أن يكون الأمر له دونه ورأيتم الدنيا قد
أقبلت ولما تقبل وهي مقبلة، حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج وتألموا
الاضطجاع على الصوف الآذري كما يألم أحدكم أن ينام على حسك، والله لإن يقدم أحدكم
فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا، وأنتم أول ضال بالناس غدا
فتصدونهم عن الطريق يمينا وشمالا! يا هادي الطريق إنما هو الفجر أو البحر. فقلت، له
خفض عليك رحمك الله فإن هذا يهيضك في أمرك، إنما الناس في أمرك بين رجلين: إما رجل
رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهو مشير عليك وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت
إلا خيرا ولم تزل صالحا مصلحا وانك لا تأسى على شيء من الدنيا. قال أبو بكر رضي
الله عنه: أجل! إني لا آسي على شيء من الدنيا إلا على ثلث فعلتهن وددت أني تركتهن،
وثلث تركتهن وددت أني فعلتهن، وثلث وددت أني سألت عنهن رسول الله صلى الله عليه
وسلم. فأما الثلث اللاتي وددت أني تركتهن فوددت أني لم اكشف بيت فاطمة عن شيء وإن
كانوا قد علقوا على الحرب، وددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمي وأني كنت قتلته
سريحا، أو خليته نجيحا، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد
الرجلين - يريد عمر وأبا عبيدة - فكان أحدهما أمير وكنت وزيرا. وأما اللاتي تركتهن
فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيرا كنت ضربت عنقه فإنه يخيل إلي أنه لا يرى
شرا إلا أعان عليه! ووددت أني سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي
القصة، فإن ظفر المسلمون ظفروا وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مدد، ووددت أني كنت إذ
وجهت خالد ابن الوليد إلى الشام كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق فكنت قد بسطت
يدي كلتيهما في سبيل الله ومد يديه! ووددت أني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه
وسلم لمن هذا الأمر فلا ينازعه أحد! ووددت أني
ص 301
كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ ووددت أني كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ
والعمة فإن في نفسي منها شيئا. قال لي يونس: قال لنا يحيى ثم قدم علينا علوان بعد
وفاة الليث فسألته عن هذا الحديث فحدثني به كما حدثني الليث به سعد حرفا حرفا.
وأخبرني أنه هو حدث به الليث بن سعد وسألته عن اسم أبيه وأخبرني أنه علوان بن داود.
وحدثني محمد بن إسمعيل المرادي، قال: ثنا عبد الله بن صالح المصري قال: حدثني الليث
عن علوان بن صالح عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن أبا بكر الصديق
رضي الله عنه قال: ثم ذكر نحوه ولم يقل فيه عن أبيه (1). وقال أبو عمر أحمد بن
عبد ربه القرطبي: قال أبو صالح: أخبرنا محمد ابن وضاح، قال: حدثني محمد بن زمج بن
مهاجر النجيبي، قال: حدثني الليث بن سعد عن علوان عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبد
الرحمن بن عوف عن أبيه أنه دخل على أبي بكر رضي الله عنه في مرضه الذي توفي فيه
فأصابه مفيقا فقال: أصبحت بحمد الله بارئا، قال أبو بكر: أبرأه الله (أتراه برءا؟.
ظ) قال: نعم! قال: أما إني على ذلك لشديد الوجع، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين
أشد علي من وجعي، إني وليت أمركم خيركم في نفسي فكلكم ورم من ذلك أنفه! يريد أن
يكون له الأمر، ورأيتم الدنيا مقبلة ولما تقبل وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير
ونضائد الديباج، وتألمون الاضطجاع على الصوف الآزري كما يألم أحدكم الاضطجاع على
شوك السعدان! والله لإن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض في غمرة
الدنيا، ألا وإنكم أول ضال بالناس غدا فتصدونهم عن الطريق يمينا وشمالا! يا هادي
الطريق، إنما هو الفجر والبحر. قال: فقلت له خفض عليك يرحمك الله! فإن هذا يهيضك
على ما بك، إنما الناس في أمرك بين رجلين: إما رجل رأى ما رأيت فهو معك،
(هامش)
(1) تاريخ الطبري 2 / 617 - 620. (*)
ص 302
وإما رجل خالفك فهو يشير عليك برأيه، وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا الخير ولم
تزل صالحا مصلحا، مع أنك لا تأسى على شيء من الدنيا. فقال أجل! إني لا آسى على شيء
من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن ووددت أني تركتهن، وثلاث تركتهن ووددت أني فعلتهن،
وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن. فأما الثلاث التي فعلتهن
ووددت أني تركتهن: فوددت أني لم أكشف بين فاطمة عن شيء وإن كانوا أغلقوه على الحرب!
ووددت أني لم أكن حرقت النحام (الفجاءة. ظ) السلمي وأني قتلته شديخا أو خليته
نجيحا! ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قدمت (قلدت. ظ) الأمر في عنق أحد الرجلين،
فكان أحدهما أميرا وكنت له وزيرا. يعني بالرجلين عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن
الجراح. وأما الثلاث التي تركتهن ووددت أني فعلتهن. فوددت أني يوم أتيت الأشعث بن
قيس أسيرا ضربت عنقه فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه! ووددت أني يوم
سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون ظفروا وإن
انهزموا كنت بصدد لقاء أو مدد! ووددت أني وجهت خالد بن الوليد إلى الشام ووجهت عمر
بن الخطاب إلى العراق فأكون قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله. وأما الثلاث التي
وددت أني أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن فإني وددت أني سألته لمن هذا
الأمر من بعده؟ فلا ينازعه أحد! وأني سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ فلا
يظلموا نصيبهم منه! ووددت أني سألته عن بنت الأخ والعمة فإن في نفسي منهما شيئا
(1). وقال أبو بكر الباقلاني: وفي حديث عبد الرحمن بن عوف رحمة الله عليه، قال:
دخلت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في علته التي مات فيها، فقلت: أراك بارئا يا
خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: أما إني على ذلك
(هامش)
(1) العقد الفريد 4 / 267. (*)
ص 303
لشديد الوجع، وما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي! إني وليت أموركم
خيركم في نفسي فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه! والله لتتخذن نضائد
الديباج وستور الحرير ولتألمن النوم على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم على
حسك السعدان. والذي نفسي بيده لإن يقدم أحكم فتضرب رقبته في غير حد خير له من أن
يخوض غمرات الدنيا يا هادي الطريق جرت إنما هو وإن الفجر أو البحر. قال: فقلت: خفض
عليك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فإن هذا يهيضك إلى ما بك فوالله ما
زلت صالحا لا تأسى على شيء من أمر الدنيا، ولقد تخليت بالأمر وحدك فما رأيت إلا
خيرا (1). وقال الزمخشري في كتاب (الفائق): أبو بكر الصديق رضي الله عنه دخل
عليه عبد الرحمن بن عوف في علته التي مات فيها فقال: أراك بارئا يا خليفة رسول
الله! فقال أما إني على ذلك لشديد الوجع ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد علي
من وجعي! وليت أموركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه،
والله لتتخذن نضائد الديباج وستور الحرير ولتألمن النوم على الصوف الأذربي كما يألم
أحدكم النوم على حسك السعدان! والذي نفسي بيده لإن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد
خير له من أن يخوض غمرات الدنيا يا هادي الطريق جرت إنما هو الفجر أو البحر. وروي
البحر، قال له عبد الرحمن: خفض عليك يا خليفة رسول الله! فإن هذا يهيضك إلى ما بك.
وروي أن فلانا دخل عليه فنال من عمر وقال: لو استخلفت فلانا؟! فقال أبو بكر رضي
الله عنه: لو فعلت ذلك لجعلت انفك في قفاك ولما أخذت من أهلك حقا! ودخل عليه بعض
المهاجرين وهو يشتكي في مرضه فقال له: أتستخلف علينا عمر وقد عتا علينا ولا سلطان
له ولو ملكنا كان أعنى
(هامش)
(1) إعجاز القرآن - هامش الاتقان: 184. (*)