ص 202
حرمة الفتيا بغير علم ولنذكر في هذا المقام بعض الأحاديث الواردة في ذم الفتيا بغير
علم وحرمتها: روى الحافظ جلال الدين السيوطي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه
قال: من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض (1). قال المناوي والعزيزي
بشرحه - واللفظ للأول: حيث نسب إلى الله أن هذا حكمه وهو كاذب (2). وأخرج ابن
الأثير: إن عمرو بن العاص [عبد الله بن عمرو بن العاص] قال سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من الناس - وفي رواية:
من العباد - ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء
جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. وزاد في رواية: قال عروة: ثم لقيت عبد
الله بن عمرو على رأس الحول فسألته فرد علي الحديث كما حدث وقال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: أخرجه البخاري ومسلم (3). وقال: وأخرجه الترمذي
مختصرا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا
ينتزعه من العلماء، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء
جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا (4). وقال مجد الدين عبد السلام
الحراني في [المنتقى]: وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من
أفتى بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على الذي أفتاه. رواه أحمد وابن ماجة.
(هامش)
(1) الجامع الصغير. (2) التيسير في شرح الجامع الصغير 2 / 402. (3) جامع الأصول 9 /
23. (4) جامع الأصول 9 / 25. (*)
ص 203
وفي لفظ: من أفتى بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه. رواه أحمد وأبو داود
. 11 - عدم الاطلاع على السنن لقد كان في الصحابة من لم يبلغه كثير من أحكام الدين
وسنن رسول الله صلى الله عليه وآله، فلذا كانوا كثيرا ما يخالفون حكم النبي صلى
الله عليه وآله ويحكمون بخلافه، بل ربما خالفوا صريح الكتاب ونصه. وبالرغم من
اشتهار قضاياهم فإننا نكتفي هنا بإيراد كلام الحافظ ابن حزم في هذا المورد حيث قال
ما نصه: ووجدنا الصاحب من الصحابة رضي الله عنهم يبلغه الحديث فيتأول فيه تأويلا
يخرجه به عن ظاهره، ووجدناهم رضي الله عنهم يقرون ويعترفون بأنهم لم يبلغهم كثير من
السنن، وهكذا الحديث المشهور عن أبي هريرة: إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم
الصفق بالاسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم، وهكذا قال
البراء... قال: ما كل ما نحدثكموه سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم [و] لكن
حدثنا صحابنا، وكانت تشغلنا رعية الإبل. وهكذا [وهذا] أبو بكر رضي الله عنه لم يعرف
فرض ميراث الجدة وعرفه محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة، وقد سأل أبو بكر رضي الله
عنه عائشة في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا عمر رضي الله عنه يقول في
حديث الاستئذان: أخفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألهاني الصفق
في الأسواق. وقد جهل أيضا أمر إملاص المرأة وعرفه غيره، وغضب على عيينة بن حصن، حتى
ذكره الحر بن قيس بن حصن بقوله تعالى: وأعرض عن الجاهلين. وخفي عليه أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بإجلاء اليهود والنصارى من
ص 204
جزيرة العرب إلى آخر خلافته، وخفي على أبي بكر رضي الله عنه قبله أيضا طول مدة
خلافته، فلما بلغ عمر أمر بإجلائهم فلم يترك بها منهم أحدا. وخفي على عمر أيضا أمره
عليه السلام بترك الإقدام على الوباء، وعرف ذلك عبد الرحمن بن عوف. وسأل عمر أبا
واقد الليثي عما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاتي الفطر والأضحى،
هذا وقد صلاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أعواما كثيرة. ولم يدر ما يصنع
بالمجوس حتى ذكره عبد الرحمن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، ونسي قبوله
عليه السلام الجزية من مجوس البحرين وهو أمر مشهور، ولعله رضي الله عنه قد أخذ من
ذلك المال حظا كما أخذ غيره منه. ونسي أمره عليه السلام بأن يتيمم الجنب فقال: لا
يتيمم أبدا ولا يصلي ما لم يجد الماء وذكره بذلك عمار. وأراد قسمة مال الكعبة حتى
احتج عليه أبي بن كعب بأن النبي عليه السلام لم يفعل ذلك فأمسك. وكان يرد النساء
اللواتي حضن ونفرن قبل أو يود عن البيت حتى أخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أذن في ذلك، فأمسك عن ردهن. وكان يفاضل بين ديات الأصابع حتى بلغه عن النبي صلى
الله عليه وسلم أمره بالمساواة بينها، فترك قوله وأخذ المساواة. وكان يرى الدية
للعصبة فقط حتى أخبره الضحاك بن سفيان بأن النبي صلى الله عليه وسلم ورث المرأة من
الدية فانصرف عمر إلى ذلك. ونهى عن المغالاة في مهور النساء استدلالا بمهور النبي
صلى الله عليه وسلم حتى ذكرته امرأة بقول الله عز وجل: وآتيتم إحداهن قنطارا، فرجع
عن نهيه. وأراد رجم مجنونة حتى أعلم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: رفع القلم
عن ثلاثة، فأمر أن لا ترجم. وأمر برجم مولاة حاطب حتى ذكره عثمان بأن الجاهل لا حد
عليه
ص 205
فأمسك عن رجمها. وأنكر على حسان الانشاد في المسجد فأخبر هو وأبو هريرة أنه قد أنشد
فيه بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت عمر. وقد نهى عمر أن يسمى بأسماء
الأنبياء وهو يرى محمد بن مسلمة يغدو عليه ويروح وهو أحد الصحابة الجلة منهم، ويرى
أبا أيوب الأنصاري وأبا موسى الأشعري وهما لا يعرفان إلا بكناهما من الصحابة، ويرى
محمد بن أبي بكر الصديق وقد ولد بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع،
واستفتته أمه إذ ولدته ماذا تصنع في إحرامها وهي نفساء. وقد علم يقينا أن النبي صلى
الله عليه وسلم علم بأسماء من ذكرنا وبكناهم بلا شك وأقرهم عليها ودعاهم بها ولم
يغير شيئا من ذلك، فلما أخبره طلحة وصهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة ذلك
أمسك عن النهي عنه. وهم بترك الرمي في الحج ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم
فعله فقال: لا يجب لنا أن نتركه. وهذا عثمان رضي الله عنه، فقد رووا عنه أنه بعث
إلى الفريعة أخت أبي سعيد الخدري يسألها عما أفتاها به رسول الله صلى الله عليه
وسلم في أمر عدتها وأنه أخذ بذلك. وأمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر فذكره علي
بالقرآن وإن الحمل قد يكون ستة أشهر، فرجع عن الأمر برجمها. وهذه عائشة وأبو هريرة
رضي الله عنهما خفي عليهما المسح على الخفين وعلى ابن عمر معهما، وعلمه جرير ولم
يسلم إلا قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأشهر وأقرت عائشة أنها لا علم لها به
وأمرت بسؤال من يرجى عنده علم ذلك وهو علي رضي الله عنه. وهذه حفصة أم المؤمنين
سئلت عن الوطي يجنب فيه الواطي أفيه غسل أم لا؟ فقالت: لا علم لي. وهذا ابن عمر
توقع أن يكون حدث نهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن
ص 206
كراء الأرض بعد أزيد من أربعين سنة من موت النبي صلى الله عليه وسلم فأمسك عنها،
وأقر أنهم كانوا يكرونها على عهد أبي بكر وعمر وعثمان ولم يقل إنه لا يمكن أن يخفى
على هؤلاء ما يعرف رافع وجابر وأبو هريرة، وهؤلاء أخواننا يقولون فيما اشتهوا لو
كان هذا حقا ما خفي على عمر. وقد خفي على زيد بن ثابت وابن عمر وجمهور أهل المدينة
إباحة النبي صلى الله عليه وسلم للحائض أن تنفر حتى أعلمهم بذلك ابن عباس وأم سليم
فرجعوا عن قولهم. وخفي على ابن عمر الإقامة حتى يدفن الميت حتى أخبره بذلك أبو
هريرة وعائشة فقال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة. وقيل لابن عمر في اختياره متعة الحج
على الإفراد: إنك تخالف أباك، فقال: أكتاب الله أحق أن يتبع أم عمر؟ روينا ذلك عنه
من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر. وخفي على عبد الله بن
عمر الوضوء من مس الذكر حتى أمرته بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بسرة بنت
صفوان، فأخذ بذلك. وقد تجد الرجل يحفظ الحديث ولا يحضره ذكره حتى يفتي بخلافه، وقد
يعرف هذا في آي القرآن، وقد أمر عمر على المنبر بأن لا يزاد في مهور النساء على عدد
ذكره، فذكرته امرأة بقول الله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا فترك قوله وقال: كل
أحد أفقه منك يا عمر، وقال: امرأة أصابت وأمير المؤمنين أخطأ. وأمر برجم امرأة ولدت
لستة أشهر، فذكره علي بقول الله تعالى: * [وحمله وفصاله ثلاثون شهرا] * مع قوله
تعالى: * [والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين] * فرجع عن الأمر برجمها. وهم أن
يسطو بعيينة بن حصن إذ قال له: يا عمر ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل، فذكره
الحر بن قيس بن حصن بن حذيفة بقول الله تعالى: * [وأعرض عن الجاهلين] * وقال له: يا
أمير المؤمنين هذا من الجاهلين
ص 207
فأمسك عمر. وقال يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما مات رسول الله ولا
يموت حتى يكون آخرنا، أو كلاما هذا معناه، حتى قرئت عليه: إنك ميت وإنهم ميتون ،
فسقط السيف من يده وخر إلى الأرض وقال: كأني والله لم أكن قرأتها قط. قال الحافظ
ابن حزم: فإذا أمكن هذا في القرآن فهو في الحديث أمكن وقد ينساه ألبتة، وقد لا
ينساه بل يذكره ولكن يتأول فيه تأويلا، فيظن فيه خصوصا أو نسخا أو معنى ما، وكل هذا
لا يجوز اتباعه إلا بنص أو إجماع، لأنه رأي من رأى ذلك ولا يحل تقليد أحد ولا قبول
رأيه... (1). هذا، ولقد ذكر هذه الجهالات وغيرها ابن القيم في (أعلام الموقعين)
وقال: وهذا باب واسع لو تتبعناه لجاء سفرا كبيرا . وانظر أيضا كتاب (الانصاف في
بيان سبب الاختلاف) لولي الله الدهلوي. 12 - مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله في
الفتوى لقد كان في الأصحاب من يفتي بغير ما يحكم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
فإذا أخبره أحد بذلك ضربه بالدرة... قال جلال الدين السيوطي في (مفتاح الجنة):
وأخرج البيهقي عن هشام بن يحيى المخزومي أن رجلا من ثقيف أتى عمر بن الخطاب فسأله
عن امرأة حاضت وقد كانت زارت البيت ألها أن تنفر قبل أن تطهر؟ فقال: لا، فقال له
الثقفي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاني في مثل هذا المرأة بغير ما أفتيت،
فقام إليه عمر فضربه بالدرة ويقول: لم تستفتوني في شيء أفتى فيه رسول الله صلى الله
عليه وسلم .
(هامش)
(1) الاحكام في أصول الأحكام 2 / 12. (*)
ص 208
13 - إباحة بعضهم شرب الشراب المثلث لقد أباح عمر بن الخطاب شرب الشراب المثلث وإن
كان شديدا، ثم لما أشكل على عبادة بن الصامت ذلك قال له عمر: يا أحمق... وهكذا
شخص لا يليق لأن يكون مرجعا للأمة حتى في غير المنصوصات.... وقد روى هذه الواقعة،
فقيه الحنفية شمس الأئمة السرخسي واستخرج منها أحكاما عديدة حيث قال: وعن محمد بن
الزبير رضي الله عنه قال: استشار الناس عمر رضي الله عنه في شراب مرقق، فقال رجل من
النصارى: إنا نصنع شرابا في صومنا، فقال عمر رضي الله عنه: أيتني بشيء منه، قال:
فأتاه بشيء منه، قال: ما أشبه هذا بطلاء الإبل، كيف تصنعونه؟ قال: نطبخ العصير حتى
يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، فصب عليه عمر رضي الله عنه ماء وشرب منه، ثم ناوله عبادة بن
الصامت رضي الله عنه وهو عن يمينه فقال عبادة: ما أرى النار تحل شيئا، فقال عمر: يا
أحمق أليس يكون خمر ثم يصير خلا فنأكله؟. وفي هذا دليل إباحة شرب المثلث وإن كان
مشتدا، فإن عمر رضي الله عنه استشارهم في المشتد دون الحلو، وهو مما يكون ممريا
للطعام مقويا على الطاعة في ليالي الصيام، وكان عمر رضي الله عنه حسن النظر
للمسلمين وكان أكثر الناس مشورة في أمور الدين خصوصا فيما يتصل بعامة المسلمين..
(1). 14 - بدع بعضهم لقد كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أصحاب محدثات
وبدع، وقد كثر ذلك من معاوية بن أبي سفيان حتى أنكر عليه فيها سائر الأصحاب... قال
محمد معين السندي ما نصه: ثم إن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
(هامش)
(1) المبسوط 24 / 7. (*)
ص 209
تمالاوا على الإنكار على من رأى رأيا بخلاف الحديث، وقد كثر ذلك على معاوية بن أبي
سفيان في محدثاته. فمنها: تقبيله لليمانين، أنكر عليه ذلك ابن عباس رضي الله عنهما
لخلاف السنة. ومنها: ترك التسمية في الصلوات جهرا لما قدم المدينة المطهرة، أنكرت
عليه ذلك المهاجرون والأنصار وقالوا: سرقت التسمية يا معاوية. ومنها: إنه نهى الناس
عن متعة الحج، فقد روى الترمذي في جامعه من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وأول من نهى عنه
معاوية. والجمع بين حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا والتي فيها نهى عمر
وعثمان رضي الله عنهما أما رجوعهما بعد القول بالنهي إلى حد ذلك أو بالعكس، وضبط
ابن عباس أحد الأمرين فأخبر به، وأما كون معاوية أول من نهى مع تقدم النهي بذلك عن
عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما على ما وقع في حديث الضحاك عن عمر حيث قال لسعد بن
أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد نهى عن ذلك كما
رواه الترمذي في الجامع، فباعتبار أن نهيهما معناه بيان أنه غير مباح، ونهي معاوية
منع الناس جبرا من أن يأتوا به على مذهب علي رضي الله تعالى عنه وغيره من الصحابة،
فهو أول من نهى بهذا المعنى، والله سبحانه وتعالى أعلم. ومنها: قوله في زكاة الفطر
إني أرى أن مدين من سمراء الشام يعدل صاعا من تمر، أنكر عليه ذلك أبو سعيد الخدري
رضي الله تعالى عنه وقال: تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها، وذلك لما روى
الأئمة الستة عنه: كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر
عن كل صغير وكبير حر ومملوك صاعا من طعام أو صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو صاعا
من تمر أو صاعا من زينب، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجا أو متعمرا فكلم الناس
على المنبر فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى مدين من
ص 210
سمراء الشام. الحديث. وفيه قال أبو سعيد: أما أنا فإني لا أزال أخرجه أبدا ما عشت،
ولما بلغ ابن الزبير رأي معاوية قال: بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، صدقة الفطر صاع
صاع. وأولياته المحدثة لا تخفى كثرتها على عاثر علم الحديث (1). بل كان معاوية بن
أبي سفيان - المجتهد! - يرتكب كبائر المحرمات الموبقة عالما عامدا بمرأى من الناس
غير متحرج، قال السندي بعد أن ذكر رواية معاوية حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم
عن جلود النمر مع استعمال معاوية إياها، قال: وليس معاوية ممن يقال إذا عمل بخلاف
مرويه دل على النسخ، مع أن هذا القول بإطلاقه في عمل الراوي باطل، ولو كان كذلك لما
أخذ عليه المقدام في ذلك أخذة رابية، ولنورد القصة في تمام الحديث فإن في ذلك عبرة
لكل محب العترة الطاهرة - إلى كثير مما يستخرج من ذلك الحديث وسكتنا عنه تأسيا
بالأئمة الطاهرة في السكوت عن كثير مثل ذلك، وهو حديث خالد قال: وفد المقدام بن معد
يكرب وعمرو بن الأسود - رجل من بني أسد - على معاوية بن أبي سفيان، فقال معاوية:
أما علمت أن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما توفي؟ فترجع المقدام رضي الله تعالى
عنه فقال له: يا فلان أتعدها مصيبة؟ فقال: هذا مني وحسين من علي رضي الله تعالى
عنهما قال فقال الأسدي: جمرة أطفأها الله تعالى، قال فقال المقدام رضي الله تعالى
عنه: أما أنا فلا أبرح اليوم حتى أغيظك وأسمعك ما تكره، ثم قال: يا معاوية إن صدقت
فصدقني وإن كذبت فكذبني، قال: أفعل، قال: فأنشدك بالله هل سمعت رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم نهى عن لبس الذهب؟ قال: نعم قال: فأنشدك بالله
(هامش)
(1) دراسات اللبيب 95 - 96. (*)
ص 211
هل تعلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن لبس جلود السباع والركوب
عليها؟ قال: نعم، قال: فوالله لقد رأيت هذا كله في بيتك يا معاوية، فقال معاوية: قد
علمت أني لن أنجو منك يا مقدام. قال خالد: فأمر له معاوية بما لم يأمر لصاحبه وفرض
لابنه في المائتين، ففرقها المقدام على أصحابه ولم يعط الأسدي أحدا شيئا مما أخذ،
فبلغ ذلك معاوية فقال: أما المقدام فرجل كريم بسط يده، وأما الأسدي فرجل حسن
الامساك لشيئه (1). هذا، والجدير بالذكر هنا أن بعض أهل السنة من قصة وفود
المقدام القسم التالي منها بغية تقليل الشناعة، فرواها في ترجمة الإمام الحسن السبط
عليه السلام إلى قول المقدام وقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره وقال
هذا مني وحسين من علي ففي (كفاية الطالب) للحافظ الكنجي بسنده عن خالد ابن معدان
قال: وفد مقدام بن معد يكرب وعمرو بن الأسود إلى قنسرين فقال معاوية لمقدام:
أعلمت أن الحسن بن علي توفي؟ فاسترجع مقدام، فقال له معاوية: أتراها مصيبة؟ قال:
ولم لا أراها مصيبة وقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره وقال هذا مني
وحسين من علي. قلت: رواه الطبراني في معجمه الكبير في ترجمته -. وانظر (كنز
العمال) في باب فضائل الإمام الحسن عليه السلام. 15 - مخالفة بعضهم للرسول لقد كان
في الأصحاب من خالف رسول الله صلى الله عليه وآله بصراحة... فقد جاء في (الموطأ) ما
نصه: مالك عن زيد بن أسلم عن
(هامش)
(1) دراسات اللبيب 98 - 99. (2) كفاية الطالب 414. (*)
ص 212
عطاء ابن يسار: إن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها
فقال [له] أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا
مثلا بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من
معاوية؟ أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك
بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر له ذلك. فكتب عمر بن
الخطاب إلى معاوية: ألا يبيع مثل ذلك إلا مثلا بمثل ووزنا بوزن (2). ومن عجائب
الصنائع الشنيعة إسقاط بعض أسلاف القوم ذيل خبر مالك المتقدم، المشتمل على تجاسر
معاوية، لغرض التستر على اقترافه ومخالفته للنبي صلى الله عليه وآله، وما درى أن
مراجعة الموطأ وشروحه، وغيرها من كتب الحديث تكشف الواقع وتظهر حقيقة الحال. قال
النسائي في مسألة بيع الذهب بالذهب: حدثنا قتيبة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء
بن يسار أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال أبو الدرداء: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل (1). وقال أبو
الوليد الباجي في (شرح الموطأ): وفيما قاله أبو الدرداء تصريح بأن أخبار الآحاد
مقدمة على القياس والرأي، وقوله: لا أساكنك بأرض أنت فيها مبالغة في الانكار
على معاوية وإظهار لهجره والبعد عنه حين لم يأخذ بما نقل إليه من نهي النبي صلى
الله عليه وسلم ويظهر الرجوع عما خالفه . وقال ابن الأثير الجزري: عطاء بن يسار
قال: إن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو
الدرداء:
(هامش)
(1) الموطأ 2 / 634. (2) سنن النسائي 2 / 223. (*)
ص 213
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، فقال له معاوية:
ما أرى بمثل هذا بأسا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول
الله صلى الله عليه وآله وهو يخبرني برأيه! [عن رأيه] لا أساكنك بأرض أنت [كنت] بها
ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر له ذلك، فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية
ألا يبيع [أن لا تبع] ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن، أخرجه (الموطأ) وأخرج النسائي
منه إلى قوله مثلا بمثل (1). وقال فخر الدين الرازي في كتاب (المحصول) في مقام
عمل الصحابة على وفق الخبر الواحد عن أبي الدرداء (2) سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم ينهى عنه فقال معاوية: لا أرى بأسا، فقال أبو الدرداء، من معذري عن
معاوية أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخبرني عن رأيه! لا أساكنك بأرض
أبدا . وقال أبو الحسن الآمدي في كتاب (الاحكام في أصول الأحكام) في مبحث العمل
بخبر الواحد: ومن ذلك ما روى أنه لما باع معاوية شيئا من أواني ذهب وورق بأكثر من
وزنه أنه قال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك فقال
له معاوية: لا أرى بذلك؟ بأسا! فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معوية أخبره عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه! لا أساكنك بأرض أبدا . وقال جلال الدين
السيوطي في (مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة) وأخرج البيهقي عن عطاء بن يسار أن
معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء:
سمعت رسول الله صلى الله
(هامش)
(1) جامع الأصول 1 / 468. (2) حق العبارة في هذه الرواية أن تكون هكذا: لما باع
معاوية شيئا من أواني ذهب أو ورق بأكثر من وزنه قال له أبو الدرداء: سمعت.... (*)
ص 214
عليه وسلم نهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل. فقال له معاوية: ما أرى بأسا! فقال أبو
الدرداء: من يعذرني من معاوية؟ أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرني عن
رأيه! لا أساكنك بأرض أنت بها! قال الشافعي: فرأى أبو الدرداء الحجة تقوم على
معاوية بخبره، فلما لم ير معاوية ذلك فارق أبو الدرداء الأرض التي هو بها إعظاما
لأنه ترك خبر ثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بشرح الحديث: فقال أبو
الدرداء من يعذرني من معاوية؟! أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني
عن رأيه، إلى آخره. قال ابن عبد البر: كان ذلك منه أنفة من أن يرد عليه سنة علمها
من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه، وصدور العلماء تضيق عند مثل هذا وهو
عندهم عظيم رد السنن بالرأي، قال: وجائز للمرء أن يهجر من لم يسمع منه ولم يطعه،
وليس هذا من الهجرة المكروهة، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس
ألا يكلموا كعب بن مالك حين جلب عن تبوك قال: وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من
ابتدع وهجرته وقطع الكلام عنه، وقد رأى ابن مسعود رجلا يضحك في جنازة فقال: والله
لا أكلمك أبدا! إنتهى (1). وقال عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الديبع الشيباني:
وعن عطاء ابن يسار أن معاوية رضي الله عنه باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من
وزنها، فقال له أبو الدرداء رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى
عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، فقال معاوية: ما أرى بهذا بأسا! فقال له أبو الدرداء رضي
الله عنه: من يعذرني من معاوية؟! أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يخبرني عن رأيه! لا أساكنك بأرض أنت بها! ثم قدم أبو الدرداء رضي الله عنه على عمر
بن الخطاب رضي الله عنه فذكر له ذلك فكتب عمر إلى معاوية أن لا تبع ذلك إلا مثلا
بمثل وزنا بوزن. أخرجه مالك والنسائي. السقاية: إناء
(هامش)
(1) تنوير الحوالك 2 / 59. (*)
ص 215
يشرب فيه. وقال محمد بن محمد بن سليمان بن الفاسي الروداني المغربي المالكي في كتاب
(جمع الفوائد): عطاء بن يسار أن معاوية باع سقاية من ذهب - أو ورق - أكثر من
وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا
بمثل. فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا! فقال أبو الدرداء: من يعذرني من
معاوية؟! أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخبرني عن رأيه، لا أساكنك
بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر فذكر له ذلك فكتب عمر إلى معوية أن لا
يبيع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن، للموطأ والنسائي . وقال الزرقاني في (شرح
الموطأ) بشرحه فقال أبو الدرداء: من يعذرني بكسر الذال المعجمة من معاوية، أي من
يلومه على فعله ولا يلومني عليه؟ أو من يقوم بعذري إذا جازيته بصنعه ولا يلومني على
ما أفعله به، أو: من ينصرني يقال: عذرته: إذا نصرته. أنا أخبره عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه. أنف من رد السنة بالرأي وصدور العلماء تضيق عن مثل
هذا وهو عندهم عظيم رد السنن بالرأي. لا أساكنك بأرض أنت بها وجائز للمرء أن يهجر
من لم يسمع منه ولم يطعه، وليس هذا من الهجرة المكروهة ألا ترى أنه صلى الله عليه
وسلم أمر الناس أن لا يكلموا كعب بن مالك حين تخلف عن غزوة تبوك، وهذا أصل عند
العلماء في مجانبة من ابتدع وهجره وقطع الكلام عنه، وقد رأى ابن مسعود رجلا يضحك في
جنازة فقال: والله لا أكلمك أبدا! قاله أبو عمر. ثم قدم أبو الدرداء من الشام على
عمر بن الخطاب المدينة فذكر ذلك له، فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا يبيع ذلك
إلا مثلا بمثل وزنا بوزن. بيان للمثل. قال أبو عمر: لا أعلم أن هذه القصة عرضت
لمعاوية مع أبي الدرداء إلا من هذا الوجه، وإنما هي محفوظة لمعاوية مع عبادة بن
الصامت والطرق متواترة بذلك عنهما. والإسناد صحيح وإن لم يرد من وجه آخر فهو من
الأفراد
ص 216
الصحيحة، والجمع ممكن لأنه عرض له ذلك مع عبادة وأبو الدرداء. وقال شاه ولي الله
الدهلوي في (المسوى من أحاديث الموطأ): مالك، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن
معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، فقال له معاوية:
ما أرى بمثل هذا بأسا فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية؟! أنا أخبره عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه! لا أساكنك بأرض أنت بها! ثم قدم أبو
الدرداء على عمر بن الخطاب - رض - فذكر له ذلك فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية بن
أبي سفيان ألا تبع مثل ذلك إلا مثل بمثل وزنا بوزن. قوله، من يعذرني أي: من ينصرني،
والعذير: النصير . 16 - بيع بعضهم الأصنام ورووا أن معاوية باع الأصنام في عهد
سلطنته، ففي (المبسوط) ما نصه: وذكر عن مسروق رحمه الله قال: بعث معاوية رحمه
الله بتماثيل صفر تباع بأرض الهند، فمر بها على مسروق رحمه الله قال: والله لولا
أني أعلم أنه يقتلني لغرقتها، ولكني أخاف أن يعذبني فيفتنني، والله لا أدري أي
الرجلين معاوية: رجل زين له سوء عمله، أو رجل قد يئس من الآخرة فهو يتمتع في
الدنيا؟ وقيل: هذه تماثيل كانت أصيبت في الغنيمة، فأمر معاوية رضي الله عنه ببيعها
بأرض الهند ليتخذ بها الأسلحة والكراع للغزاة، فيكون دليلا لأبي حنيفة رحمه الله في
جواز بيع الصنم والصليب ممن يعبده كما هو طريقة القياس، وقد استعظم ذلك مسروق رحمه
الله كما هو طريق الاستحسان الذي ذهب إليه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في كراهة
ذلك. ومسروق من علماء التابعين، وكان يزاحم الصحابة رضي الله عنهم في الفتوى، وقد
رجع ابن عباس إلى قوله في مسألة النذر بذبح الولد، ولكن مع
ص 217
هذا قول معاوية رضي الله عنه مقدم على قوله، وقد كانوا في المجتهدات يلحق بعضهم
الوعيد بالبعض، كما قال علي رضي الله عنه: من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في
الجد - يعني بقول زيد رضي الله عنه -. وإنما قلنا هذا لأنه لا يظن بمسروق رحمه الله
أنه قال في معاوية رضي الله عنه ما قال عن اعتقاد، وقد كان هو من كبار الصحابة رضي
الله عنهم وكان كاتب الوحي وكان أمير المؤمنين، وقد أخبره رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالملك بعده، فقال له عليه السلام يوما: إذا ملكت أمر أمتي فأحسن إليهم، إلا
أن نوبته كانت بعد انتهاء نوبة علي رضي الله عنه ومضي مدة الخلافة، فكان مخطئا في
مزاحمة علي رضي الله عنه تاركا لما هو واجب عليه من الانقياد له، لا يجوز أن يقال
فيه أكثر من هذا. ويحكى أن أبا بكر محمد بن الفضل رحمه الله كان ينال منه في
الابتداء، فرأى في منامه كأن شعرة تدلت من لسانه إلى موضع قدمه فهو يطؤها ويتألم من
ذلك، ويقطر الدم من لسانه، فسأل المعبر عن ذلك فقال: إنك تنال من واحد من كبار
الصحابة رضي الله عنه فإياك ثم إياك. وقد قيل في تأويل الحديث أيضا: إن تلك
التماثيل كانت صغارا لا تبدو للناظر من بعد، ولا بأس باتخاذ مثل ذلك على ما روي أنه
وجد خاتم دانيال عليه السلام في زمن عمر رضي الله عنه وكان عليه نقش رجل بين أسدين
يلحسانه وكان على خاتم أبي هريرة ذبابتان، فعرفنا أنه لا بأس باتخاذ ما صغر من ذلك.
ولكن مسروقا رحمه الله كان يبالغ في الاحتياط، فلا يجوز اتخاذ شيء من ذلك ولا بيعه،
ثم كان تغريق ذلك من الأمر بالمعروف عنده، وقد ترك ذلك مخافة على نفسه، وفيه تبيين
أنه لا بأس باستعمال التقية وأنه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على
نفسه، ومقصوده من إيراد الحديث أن يبين أن التعذيب بالسوط يتحقق فيه الاكراه كما
يتحقق في القتل، لأنه قال: لو علمت أنه يقتلني لغرقتها ولكن أخاف أن يعذبني
ص 218
فيفتتني، فتبين بهذا أن فتنة السوط أشد من فتنة السيف (1). أقول: ولا يخفى على
النبيه ما في هذا الكلام من فوائد، ولا سيما قوله: وفيه تبيين أنه لا بأس
باستعمال التقية... . وأما ما ذكره للذب عن معاوية فواضح الهوان. 17 - مخالفة
بعضهم لصريح الكتاب لقد كان في الأصحاب من يرد الحكم المنصوص في الكتاب، ومن كان
هذا دأبه لا يكون الاقتداء به موجبا للهداية، ولا يجوز أن ترجع إليه الأمة في
المنصوصات وغيرها... قال الغزالي في مبحث حجية خبر الواحد: ثم اعلم أن المخالف في
المسألة له شبهتان، الشبهة الأولى قولهم: لا مستند في إثبات خبر الواحد إلا الإجماع
فكيف يدعى ذلك وما من أحد من الصحابة إلا وقد رد خبر الواحد. ثم قال بعد أن ذكر
طرفا من شواهد ذلك: لكنا نقول في الجواب عما سألوا عنه الذي رويناه قاطع في علمهم
وما ذكرتموه رد لأسباب عارضة تقتضي الرد ولا تدل على بطلان الأصل، كما أن ردهم بعض
نصوص القرآن وتركهم بعض أنواع القياس ورد القاضي بعض أنواع الشهادات لا يدل على
بطلان الأصل (2). بل لقد ترك الأصحاب كتاب الله على عهد عمر بن الخطاب حتى ذمهم
عليه، فقد قال الحافظ ابن حزم: أخبرني أحمد بن عمر العذري، ثنا أحمد بن محمد بن
عيسى البلوي غندر، ثنا خلف بن قاسم ثنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر
بن راشد البجلي، ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النظري الدمشقي ثنا أبو مسهر ثنا
سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله عن السائب بن يزيد بن أخت نمر: إنه سمع
عمر بن الخطاب يقول:
(هامش)
(1) المبسوط في فقه الحنفية - كتاب الاكراه: 24 / 46. (2) المستصفى 1 / 135 - 136.
(*)
ص 219
إن حديثكم شر الحديث: [و] إن كلامكم شر الكلام، فإنكم قد حدثتم الناس حتى قيل: قال
فلان، وقال فلان، ويترك كتاب الله، من كان فيكم [منكم] قائما فليقم بكتاب الله وإلا
فليجلس. فهذا قول عمر لأفضل قرن على وجه الأرض فكيف لو أدرك ما نحن فيه من ترك
القرآن وكلام محمد صلى الله عليه وسلم والاقبال على ما قال مالك وأبو حنيفة
والشافعي؟ وحسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون (1). وقد رواه ابن
القيم عن أبي زرعة كذلك، وعلق عليه بمثل كلام ابن حزم المذكور (2). 18 - ابن عباس:
ما سألوا النبي إلا عن ثلاث عشرة مسألة عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض
كلهن في القرآن، منهم: * [يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه] * و* [يسئلونك عن
المحيض] *. قال: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم (3). أقول: وهذا يكشف عن عدم
عنايتهم بالأحكام الشرعية، وإلا لسألوه صلى الله عليه وسلم منتهزين فرصة وجوده بين
أظهرهم. هذا شأن هؤلاء القوم، ومعه كيف يقال بأنهم متبعون فيما كان غير منصوص في
الكتاب والسنة؟ 19 - خفاء الأمور والأحكام الواضحة عليهم لقد خفي على أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم أوضح أموره وهم
(هامش)
(1) الاحكام في أصول الأحكام 6 / 97. (2) أعلام الموقعين / 2 / 176. (3) الانصاف في
بيان سبب الاختلاف: 13. (*)
ص 220
حواليه صلى الله عليه وسلم وحاضرون عنده. قال ولي الله: ومنها اختلاف الوهم في
التعبير، مثاله أن رسول الله حج، فرآه الناس، فذهب بعضهم إلى أنه كان متمتعا،
وبعضهم إلى أنه كان قارنا، وبعضهم إلى أنه كان مفردا (1). وإذا كان هذا حالهم فلا
يستحقون قطعا لأن يكونوا هداة الأمة من بعده. وقال الحافظ ابن عبد البر: قرأت على
أبي عبد الله بن محمد بن عبد الله أن محمد بن معاوية القرشي أخبرهم قال حدثنا إسحاق
بن أبي حسان الأنماطي قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا عبد الحميد قال حدثنا
الأوزاعي قال حدثنا عطاء بن أبي رباح قال سمعت ابن عباس يخبر أن رجلا أصابه جرح على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أصابه احتلام، فأمر بالاغتسال فقر فمات، فبلغ
ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي
السؤال؟. (2). ومما يقطع به كل عاقل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر
بالاقتداء بهكذا أناس مطلقا.... 20 - لا يجوز الاستنان بالرجال قال الحافظ ابن عبد
البر: حدثنا عبد الوارث بن سفيان ويعيش بن سعيد قالا حدثنا قاسم بن إصبع قال
حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا بشر بن حجر قال حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي عن
عطاء - يعني ابن السائب - عن أبي البختري عن علي قال: إياكم والاستنان بالرجال، فإن
الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب - لعلم الله فيه - فيعمل بعمل أهل
(هامش)
(1) الانصاف في بيان سبب الاختلاف: 28. (2) جامع بيان العلم 115. (*)
ص 221
النار، فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب - لعلم الله
- فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات
لا بالأحياء (1). وظاهر أن المرتد لا يهتدى به، ولا ينجو من اقتدى به أبدا، ونحن
ننزه النبي صلى الله عليه وآله عن أن يأمر بالاقتداء بكل صحابي من صحابته....
(هامش)
(1) جامع بيان العلم 390. (*)
ص 223
تفنيد كلام المزني حول حديث النجوم

ص 225
وإذ فرغنا من تفنيد استدلال (الدهلوي) بحديث النجوم بإبطاله سندا ودلالة، كان من
المناسب أن نذكر كلام المزني في معنى الحديث المذكور، ونتكلم عليه بما يبين بطلانه
وفساده: قال ابن عبد البر: قال المزني رحمه الله في قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: أصحابي كالنجوم... قال: إن صح هذا الخبر فمعناه فيما نقلوا عنه وشهدوا به
عليه، فكلهم ثقة مؤتمن على ما جاء به، لا يجوز عندي غير هذا، وأما ما قالوا فيه
برأيهم فلو كان عند أنفسهم كذلك ما خطأ بعضهم بعضا، ولا أنكر بعضهم على بعض ولا رجع
منهم أحد إلى قول صاحبه. فتدبر . نوادر من سير الأصحاب أقول: هذا المعنى لا يصح،
لأنه لو كان كلهم ثقة مؤتمنا - على ما جاء به - لما طعن بعضهم في بعض ولما كذب
بعضهم بعضا... ولو أردنا استقصاء ذلك لاحتجنا إلى سفر كبير برأسه... ولكننا نذكر
هنا بعض الصحابة وما واجهوه من الذم والطعن، وما قيل فيهم من الأصحاب
ص 226
وغيرهم: 1 - أبو بكر وعمر لقد كذب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام
وسيدنا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أبا بكر وعمر في رواية حديث لا نورث،
ما تركناه صدقة وأبطلا امتناعهما عن دفع ما تركه رسول الله صلى الله عليه وآله
إلى أهله، بالاستناد إلى هذا الحديث المزعوم، ووصفا أبا بكر وعمر بالكذب والإثم
والغدر والخيانة. أخرج ذلك مسلم في (الصحيح) (1) وتجده في غيره من كتب الحديث، وقد
فصلنا البحث عن ذلك في مجلد حديث (مدينة العلم). * ورووا أن عمرا قد أقسم بالله
كاذبا في قضية الناقة، فقد ذكر الحافظ ابن حجر بترجمة عبد الله بن كيسبة: وهو
القائل لعمر بن الخطاب - واستحمله فلم يحمله: أقسم بالله أبو حفص عمر * ما مسها من
لقب ولا دبر فاغفر له اللهم إن كان فجر وكان عمر نظر إلى راحلته لما ذكر أنها وجعت
فقال: والله ما بها من علة [قلبة] فرد عليه، فعلاه بالدرة وهرب وهو يقول ذلك، فلما
سمع عمر آخر قوله حمله وأعطاه... (2). وفي (شرح النهج) في سيرة عمر: أتى أعرابي
عمر فقال: إن ناقتي بها نقبا ودبرا فاحملني، فقال [له]: والله ما ببعيرك نقب ولا
دبر، فقال: أقسم بالله... فقال عمر: اللهم اغفر لي، ثم دعاه فحمله (3).
(هامش)
(1) صحيح مسلم 2 / 54. (2) الإصابة 3 / 94. (3) شرح نهج البلاغة 12 / 62. (*)
ص 227
وروى القصة عبد القادر البغدادي (1). * وقال عمر لأهل الحبشة: نحن أحق برسول الله
صلى الله عليه وسلم فكذبه النبي صلى الله عليه وسلم... أخرجه الشيخان، وهذا لفظ
مسلم: حيث قال: حدثنا عبد الله بن براد الأشعري ومحمد بن العلاء الهمداني قالا:
نا أبو أسامة ثنى بريد عن أبي بردة عن أبي موسى قال: بلغنا مخرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وإخوان لي أنا أصغرهما أحدهما أبو
بردة والآخر أبورهم. إما قال: بعضا وإما قال ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلا من
قومي، قال: فركبنا في سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن
أبي طالب وأصحابه عنده، فقال جعفر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا ههنا
وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا، قال، فوافقنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا - أو قال: أعطانا منها - وما قسم لأحد
غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم
لهم معهم. قال: فكان ناس من الناس يقول لنا - يعني لأهل السفينة - نحن سبقناكم
بالهجرة، قال فدخلت أسماء بنت عميس وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي صلى الله
عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه، فدخلا عمر على حفصة -
وأسماء عندها - فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر:
الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ فقالت أسماء: نعم، فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق
برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم. فغضبت وقالت كلمة: كذبت يا عمر، كلا والله
كنتم مع رسول الله
(هامش)
(1) خزانة الأدب 2 / 351 - 352. (*)
ص 228
صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار - أو في أرض - البعداء
البغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب
شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر
ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على
ذلك. قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا
وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة
ولكم - أنتم أهل السفينة - هجرتان. قالت فلقد رأيت أبو موسى وأصحاب السفينة يأتونني
إرسالا يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح وأعظم في أنفسهم مما
قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو بردة: فقالت أسماء: فلقد رأيت أبا
موسى وإنه ليستعد هذا الحديث مني (1). أقول: ولقد قال ذلك لأسماء جماعة من
الأصحاب تبعا لعمر بن الخطاب فكذبهم النبي صلى الله عليه وآله كذلك، فقد روى
المتقي: عن الشعبي، قال: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل جعفر بن أبي
طالب، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأته أسماء بنت عميس حتى فاضت عبرتها،
فذهب بعض حزنها، ثم أتاها فعزاها ودعا بني جعفر فدعا لهم ودعا لعبد الله بن جعفر أن
يبارك له في صفقة يده، فكان لا يشتري شيئا إلا ربح فيه. فقالت له أسماء: يا رسول
الله إن هؤلاء يزعمون أنا لسنا من المهاجرين، فقال: كذبوا، لكم الهجرة مرتين،
هاجرتم إلى النجاشي وهاجرتم إلي [ش] (2).
(هامش)
(1) صحيح مسلم 2 / 264. (2) كنز العمال 15 / 294. (*)
ص 229
2 - عثمان بن عفان لم يصدق أبو بكر وعمر عثمان فيما زعم روايته من استئذانه رسول
الله صلى الله عليه وآله في رد طريد الرسول الحكم بن أبي العاص إلى المدينة. وقد
ذكر ذلك كبار علماء أهل السنة في كتبهم كالغزالي في (المستصفى 1 / 153) والعبري في
(شرح المنهاج). 3 - أبو موسى الأشعري وكان أبو موسى الأشعري متهما في الحديث لدى
عمر بن الخطاب، كما تقدم في هذا الكتاب. 4 - أبو هريرة لقد كذب عمر بن الخطاب أبا
هريرة واتهمه وأنكر عليه، حتى ضربه بالدرة وهدده بإخراجه من المدينة المنورة... قال
السرخسي: ولما بلغ عمر إن أبا هريرة يروي [بعض] ما لا يعرف قال: لتكفن عن هذا أو
لألحقنك بجبال دوس (1). وقال ابن عبد البر: وعن أبي هريرة أنه قال: لقد حدثتكم
بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربني عمر بالدرة (2). وفي (كنز العمال):
عن السائب بن يزيد قال سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض دوس. وقال لكعب: لتتركن أو لألحقنك
بأرض القردة كر (3). ورواه ابن كثير وفيه أيضا: وقال صالح بن أبي الأخضر عن
(هامش)
(1) الأصول 1 / 341. (2) جامع بيان العلم 399. (3) كنز العمال 10 / 179. (*)
ص 230
[الزهري عن] أبي سلمة سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى قبض عمر (1). وفي (تذكرة الحفاظ) بترجمة عمر: عن أبي
سلمة عن أبي هريرة قلت له: [أ] كنت تحدث في زمان عمر هكذا؟ فقال: لو كنت أحدث في
زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته (2). وقال ابن قتيبة: وأما ما طعنه
يعني النظام على أبي هريرة بتكذيب عمر وعثمان وعلي وعائشة له فإن أبا هريرة صحب
رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا من ثلاث سنين وأكثر الرواية عنه، وعمر بعده نحوا
من خمسين سنة وكانت وفاته سنة تسع وخمسين - وفيها توفيت أم سلمة زوج النبي صلى الله
عليه وسلم وتوفيت عائشة رضي الله عنها قبلها بسنة - فلما أتى من الرواية عنه ما لم
يأت بمثله من صحبه من جلة أصحابه والسابقين الأولين إليه اتهموه وأنكروا عليه
وقالوا: كيف سمعت هذا وحدك؟ ومن سمعه معك؟ وكانت عائشة رضي الله عنها أشدهم إنكارا
عليه، لتطاول الأيام بها وبه، وكان عمر أيضا شديدا على من أكثر الرواية أو أتى بخبر
في الحكم لا شاهد له عليه، وكان يأمرهم بأن يقلوا الرواية، يريد بذلك أن لا يتسع
الناس فيها ويدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي (3).
وفي (شرح نهج البلاغة) عن الاسكافي: وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي
الرواية، ضربه عمر بالدرة وقال [له]: قد أكثرت الرواية وأحر بك أن تكون كاذبا على
رسول الله صلى الله عليه وآله (4). * وكان عثمان أيضا يكذب أبا هريرة، وكذا سيدنا
أمير المؤمنين
(هامش)
(1) البداية والنهاية 8 / 106 - 107. (2) تذكرة الحفاظ 1 / 7. (3) تأويل مختلف
الحديث 38. (4) شرح نهج البلاغة 4 / 67. (*)
ص 231
عليه السلام كما مضى في عبارة ابن قتيبة، وفي (شرح المنهج) عن أبي جعفر الاسكافي:
وقد روي عن علي عليه السلام أنه قال: ألا إن أكذب الناس - أو أكذب الأحياء - على
رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو هريرة الدوسي (1). * وكان عائشة المجتهدة!!
أشد الناس إنكارا على أبي هريرة، كما نص عليه ابن قتيبة في عبارته الماضية، وقد
أوردنا طرفا من قضاياها معه في القسم الأول من مجلد (حديث الغدير). * وقد كذبه
الزبير بن العوام - وهو أحد العشرة المبشرة كما يقولون - فقد ذكر ابن كثير: قال
ابن [أبي] خيثمة ثنا هارون بن معروف ثنا محمد بن [أبي] سلمة ثنا محمد بن إسحاق عن
عمر - أو عثمان - ابن عروة عن أبيه - يعني عروة بن الزبير بن العوام - قال: قال لي
أبي الزبير: أدنني من هذا [اليماني] - يعني أبا هريرة - فإنه يكثر الحديث عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: فأدنيته منه، فجعل أبو هريرة يحدث وجعل الزبير يقول
صدق كذب صدق كذب. قال قلت: يا أبت ما قولك صدق كذب؟ قال: يا بني إما أن يكون سمع
هذه الأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أشك، ولكن منها ما وضعه [يضعه]
على مواضعه ومنها ما وضعه على غير مواضعه (2). من كلمات التابيعن وكبار العلماء
في أبي هريرة إبراهيم بن يزيد التيمي قال أبو جعفر الاسكافي على ما نقل عنه ابن أبي
الحديد: وروى سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم التيمي قال: كانوا لا يأخذون عن
أبي هريرة إلا ما كان من ذكر جنة أو نار. وروى أبو أسامة عن الأعمش قال: كان
إبراهيم صحيح الحديث
(هامش)
(1) شرح نهج البلاغة 4 / 68. (2) تاريخ ابن كثير 8 / 108. (*)
ص 232
فكنت إذا سمعت [من أحد] الحديث أتيته فعرضته عليه، فأتيته يوما بأحاديث من أحاديث
[حديث] أبي صالح عن أبي هريرة فقال: دعني من أبي هريرة، أنهم كانوا ينكرون [يتركون]
كثيرا من أحاديثه [حديثه] (1). إبراهيم بن يزيد النخعي قال ابن كثير: وقال شريك
عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة، وروى الأعمش عن
إبراهيم قال: ما كانوا يأخذون من كل [بكل] حديث أبي هريرة. [و] قال الثوري عن منصور
عن إبراهيم قال: كانوا يرون في أحاديث أبي هريرة أشياء [شيئا]، وما كانوا يأخذون من
حديثه [بكل حديث أبي هريرة] إلا ما كان من صفة جنة أو نار، أو حث على عمل صالح أو
نهى عن شيء [شر] جاء القرآن به (2). بسر بن سعيد قال ابن كثير: وقال مسلم بن
الحجاج ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ثنا مروان الدمشقي عن الليث بن سعد
حدثني بكير بن الأشج قال قال بسر بن سعيد: اتقوا الله وتحفظوا [من] الحديث فوالله
لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث حديث [عن] رسول الله صلى الله عليه وسلم [ويحدثنا
عن كعب الأحبار ثم يقوم فأسمع بعض ما كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم وفي رواية: يجعل ما قاله كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قال [قاله]
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب، فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث (3).
(هامش)
(1) شرح نهج البلاغة 4 / 68. (2) تاريخ ابن كثير 8 / 109. (3) تاريخ ابن كثير 8 /
109. (*)
ص 233
شعبة بن الحجاج قال ابن كثير: وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: كان أبو هريرة
يدلس، أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يبين
[يميز] هذا من هذا. ذكره ابن عساكر. وكان شعبة بهذا يشير إلى حديثه: من أصبح جنبا،
فلا صيام له، فإنه لما حوقق [عليه] قال أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله صلى
الله عليه وسلم (1). أبو حنيفة قال الاسكافي على ما جاء في (شرح النهج): وروى
أبو يوسف قال قلت لأبي حنيفة يجئ الخبر [الخبر يجئ] عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم يخالف قياسنا ما نصنع به؟ قال: إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا
الرأي [ف] قلت: ما تقول في رواية أبي بكر وعمر؟ فقال: ناهيك به [بهما]، فقلت: علي
وعثمان؟ فقال: كذلك، فلما رآني أعد الصحابة قال: الصحابة كلهم عدول ما عدا رجالا،
ثم عد منهم أبا هريرة وأنس بن مالك (2). أقول: ولعمري أن أبا حنيفة النعمان وإن
سلك في تعديل قاطبة الأصحاب مسلك المجازفة والعدوان إلا أنه أحسن غاية الاحسان في
استثناء أبي هريرة وغيره من أولي البغي والطغيان. وقال أبو حنيفة - كما ذكر الكفوي
نقلا عن الصدر الشهيد -: أقلد جميع الصحابة ولا أستجيز خلافهم برأي إلا ثلاثة
نفر: أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة بن جندب، فقيل له في ذلك فقال أما أنس فقد بلغني
أنه
(هامش)
(1) تاريخ ابن كثير 8 / 109. (2) شرح نهج البلاغة 4 / 68. (*)
ص 234
اختلط عقله في آخر عمره، وكان يستفتي من علقمة، وأنا لا أقلد علقمة فكيف أقلد من
يستفتي من علقمة؟ وأما أبو هريرة فكان يروي كلما بلغه وسمع من غير تأمل في المعنى
(1). محمد بن الحسن الشيباني قال ابن حزم في مسألة أحقية البائع بالمتاع إذا أفلس
التي خالف فيها الحنفية -: روينا من طريق أبي عبيد أنه ناظر في هذه المسألة محمد
بن الحسن، فلم يجد عنده أكثر من أن قال: هذا حديث أبي هريرة. قال أبو محمد: نعم
والله من حديث أبي هريرة البر الصادق، لا من حديث مثل محمد بن الحسن الذي قيل لعبد
الله بن المبارك: من أفقه، أبو يوسف أو محمد بن الحسن؟ فقال: قل أيهما أكذب؟ (2).
عيسى بن أبان البصري الحنفي قال علي بن يحيى الزندويستي: قال عيسى بن أبان أقلد
جميع الصحابة إلا ثلاثة منهم: أبو هريرة ووابصة بن معبد وأبو سنابل بن بعكك (3).
أبو جعفر محمد بن عبد الله الهندواني قال الزندويستي: واختلفوا أن تقليد قول
الصحابة حجة تقبل بغير معرفة المعنى ويعمل به، حتى روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه
أنه سئل فقيل له: إذا قلت قولا وكتاب الله يخالف قولك؟ قال أترك قولي بكتاب الله،
فقيل له: إذا كان قول الصحابي يخالف قولك؟ قال: أترك قولي بقول
(هامش)
(1) كتائب أعلام الأخيار من علماء مذهب النعمان المختار - مخطوط. (2) المحلى لابن
حزم. (3) روضة العلماء. (*)
ص 235
الصحابي، فقيل له: إذا كان قول التابعي يخالف قولك؟ قال: لا يترك قولي بقوله، قال:
إذا كان التابعي رجلا فأنا رجل، ثم قال: أترك قولي بجميع قول الصحابة إلا ثلاثة
منهم: أبو هريرة وأنس بن مالك وسمرة بن جندب رضي الله عنهم. قال الفقيه أبو جعفر
الهندواني رحمه الله: إنما لم يترك قوله بقول هؤلاء الثلاثة لأنهم مطعونون، أما أبو
هريرة فإنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من أصبح جنبا فلا صوم له،
قالت عائشة رضي الله عنها: أخطأ أبو هريرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح
جنبا من غير احتلام ثم يتم صومه وذلك في رمضان، قال أبو هريرة: هي أعلم، كنت سمعته
من الفضل ابن العباس، والفضل كان يومئذ ميتا، فقد أحال خبره إلى ميت، فصار
مطعونا... (1). أبو بكر الجصاص قال الجصاص ما نصه: وقد روى أبو هريرة خبرا عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أصبح جنبا فلا يصومن يومه ذلك، إلا أنه لما أخبر
برواية عائشة وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا علم لي بهذا، أخبرني
الفضل بن العباس، وهذا مما يوهن خبره لأنه قال بديا ما أنت قلت - ورب الكعبة - من
أصبح جنبا فقد أفطر، محمد قال ذلك ورب الكعبة، وأفتى السائل عن ذلك بالافطار، فلما
أخذ [أخبر] برواية عائشة وأم سلمة تبرأ من عهدته وقال: لا علم لي بهذا، إنما أخبرني
به الفضل... (2). عمر بن عبد العزيز الصدر الشهيد وقد تقدم ما يفيد طعنه في أبي
هريرة عن كتاب (كتائب أعلام
(هامش)
(1) روضة العلماء. (2) أحكام القرآن 1 / 195. (*)
ص 236
الأخيار). الحنفية وأبو هريرة مطعون لدى فقهاء الحنفية، وذلك مشهور عنهم، قال ابن
حجر العسقلاني في كتاب البيوع: قال الحنابلة: واعتذر الحنفية عن الأخذ بحديث
المصراة بأعذار [شتى]، فمنهم من طعن في الحديث لكونه من رواية أبي هريرة ولم يكن
كابن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة، فلا يؤخذ بما رواه مخالفا للقياس الجلي، وهو
كلام آذى به قائله [قائله به] نفسه، وفي حكايته غنى عن تكلف الرد عليه، وقد ترك أبو
حنيفة القياس الجلي لرواية أبي هريرة وأمثاله كما في الوضوء بنبيذ التمر ومن
القهقهة في الصلاة وغير ذلك. وأظن [أن] لهذه النكتة أورد البخاري حديث ابن مسعود
عقب حديث أبي هريرة، إشارة منه إلى أن ابن مسعود قد أفتى بوفق حديث أبي هريرة،
فلولا أن خبر أبي هريرة في ذلك ثابت لما خالف ابن مسعود القياس الجلي في ذلك. وقال
ابن السمعاني في الاصطلام: التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو
بدعة وضلالة، وقد اختص أبو هريرة بمزيد الحفظ لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
له، يعني المتقدم في كتاب العلم وفي أول البيوع (1). شيوخ المعتزلة وتقدم قول أبي
جعفر الاسكافي: وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا، غير مرضي الرواية، ضربه عمر رضي
الله عنه بالدرة وقال له: قد أكثرت الرواية
(هامش)
(1) فتح الباري 4 / 290. (*)
ص 237
وأخرتك [وأحربك - ظ] أن تكون كاذبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . أبو جعفر
الاسكافي وقد طعن فيه أبو جعفر الاسكافي كما سمعت، وقال أيضا (شرح النهج) إن
معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية قبيحة في علي رضي الله عنه
تقتضي الطعن والبراءة منه، وجعل لهم جعلا يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه، منهم:
أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين: عروة بن الزبير. قال:
وأما أبو هريرة: فروي عنه الحديث الذي معناه أن عليا رضي الله عنه خطب ابنة أبي جهل
في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسخطه، فخطب على المنبر وقال: لاها الله، لا
يجتمع ابنة ولي الله وابنة عدو الله، إن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها، فإن كان
علي يريد ابنة أبي جهل فليفارق ابنتي وليفعل ما يريد، أو كلاما هذا معناه، والحديث
مشهور من رواية الكرابيسي . أقول: بل يتبين عدم اعتماد الصحابة والتابعين على
حديثه من كلام أبي هريرة نفسه، فقد أخرج عنه الحميدي أنه قال: ألا إنكم تحدثون
أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم... (1). وفي (المرقاة): وعنه أي
أبي هريرة قال: إنكم أي معشر التابعين وقيل الخطاب مع الصحابة المتأخرين -
تقولون: أكثر أبو هريرة أي الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والله الموعد
أي: موعدنا، فيظهر عنده صدق الصادق وكذب الكاذب، لأن الأسرار تنكشف هنالك. وقال
الطيبي: أي لقاء الموعد، ويعني به يوم القيامة فهو يحاسبني على ما أزيد وأنقص، لا
سيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال: من كذب
(هامش)
(1) الجمع بين الصحيحين - مخطوط. (*)
ص 238
علي معتمدا فليتبوء مقعده من النار (1). وقال الاسكافي على ما نقل عنه: روى
الأعمش قال: لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة،
فلما كثر [فلما رأى كثرة] من استقبله من الناس جثى على ركبتيه ثم ضرب صلعته مرارا
وقال: يا أهل العراق، أتزعمون أني أكذب على الله وعلى رسوله وأحرق نفسي بالنار
والله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن لكل نبي حرما و[إن] حرمي
المدينة [بالمدينة] ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين، وأشهد [بالله] أن عليا أحدث فيها، فلما بلغ معاوية قوله
أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة. قال ابن أبي الحديد: قلت: [أما قوله] ما بين عير
إلى ثور [فالظاهر أنه] غلط من الراوي لأن ثورا بمكة وهو جبل يقال له ثور أطحل، وفيه
الغار الذي دخله رسول الله [النبي] صلى الله عليه وآله وأبو بكر [رضي الله عنه]...
فأما قول أبي هريرة أن عليا عليه السلام أحدث [في المدينة]، فحاش لله، كان علي عليه
السلام أتقى لله من ذلك، و[والله] لقد نصر عثمان نصرا لو كان المحصور جعفر بن أبي
طالب لم يبذل له إلا مثله (2). وقال العيدروس اليمني: وقال أبو هريرة يوم دفن
الحسن بن علي: قاتل الله مروان قال والله ما كنت لأدع ابن أبي تراب يدفن مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقد دفن عثمان بالبقيع، فقلت: يا مروان اتق الله ولا تقل
لعلي إلا خيرا، فأشهد لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر لأعطين
الراية رجلا يحب الله ورسوله ليس بفرار، وأشهد لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول في الحسن: اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه. قال مروان: إنك والله لقد
أكثرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
(هامش)
(1) المرقاة - شرح المشكاة 5 / 458. (2) شرح نهج البلاغة 4 / 67. (*)
ص 239
الحديث فلا نسمع منك ما تقول، فهلم غيرك يعلم ما تقول، قال قلت: هذا أبو سعيد
الخدري، فقال مروان: لقد ضاع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لا يرويه إلا
أنت وأبو سعيد الخدري، والله ما أبو سعيد الخدري يوم مات رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلا غلام، ولقد جئت أنت من جبال دوس قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
بيسير، فاتق الله يا أبا هريرة. قال قلت: نعما أوصيت به، وسكت عنه (1). 5 - أبي
بن كعب لقد اتهم عمر بن الخطاب أبي بن كعب وأهانه قولا وفعلا، قال السمهودي وقال
ابن سعد أنا يزيد بن هارون أنا أبو أمية بن يعلى عن سالم أبي النضر قال: لما كثر
المسلمون في عهد عمر رضي الله عنه وضاق بهم المسجد فاشترى عمر ما حول المسجد من
الدور إلا دار العباس بن عبد المطلب وحجر أمهات المؤمنين، فقال عمر للعباس يا أبا
الفضل إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم وقد ابتعت ما حوله من المنازل نوسع به على
المسلمين في مسجدهم إلا دارك وحجر أمهات المؤمنين، فأما حجر أمهات المؤمنين فلا
سبيل إليها، وأما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسع بها في مسجدهم،
فقال العباس: ما كنت لأفعل، قال فقال له عمر: اختر مني إحدى ثلاث. إما أن تبيعنيها
بما شئت من بيت المال، وإما أن أحظك [أخطك] حيث شئت من المدينة وأبنها لك من بيت
مال المسلمين، وإما أن تصدق بها على المسلمين فتوسع في مسجدهم فقال: لا ولا واحدة
منها، فقال عمر: اجعل بيني وبينك من شئت، فقال: أبي بن كعب. فانطلقا إلى أبي فقصا
عليه القصة، فقال أبي: إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقالا: حدثنا، فقال: سمعت
(هامش)
(1) العقد النبوي - مخطوط. (*)
ص 240
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله أوحى إلى داود أن ابن لي بيتا أذكر
فيه، فخط لي [له] هذه الخطة خطة بيت المقدس، فإذا تربيعها بزاوية بيت رجل من بني
إسرائيل، فسأله داود أن يبيعه إياها فأبى، فحدث داود نفسه أن يأخذه منه، فأوحى الله
إليه يا داود أمرتك أن تبني لي بيتا أذكر فيه، فأردت أن تدخل في بيتي الغصب؟ وليس
من شأني الغصب، وإن عقوبتك أن لا تبنيه، قال: يا رب فمن ولدي؟ قال: فمن ولدك. فأخذ
[عمر] بمجامع أبي بن كعب فقال: جئتك بشيء فجئت بما هو أشد منه؟ لتخرجن مما قلت،
فجاء يقوده حتى دخل المسجد فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيهم أبو ذر، فقال أبي: نشدت الله رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حديث
بيت المقدس حين أمر الله داود أن يبنيه إلا ذكره، فقال أبو ذر: أنا سمعته من رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وقال آخر: أنا سمعته يعني من رسول الله صلى الله عليه
وسلم. قال فأرسل أبيا، قال فأقبل أبي على عمر فقال: يا عمر أتتهمني على حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: والله يا أبا المنذر ما اتهمتك عليه ولكن أردت
أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرا. قال: وقال عمر للعباس: إذهب
فلا أعرض لك في دارك، فقال العباس أما إذ [ا] قلت ذلك فإني قد تصدقت بها على
المسلمين أوسع عليهم في مسجدهم فأما وأنت تخاصمني فلا، قال: فخط له عمر داره التي
هي اليوم وبناها من بيت مال المسلمين (1). 6 - أنس بن مالك لقد كذب أنس بن مالك
في قضية الطير المشوي، كما هو ظاهر كل الظهور على من راجع مجلد (حديث الطير) من
كتابنا.
(هامش)
(1) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى 1 / 482. (*)
ص 241
كما أنه كتم الشهادة عندما ناشده أمير المؤمنين عليه السلام في جماعة عن حديث
الغدير، فكتم الشهادة، معتذرا بالنسيان كاذبا، فدعا عليه الإمام عليه السلام وسرعان
ما ظهر عليه أثر دعوته. وفي كتاب (الأربعين) لأسعد بن إبراهيم الأربلي عن شيخه ابن
دحية الكلبي، عن سالم بن أبي الجعد قال: حضرت مجلس أنس بن مالك - وهو مكفوف البصر
وفيه وضح - فقام إليه رجل من القوم - وكأنه كان بينه وبين أنس أحنة - وقال له: يا
صاحب رسول الله، ما هذه السمة التي أراها بك؟ فوالذي بعث محمدا نبيا لقد حدثني أبي
عن النبي أن الله قد بين أن البرص والجذام ما يبتلى به مؤمنا ونرى بك وضحا، فأطرق
أنس به مالك إلى الأرض وعيناه تذرفان بالدمع وقال: أما الوضح فإنها من دعوة دعاها
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقام إليه جماعة فسألوه أن يحدثهم
بالحديث قال: لما أنزلت سورة الكهف سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم
أصحاب الكهف فوعدهم ذلك، فبينما هو جالس في بعض الأيام وقد أهدي له بساط من قرية
يقال لها هندف من قرى الشام وحضرت الصحابة وذكروه بوعدهم فقال: احضروا عليا، فلما
حضر قال لي: يا أنس أبسط البساط وأمر أصحابه أن يجلسوا عليه. فلما جلسوا رفع يديه
إلى السماء ساعة وسأل الله تعالى وأمر عليا أن يكنف القوم ويسأل الله معه كما يسأل
أن يبعث له ملائكة أربعة يحملون البساط وعليه الصحابة لأن ينظروا أهل الكهف، فما
كان إلا ساعة وارتفع البساط قال أنس: وأنا معهم وسرنا في الهواء إلى الظهر فوقف
البساط ثم وقعنا على الأرض، فشاهدنا أهل الكهف. وكان علي يأمر البساط أن يمضي كما
يريد، فكأنه كان يعرف الكهف وقال انزلوا نصلي، فنزلنا وأم بنا وصلينا وتقدمنا إليهم
فرأينا قوما نياما تضئ وجوههم كالقناديل وعليهم ثياب بيض وكلبهم باسط ذراعيه
بالوصيد فملئنا منهم رعبا فتقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: السلام
ص 242
عليكم، فردوا عليه السلام فتقدمت الجماعة فسلموا فلم يردوا عليهم السلام، فقال لهم
علي: لم لم تردوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أحدهم: سل ابن عمك
ونبيك ثم قال علي للجماعة: خذوا مجالسكم، فلما أخذوا قال علي رضي الله عنه: يا
ملائكة الله ارفعوا البساط، فرفع فسرنا في الهواء ما شاء الله، ثم قال: ضعونا لنصلي
الظهر، فإذا بأرض ليس بها ماء يشرب ولا يتوضأ، فركض برجله الأرض فنبع ماء عذب،
فتوضأنا وصلينا وشربنا فقال: ستدركون صلاة العصر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وسار بنا إلى العصر فإذا نحن على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآنا
هنأنا بالسلم وأقبل يحدثنا كأنه كان معنا وقال: يا علي لما سلمت عليهم ردوا السلام
وسلم أصحابي فلم يردوا، فسألتهم عن ذلك قالوا: سل ابن عمك ونبيك ثم قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لا يردون السلام إلا على نبي أو وصي نبي، ثم قال: إشهد لعلي يا
أنس. فلما كان يوم السقيفة استشهدني علي وقال: يا أنس اشهد لي بيوم البساط قلت له:
إني نسيت، قال: فإن كنت كتمتها بعد وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرماك الله
ببياض في عينك ووجهك ولظى في جوفك وأعمى بصرك فبصرت وعميت. وكان أنس لا يطيق الصيام
في شهر رمضان ولا في غيره من حرارة بطنه، ومات بالبصرة، وكان يطعم كل يوم مسكينا .
وفي (شرح نهج البلاغة): وذكر جماعة من شيوخنا البغداديين أن عدة من الصحابة
والتابعين والمحدثين كانوا منحرفين عن علي عليه السلام قائلين فيه السوء، ومنهم من
كتم مناقبه وأعان أعداءه ميلا مع الدنيا وإيثارا للعاجلة، فمنهم أنس بن مالك، ناشد
علي عليه السلام الناس في رحبة القصر - أو قال: رحبة الجامع - بالكوفة من [أيكم]
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كنت مولاه [فعلي مولاه]؟ فقام اثنا عشر
رجلا فشهدوا بها وأنس بن مالك في القوم لم يقم فقال له: يا أنس ما يمنعك أن تقوم
فتشهد
ص 243
فلقد حضرتها؟! فقال: يا أمير المؤمنين كبرت ونسيت، فقال: اللهم إن كان كاذبا فارمه
بها بيضاء لا تواريها العمامة. قال طلحة بن عمير: فوالله لقد رأيت الوضح به بعد ذلك
أبيض بين عينيه. وروى عثمان بن مطرف: إن رجلا سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن علي
بن أبي طالب فقال: [إني] آليت أن لا أكتم حديثا سئلت عنه في علي بعد يوم الرحبة،
ذلك [ذاك] رأس المتقين يوم القيامة، سمعته والله من نبيكم (1). ولقد علم فيما
تقدم طعن أبي حنيفة في جماعة من الصحابة منهم أنس ابن مالك. 7 - زيد بن أرقم وزيد
بن أرقم أيضا ممن كتم الشهادة بحديث الغدير، قال ابن المغازلي أخبرنا أبو الحسن
علي بن عمر بن عبد الله بن شوذب قال حدثني [أبي قال حدثنا محمد بن الحسين الزعفراني
حدثني] أحمد بن يحيى بن عبد الحميد حدثني [أبو] إسرائيل الملائي عن الحكم بن [عن]
أبي سليمان المؤذن عن زيد بن أرقم قال: نشد علي الناس في المسجد [قال]: انشد [الله]
رجلا سمع النبي صلى الله عليه وآله يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من
والاه وعاد من عاداه، فكنت [وكنت] أنا فيمن كتم، فذهب بصري (2). ورواه الحلبي في
(السيرة 3 / 337). والجامي في (شواهد النبوة) في كرامات الإمام عليه السلام.
(هامش)
(1) شرح النهج 4 / 74. (2) مناقب أمير المؤمنين: 23. (*)
ص 244
8 - البراء بن عازب وهو أيضا ممن كتم الشهادة بذلك، قال المحدث الشيرازي في حديث
الغدير: ورواه زر بن حبيش فقال: خرج علي من القصر فاستقبله ركبان متقلدي السيوف
عليهم العمائم حديثي عهد بسفر، فقالوا: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله
وبركاته، السلام عليك يا مولانا. فقال علي بعد ما رد السلام: من ههنا من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقام اثنا عشر رجلا منهم خالد بن زيد أبو أيوب الأنصاري
وخزيمة ابن ثابت ذو الشهادتين وثابت بن قيس بن شماس وعمار بن ياسر وأبو الهيثم ابن
التيهان وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص وحبيب بن بديل بن ورقاء، فشهدوا أنهم سمعوا رسول
الله يوم غدير خم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه... الحديث. فقال علي لأنس بن مالك
والبراء بن عازب: ما منعكما أن تقوما فتشهدا، فقد سمعتما كما سمع القوم؟ فقال:
اللهم إن كانا كتماها معاندة فابلهما، فأما البراء فعمي، فكان يسأل عن منزله فيقول
كيف يرشد من أدركته الدعوة، وأما أنس فقد برصت قدماه... (1). وسيأتي هذا عن
البلاذري أيضا. 9 - جرير بن عبد الله وهو أيضا ممن كتمها، قال البلاذري: قال علي
على المنبر: أنشد الله رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول يوم غدير خم:
اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، إلا قام فشهد، وتحت المنبر أنس بن مالك والبراء
بن عازب وجرير بن عبد الله [البجلي]، فأعادها فلم يجبه أحد، فقال: اللهم من كتم هذه
الشهادة - وهو يعرفها - فلا نخرجه من الدنيا حتى تجعل به آية
(هامش)
(1) الأربعين للمحدث الشيرازي - مخطوط. (*)
ص 245
يعرف بها قال: فبرص أنس وعمي البراء ورجع جرير أعرابيا بعد هجرته، فأتى السراة فمات
في بيت أمه [بالسراة] (1). 10 - سمرة بن جندب وقد باع سمرة بن جندب دينه بدنياه
وآثر العاجلة على الآخرة، إذ ارتكب الكذب الصريح وأتى بالبهتان العظيم، قال ابن أبي
الحديد قال أبو جعفر: وقد روي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى
يروي أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب * [ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة
الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد
فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد] * وإن الآية الثانية [ا] نزلت في ابن
ملجم وهي [قوله تعالى] * [ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله] * فلم يقبل.
فبذل له مائتي ألف [درهم] فلم يقبل. فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل. فبذل له
أربعمائة ألف فقبل وروى ذلك (2). وفي (شرح النهج) أيضا: وروى شريك قال أخبرنا
عبيد [عبد] الله ابن معد [سعد] عن حجر بن عدي قال: قدمت المدينة فجلست إلى أبي
هريرة فقال ممن أنت؟ قلت: من أهل البصرة، قال: فما فعل سمرة بن جندب؟ قلت: هو حي،
قال: ما [أحد] أحب إلى طول حياة منه، قلت ولم ذاك؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال لي وله ولحذيفة بن اليمان: آخركم موتا في النار فسبقنا حذيفة، وإني الآن
أتمنى أن أسبقه، قال فبقي سمرة بن جندب حتى شهد مقتل الحسين [بن علي].
(هامش)
(1) أنساب الأشراف 2 / 156 (2) شرح النهج 4 / 73. (*)
ص 246
وروى أحمد بن بشير عن مسعر بن كدام قال: كان سمرة [ابن جندب] أيام مسير الحسين عليه
السلام إلى الكوفة على شرطة عبيد الله بن زياد، وكان يحرض الناس على الخروج إلى
الحسين عليه السلام وقتاله (1). ولقد علم فيما تقدم طعن أبي حنيفة في سمرة بن
جندب. 11 - المغيرة بن شعبة لقد اتهم أبو بكر المغيرة بن شعبة إذ رد خبره في ميراث
الجدة حتى أخبره معه محمد بن مسلمة، ذكر ذلك جماعة منهم الغزالي في (المستصفى 1 /
153). وتقدم عن أبي جعفر الاسكافي: إن المغيرة كان يضع الأحاديث القبيحة في أمير
المؤمنين عليه السلام بترغيب من معاوية بن أبي سفيان. واتهمه عمر بن الخطاب إذ رد
خبره في دية الاملاص فقد جاء في [تذكرة الحفاظ]: وروى هشام عن أبيه المغيرة بن
شعبة: إن عمر استشارهم في إملاص المرأة - يعني السقط - فقال له المغيرة: قضى فيه
رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة، فقال له عمر: إن كنت صادقا فآت أحدا يعلم ذلك.
قال: فشهد محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به (2). 12 - عمرو
بن العاص وكان عمرو بن العاص من الصحابة الذين حرضهم معاوية بن أبي سفيان على وضع
الأحاديث القبيحة في مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، كما مر فيما سبق في عبارة
الاسكافي.
(هامش)
(1) شرح النهج 4 / 87. (2) تذكرة الحفاظ - ترجمة عمر بن الخطاب. (*)
ص 247
وكان قد تعود الكذب، حتى أنه كذب في خطبة له على رؤوس الاشهاد، الأمر الذي اضطر
بعضهم إلى تكذيبه علانية فيما رواه البخاري في (التاريخ الصغير) وأحمد في (المسند)
والطبري في (التاريخ). قال الطبري: لما اشتغل الوجع قام أبو عبيدة في الناس خطيبا
فقال: أيها الناس إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وموت
الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له منه حظه، فطعن فمات. واستخلف
على الناس معاذ بن جبل قال: فقام خطيبا بعده فقال: أما أيها الناس إن هذا الوجع
رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذا يسأل الله أن يقسم لأن معاذ
منه حظهم، فطعن ابنه عبد الرحمن بن معاذ فمات، ثم قام فدعا به لنفسه فطعن في راحته،
فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقبل ظهر كفه ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئا من
الدنيا. فلما مات استخلف [على] الناس عمرو بن العاص، فقام خطيبا في الناس فقال:
أيها الناس إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار فتجبلوا منه في الجبال.
فقال أبو واثلة الهذلي: كذبت والله لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت شر
من حماري هذا، قال: والله ما أرد عليك ما تقول وأيم الله لا نقيم عليه (1). 13 -
معاوية بن أبي سفيان ولقد كان معاوية بن أبي سفيان يحمل أصحابه الذين باعوه دينهم
بدنياه على الكذب والافتراء ووضع الأحاديث، وقد كتب نسخة إلى عماله بعد ما يسمى ب
عام الجماعة يأمرهم بقتل شيعة أمير المؤمنين عليه السلام
(هامش)
(1) تاريخ الطبري 3 / 162 - 163. (*)
ص 248
ورواة فضائله، وبلعنه على المنابر ووضع الأحاديث في ذمه والثناء على مناوئيه... ذكر
ذلك كافة المؤرخين. على أن معاوية نفسه كان يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله،
فقد أخرج أحمد وأبو داود بإسنادهما عن أبي شيخ الهنائي - واللفظ للأول: إن معاوية
قال لنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أتعلمون أن رسول الله نهى عن لباس
الذهب إلا مقطعا؟ قالوا: اللهم نعم، قال: وتعلمون أنه نهى عن جلود النمور أن يركب
عليها؟ قالوا: اللهم نعم، قال وتعلمون أنه نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة؟
قالوا: اللهم نعم، قال: وتعلمون أنه نهى عن المتعة - يعني متعة الحج -؟ قالوا:
اللهم لا (1). وكذب معاوية على قيس بن سعد، روى ذلك المؤرخون كالطبري وابن الأثير
وابن تغرى بردى، قال ابن الأثير: فلما قرأ قيس كتابه ورأى أنه لا يفيد معه
المدافعة والمماطلة أظهر له مات في نفسه، فكتب إليه: أما بعد فالعجب من اغترارك بي
وطمعك في واستسقاطك إياي، أتسومني الخروج عن طاعة أولى الناس بالإمارة، وأقولهم
بالحق، وأهداهم سبيلا، وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلة، وتأمرني
بالدخول في طاعتك طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم بالزور، وأضلهم سبيلا،
وأبعدهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلة، ولد ضالين مضلين، طاغوت من طواغيت
إبليس؟! وأما قولك إني مالئ عليك مصر خيلا ورجالا فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى
تكون أهم إليك إنك لذو جد. والسلام. فلما رأى معاوية كتابه أيس منه وثقل عليه مكانه
ولم تنجع حيلة فيه، فكاده من قبل علي فقال لأهل الشام: لا تسبوا قيس بن سعد ولا
تدعوا إلى غزوة فإنه لنا شيعة، قد تأتينا كتبه ونصيحته سرا، ألا ترون ما يفعل
(هامش)
(1) المسند 4 / 95. (*)
ص 249
بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا؟ يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ويحسن إليهم.
وافتعل كتابا عن قيس إليه بالطلب بدم عثمان والدخول معه في ذلك وقرأ على أهل الشام.
فبلغ ذلك عليا - أبلغه ذلك محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر بن أبي طالب وأعلمته
عيونه بالشام - فأعظمه وأكبره، فدعا ابنيه وعبد الله بن جعفر فأعلمهم ذلك، فقال ابن
جعفر: يا أمير المؤمنين دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، اعزل قيسا عن مصر. فقال علي:
إني والله ما أصدق بهذا عنه (1). * ولقد كذب على جماعة فيهم سيدنا الإمام الحسين
السبط عليه السلام وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر
وعائشة، في قضية إقامة يزيد ابنه مقامه وأخذ البيعة له، إذ وكل بكل رجل منهم رجلين
- بعد أن سبهم وهددهم بالقتل - وقام خطيبا فقال: إن عبد الله بن عمر وابن الزبير
والحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر بايعوا له... . فكذبوه قائلين لا والله
ما بايعنا ولكن فعل بنا معاوية ما فعل (2). * ولقد ذمه وطعن فيه جماعة من أصحاب
علي عليه السلام في وجهه، روى المسعودي بإسناده قال: حبس معاوية صعصعة بن صوحان
العبدي وعبد الله ابن الكواء اليشكري ورجالا من أصحاب علي عليه السلام مع رجال من
قريش فدخل عليهم معاوية يوما فقال: نشدتكم بالله إلا [ما] قلتم حقا وصدقا، أي
الخلفاء رأيتموني؟ فقال ابن الكواء: لولا أنك عزمت علينا ما قلنا، لأنك جبار عنيد،
لا تراقب الله في قتل الأخيار، ولكنا نقول: إنك ما علمنا واسع الدنيا، ضيق الآخرة
قريب الثرى، بعيد المرعى، تجعل الظلمات نورا والنور
(هامش)
(1) الكامل 3 / 138. (2) تاريخ الإسلام للذهبي 1 / 36، تاريخ الخلفاء للسيوطي 197
وغيرهما. (*)
ص 250
ظلمات. فقال معاوية إن الله أكرم هذا الأمر بأهل الشام الذابين عن بيضته التاركين
لمحارمه، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم الله المحلين ما حرم الله
والمحرمين ما أحل الله، فقال عبد الله بن الكوا: يا ابن أبي سفيان، إن لكل كلام
جوابا، ونحن نخاف جبروتك، فإن كنت تطلق ألسنتنا ذببنا عن أهل العراق بألسنة حداد لا
يأخذها في الله لومة لائم، وإلا فإنا صابرون حتى يحكم الله ويضعنا على فرجه، قال:
والله لا يطلق لك لسان. ثم تكلم صعصعة فقال: تكلمت يا ابن أبي سفيان فأبلغت، ولم
تقصر عما أردت، وليس الأمر على ما ذكرت، أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهرا ودانهم
كبرا واستولى بأسلوب الباطل كذبا ومكرا، أما والله مالك في يوم بدر مضرب ولا مرمى،
وما كنت فيه إلا كما قال القائل: لا حلي ولا سيرى ولقد كنت أنت وأبوك في العير
والنفير ممن أجلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أنت طليق ابن طليق،
أطلقكما رسول الله صلى الله عليه وآله، فأنى تصلح الخلافة لطليق؟ فقال معاوية: لولا
أني أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول: قابلت جهلهم حلما ومغفرة * والعفو عن قدرة ضرب
من الكرم لقتلكم (1). * ولقد وصفه سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام - وهو الصديق
الأكبر - ب الكذاب بصراحة، فقد جاء في (ينابيع المودة) ما نصه: وفي المناقب
عن الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن
آبائه أن أمير المؤمنين عليه السلام كتب إلى أهل مصر لما بعث محمد بن أبي بكر إليهم
كتابا فقال فيه: وإياكم دعوة ابن هند الكذاب، واعلموا أنه لا سواء إمام الهدى
وإمام الهوى ووصي النبي وعدو النبي (2).
(هامش)
(1) مروج الذهب 3 / 40 - 41. (2) ينابيع المودة 80. (*)
ص 251
ومن العجائب تكذيب معاوية بعض الأصحاب في خبر رواه عن رسول الله صلى الله عليه
وآله، فقد أخرج مسلم والنسائي والطحاوي وابن الأثير وغيرهم عن عبادة بن الصامت أنه
قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة
بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء
عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى، فرد الناس ما أخذوا. فبلغ ذلك معاوية فقام
خطيبا فقال: [ألا] ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث؟ قد
كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه، فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة، ثم قال:
لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية - أو قال وإن رغم
- ما أبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء (1). * وأخرج أحمد في مسند معاوية
والبخاري في كتاب الأحكام و كتاب المناقب عن الزهري قال: كان محمد بن جبير
بن مطعم يحدث أنه بلغ معاوية - وهو عنده في وفد من قريش - أن عبد الله بن عمرو بن
العاص يحدث أنه سيكون ملك من قحطان - فغضب معاوية فقام فأثنى على الله عز وجل بما
هو أهله ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله
ولا تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولئك جهالكم، فإياكم والأماني التي تضل
أهلها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن هذا في قريش لا ينازعهم
أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين . 14 - الذين جاؤا بالإفك قال الله
تعالى: * [إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم، لكل
امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي
(هامش)
(1) صحيح مسلم 1 / 465. (*)