نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء السادس

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء السادس

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

 

بسم الله الرحمن الرحيم

ص 5

إهداء

إلى حامل لواء الإمامة الكبرى والخلافة العظمى ولي العصر المهدي المنتظر الحجة بن الحسن العسكري أرواحنا فداه يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين علي

ص 7

حديث الغدير

 ومن ألفاظه: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: من كنت مولاه فعلي مولاه. أللهم وال من والاه وعاد من عاداه أخرجه أحمد

ص 9

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله المعصومين، لا سيما الإمام الثاني عشر الحجة المهدي المنتظر، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين. وبعد، فهذا هو الحديث الرابع من أحاديث كتابنا نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار وهو (حديث الغدير)، وقد أنجزنا قبله حديث الثقلين وحديث السفينة، وحديث النور.

بين حديث النور وحديث الغدير

 وإن كل واحد من هذه الأحاديث وغيرها، من أحاديث مناقب أمير المؤمنين والأئمة من أهل البيت عليهم السلام، ليدل على خلافة أمير المؤمنين وإمامته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله بلا فصل، إلا أن لكل واحد منها خصوصية ليست في الآخر. وفي مجال البحث حول الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله في

ص 10

شأن الإمام عليه السلام وخلافته من بعده (وإلا فالأدلة على ذلك من الكتاب والاجماع والعقل وغير ذلك كثيرة لا تحصى) نرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يواجه فرصة أو مناسبة إلا وقد انتهزها للتعبير عن تلك الحقيقة الراهنة بأحسن تعبير، فتارة يكني، وأخرى يشبه، وثالثة يصرح... وهكذا. والسر في ذلك واضح، لأن نبينا صلى الله عليه وآله ما كان بدعا من الرسل الذين كانوا من قبله، فلقد كان لكل نبي من الأنبياء السابقين وصي أو أوصياء، يعرفونهم لأممهم بأمر من الله ونصب من قبله، إقامة لدينه، وحجة على عباده، لئلا يزول الحق عن مقره، ويغلب الباطل على أهله، ولئلا يقول أحد لولا أرسلت إلينا رسولا منذرا، وأقمت لنا علما هاديا، فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى. فكيف لا يكون له صلى الله عليه وآله وصي وأوصياء كذلك وهو خاتم الأنبياء؟ وشريعته خاتمة الشرائع؟ نعم، قد اختار الله سبحانه عليا والأئمة من بعده عليهم الصلاة والسلام خلفاء بعد النبي صلى الله عليه وآله في أرضه، وحججا على بريته، وحفظة لدينه، وأدلاء على صراطه... بل يدل حديث النور بألفاظه المختلفة - ومثله حديث الشجرة - على أن رسول الله وعليا صلى الله عليهما وآلهما مخلوقان من أصل واحد، وأن الله تعالى قد اختار عليا للإمامة منذ اختياره محمدا للنبوة... ثم جاءت الأحاديث في حق علي على لسان النبي ليعلن إلى الناس عن ذلك الأمر الواقع الذي شاءه الله عز وجل... ومن تلك الأحاديث... حديث الغدير ... الذي دل بكل وضوح على ثبوت كل ما ثبت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لسيدنا أمير المؤمنين عليه السلام إلا النبوة، لأنه خاتم النبيين.

ص 11

بين يوم الدار ويوم الغدير

 وإن لدينا من الأدلة والشواهد ما يؤكد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد أمر بطرح موضوع الخلافة، وتعريف من نصبه الله تعالى لها، جنبا إلى جنب دعوة الناس إلى الإيمان بوحدانية الله وبرسالته... ومن ذلك حديث يوم الدار ، حيث أمر بإنذار عشيرته في أوائل البعثة، بقوله عز وجل: *(وأنذر عشيرتك الأقربين)* فقد أسفرت تلك الدعوة... والانذار... والمحاورات... عن ثلاثة أمور: 1 - توحيد الله. 2 - نبوة محمد. 3 - خلافة علي. حتى كأن الغرض من ذلك هو الأمور الثلاثة معا. وهكذا الأحاديث والنصوص الأخرى الصادرة منه صلى الله عليه وآله وسلم، مع تقادم الأيام بالألفاظ المختلفة، بحسب مقتضيات الأحوال، حتى كان يوم غدير خم .

واقعة الغدير

وإن واقعة غدير خم من الحقائق التاريخية الثابتة التي لا تقبل المناقشة والجدل، بل إنها من أهم القضايا الواقعة في تاريخ الإسلام، قضية ذكرها المؤرخون والمحدثون والمفسرون والمتكلمون واللغويون.... وصل النبي صلى الله عليه وآله بعد الفراغ من حجته - التي لم يحج بعدها - إلى موضع بالجحفة بين مكة والمدينة عرف بغدير خم، في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة من السنة العاشرة من الهجرة، وكان معه جموع لا يعلمها إلا الله عز وجل.

ص 12

وكيف يفوت النبي صلى الله عليه وآله هذه الفرصة المتاحة فلا يبلغ فيها الأمر، الذي طالما حرص على تبليغه وتأكيده منذ بعثته حتى اليوم، ولو بأدنى مناسبة كما أشرنا؟ لقد كان من الطبيعي أن ينتهز هذه الفرصة أيضا، ليبلغ للناس ويتم الحجة عليهم في أمر الخلافة، بل ويأخذ منهم البيعة لعلي عليه السلام ولا سيما: 1 - وأن النبي قد أوشك أن يدعى فيجيب. 2 - وأنه يعلم أن هذه الجموع التي معه لن تجتمع عنده بعد اليوم. 3 - وأن هذا الموضع تتشعب فيه طرق المدنيين والمصريين والعراقيين. هنا وقف رسول الله صلى الله عليه وآله حتى لحقه من بعده، وأمر برد من تقدم من القوم إلى ذلك المكان، ونودي بالصلاة، فصلى بالناس صلاة الظهر، ثم قام فيهم خطيبا يراه القوم كلهم ويسمعون صوته، فذكرهم بما دعاهم إليه في اليوم الأول من بعثته: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته حق وناره حق... . ثم سألهم: من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم ثم قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه... . ولقد نزلت في هذه الواقعة آيات من القرآن، فنزل قبل الخطبة قوله تعالى: *(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك...)* ونزل بعد فراغه صلى الله عليه وآله وسلم منها قوله تعالى: *(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي...)*. وكذلك الأمر في كثير من الوقائع المتعلقة بمناقب علي وأهل البيت عليهم السلام، فالنبي يأمر عليا بالمبيت على فراشه ليلة الهجرة وينزل أمين وحي الله بقوله: *(ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله...)*. ويأمره تعالى بالمباهلة قائلا: *(فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم

ص 13

فقل تعالوا ندع...)* فيدعو رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فيقول: اللهم هؤلاء أهلي ويخرج بهم إلى المباهلة... وطفق القوم يهنئون أمير المؤمنين عليه السلام بعد خطبة النبي صلى الله عليه وآله، ويبايعونه بالامامة، وقد كان في مقدمهم الشيخان أبو بكر وعمر، كل يقول: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة وقال ابن عباس: وجبت والله في أعناق القوم ، وقال حسان أبياته المشهورة بحضور النبي وبمشهد ومسمع من القوم، ثم كان ذلك اليوم عيدا، وموسما لجميع المسلمين منذ ذلك العهد.

خطبة الغدير

 إن القدر المسلم به، والمتواتر بين عموم المسلمين، هو هذا القسم من كلامه صلى الله عليه وآله، وفيه غنى وكفاية في الدلالة على الإمامة والخلافة. ولكن المستفاد من تتبع ألفاظ حديث الغدير في كتب أهل السنة - ويساعده الاعتبار وشواهد الأحوال - هو أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد خطبهم، ففي مسند أحمد: فخطبنا (1). وفي المستدرك: قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ، فقال ما شاء الله أن يقول (2). وفي مجمع الزوائد: فوالله ما من شيء يكون إلى يوم الساعة إلا قد أخبرنا به يومئذ، ثم قال: أيها الناس... (3).

(هامش)

(1) مسند أحمد بن حنبل 4 / 372. (2) المستدرك على الصحيحين 3 / 109. (3) مجمع الزوائد 9 / 105 وقد وثق رجاله. (*)

ص 14

فأين النص الكامل لتلك الخطبة؟ ولماذا لم يرووا مواعظ الرسول وإرشاداته؟ وإذا كان قد أخبر بكل شيء يكون إلى يوم الساعة، فما الذي حملهم على إخفائه عن الأمة؟ إن الذي منعهم من نقل خطبة النبي كاملة هو نفس ما منعهم من أن يقربوا إليه دواة وقرطاسا، ليكتب للأمة كتابا لن يضلوا بعده! وإن الذي حملهم على كتم خطبة النبي هذه هو ما حملهم على كتم كثير من الحقائق!! لقد كان غرض القوم أن يحرموا الأمة من هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعاليمه وإرشاداته، فضلا عن أن يكونوا دعاة إليها وناشرين لها، ذلك لأنهم لم يكونوا معتقدين بها حقا، إذ لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولأنهم كانوا يعلمون بأنهم إذا بلغوا تعاليم النبي إلى الأمة كما هي، لجرت الأمور في مجاريها، وهذا يعني أن لا يكون لهم أي موقع في المجتمع الإسلامي فضلا عن الرئاسة والحكم. لكن الإمام الباقر محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب عليهم الصلاة والسلام يحدثنا بواقعة غدير خم، وينقل إلينا ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك اليوم، فيقول: حج رسول الله صلى الله عليه وآله من المدينة، وقد بلغ جميع الشرائع قومه غير الحج والولاية، فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال له: يا محمد، إن الله جل اسمه يقرؤك السلام ويقول لك: إني لم أقبض نبيا من أنبيائي ولا رسولا من رسلي إلا بعد إكمال ديني وتأكيد حجتي، وقد بقي عليك من ذاك فريضتان مما تحتاج أن تبلغهما قومك: فريضة الحج، وفريضة الولاية والخلافة من بعدك، فإني لم أخل أرضي من حجة ولن أخليها أبدا، فإن الله جل ثناؤه يأمرك أن تبلغ قومك الحج وتحج، ويحج معك من استطاع إليه سبيلا من أهل الحضر والأطراف والأعراب، وتعلمهم من معالم حجهم مثل ما علمتهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم، وتوقفهم من ذلك على مثال الذي أوقفتهم عليه من جميع ما بلغتهم

ص 15

من الشرائع. فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله في الناس: ألا إن رسول الله يريد الحج، وأن يعلمكم من ذلك مثل الذي علمكم من شرائع دينكم، ويوقفكم من ذاك على ما أوقفكم عليه من غيره. فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخرج معه الناس، وأصغوا إليه لينظروا ما يصنع فيصنعوا مثله، فحج بهم، وبلغ من حج مع رسول الله من أهل المدينة وأهل الأطراف والأعراب سبعين ألف إنسان أو يزيدون، على نحو عدد أصحاب موسى السبعين ألف الذين أخذ عليهم بيعة هارون، فنكثوا واتبعوا العجل والسامري، وكذلك أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله البيعة لعلي بالخلافة على عدد أصحاب موسى، فنكثوا البيعة واتبعوا العجل والسامري سنة بسنة ومثلا بمثل، واتصلت التلبية ما بين مكة والمدينة. فلما وقف بالموقف أتاه جبرئيل عليه السلام عن الله عز وجل فقال: يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك: إنه قد دنى أجلك ومدتك، وأنا مستقدمك على ما لا بد منه ولا عنه محيص، فاعهد عهدك وقدم وصيتك، واعمد إلى ما عندك من العلم وميراث علوم الأنبياء من قبلك والسلاح والتابوت وجميع ما عندك من آيات الأنبياء، فسلمه إلى وصيك وخليفتك من بعدك، حجتي البالغة على خلقي علي بن أبي طالب عليه السلام، فأقمه للناس علما وجدد عهده وميثاقه وبيعته، وذكرهم ما أخذت عليهم من بيعتي وميثاقي الذي واثقتهم وعهدي الذي عهدت إليهم، من ولاية وليي ومولاهم ومولى كل مؤمن ومؤمنة علي بن أبي طالب عليه السلام، فإني لم أقبض نبيا من الأنبياء إلا من بعد إكمال ديني وحجتي، وإتمام نعمتي بولاية أوليائي ومعاداة أعدائي، وذلك كمال توحيدي وديني وإتمام نعمتي على خلقي باتباع وليي وطاعته، وذلك أني لا أترك أرضي بغير وليي ولا قيم، ليكون حجة لي على خلقي. فاليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام

ص 16

دينا، بولاية وليي ومولى كل مؤمن ومؤمنة: علي عبدي ووصي نبيي والخليفة من بعده وحجتي البالغة على خلقي، مقرون طاعته بطاعة محمد نبيي، ومقرون طاعته مع طاعة محمد بطاعتي، ومن أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني، جعلته علما بيني وبين خلقي، من عرفه كان مؤمنا ومن أنكره كان كافرا، ومن أشرك بيعته كان مشركا، ومن لقيني بولايته دخل الجنة، ومن لقيني بعداوته دخل النار. فأقم يا محمد عليا علما وخذ عليهم البيعة، وجدد عهدي وميثاقي لهم الذي واثقتهم عليه، فإني قابضك إلي ومستقدمك علي. فخشي رسول الله صلى الله عليه وآله من قومه وأهل النفاق والشقاق، أن يتفرقوا ويرجعوا إلى الجاهلية، لما عرف من عداوتهم، ولما ينطوي عليه أنفسهم لعلي من العداوة والبغضاء، وسأل جبرئيل أن يسأل ربه العصمة من الناس، وانتظر أن يأتيه جبرئيل بالعصمة من الناس عن الله جل اسمه، فأخر ذلك إلى أن بلغ مسجد الخيف، فأتاه جبرئيل عليه السلام في مسجد الخيف، فأمره بأن يعهد عهده، ويقيم عليا علما للناس يهتدون به، ولم يأته بالعصمة من الله جل جلاله بالذي أراد، حتى بلغ كراع الغميم بين مكة والمدينة. فأتاه جبرئيل وأمره بالذي أتاه فيه من قبل الله، ولم يأته بالعصمة فقال: يا جبرئيل، إني أخشى قومي أن يكذبوني ولا يقبلوا قولي في علي عليه السلام (فسأل جبرئيل كما سأل بنزول آية العصمة فأخره ذلك)، فرحل. فلما بلغ غدير خم قبل الجحفة بثلاثة أميال أتاه جبرئيل عليه السلام، على خمس ساعات مضت من النهار، بالزجر والانتهار والعصمة من الناس فقال: يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك *(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - في علي - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)*. وكان أوائلهم قريب من الجحفة، فأمر بأن يرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان، ليقيم عليا علما للناس، ويبلغهم ما أنزل الله تعالى في

ص 17

علي، وأخبره بأن الله عز وجل قد عصمه من الناس، فأمر رسول الله عند ما جاءته العصمة مناديا ينادي في الناس بالصلاة جامعة، وبرد من تقدم منهم وبحبس من تأخر، وتنحى عن يمين الطريق إلى جنب مسجد الغدير، أمره بذلك جبرئيل عن الله عز وجل، وكان في الموضع سلمات، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن يقم ما تحتهن، وينصب له حجارة كهيئة المنبر ليشرف على الناس، فتراجع الناس واحتبس أواخرهم في ذلك المكان لا يزالون، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوق تلك الأحجار، ثم حمد الله تعالى وأثنى عليه فقال: الحمد لله الذي علا في توحده، ودنا في تفرده، وجل في سلطانه، وعظم في أركانه، وأحاط بكل شيء علما وهو في مكانه، وقهر جميع الخلق بقدرته وبرهانه، مجيدا لم يزل، محمودا لا يزال، بارئ المسموكات، وداحي المدحوات، وجبار الأرضين والسماوات، قدوس سبوح رب الملائكة والروح، متفضل على جميع من برأه، متطول على جميع من أنشأه، يلحظ كل عين والعيون لا تراه، كريم حليم ذو أناة، قد وسع كل شيء رحمته ومن عليهم بنعمته، لا يعجل بانتقامه ولا يبادر إليهم بما استحقوا من عذابه، قد فهم السرائر وعلم الضمائر، ولم تخف عليه المكنونات، ولا اشتبهت عليه الخفيات، له الإحاطة بكل شيء والغلبة على كل شيء، والقوة في كل شيء، والقدرة على كل شيء، وليس مثله شيء، وهو منشئ الشيء حين لا شيء، دائم قائم بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، جل عن أن تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، لا يلحق أحد وصفه من معاينة، ولا يجد أحد كيف هو من سر وعلانية إلا بما دل عز وجل على نفسه. وأشهد أنه الله الذي ملأ الدهر قدسه، والذي يغشى الأبد نوره، والذي ينفذ أمره، بلا مشاورة مشير، ولا معه شريك في تقدير، ولا تفاوت في تدبير، صور ما أبدع على غير مثال، وخلق ما خلق بلا معونة من أحد ولا تكلف ولا احتيال، أنشأها فكانت، وبرأها فبانت، فهو الله الذي لا إله إلا هو، المتقن الصنعة، الحسن الصنيعة، العدل الذي لا يجور، والأكرم الذي ترجع إليه الأمور.

ص 18

وأشهد أنه الذي تواضع كل شيء لقدرته، وخضع كل شيء لهيبته، ملك الأملاك ومفلك الأفلاك، ومسخر الشمس والقمر، كل يجري لأجل مسمى، يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل يطلبه حثيثا، قاصم كل جبار عنيد ومهلك كل شيطان مريد، لم يكن معه ضد ولا ند، أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، إله واحد ورب ماجد، يشاء فيمضي ويريد فيقضي، ويعلم فيحصي ويميت ويحي، ويفقر ويغني، ويضحك ويبكي، ويمنع ويعطي، له الملك وله الحمد، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، لا إله إلا هو العزيز الغفار، مجيب الدعاء ومجزل العطاء، محصي الأنفاس ورب الجنة والناس، لا يشكل عليه شيء، ولا يضجره صراخ المستصرخين، ولا يبرمه إلحاح الملحين، العاصم للصالحين والموفق للمفلحين، ومولى العالمين، الذي استحق من كل من خلق أن يشكره ويحمده. أحمده على السراء والضراء والشدة والرخاء، وأؤمن به وبملائكته وكتبه ورسله، أسمع أمره وأطيع وأبادر إلى كل ما يرضاه، وأستسلم لقضائه رغبة في طاعته وخوفا من عقوبته، لأنه الله الذي لا يؤمن مكره ولا يخاف جوره، وأقر له على نفسي بالعبودية، وأشهد له بالربوبية وأؤدي ما أوحى إلي حذرا من أن لا أفعل فتحل بي منه قارعة لا يدفعها عني أحد وإن عظمت حيلته، لا إله إلا هو، لأنه قد أعلمني أني إن لم أبلغ ما أنزل إلي فما بلغت رسالته، وقد ضمن لي تبارك وتعالى العصمة، وهو الله الكافي الكريم، فأوحى إلي: بسم الله الرحمن الرحيم: *(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - في علي [يعني في الخلافة لعلي بن أبي طالب عليه السلام] - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)*. (معاشر الناس) ما قصرت في تبليغ ما أنزل الله تعالى إلي، وأنا مبين لكم سبب نزول هذه الآية: إن جبرئيل عليه السلام هبط إلي مرارا ثلاثا، يأمرني عن السلام ربي وهو السلام: أن أقوم في هذا المشهد فأعلم كل أبيض وأسود أن علي ابن أبي طالب أخي ووصيي وخليفتي، والإمام من بعدي، والذي محله مني محل

ص 19

هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وهو وليكم من بعد الله ورسوله، وقد أنزل الله تبارك وتعالى علي بذلك آية من كتابه: *(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)* وعلي بن أبي طالب أقام الصلاة وآتى الزكاة وهو راكع، يريد الله عز وجل في كل حال. وسألت جبرئيل أن يستعفي لي عن تبليغ ذلك إليكم - أيها الناس - لعلمي بقلة المتقين وكثرة المنافقين، وإدغال الآثمين، وختل المستهزئين بالاسلام، الذين وصفهم الله في كتابه بأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم، وكثرة أذاهم لي في غير مرة حتى سموني أذنا، وزعموا أني كذلك لكثرة ملازمته إياي وإقبالي عليه، حتى أنزل الله عز وجل في ذلك قرآنا: *(ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن - على الذين يزعمون أنه أذن - خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين)* الآية. ولو شئت أن أسمي بأسمائهم لسميت، وأن أومي إليهم بأعيانهم لأومأت، وأن أدل عليهم لدللت، ولكني والله في أمورهم قد تكرمت، وكل ذلك لا يرضي الله مني إلا أن أبلغ ما أنزل إلي، ثم تلى صلى الله عليه وآله: *(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - في علي - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)*. فاعلموا يا معاشر الناس: إن الله قد نصبه لكم وليا، وإماما مفترضا طاعته على المهاجرين والأنصار وعلى التابعين لهم بإحسان، وعلى البادي والحاضر وعلى الأعجمي والعربي، والحر والمملوك، والصغير والكبير، وعلى الأبيض والأسود، وعلى كل موحد، ماض حكمه، جائز قوله، نافذ أمره، ملعون من خالفه، مرحوم من تبعه، مؤمن من صدقه، فقد غفر الله له ولمن سمع منه وأطاع له. (معاشر الناس) إنه آخر مقام أقومه في هذا المشهد، فاسمعوا وأطيعوا وانقادوا لأمر ربكم، فإن الله عز وجل هو مولاكم وإلهكم، ثم من دونه محمد وليكم القائم المخاطب لكم، ثم من بعدي علي وليكم وإمامكم بأمر ربكم، ثم

ص 20

الإمامة في ذريتي من ولده إلى يوم تلقون الله ورسوله، لا حلال إلا ما أحله الله ولا حرام إلا ما حرمه الله، عرفني الحلال والحرام، وأنا أفضيت بما علمني ربي من كتابه وحلاله وحرامه إليه. (معاشر الناس) ما من علم إلا وقد أحصاه الله في، وكل علم علمت فقد أحصيته في إمام المتقين، وما من علم إلا علمته عليا، وهو الإمام المبين. (معاشر الناس) لا تضلوا عنه، ولا تنفروا منه، ولا تستكبروا (ولا تستنكفوا خ ل) من ولايته، فهو الذي يهدي إلى الحق ويعمل به، ويزهق الباطل وينهى عنه، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ثم إنه أول من آمن بالله ورسوله، وهو الذي فدى رسوله بنفسه، وهو الذي كان مع رسول الله ولا أحد يعبد الله مع رسوله من الرجال غيره. (معاشر الناس) فضلوه فقد فضله الله، واقبلوه فقد نصبه الله. (معاشر الناس) إنه إمام من الله، ولن يتوب الله على أحد أنكر ولايته، ولن يغفر الله له، حتما على الله أن يفعل ذلك بمن خالف أمره فيه، وأن يعذبه عذابا شديدا نكرا أبد الآباد ودهر الدهور، فاحذروا أن تخالفوه فتصلوا نارا وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين. (أيها الناس) بي والله بشر الأولون من النبيين والمرسلين، وأنا خاتم الأنبياء والمرسلين، والحجة على جميع المخلوقين، من أهل السماوات والأرضين، فمن شك في ذلك فهو كافر كفر الجاهلية الأولى، ومن شك في شيء من قولي هذا فقد شك في الكل منه، والشاك في ذلك فله النار. (معاشر الناس) حباني الله بهذه الفضيلة منا منه علي وإحسانا منه إلي، ولا إله إلا هو، له الحمد مني أبد الآبدين ودهر الداهرين على كل حال. (معاشر الناس) فضلوا عليا فإنه أفضل الناس بعدي من ذكر وأنثى، بنا أنزل الله الرزق وبقي الخلق، ملعون ملعون مغضوب مغضوب من رد علي قولي هذا ولم يوافقه، ألا إن جبرئيل خبرني عن الله تعالى بذلك ويقول: من عادى عليا

ص 21

ولم يتوله فعليه لعنتي وغضبي فلتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله أن تخالفوه، فتزل قدم بعد ثبوتها، إن الله خبير بما تعملون. (معاشر الناس) إنه جنب الله الذي ذكر في كتابه فقال تعالى: *(أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله)*. (معاشر الناس) تدبروا القرآن وافهموا آياته، وانظروا إلى محكماته ولا تتبعوا متشابهه، فوالله لن يبين لكم زواجره ولا يوضح لكم تفسيره إلا الذي أنا آخذ بيده، ومصعده إلي، وشائل بعضده، ومعلمكم أن من كنت مولاه فهذا علي مولاه، وهو علي بن أبي طالب أخي ووصيي، وموالاته من الله عز وجل أنزلها علي. (معاشر الناس) إن عليا والطيبين من ولدي هم الثقل الأصغر، والقرآن الثقل الأكبر، فكل واحد مبني عن صاحبه وموافق له، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، هم أمناء الله في خلقه وحكماؤه في أرضه، ألا وقد أديت وقد بلغت، ألا وقد أسمعت، ألا وقد أوضحت، ألا وإن الله عز وجل قال وأنا قلت عن الله عز وجل، ألا إنه ليس أمير المؤمنين غير أخي هذا، ولا تحل إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره. ثم ضرب بيده إلى عضده فرفعه، وكان منذ أول ما صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شال عليا، حتى صارت رجله مع ركبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: (معاشر الناس) هذا علي أخي ووصيي، وواعي علمي وخليفتي على أمتي وعلى تفسير كتاب الله عز وجل والداعي إليه والعامل بما يرضاه، والمحارب لأعدائه، والموالي على طاعته والناهي عن معصيته، خليفة رسول الله وأمير المؤمنين والإمام الهادي، وقائل الناكثين والقاسطين والمارقين بأمر الله، أقول وما يبدل القول لدي بأمر ربي، أقول: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، والعن من أنكره وأغضب على من جحد حقه، اللهم إنك أنزلت علي أن الإمامة بعدي لعلي وليك عند تبياني ذلك ونصبي إياه، بما أكملت لعبادك من دينهم وأتممت عليهم

ص 22

بنعمتك، ورضيت لهم الإسلام دينا، فقلت: *(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)* اللهم إني أشهدك وكفى بك شهيدا أني قد بلغت. (معاشر الناس) إنما أكمل الله عز وجل دينكم بإمامته، فمن لم يأتم به وبمن يقوم مقامه من ولدي من صلبه إلى يوم القيامة، والعرض على الله عز وجل فأولئك الذين حبطت أعمالهم، وفي النار هم فيها خالدون، لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون. (معاشر الناس) هذا علي أنصركم لي، وأحقكم بي، وأقربكم إلي، وأعزكم علي، والله عز وجل وأنا عنه راضيان، وما نزلت آية رضى إلا فيه، وما خاطب الله الذين آمنوا إلا بدأ به، ولا نزلت آية في القرآن إلا فيه، ولا شهد بالجنة في هل أتى على الانسان إلا له، ولا أنزلها في سواه، ولا مدح بها غيره. (معاشر الناس) هو ناصر دين الله، والمجادل عن رسول الله، وهو النقي التقي الهادي المهدي، نبيكم خير نبي ووصيكم خير وصي وبنوه خير الأوصياء. (معاشر الناس) ذرية كل نبي من صلبه وذريتي من صلب علي. (معاشر الناس) إن إبليس أخرج آدم من الجنة بالحسد، فلا تحسدوه فتحبط أعمالكم وتزل أقدامكم، فإن آدم أهبط إلى الأرض لخطيئة واحدة، وهو صفوة الله عز وجل، وكيف بكم وأنتم أنتم ومنكم أعداء الله، إنه لا يبغض عليا إلا شقي، ولا يتوالى عليا إلا تقي، ولا يؤمن به إلا مؤمن مخلص، وفي علي والله نزلت سورة والعصر: *(بسم الله الرحمن الرحيم * والعصر إن الانسان لفي خسر)* إلى آخرها. (معاشر الناس) قد استشهدت الله وبلغتكم رسالتي، وما على الرسول إلا البلاغ المبين. (معاشر الناس) اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. (معاشر الناس) آمنوا بالله ورسوله، والنور الذي أنزل معه، من قبل أن

ص 23

نطمس وجوها فنردها على أدبارها. (معاشر الناس) النور من الله عز وجل في مسلوك، ثم في علي ثم في النسل منه، إلى القائم المهدي الذي يأخذ بحق الله وبكل حق هو لنا، لأن الله عز وجل قد جعلنا حجة على المقصرين والمعاندين والمخالفين والخائفين والآثمين، والظالمين من جميع العالمين. (معاشر الناس) أنذركم أني رسول الله، قد خلت من قبلي الرسل، أفإن مت أو قتلت انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين، ألا وإن عليا هو الموصوف بالصبر والشكر، ثم من بعده ولدي من صلبه. (معاشر الناس) لا تمنوا على الله إسلامكم فيسخط عليكم ويصيبكم بعذاب من عنده، إنه لبالمرصاد. (معاشر الناس) إنه سيكون من بعدي أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون. (معاشر الناس) إن الله وأنا بريئان منهم. (معاشر الناس) إنهم وأنصارهم وأتباعهم في الدرك الأسفل من النار، ولبئس مثوى المتكبرين، ألا إنهم أصحاب الصحيفة، فلينظر أحدكم في صحيفته قال: فذهب على الناس إلا شرذمة منهم أمر الصحيفة. (معاشر الناس) إني أدعها إمامة ووراثة في عقبي إلى يوم القيامة، وقد بلغت ما أمرت بتبليغه، حجة على كل حاضر وغائب، وعلى كل أحد ممن شهد أو لم يشهد، ولد أو لم يولد، فليبلغ الحاضر الغائب والوالد الولد إلى يوم القيامة وسيجعلونها ملكا واغتصابا، ألا لعن الله الغاصبين والمغتصبين، وعندها سنفرغ لكم أيها الثقلان، فيرسل عليكم شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران. (معاشر الناس) إن الله عز وجل لم يكن يذركم على ما أنتم عليه، حتى يميز الخبيث من الطيب، وما كان الله ليطلعكم على الغيب.

ص 24

(معاشر الناس) إنه ما من قرية إلا والله مهلكها بتكذيبها، وكذلك يهلك القرى وهي ظالمة كما ذكر الله تعالى، وهذا علي إمامكم ووليكم، وهو مواعيد الله والله يصدق ما وعده. (معاشر الناس) قد ضل قبلكم أكثر الأولين، والله لقد أهلك الأولين وهو مهلك الآخرين، قال الله تعالى: *(ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين ويل يومئذ للمكذبين)*. (معاشر الناس) إن الله قد أمرني ونهاني، وقد أمرت عليا ونهيته، فعلم الأمر والنهي من ربه عز وجل، فاسمعوا لأمره تسلموا، وأطيعوه تهتدوا، وانتهوا لنهيه ترشدوا، وصيروا إلى مراده ولا تتفرق بكم السبيل عن سبيله. (معاشر الناس) أنا صراط الله المستقيم الذي أمركم باتباعه، ثم علي من بعدي ثم ولدي من صلبه، أئمة يهدون إلى الحق وبه يعدلون، ثم قرأ: *(الحمد لله رب العالمين)* إلى آخرها وقال: في نزلت وفيهم نزلت، ولهم عمت وإياهم خصت، أولئك أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ألا إن حزب الله هم الغالبون، ألا إن أعداء علي هم أهل الشقاق والنفاق والحادون، وهم العادون وإخوان الشياطين، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، ألا إن أولياءهم الذين ذكرهم الله في كتابه فقال عز وجل: *(لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله)* إلى آخر الآية. ألا إن أولياءهم الذين وصفهم الله عز وجل فقال: *(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)*، ألا إن أولياءهم الذين وصفهم الله عز وجل فقال: *(الذين يدخلون الجنة آمنين تتلقاهم الملائكة بالتسليم إن طبتم فادخلوها خالدين)* ألا إن أولياءهم الذين قالوا لهم الله عز وجل: *(يدخلون الجنة بغير حساب)* ألا إن أعداءهم يصلون سعيرا، ألا إن أعداءهم الذين يسمعون لجهنم شهيقا وهي تفور ولها زفير، ألا إن أعداءهم الذين قال الله فيهم: *(كلما دخلت أمة لعنت أختها)* الآية، ألا إن أعداءهم الذين قال الله عز وجل: *(كلما ألقي

ص 25

فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جائنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال مبين)* ألا إن أولياءهم *(الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير)*. (معاشر الناس) شتان ما بين السعير والجنة، عدونا من ذمة الله ولعنه، وولينا من مدحه الله وأحبه. (معاشر الناس) ألا وإني منذر وعلي هاد. (معاشر الناس) إني نبي وعلي وصي، ألا إن خاتم الأئمة منا القائم المهدي، ألا إنه الظاهر على الدين، ألا إنه المنتقم من الظالمين، ألا إنه فاتح الحصون وهادمها، ألا إنه قاتل كل قبيلة من أهل الشرك، ألا إنه مدرك بكل ثار لأولياء الله، ألا إنه الناصر لدين الله، ألا إنه الغراف في بحر عميق، ألا إنه يسم كل ذي فضل بفضله وكل ذي جهل بجهله، ألا إنه خيرة الله ومختاره، ألا إنه وارث كل علم والمحيط به، ألا إنه المخبر عن ربه عز وجل، والمنبه بأمر إيمانه، ألا إنه الرشيد السديد، ألا إنه المفوض إليه، ألا إنه قد بشر من سلف بين يديه، ألا إنه الباقي حجة ولا حجة بعده، ولا حق إلا معه ولا نور إلا عنده، ألا إنه لا غالب له ولا منصور عليه، ألا وإنه ولي الله في أرضه وحكمه في خلقه وأمينه في سره وعلانيته. (معاشر الناس) قد بينت لكم وأفهمتكم، وهذا علي يفهمكم بعدي، ألا وإني عند انقضاء خطبتي أدعوكم إلى مصافقتي على بيعته، والاقرار به، ثم مصافقته بعدي، ألا وإني قد بايعت الله وعلي قد بايعني، وأنا آخذكم بالبيعة له عن الله عز وجل *(فمن نكث فإنما ينكث على نفسه)* الآية. (معاشر الناس) إن الحج والصفا والمروة والعمرة من شعائر الله *(فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما)* الآية. (معاشر الناس) حجوا البيت، فما ورده أهل بيت إلا استغنوا، ولا تخلفوا عنه إلا افتقروا.

ص 26

(معاشر الناس) ما وقف بالموقف مؤمن إلا غفر الله له ما سلف من ذنبه إلى وقته ذلك، فإذا انقضت حجته استأنف عمله. (معاشر الناس) الحجاج معاونون، ونفقاتهم مخلفة، والله لا يضيع أجر المحسنين. (معاشر الناس) حجوا البيت بكمال الدين والتفقه، ولا تنصرفوا عن المشاهد إلا بتوبة وإقلاع. (معاشر الناس) أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة كما أمركم الله عز وجل، لئن طال عليكم الأمد فقصرتم أو نسيتم، فعلي وليكم ومبين لكم الذي نصبه الله عز وجل بعدي، ومن خلفه الله مني ومنه يخبركم بما تسألون عنه ويبين لكم ما لا تعلمون، ألا إن الحلال والحرام أكثر من أن أحصيها وأعرفهما، فأمر بالحلال وأنهى عن الحرام في مقام واحد، فأمرت أن آخذ البيعة منكم والصفقة لكم بقبول ما جئت به عن الله عز وجل في علي أمير المؤمنين والأئمة من بعده، الذين هم مني ومنه، أئمة قائمة منهم المهدي إلى يوم القيامة الذي يقضي بالحق. (معاشر الناس) وكل حلال دللتكم عليه أو حرام نهيتكم عنه، فإني لم أرجع عن ذلك ولم أبدل، ألا فاذكروا ذلك واحفظوه وتواصبوا به، ولا تبدلوه ولا تغيروه، ألا وإني أجدد القول: ألا فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر. ألا وإن رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تنتهوا إلى قولي، وتبلغوه من لم يحضر وتأمروه بقبوله وتنهوه عن مخالفته، فإنه أمر من الله عز وجل ومني، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر إلا مع إمام معصوم. (معاشر الناس) القرآن يعرفكم أن الأئمة من بعده ولده، وعرفتكم أنه مني وأنا منه، حيث يقول الله في كتابه: *(وجعلها كلمة باقية في عقبه)* وقلت: لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما . (معاشر الناس) التقوى التقوى! إحذروا الساعة كما قال الله عز وجل: *(إن زلزلة الساعة شيء عظيم)، أذكروا الممات والحساب، والموازين والمحاسبة

ص 27

بين يدي رب العالمين، والثواب والعقاب، فمن جاء بالحسنة أثيب عليها، ومن جاء بالسيئة فليس له في الجنان نصيب. (معاشر الناس) إنكم أكثر من أن تصافقوني بكف واحدة، وقد أمرني الله عز وجل أن آخذ من ألسنتكم الاقرار بما عقدت لعلي من إمرة المؤمنين، ومن جاء بعده من الأئمة مني ومنه على ما أعلمتكم أن ذريتي من صلبه، فقولوا بأجمعكم: إنا سامعون مطيعون راضون منقادون لما بلغت عن ربنا وربك، في أمر علي وأمر ولده من صلبه من الأئمة، نبايعك على ذلك بقلوبنا وأنفسنا وألسنتنا وأيدينا، على ذلك نحيى ونموت ونبعث، ولا نغير ولا نبدل، ولا نشك ولا نرتاب، ولا نرجع عن عهد ولا ننقض الميثاق، نطيع الله ونطيعك وعليا أمير المؤمنين وولده الأئمة الذين ذكرتهم من ذريتك من صلبه بعد الحسن والحسين، الذين قد عرفتكم مكانهما مني، ومحلهما عندي، ومنزلتهما من ربي عز وجل فقد أديت ذلك إليكم، وإنهما سيدا شباب أهل الجنة، وإنهما الإمامان بعد أبيهما علي، وأنا أبوهما قبله. وقولوا أطعنا الله بذلك وإياك وعليا والحسن والحسين والأئمة الذين ذكرت، عهدا وميثاقا مأخوذا لأمير المؤمنين من قلوبنا وأنفسنا وألسنتنا ومصافقة أيدينا من أدركهما بيده وأقر بهما بلسانه، ولا نبغي بذلك بدلا ولا نرى من أنفسنا عنه حولا أبدا، أشهدنا الله وكفى بالله شهيدا، وأنت علينا به شهيد، وكل من أطاع ممن ظهر واستتر وملائكة الله وجنوده وعبيده، والله أكبر من كل شهيد . (معاشر الناس) ما تقولون، فإن الله يعلم كل صوت وخافية كل نفس، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، ومن بايع فإنما يبايع الله، يد الله فوق أيديهم. (معاشر الناس) فاتقوا الله وبايعوا عليا أمير المؤمنين والحسن والحسين والأئمة، كلمة طيبة باقية، يهلك الله من غدر ويرحم الله من وفى، *(ومن نكث فإنما ينكث على نفسه)* الآية.

ص 28

(معاشر الناس) قولوا الذي قلت لكم، وسلموا على علي بإمرة المؤمنين وقولوا: *(سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)* وقولوا: *(الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)* الآية: (معاشر الناس) إن فضائل علي بن أبي طالب عند الله عز وجل، وقد أنزلها في القرآن، أكثر من أن أحصيها في مقام واحد، فمن أنبأكم بها وعرفها فصدقوه. (معاشر الناس) من يطع الله ورسوله وعليا والأئمة الذين ذكرتهم فقد فاز فوزا عظيما. (معاشر الناس) السابقون السابقون إلى مبايعته وموالاته والتسليم عليه بإمرة المؤمنين، أولئك هم الفائزون في جنات النعيم. (معاشر الناس) قولوا ما يرضى الله به عنكم من القول، *(فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فلن يضر الله شيئا)*، اللهم اغفر للمؤمنين، واغضب على الكافرين، والحمد لله رب العالمين. فناداه القوم: سمعنا وأطعنا على أمر الله وأمر رسوله، بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا، وتداكوا على رسول الله وعلى علي عليه السلام فصافقوا بأيديهم. فكان أول من صافق رسول الله صلى الله عليه وآله الأول والثاني والثالث والرابع والخامس، وباقي المهاجرين والأنصار، وباقي الناس على طبقاتهم وقدر منازلهم، إلى أن صليت المغرب والعتمة في وقت واحد، ووصلوا البيعة والمصافقة ثلاثا ورسول الله يقول كلما بايع قوم: الحمد لله الذي فضلنا على جميع العالمين. وصارت المصافقة سنة ورسما، وربما يستعملها من ليس له حق فيها (1).

(هامش)

(1) الاحتجاج 1 / 68 - 84. (*)

ص 29

نكت في حديث الغدير

 ويفيد التتبع في ألفاظ حديث الغدير المروية في كتب أهل السنة، وجود الدواعي المختلفة عندهم على كتم حديث الغدير، أو ترك سماعه، أو تحريفه، أو نقله بصورة ناقصة، حتى بعد شهرته وذيوعه، فأنت ترى الراوي يقول: فقلت للزهري: لا تحدث بهذا بالشام وأنت ملء أذنيك سب علي، فقال: والله عندي من فضائل علي ما لو حدثت لقتلت (1). ويقول آخر: رأيت ابن أبي أوفى - وهو في دهليز له بعد ما ذهب بصره - فسألته عن حديث، فقال: إنكم يا أهل الكوفة فيكم ما فيكم. قال: قلت أصلحك الله إني لست منهم، ليس عليك مني عار. قال: أي حديث؟ قال قلت: حديث علي يوم غدير خم (2). وثالث يقول: أتيت زيد بن أرقم فقلت له: إن ختنا لي حدثني عنك بحديث في شأن علي يوم غدير خم، فأنا أحب أن أسمعه منك. فقال: إنكم معاشر أهل العراق فيكم ما فيكم. فقلت له: ليس عليك مني بأس، فقال: نعم كنا بالجحفة... قال: فقلت له: هل قال صلى الله عليه وآله: أللهم وال من والاه وعاد من عاداه؟ قال: إنما أخبرك بما سمعت (3). ويقول رابع: قلت لسعد بن أبي وقاص: إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أتقيك. قال: سل عما بدا لك فإنما أنا عمك. قال: قلت: مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم يوم غدير خم (4).

(هامش)

(1) أسد الغابة 1 / 8. (2) المناقب لابن المغازلي: 16. (3) مسند أحمد 4 / 368. (4) كفاية الطالب: 620. (*)

ص 30

ويجئ خامس فيحلف زيد بن أرقم قائلا: أفي القوم زيد؟ قالوا: نعم هذا زيد، فقال: أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو يا زيد، أسمعت رسول الله... (1). ومن هنا ترى ابن عبد البر يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. وبعضهم لا يزيد عن: من كنت مولاه فعلي مولاه (2). أي لا يروي ذيل الحديث. وترى بعضهم لا يروي صدره: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم . وطائفة منهم لم يرووا معه حديث الثقلين: إني تارك فيكم... المقترن به. إلى غير ذلك من تصرفاتهم... ومن هنا يبدو لك طبيعيا روايتهم لقضية واحدة بأنحاء مختلفة، فجماعة يروون: قدم معاوية في بعض حجاته، فدخل على سعد، فذكروا عليا فنال منه، فغضب سعد... وذكره بخصال لعلي منها حديث الغدير. وابن كثير يرويه فيحذف منه فنال منه فغضب سعد (3). ويأتي ثالث فيقول: إنه ذكر علي عند رجل وعنده سعد بن أبي وقاص. فقال له سعد: أتذكر عليا؟!... (4). ورابع يروي عن سعد نفسه: كنت جالسا فتنقصوا علي بن أبي طالب. فقلت: لقد سمعت... (5).

(هامش)

(1) المعجم الكبير 5 / 219 - 220. (2) الاستيعاب 3 / 1099. (3) تاريخ ابن كثير 7 / 340. (4) فضائل علي لأحمد بن حنبل - مخطوط. (5) خصائص علي للنسائي 49 - 50. (*)

ص 31

وخامس يحذف القصة من أصلها فيقول: عن سعد بن أبي وقاص، قال قال رسول الله: في علي ثلاث خلال (1). فتقول: لماذا هذا التحريف والتشويه لولا دلالة حديث الغدير على الإمامة والخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ ولماذا هذا الكتمان سواء كان عن خوف أو عناد وحسد؟ ولك أن تنتقل من هؤلاء إلى الذين عاصروا القصة وحضروا الواقعة، لترى الرجل منهم يجئ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: أمرتنا بالشهادتين عن الله فقبلنا منك، وأمرتنا بالصلاة والزكاة، ثم لم ترض حتى فضلت علينا ابن عمك؟ أألله أمرك أم من عندك؟ (2). ولترى جماعة منهم ينكرون أو يكتمون ما شاهدوه وسمعوه ووعوه، فيدعو عليهم الإمام عليه الصلاة والسلام. ولترى أبا الطفيل يقول: خرجت وكان في نفسي شيء، فلقيت زيد بن أرقم فقلت له: إني سمعت عليا رضي الله عنه يقول كذا وكذا. قال: فما تنكر قد سمعت رسول الله يقول ذلك له (3). إلى غير ذلك مما ستقف عليه في بحوث الكتاب إن شاء الله تعالى.

 أهمية حديث الغدير والاهتمام به

 وهذا الذي ذكرناه يدل على أهمية حديث الغدير، وأثره في الإسلام ومصير المسلمين، فإنه بدلالته على إمامة علي عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل يدل على بطلان خلافة من تقدم عليه.

(هامش)

(1) حلية الأولياء 4 / 356. (2) تفسير القرطبي 18 / 278. (3) مسند أحمد 4 / 270. (*)

ص 32

ومن هنا يظهر لك السر في اهتمام الإمام عليه السلام بنفسه، وكذا سائر أئمة أهل البيت، وعلماء الإمامية، بإثبات هذا الحديث الشريف سندا ودلالة، ونشره بين الأمة بشتى الوسائل والطرق، وبقائه في الأذهان والأفكار على مدى الدهور والأعصار، فترى الإمام يناشد الأصحاب بهذا الحديث في يوم الشورى، وفي يوم الرحبة، وفي يوم الجمل، والصديقة الزهراء تحتج به فيما رواه الحافظ ابن الجزري، وكذلك سائر أئمة أهل البيت. بل احتج به بعض الأصحاب من خصماء علي عليه السلام، فقد احتج به سعد بن أبي وقاص عندما غضب من نيل معاوية منه عليه السلام، واحتج به عمرو بن العاص في كتاب له إلى معاوية فيما رواه الخوارزمي. ولهذا السبب أيضا كثرت الكتب المؤلفة في هذا الحديث سلفا وخلفا من علماء الفريقين. وعلى الجملة، فإنه حديث نزلت في مورده الآيات من القرآن الكريم، وحضر صدوره عشرات الألوف من المسلمين، واهتم به الأئمة المعصومون وكبار الأصحاب، ونص على تواتره كبار علماء المخالفين، وألف فيه المؤلفون من الفريقين. وإن ما ذكرناه حول خطبة الغدير، والنكت الموجودة في بعض ألفاظ حديث الغدير وطرقه، وشدة الاهتمام به منذ صدر الإسلام إلى يومنا الحاضر... كل ذلك يشكل جانبا من جوانب دلالة حديث الغدير على الإمامة والخلافة.

 تمحلات القوم في الجواب

 ومن جانب آخر اضطراب علماء القوم أمام حديث الغدير، وتمحلاتهم الغريبة في الجواب عنه، وسعيهم الحثيث في سبيل إسقاطه عن الاعتبار ومنع الاحتجاج به، فإن ذلك يكشف عن قوة هذا الاحتجاج، وتمامية دلالته على الخلافة والامامة.

ص 33

فهم بعد ما رأوا أن لا جدوى في الكتمان والانكار، ولا في التحريف والاسقاط لجأ بعضهم إلى القول بأن عليا لم يكن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع، فإنه كان باليمن، لكن رد عليه جماعة من أعلامهم - وفيهم بعض المتعصبين كابن حجر المكي - لمصادمته للواقع والحقيقة. فقال بعضهم: هذا خبر واحد لا يفيد علما. وأجاب عنه جماعة، منهم الحافظ ابن الجزري، فقال: صح عن جماعة ممن يحصل القطع بخبرهم . فقيل: إنه حديث لم يخرجه الشيخان وأبو داود. وأجيب: لو سلمنا بأن جميع ما في كتابيهما صحيح، فما الدليل على أن ما لم يخرجاه ليس بصحيح، وقد نص جماعة على أنه كم من صحيح لم يخرجاه؟ على أنه مخرج في كتابي الترمذي وابن ماجة وهما من الصحاح، وفي مسند أحمد وغيره من المسانيد، وفي المستدرك على الصحيحين، وفي المختارة للضياء، وغيرها مما التزم فيه بالصحة. ولما رأى بعضهم أن كل هذا لا يجدي، ولا رواج له في سوق الاعتبار، ولا يقع موقع القبول حتى عند أهل مذهبهم، قالوا: إن (مفعلا) لا يأتي بمعنى (أفعل) فليس مولى بمعنى أولى . ولكن المرجع في أمثال هذا هو اللغة، وقد نص اللغويون على مجئ (مولى بمعنى (أولى)، وأنه قد ورد بهذا المعنى في الكتاب والسنة واستعمالات العرب، أضف إلى ذلك - في خصوص حديث الغدير - فهم الحاضرين في ذلك المشهد العظيم، فمنهم من اغتاض من هذا الكلام حتى سأل العذاب الواقع، ومنهم من سر به واقعا وظاهرا، وهم خواص الأصحاب الموالين لأمير المؤمنين، ومنهم من تظاهر بالسرور والفرح وهنأه، ولا تنس بعد ذلك شعر حسان بن ثابت وغير ذلك. فعاد وقال: فأي دليل على أن يكون معنى الحديث: كون علي الأولى

ص 34

بالتصرف فليكن الأولى بالمحبة مثلا. لكن بعضهم الآخر تنبه إلى برودة هذا الكلام، فاعترف بدلالة الحديث على الأولوية بالتصرف، وأن هذه الأولوية هي الإمامة ، ولكن ما الدليل على إمامة علي بمعنى الرئاسة والحكومة؟ فليكن إماما في الباطن، ويكون أبو بكر ومن بعده الأئمة في الظاهر؟ قال هذا وكأنه قد فوض إليه أمر تقسيم الإمامة، فلهذا الإمامة الباطنية، ولأولئك الإمامة الظاهرية، وبذلك يقع التصالح ويحسم النزاع!! ولا يغيب عن المنصفين: إن هذه الكلمات - في الوقت الذي تكشف عن سوء سريرة قائليها وتعصبهم للهوى - تدل على قوة دلالة حديث الغدير، ورصانة الاحتجاج به على الإمامة والخلافة.

 هذا الكتاب

 وقد وضعنا كتابنا هذا في ثلاثة أقسام: الأول: المدخل، وهو في مجلد، خصصناه لمقدمات البحث، من ذكر المؤلفات في حديث الغدير، وإثبات تواتره، ودحض بعض الشبهات حوله. والثاني: السند وهو في مجلد واحد أيضا. والثالث: في دلالته وهو في مجلدين. فيكون المجموع أربعة أجزاء. والله أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يتقبلها بقبول حسن، إنه سميع مجيب، وهو الموفق والمعين. علي الحسيني الميلاني

ص 35

كلمة السيد صاحب العبقات

 أحمد الله حمد موقن بنعمه، مذعن بكرمه، مستعيذ من نقمه، مستجير بذممه متوق من عقابه، لائذ بجنابه، عائذ من عذابه، هارب من نيرانه، راغب إلى جنانه، طالب لأمانه، آئب إلى رضوانه، متبتل خاشع لجلاله، متوسل ضارع إلى إفضاله، مبتغ مستزيد لنواله، سائل مستكثر لإسباله، على ما أبان الحجة وأوضح المحجة، وأتم الدين وأكمل النعمة، وأمر نبيه بتبليغ ما أنزل إليه ووعده بالعصمة، فنصب وصيه إماما يوم غدير، وجعله أمير كل صغير وكبير. وأشكره على ما أوزعنا من الثقة والايمان، والحق الحقيق الحري بالإذعان، وأنار لنا منهاجا سويا وطريقا رضيا، ومذهبا صادعا ومدرجا لامعا، وأزاح عنا العلة وانقطع الظمأ والغلة، وأضاء لنا البراهين والأدلة، ونجانا عن العوج والمضلة. والصلاة على رسوله المعتام من جرثومة السادة الأخيار، المختار على أرومة القادة الأطهار، إبتعثه بالعلم المأثور والكتاب المسطور، والنور المضي والمنهج السني، بعد احتدام من الفتن واعترام من المحن، والناس يومئذ في أهواء منتشرة وآراء متفرقة، وأديان معلولة وملل مدخولة، يقتدحون زناد الشر والأنصاب، ويعتبقون العلقم والصاب، يلحدون في اسم الله ويخترعون له الأنداد، يتيهون في

ص 36

كل سبسب ويهيمون في كل واد، فلم شعثهم ورم رثهم، ورتق فتقهم ورقع خرقهم، وأقام أودهم وأماط عندهم، وألف بينهم بعد تضاغن القلوب وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس وتخاذل الأيدي وفشو الشرور. فهداهم إلى دين عزيز المثار، أبلج المنار، صريح النصاب منير الشهاب، رائق المنصب، باذح المرقب، وفرى من الكفر والالحاد أوداجا، وأزرى بكل من أشرك في دين الله أوداجي، فكسر وأوهن متنهم وسامهم بالخسف وضرب عليهم بالنصف، وأتعب نفسه الكريمة في إحصاف الشريعة القويمة، وخاض إلى رضوان الله كل غمرة وتجرع فيه كل غصة. والسلام على آله أصول الكرم وقادة الأمم وأولياء النعم، وأنوار البهم وأضواء الظلم ومعادن الحكم، والهادين لأوليائهم إلى طريق الأمم، والكاشفين لهم مضائق الغمم، الحافظين لهم عن مزالق اللمم، الذين جاهدوا في الله حق الجهاد، وبالغوا في الهداية والارشاد إلى لقم الصواب والسداد، وفصموا حبل الغواية واللداد، ورضوا أركان الضلالة والعناد، وأبادوا خضراء الكفر والنفاق، وشقوا عصا البدع والشقاق، الذين أمر الله ورسوله بأن نطأ جادتهم ونركب قدتهم، ونقتص جميل آثارهم، ونستضئ بأنوارهم ونغترف من بحارهم. وبعد، فيقول العبد القاصر العاثر حامد حسين ألبسه الله حلل كرامته ولا سلبه غضارة نعمته، وكان في الدنيا والآخرة له، وحقق آماله ونور باله وجعل كل خير مآله: إن هذا هو المنهج الثاني من كتابي المسمى ب‍: عبقات الأنوار في إثبات إمامة الأئمة الأطهار . الذي نقضت فيه على الباب السابع من التحفة العزيزية ، وبالغت في الذب عن ذمار الطريقة الحقة العلوية، واستفدت فيه كثيرا من إفادات الوالد الماجد العلامة المولى السيد محمد قلي قدس الله نفسه الزكية، وأفاض شآبيب رحمته على تربته السنية. والله الموفق للاتمام والاكمال، ومنه الاتجاد في المبدء والمآل.

ص 37

كلام الدهلوي حول حديث الغدير

 قال المحدث المولوي عبد العزيز الدهلوي: أما الأحاديث التي تمسكوا بها لإثبات مدعاهم فهي كلها اثنا عشر حديثا الأول: حديث غدير خم، الذي يذكرونه في كتبهم مع التبجح الكثير به، ويجعلونه نصا قطعيا على المدعى، وحاصله، أنه قد روى بريدة بن الحصيب الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغ غدير خم - موضع بين مكة والمدينة - عند رجوعه من حجة الوداع، جمع المسلمين الذي كانوا معه، وخطب فيهم قائلا: يا معشر المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، أللهم وال من والاه وعاد من عاداه. قالوا: إن (المولى) بمعنى (الأولى بالتصرف)، والأولوية بالتصرف عين (الإمامة). إن أول ما في هذا الاستدلال هو: أن أهل العربية قاطبة ينكرون أن يكون (المولى) قد جاء بمعنى (الأولى)، بل قالوا: إن (مفعلا) لم يجئ بمعنى (أفعل) في مادة من المواد، فضلا عن هذه المادة بالخصوص، إلا أبا زيد اللغوي فإنه جوز ذلك، ومستمسكه قول أبي عبيدة في تفسير (هو مولاكم): (أي: أولى بكم)، لكن جمهور أهل العربية يخطئون هذا القول وهذا التمسك، قائلين بأنه لو صح

ص 38

هذا القول لزم جواز أن يقال (فلان مولى منك) في موضع (أولى منك) وهو باطل منكر بالاجماع. وأيضا: فإن تفسير أبي عبيدة بيان لحاصل معنى الآية: يعني: النار مقركم ومصيركم والموضع اللائق بكم، لا أن لفظة (المولى) فيها بمعنى (الأولى). ثانيا: ولو سلم كون (المولى) بمعنى (الأولى) فما الدليل من اللغة على أن تكون الصلة (بالتصرف)؟ إذ يحتمل أن يكون المراد: الأولى بالمحبة والأولى بالتعظيم، وأي ضرورة لأن يحمل لفظ (الأولى) على (الأولوية بالتصرف) في كل مورد؟ قال الله تعالى *(إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا)*، وواضح أن أتباع إبراهيم لم يكونوا أولى بالتصرف منه. ثالثا: إن القرينة المتأخرة تدل بصراحة على أن المراد من الولاية المستفادة من لفظ (المولى) أو (الأولى) - أيا ما كان - هو المحبة، وتلك القرينة قوله: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . ولو كان (المولى) بمعنى (المتصرف في الأمر) أو كان المراد بالأولى هو (الأولى بالتصرف) لكان المناسب أن يقول: اللهم أحب من كان تحت تصرفه، وأبغض من لم يكن تحت تصرفه. فذكر محبته ومعاداته دليل صريح على أن المقصود إيجاب محبته، والتحذير من معاداته، لا التصرف وعدم التصرف. ومن المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قد بلغ أدنى الواجبات بل السنن بل آداب القيام والقعود والأكل والشرب، بوجه يفهم الكل - سواء الحاضر والغائب، ممن عرف لغة العرب - المعاني المقصودة من ألفاظه بلا تكلف، وفي ذلك - في الحقيقة - كمال البلاغة، وهو مقتضى منصب الارشاد والهداية، فدعوى الاكتفاء حينئذ بمثل هذا الكلام الذي لا تساعده قواعد لغة العرب، يستلزم إثبات قصور البيان والبلاغة، بل المساهلة في أمر التبليغ والهداية في حق النبي، والعياذ بالله من ذلك. فقد ظهر أن غرضه صلى الله عليه وسلم إفادة هذا المعنى،

ص 39

الذي يفهم من هذا الكلام بلا تكلف، أي أن محبة علي فرض كمحبة النبي، ومعاداته محرمة كمعاداة النبي، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو المطابق لفهم أهل البيت: أخرج أبو نعيم عن الحسن المثنى ابن الحسن السبط رضي الله عنهما أنه سئل: هل حديث من كنت مولاه نص على خلافة علي رضي الله عنه؟ فقال: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني بذلك الخلافة لأفصح لهم بذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح الناس، ولقال لهم: يا أيها الناس هذا والي أمركم والقائم عليكم بعدي فاسمعوا له وأطيعوا. ولو كان الأمر أن الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم اختار عليا لهذا الأمر، وللقيام على الناس بعده فإن عليا أعظم الناس خطيئة وجرما، لأنه ترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم فيه كما أمره ويعذر إلى الناس. فقيل له: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: من كنت مولاه فعلي مولاه؟ فقال: أما والله لو يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الأمر والسلطان، لأفصح به كما أفصح بالصلاة والزكاة، ولقال: يا أيها الناس إن عليا والي أمركم من بعدي والقائم في الناس. وأيضا: ففي الحديث دلالة صريحة على اجتماع الولايتين في زمان واحد، إذ لم يقع فيه التقييد بلفظ (بعدي)، بل سوق الكلام هو للتسوية بين الولايتين في جميع الأوقات ومن جميع الوجوه، لوضوح امتناع كون علي شريكا للنبي في كل ما يستحق النبي التصرف فيه في حال حياته، فهذا أدل دليل على أن المراد وجوب المحبة، إذ لا مانع من اجتماع المحبتين، بل إن كلا منهما مستلزم للآخر، أما في اجتماع التصرفين فالمحاذير كثيرة، فإن قيدنا بما يدل على إمامته في المآل دون الحال فمرحبا بالوفاق، لأن أهل السنة قائلون بذلك في حين إمامته، ووجه تخصيص المرتضى بذلك علمه صلى الله عليه وسلم من طريق الوحي بوقوع البغي والفساد

ص 40

في زمان المرتضى، وأن بعض الناس سينكرون إمامته. ومن الطريف أن بعض علمائهم تمسك لإثبات أن المراد من (المولى) هو (الأولى بالتصرف)، باللفظ الواقع في صدر الحديث، وهو قوله: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فيعود الاشكال بأنهم متى سمعوا لفظ (الأولى) حملوه على (الأولى بالتصرف)، فما الدليل على هذا الحمل في هذا المورد؟ بل المراد هنا أيضا هو: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم في المحبة، بل إن (الأولى) ههنا مشتق من (الولاية) بمعنى (المحبة)، يعني: ألست أحب إلى المؤمنين من أنفسهم، حتى يحصل التلائم بين أجزاء الكلام والتناسق بين جمله، ويكون حاصل معنى هذه الخطبة: يا أيها المسلمون عليكم أن تجعلوني أحب إلى أنفسكم من أنفسكم، وأن من يحبني يحب عليا، أللهم أحب من أحبه، وأبغض من أبغضه، وكل عاقل يصدق بصحة هذا الكلام وحسن انتظامه. وإن قول النبي: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم مأخوذ من الآية القرآنية، ومن هنا جعل هذا المعنى من المسلمات لدى أهل الإسلام، وفرع عليه الحكم اللاحق له. ولقد وقع هذا اللفظ في القرآن في موقع لا يصح أن يكون معناه (الأولى بالتصرف) أصلا، وهو قوله تعالى: *(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)*، فإن سوق هذا الكلام هو لنفي نسبة المتبنى إلى المتبني، ولبيان النهي عن أن يقال لزيد بن حارثة: زيد بن محمد، لأن نسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جميع المسلمين نسبة الأب الشفيق إلى أبنائه، بل فوق ذلك، ونساء النبي أمهات أهل الإسلام، وأهل القرابة أحق وأولى في الانتساب من غيرهم، وإن كانت شفقتهم وتعظيمهم أكثر، والتعظيم، وهذا هو كتاب الله أي حكمه، ولا دخل للأولى بالتصرف في المقصود في هذا المقام، فكذلك الأمر في الحديث، والمراد في الآية هو المراد فيه.

ص 41

ولو سلمنا كون المراد من صدر الحديث هو (الأولى بالتصرف) فإنه لا وجه لحمل (المولى) على (الأولى بالتصرف) كذلك، لأنه إنما صدر الحديث بتلك العبارة لينبه السامعين، كي يتلقوا الكلام بكل توجه وإصغاء، ويلتفتوا إلى وجوب إطاعة هذا الأمر الإرشادي، كما يقول الأب لولده في مقام الوعظ والنصيحة: ألست أنا أباك، فلما يقر الولد يأمره بما يريد، حتى يطيع أمره بمقتضى علاقة الأبوة والبنوة، فقوله في هذا المقام: ألست أولى بالمؤمنين نظير قوله: ألست رسول الله إليكم، أو ألست نبيكم. وأما أخذ لفظة واحدة من الحديث وجعلها وحدها مورد العلاقة والربط بما في صدره فمن كمال السفاهة، بل يكفي الارتباط الموجود بين جميع الكلام مع هذه العبارة. والأغرب من ذلك استدلال بعض مدققيهم على عدم إرادة المحبة، بأن إيجاب محبة الأمير دلت عليه الآية *(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)* فلو كان معنى حديث الغدير ذلك أيضا كان لغوا، ولم يعلم بأن الدلالة على محبة شخص بدليل عام أمر، وإيجاب محبته بدليل خاص أمر آخر، ومن هنا لو آمن إنسان بجميع أنبياء الله ورسله، ولم يجر على لسانه خصوص محمد رسول الله لم يعتبر مسلما، فالمراد من الحديث إيجاب محبة علي بشخصه، وإن تقدم ما يدل على وجوب محبته ضمن عموم المؤمنين. وعلى تقدير وحدة المضمون في الآية والحديث فأي قبح فيه؟ إن شأن النبي هو التأكيد على مضامين الآيات والتذكير بها، لا سيما متى رأى تهاونا من المكلفين في العمل بموجب القرآن، قال تعالى: *(وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)*، وما من شيء دلت عليه آية من القرآن إلا وأكدت عليه الآيات الأخرى، ثم الأحاديث على لسان النبي، حتى تتم النعمة والحجة، وإن من نظر في القرآن والحديث لا يتفوه بمثل هذا الكلام الفارغ، وإلا لزم أن تكون تأكيدات النبي وتقريراته في أبواب الصوم والصلاة والزكاة وتلاوة القرآن كلها لاغية، ويكون التنصيص على إمامة الأمير - كما يدعيه الشيعة - مرة بعد أخرى والتأكيد عليها

ص 42

لغوا باطلا، معاذ الله من ذلك. وإن سبب هذه الخطبة - كما روى المؤرخون وأصحاب السير - يدل بصراحة على أن الغرض إفادة محبة الأمير، وذلك أن جماعة من الأصحاب الذين كانوا معه في اليمن مثل بريدة الأسلمي، وخالد بن الوليد وغيرهما من المشاهير، جعلوا يشكون لدى رجوعهم من الأمير عند النبي صلى الله عليه وسلم شكايات لا مورد لها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيوع تلك الأقاويل بين الناس، وأنه إن منع بعضهم عن ذلك حمل على شدة علاقته بالأمير، ولم يفد في ارتداعهم، لهذا خطب خطبة عامة، وافتتح كلامه بنص من القرآن قائلا: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم يعني أن كلما أقوله لكم ناشئ من شفقتي عليكم ورأفتي بكم، وليس الغرض الحماية عن أحد، وليس ناشئا من فرط المحبة له. وقد روى محمد بن إسحاق وغيره من أهل السير هذه القصة بالتفصيل (1).

(هامش)

(1) التحفة الاثنا عشرية: 208. (*)

ص 43

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار للعلم الحجة آية الله السيد حامد حسين اللكهنوي حديث الغدير - 1 تأليف السيد على الحسيني الميلاني الجزء السادس

ص 45

أقول: إن أول ما في هذا الكلام هو: حصر (الدهلوي) الأحاديث النبوية الشريفة الدالة على خلافة أمير المؤمنين عليه السلام وولايته المطلقة في اثني عشر حديثا ، وهذا إنكار للحقيقة الراهنة... ولسنا ندري أهو حصر عقلي أم استقرائي؟ أما العقل فلا سبيل له إلى الحكم في مثل هذه القضايا والبحوث، وإن كان حصرا استقرائيا فإن الواقع خلاف ما زعمه، فإن النصوص الواردة في هذا المضمار تبلغ في العدد الأضعاف المضاعفة لهذا العدد المزعوم... كما لا يخفى على الخبير المنصف. وأما الأحاديث الدالة على أفضلية سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام من غيره من الأصحاب، فهي تفوق حد الحصر والعد، ولم نجد أحدا من علماء الحق - ولا من المخالفين ممن يتجنب الكذب والخيانة - تعرض لهذا أو تصدى لاستقصاء هذا النوع من الأحاديث، وهذه كتبهم موجودة ومنتشرة في البلاد، فلتراجع. نعم اكتفى علماؤنا - لدى البحث عن هذه الناحية وإثبات أفضلية الإمام عليه السلام - بذكر أحاديث في الباب، وهي نزر من كثير وفيض من غيض. وبالنظر إلى هذه الحقيقة الراهنة التي أشرنا إليها، نجد نصر الله الكابلي - مع تعصبه الشديد - لا يتطرق بصراحة إلى دعوى حصر الأحاديث المستدل بها في

ص 46

باب الإمامة في عدد، وإن كان كلامه كالصريح في ذلك، حيث قال في (الصواعق): المطلب الرابع: في إبطال استدلال الرافضة على أن الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم علي، بأحاديث أهل السنة، وهي اثنا عشر، الأول: ما رواه بريدة بن حصيب وغيره.. . لكن (الدهلوي) لفرط أمانته!! حصر تلك الأحاديث في العدد الذي ذكره مصرحا بهذا المعنى، ولقد كان هذا ديدنه في سائر القضايا الواضحة والمسائل البينة... ثم إن هناك أحاديث أقوى سندا وأبلغ وأوضح دلالة من هذه الأحاديث الاثني عشر التي ذكرها (الدهلوي) تبعا للكابلي، يتمسك بها أهل الحق في إثبات مطلوبهم، فهو - بالاضافة إلى بطلان دعوى حصر الأحاديث في العدد المذكور - مآخذ على تركه الأحاديث الأقوى من هذه في السند والدلالة، على الإمامة الكبرى والخلافة العظمى. وهذا أوان الشروع في الرد على ما ذكره (الدهلوي) وغيره حول حديث الغدير، وبيان بطلان كلماتهم الواهية في هذا المجال

ص 47

المؤلفون في حديث الغدير

ص 49

و (للدهلوي) في هذا الكلام صنيع شنيع آخر، وذلك قوله: إنه قد روى بريدة بن الحصيب الأسلمي... . فإنه يعني أنه من حديث بريدة فحسب، ولم تسمح له نفسه بالإشارة إلى أن هذا الحديث قد ورد من رواية غيره من الصحابة، مع أن الكابلي قد نص على ذلك في عبارته السالفة، وكأن (الدهلوي) يسعى بذلك وراء إخفاء فضائل أمير المؤمنين عليه السلام وإسدال الستار على الحقائق جهد المستطاع، ولكنه غفل عن أن بعض التتبع والنظر في كتب الفريقين يكشف عن سوء نيته ويظهر خيانته، ويعلن للملأ العلمي كثرة طرق هذا الحديث الشريف وأسانيده المعتبرة، المعترف بصحتها من قبل جماعة كبيرة من الحفاظ عن طائفة كبيرة من مشاهير الأصحاب، حتى لقد جاوزت تلك الطرق والأسانيد حد التواتر بمراتب عديدة جدا. ولأجل أن نبرهن على هذا الذي ذكرناه، نذكر بعض الأدلة والشواهد حسب تصريحات كبار أئمة أهل السنة:

ص 50

1 - كلام ابن المغازلي

 قال الفقيه المحدث ابن المغازلي الشافعي ما لفظه: حدثني أبو القاسم الفضل بن محمد بن عبد الله الاصفهاني - قدم علينا بواسط - إملاء من كتابه لعشر بقين من شهر رمضان، سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، قال: حدثني محمد بن علي ابن عمر بن مهدي، قال: حدثني سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني قال حدثني أحمد بن إبراهيم بن كيسان الثقفي الاصفهاني، قال: حدثني إسماعيل بن عمر البجلي، قال: حدثني مسعر بن كدام، عن طلحة بن مصرف، عن عمر بن سعد، قال: شهدت عليا على المنبر ناشد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سمع رسول الله يوم غدير خم يقول ما قال فليشهد، فقام اثنا عشر رجلا منهم: أبو سعيد الخدري وأبو هريرة وأنس بن مالك، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه، أللهم وال من والاه وعاد من عاداه . قال أبو القاسم الفضل بن محمد: هذا حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى حديث غدير خم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو مائة نفس منهم العشرة، وهو حديث ثابت لا أعرف له علة، تفرد علي رضي

ص 51

الله عنه بهذه الفضيلة لم يشركه أحد. إنتهى (1). فحديث الغدير، حديث رواه - على ما ذكره ابن المغازلي - نحو مائة نفس، منهم العشرة المبشرة بالجنة عندهم، وهو يدل على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام أو أفضليته المستلزمة لها لعدم مشاركة أحد له في هذه الفضيلة.

 ابن المغازلي ثقة

ثم إن ابن المغازلي من كبار العلماء الثقات المعتمدين لدى أهل السنة، فقد ذكره السمعاني (2) والبدخشاني (3) والكاتب الجلبي (4)، وأثنوا عليه. كما نقل عن ابن المغازلي واعتمد على كتبه جماعة من أعلام علمائهم كابن حجر المكي في (الصواعق المحرقة). وكمال الدين الجهرمي في (البراهين القاطعة في ترجمة الصواعق المحرقة) والملا مبارك في (أحسن الأخبار في ترجمة الصواعق المحرقة). والشريف السمهودي في (جواهر العقدين). والفضل ابن باكثير المكي في (وسيلة المآل) والبرزنجي في (نواقص الروافض). والشيخاني القادري في (الصراط السوي). كما اعتمد جماعة منهم على كتابه (المناقب) بالذات، ومنهم تلميذ (الدهلوي) الفاضل رشيد الدين الدهلوي في كتاب (إيضاح لطافة المقال)، وقد جعل تأليفه كتاب (المناقب) دليلا على محبه أهل السنة وولائهم لأهل البيت عليهم السلام كسائر الكتب التي ألفها بعض علمائهم في مناقب الأئمة الطاهرين. بل لقد تمسك المولوي حيدر علي الفيض آبادي - مع ما هو عليه من

(هامش)

(1) مناقب أمير المؤمنين / 26 - 27. (2) الأنساب - الجلابي. (3) تراجم الحفاظ - مخطوط. (4) كشف الظنون 1 / 309. (*)

ص 52

التعصب - برواية ابن المغازلي هذه في كتابه (منتهى الكلام)... وستقف على ذلك إن شاء الله تعالى.

ص 53

2 - تصنيف ابن عقدة

في طرق الحديث ومن الشواهد على كثرة طرق حديث الغدير وتواتره: تصنيف الحافظ أبي العباس أحمد بن محمد المعروف بابن عقدة الكوفي كتابا خاصا بطرق حديث الغدير عن أكثر من مائة نفس من كبار الصحابة بأسانيد متعددة... قال السيد الجليل ابن طاوس الحلي رضي الله تعالى عنه في ذكر من صنف في طرق هذا الحديث الشريف: ومن ذلك: الذي لم يكن مثله في زمانه أبو العباس أحمد بن سعيد بن عقدة الحافظ، الذي زكاه وشهد بعلمه الخطيب مصنف تاريخ بغداد، [فإنه] صنف كتابا سماه: (حديث الولاية)، وجدت هذا الكتاب بنسخة قد كتبت في زمان أبي العباس ابن عقدة مصنفه، تاريخها سنة ثلاثين وثلاثمائة، صحيح النقل، عليه خط الطوسي وجماعة من شيوخ الإسلام، لا يخفى صحة ما تضمنه على أهل الأفهام، وقد روى فيه نص النبي صلى الله عليه وآله على مولانا علي عليه السلام بالولاية من مائة وخمس طرق (1). وقال السيد المذكور أيضا: وقد صنف العلماء بالأخبار كتبا كثيرة في حديث

(هامش)

(1) الاقبال بصالح الأعمال / 453. (*)

ص 54

الغدير وتصديق ما قلناه، وممن صنف تفصيل ما حققناه أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، الحافظ المعروف بابن عقدة، وهو ثقة عند أرباب المذاهب، وجعل كتابا مجردا سماه (حديث الولاية) وذكر الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وآله - بذلك وأسماء الرواة من الصحابة، والكتاب عندي الآن. وهذه أسماء من روي عنهم حديث الغدير ونص النبي على علي بالخلافة، وإظهار ذلك عند الكافة، ومنهم من هنأه بذلك:

 ذكر من روى عنه ابن عقدة حديث الغدير من الصحابة

 أبو بكر عبد الله بن عثمان عمر بن الخطاب عثمان بن عفان علي بن أبي طالب طلحة بن عبيد الله الزبير بن العوام عبد الرحمن بن عوف سعد بن مالك (وهو سعد بن أبي وقاص) العباس بن عبد المطلب الحسن بن علي بن أبي طالب الحسين بن علي بن أبي طالب عبد الله بن العباس عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عبد الله بن مسعود عمار بن ياسر أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء السادس

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب