ص 305
بسبه على رؤوس المنابر، والشيطان يسبح الله ويقدسه بل يزعم في دعوى إخلاصه أن سجدة
آدم عليه السلام شرك مع الله، وصار لمخالفته الأمر بها عدوا لله ملعونا مطرودا،
وبهذا يعلم بطلان استدلاله المذكور على المحبة، ويفهم أنه لم يذق طعم المحبة.
وبالجملة، قد علم أن الجاحظ - وهو أبو عثمان عمرو بن بحر - كان عثمانيا مروانيا،
ومع هذا قد اعترف بفضل بني هاشم وأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقديمهم،
وفضل علي - عليه السلام - وتقديمه في بعض رسائله، فإن كان هذا مذهبه فذاك، وإلا فقد
أنطقه الله تعالى بالحق وأجرى لسانه بالصدق، وقال ما يكون حجة عليه في الدنيا
والآخرة، ونطق بما لو اعتقد غيره لكان خصيمه في محشره فإن الله تعالى عند لسان كل
قائل، فلينظر قائل ما يقول وأصعب الأمور وأشقها أن يذكر الانسان شيئا يستحق به
الجنة، ثم يكون ذلك موجبا لدخول النار، نعوذ بالله من ذلك . فظهر أن القاضي
التستري - رحمه الله - قد ذكر تأليف الجاحظ رسالة فضائل علي وأهل البيت - عليهم
السلام -، وأنه لم يحمل ذلك على محمل مستغرب، فقول رشيد الدين الدهلوي: مع عدم
ذكر تأليفه كتابا في مناقبه، وحمل ذلك على محمل يستغفر به الأذكياء بل الأغبياء
كذب صريح. وأما ظهور كذب هذا الرجل من كلام نفسه، فلأنه يقول: وحمل ذلك على محمل
يستغربه الأذكياء بل الأغبياء لأن هذا الكلام يتضمن عدم إنكار السيد تصنيف الجاحظ
تلك الرسالة. هذا، وأما دعوى أنه يستغربه الأذكياء بل الأغبياء فطريفة جدا.
فلقد ثبت بالقطع واليقين لدى (الدهلوي) نصب الجاحظ وعداوته وثبت عنده أن الجاحظ صنف
رسالة في الطعن في خصائص مولانا علي - عليه السلام -، فلا بد أن يكون (الدهلوي)
يحمل رسالة الجاحظ - المذكورة - على ذلك المعنى أيضا، فيكون حينئذ خارجا من عداد
الأذكياء بل الأغبياء في رأي تلميذه الرشيد...
ص 306
بل الألطف من هذا: أن رشيد الدين خان يجعل استدلال القاضي - رحمه الله - على عداوة
الجاحظ ومخالفته لإجماع المسلمين بإظهار قوله المذكور في الإمامة، أعجب مما ادعاه
العلامة الحلي - رحمه الله - وكأن الرشيد الدهلوي لا يدري أن مقالة الجاحظ هذه تؤدي
إلى إنكار خلافة الإمام - عليه السلام - حتى في المرتبة الرابعة، فلو لم يكن هذا
المذهب نصبا وعداوة لدى الرشيد الدهلوي فليقل لنا ما هو مصداق العداوة والبغض
والانحراف في رأيه... هذا، وأما تشكيك رشيد الدين الدهلوي في صدور هذه المقالة من
الجاحظ حيث قال على تقدير تسليم صدورها من هذا المعتزلي فيدل على طول باعه في
التحقيق وسعة اطلاعه وإحاطته بالمذاهب والنحل...!! فإن صدور هذه المقالة من الجاحظ
مشهور، فقد قال الشريف في رد كلام قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي القائل بعد كلام
له: وبعد، فإن جاز حصول النص على هذه الطريقة ويختص بمعرفته قوم على بعض الوجوه،
ليجوزن ادعاء النص على العباس وغيره، وإن اختص بمعرفته قوم دون قوم ثم انقطع النقل،
لأنه إن جاز انقطاع النقل فيما يعم تكليفه عن بعض دون بعض جاز انقطاعه عن المكلفين
كذلك، لأن ما أوجب إزاحة العلة في كلهم يوجب إزاحة العلة في بعضهم . قال الشريف
رحمه الله في رده: يقال له: إن المعارضة بما يدعى من النص على العباس، أبعد عن
الصواب من المعارضة بالنص على أبي بكر، والذي يتبين بطلان هذه المقالة، والفرق
بينها وبين ما يذهب إليه الشيعة في النص على أمير المؤمنين - عليه السلام - وجوه:
منها: أنا لا نسمع بهذه المقالة إلا حكاية وما شاهدنا قط ولا شاهد من أخبرنا ممن
لقيناه قوما يدينون بها، والحال في شذوذ أهلها أظهر من الحال في شذوذ البكرية، وإن
كنا لم نلق منهم إلا آحادا لا يقوم الحجة بمثلهم، فقد وجدوا على
ص 307
حال وعرف في جملة الناس من يذهب إلى المقالة المروية عنهم، وليس هذا في العباسية.
ولولا أن الجاحظ صنف كتابا حكى فيه مقالتهم وأورد فيه ضربا من الحجاج نسبه إليهم،
لما عرفت لهم شبهة ولا طريقة تعتمد في نصرة قولهم. والظاهر أن قوما ممن أراد التسوق
والتوصل إلى منافع الدنيا، تقرب إلى بعض خلفاء ولد العباس بذكر هذا المذهب وإظهار
اعتقاده ثم انقرض أهله وانقطع نظام القائلين به لانقطاع الأسباب والدواعي لهم إلى
إظهاره، ومن جعل ما يحكى من هذه المقالة الضعيفة الشاذة معارضة لقول الشيعة في
النص، فقد خرج عن الغاية في البهت والمكابرة. ومنها: إن الذي يحكى عن هذه الفرقة
التي أخبرنا عن شذوذها وانقراضها مخالف أيضا لما تدين به الشيعة من النص، لأنهم
يعولون فيما يدعونه من النص على صاحبهم على أخبار آحاد ليس في شيء منها تصريح بنص
ولا تعريض، ولا دلالة عليه من الفحوى ولا ظاهر، وإنما يعتمدون على أن العم وارث،
وأنه يستحق وراثة المقام كما يستحق وراثة المال، وعلى ما روي من قوله ردوا علي أبي
وما أشبه هذا من الأخبار التي إذا سلم نقلها وصحت الرواية المتضمنة لها لم يكن فيها
دلالة على النص والإمارة، ولا اعتبار بمن يحمل نفسه من مخالفينا على أن يحكى عنهم
القول بالنص الجلي الذي يوجب العلم ويزيل الريب كما يقول الشيعة، لأن هذا القول عن
قائله لا يغني عنه شيئا، مع العلم بما حكي من مقالة هذه الفرقة وسطر من احتجاجها
واستدلالها. ولو لم يرجع في ذلك إلا إلى ما صنفه الجاحظ لهم، لكان فيه أكبر حجة
وأوضح دلالة، فما وجدناه - مع توغله وشدة توصله إلى نصرة هذا المذهب - أقدم على أن
يدعي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصا صريحا بالامامة، بل الذي اعتمده فهو
ما قدمنا ذكره وما يجري مجراه. مثل: قول العباس - وقد خطب رسول الله صلى الله عليه
وآله
ص 308
خطبته المشهورة في الفتح فانتهى إلى قوله: إن مكة حرام، حرمها الله يوم خلق
السماوات والأرض لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها - إلا الأذخر يا رسول الله. فأطرق
رسول الله - صلى الله عليه وآله - وقال: إلا الأذخر. ومثل: ما روي من تشفيعه له في
مجاشع بن مسعود السلمي - وقد التمس البيعة على الهجرة بعد الفتح - فأجابه إلى ذلك.
ومثل: إدعائه سبقه الناس إلى الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عند
وفاته. وتعلقه بحديث الميراث، وحديث اللدود. إلى غير ما ذكرناه مما هو مسطور في
كتابه. ومن تصفحه علم أن جميع ما اعتمده لا يخرج عما حكمنا فيه بخلوه من الإشارة
إلى نص أو دلالة، وقد علمنا عادة الجاحظ فيما ينصره من المذاهب، فإنه لا يدع غثا
ولا سمينا، ولا يغفل عن إيراد ضعيف ولا قوي، حتى أنه ربما خرج إلى ادعاء ما لا
يعرف. فلو كان لمن ذهب إلى مذهب العباسية خبر ينقلونه يتضمن نصا صريحا على صاحبهم،
لما جاز أن يعدل عن ذكره مع تعلقه بما حكينا بعضه، واعتماده على أخبار آحاد أكثرها
لا يعرف (1). وأما قول رشيد الدين الدهلوي: وإنما يترتب على هذا الرأي حرمان
أحب الأحباب، وانتقال الميراث إلى غير المحبوب . فتوجيه لمقالة الجاحظ، وفيه ما لا
يخفى. وأما قوله: فصاحب هذا الزعم... فاعتبروا يا أولي الألباب فيتضمن وجهين
للدفاع عن الجاحظ: الأول: إنما قال ذلك ليتقرب إلى المأمون العباسي، لا عداوة لأمير
المؤمنين - عليه السلام -.
(هامش)
(1) الشافي في الإمامة / 98 - 99. (*)
ص 309
والثاني: إن العداوة أمر باطني، وكلام الجاحظ لا يدل عليها. وكلا الوجهين فاسد. أما
الأول: فلان مقتضاه: أن كل قول صدر إرضاء لملك أو رئيس - وإن كان في أقصى مراتب
الشناعة والفساد - لا يدل على اعتقاد قائله به، وهذا يستلزم أن لا يكون الذين سبوا
عليا تقربا إلى الأمويين نواصب له وأعداء، وأن لا يحكم بالكفر على من سب رسول الله
- صلى الله عليه وآله - وأهانه واستهزأ به تقربا إلى أئمة الكفر... إلى غير ذلك من
اللوازم الواضح فسادها. وأما الثاني: فكالأول في البطلان، بل أظهر منه. هذا، ومن
الضروري أن نشير هنا إلى أن القاضي التستري - رحمه الله - لم ينفرد في دعوى تشيع
المأمون، بل قال بذلك جماعة من أئمة أهل السنة من السابقين واللاحقين، كالجلال
السيوطي في (تاريخ الخلفاء) والذهبي في (سير أعلام النبلاء) والبرزنجي في (مرافضه)،
بل ذكر ابن خلدون في (تاريخه): أن دولة بني العباس دولة شيعية . على أن للتشيع
معنيين: أحدهما: التشيع بالمعنى الخاص، وهو الاعتقاد بإمامة أئمة الاثنى عشر من أهل
البيت، أولهم أمير المؤمنين علي، وآخرهم: المهدي المنتظر، عليهم السلام. والثاني:
التشيع بالمعنى العام، وهو الاعتقاد بإمامة علي - عليه السلام، بعد رسول الله - صلى
الله عليه وآله - بلا فصل. وقد صرح القاضي التستري في مقدمة كتابه (مجالس المؤمنين)
بأنه يذكر فيه الشيعة بالمعنى العام لا الخاص. فظهر بطلان دفاع الرشيد الدين
الدهلوي عن الجاحظ، وانتقاداته لكلام القاضي التستري - رحمه الله -.
ص 310
5_ حول رسالة الجاحظ في فضل علي عليه السلام

وإن تصنيف الجاحظ رسالة فضائل المؤمنين
- عليه السلام - إنما كان يفيده لو لم يرتكب تلك القبائح، ولم يطعن في فضائل الإمام
- عليه السلام - في رسالة أخرى صنفها في نصرة العثمانية. ومع ذلك فإنا لا نستبعد
اعتقاد الجاحظ بإمامة علي بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولعله من هنا
أثبت في رسالته في الفضائل أفضليته من غيره، واعترف بمناقبه وفضائله التي لا تحصى،
ولكن دعته الدواعي الدنيوية والشهوات النفسانية إلى تصنيف الرسالة الأخرى، التي زعم
فيها كون الإمامة بالميراث... كما ذكره الشريف المرتضى والقاضي التستري - رحمهما
الله تعالى -. ونظير ذلك ما ذكره شمس الأئمة محمد بن عبد الستار الكردي العمادي
المتوفى سنة 642 * ترجم له محيي الدين ابن أبي الوفا القرشي في (الجواهر المضية في
طبقات الحنفية) بقوله: كان أستاذ الأئمة على الإطلاق والموفود إليه من الآفاق،
قرأ بخوارزم على الشيخ برهان الدين ناصر بن أبي المكارم عبد السيد بن علي المطرزي
صاحب المغرب، ثم رحل إلى ما وراء النهر وتفقه بسمرقند على شيخ الإسلام المرغيناني
صاحب الهداية، والشيخ مجد الدين المهاري السمرقندي المعروف بإمام زاده، وسمع الحديث
منهما، وتفقه ببخارى على العلامة بدر الدين عمر بن عبد الكريم، والشيخ شرف الدين
أبي محمد عمر بن محمد بن عمر العقيلي... وبرع في معرفة المذاهب وإحياء علم أصول
الفقه بعد اندراسه من زمن القاضي أبي زيد الدبوسي وشمس الأئمة السرخسي، وتفقه عليه
خلق كثير... . وترجم له محمود بن سليمان الكفوي في (كتائب أعلام الأخيار من مذهب
النعمان المختار) بقوله: الشيخ الإمام الموفود إليه من الآفاق مرضي الشمائل، جامع
مكارم الأخلاق، بدر الأمة، شمس الأئمة... أخذ عن كبار الفقهاء
ص 311
وأعلام العلماء، حتى قرن الله مساعيه بالنجاح، وجعل صيته الطيار موفور الجناح، أخذ
عن جمع كثير لا يحيط بها الحد ولا يضبطها العد، كان قد وصل إلى خدمة الرجال من
أصحاب الكتيبة التاسعة والعاشرة والحادية عشر وأخذ عنهم وسمع التفسير والحديث، وبرع
في معرفة المذاهب، وكان أستاذ الأئمة على الإطلاق وكانت الطلبة ترحل إليه من
الآفاق... * عن الشافعية بقوله: الحمد لله رب العالمين، والصلاة على سيد
المرسلين محمد وآله العالمين العاملين. وبعد، فإني كنت أسمع شفعويا يذم إمام الأئمة
وسراج الأمة أبا حنيفة - رضي الله عنه - ويسئ القول به ويلعنه، بل أراهم يتقربون
إلى أتباعه ويتوددون إلى أشياعه إلا المعتزلة منهم، فإنهم كانوا يبغضون لبدعتهم
ويعادون لعداوتهم. حتى دخلت حلب - طهرها الله عن البدع - فسمعت بعد مدة أن أعلام
المدرسين من الشفعوية، لعن أبا حنيفة - رحمه الله - فأنكرت على الناقل وكذبته، ثم
توالى على سمعي من سكان مدارس الشفعوية من المتفقهة منهم، أنهم يسيئون القول في
الحنفيين ويبغضونهم، وفي أيديهم كتاب مكتوب فيه مناظرة الشافعي - رحمه الله تعالى -
مع محمد بن الحسن الشيباني، يذكر فيه أن الشافعي - رحمه الله - ناظره فنظره عند
هارون الرشيد وكفره، وهم يعتقدون صحة ذلك ويدرسونه، فقلت: سبحان الله! الشافعي كان
تلميذ محمد بن الحسن واستفاد منه علم أبي حنيفة - رحمه الله - وأثنى عليه، كيف
يستجرئ أن يناظره وينظره ويحاجه ويحجه، فضلا عن أن ينظره ويكفره، مع علمه قبح ذلك
في الشريعة المطهرة؟ فطلبت ذلك المكتوب فأخفوه، والآن وقعت في يدي جزازة مكتوب
فيها: إن أبا محمد الغزالي الطوسي أحد رؤساء الشفعوية ذكر في آخر كتابه الموسوم
بالمنخول في الأصول بابا، قدم فيه مذهب الشافعي على سائر المذاهب، وفضله على سائر
أصحاب المناصب، مثل أبي حنيفة وأحمد ومالك - رحمهم الله -، وسلك في تصحيح دعواه
ثلاث مسالك وطعن فيه، وخص أبا حنيفة - رحمه الله - بالتشنيع
ص 312
العظيم والتقبيح العميم، ووصفه بما يشير إلى أنه كان ملحدا لا مؤمنا، نحو قوله:
فأما أبو حنيفة فقد قلب الشريعة ظهرا لبطن وشوش مسلكها وخرم نظامها، وسنذكر تمامه
في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. فقلت لنفسي: لا أتيقن هذا ما لم أطلع
على الكتاب الموسوم بالمنخول، فتوسلت بطريقة إلى تحصيله، فوجدته بعد جهد جهد في
زمان مديد، فوجدته كما نسخ في هذه الجزازة، فأورد في قلبي وجدا وحرارة، فبان لي أن
تقربهم في بلاد العجم إلى أصحاب الإمام المعظم كان تقية، لما يرون من تقدمهم وقربهم
وتعصبا لأمرائهم، وأن تبغضهم بهم في هذه وإزرائهم عليهم لقربهم من السلطان وميله
إليهم، ولاح لي بدلالة واضحة وأمارة لائحة أن القوم يعرفون أن أبا حنيفة - رحمه
الله - هو الإمام المتقدم والحبر المعظم، والعالم التقي والزاهد النقي، لكن يظهرون
خلاف ما يضمرون، طلبا للرئاسة الكلية والشوهات النفسانية والحفوظ الدنيوية. ومصداق
هذه الدعوى وبرهانها أن خيارهم يأخذون الشفعة بالجوار، وأنه غصب وعدوان عندهم،
ويتطهرون بماء الحمام ويغتسلون به وهو نجس عندهم والصلاة بتلك الطهارة باطلة عندهم،
بناءا على أن رماد النجاسة المحرقة نجس عندهم، وقد خلط بالكلس في الحمام وبطليه،
وأن النجاسة تحترق في الأتون وأن أجزاء رمادها تقع في مجرى الحوض، فيجري عليه الماء
فيتنجس، ويتعاملون في السوق بالأخذ والعطاء بدون قولهم بعت واشتريت في المطعوم
والمشروب والملبوس، وأنه باطل عندهم، والمقبوض بناء على ذلك كالمقبوض بالغصب. وكذا
يبيعون ويشترون على أيدي صبيانهم وتصرفاتهم عندهم باطلة، ويزارعون والمزارعة عندهم
فاسدة، ويتزوجون بتزويج أولياء فساق وتزويجهم في مذهبهم باطل، وكذلك أنكحتهم بحضرة
الفساق فاسدة، فيظهر بهذا أن أنكحتهم في الأكثر باطلة، ووطؤهم بناء على تلك الأنكحة
زنا وأولادهم أولاد زنا، وما يأكلون ويشربون ويلبسون حرام، وكذا ما يجمعون بتلك
الطرق.
ص 313
فإن قالوا: أخذنا في هذه المسائل بمذهب أبي حنيفة - رحمه الله - وأنه حق، فما بالهم
يطعنون عليه ويلعنون؟! وإن قالوا: مذهبه باطل ومذهبنا حق، فما بالهم يلابسون
المحظورات ويقارفون المنهيات، ويبارزون بالمعاصي لمالك الأوامر والنواهي، وهم
يعلمون ذلك ولا يتناهون عنه ولا يرجعون، بل يتعاونون على ذلك ويتظافرون وعلى ذلك
يموتون ولا يتوبون عن ذلك ولا يتذكرون؟! ومما يؤيد هذا ويوضحه أنك ترى أعلمهم
وأزهدهم إذا تمكن من أمير أو وزير يعتقد أنه ظالم غاشم يجري معه في هواه ويوافقه
فيما يهواه، فيمدحه في وجهه بما ليس فيه حتى يصمه ويعميه، ومذهبه أنه لا ولاية لهذا
الأمير والوزير على أولاده الصغار تزويجا وعلى أموالهم بيعا وشراء، وعلى تزويج بنته
البكر البالغة، فضلا عن أن يثبت له ولايته على العوام وأموال الأيتام والأوقاف
وأموال بيت المال، وأن توليته لا تصح، وأن الأنكحة بحضرة أمثاله لا تنعقد، ومع ذلك
يتقلد منه القضاء والنظر في الأوقاف وأموال الأيتام مع اعتقاده أن توليته باطلة
وتقلده فاسد، وهو في مدحه إياه وإعانته ظالم آثم ثم ربما تعدى من ذلك إلى الوزارة
وجمع المال بالطرق المحرمة، ويظهر له أنه ناصح أمين وشفيق ومسكين وهو في الحقيقة
خائن مبين، فيتلهى بالرجل حتى يصل إلى أغراض فاسدة، من التقدم على العوام وجمع
الحطام وتخريب المدارس والرباطات معنى بتوليته من لا يصلح لها، إذا علم أنه يدخل
معه في هواه ويوافقه فيما يهواه، وترك الصالح للتدريس والفتيا وعدم تمكينه من ذلك
خوفا من أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينكر عليه أفعاله ولا يحسن أحواله.
فلينظر العاقل المنصف أن من هذه صفاته هل يصلح أن يعتمد عليه في أمور الدين
والدنيا، ويؤتمن عليه في المصالح ويفوض إليه تدبير المملكة، فمن هذه صفته لا يبعد
منه أن يعتقد حقية مذهب الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - ثم يظهر خلافه ليحصل له
الرئاسة الكلية... .
ص 314
ثم إن الكردري أورد طعن الغزالي صاحب (المنخول) في أبي حنيفة في الفصل الأول من
كتابه وذكر أن الغزالي ردد أمر أبي حنيفة - رحمه الله - بين أن يكون جاهلا
ومجنونا. وبين كونه كافرا زنديقا فقال: فهذا اعتقادهم في إمام الأئمة وسراج
الأمة، فكيف في أتباعه ومقلدي مذهبه، من الأمراء والسلاطين وقواد عساكر المسلمين
والفقهاء منهم والمدرسين؟ واعتقادهم في أتباعه ما نص عليه من وصفهم به، من شدة
الغباوة وقلة الدراية وشدة الخذلان، فإن حواسهم فاسدة غير سليمة وعقولهم وأنظارهم
غير سديدة . ثم قال: ثم لا يستحيون ويظهرون في وجوه أتباعه من الأمراء والقضاة
والولاة من الاطراء ما يزيد على الصديق وعمر الفاروق . قال: ثم إن الله تعالى عز
وجل أظهر كرامة أبي حنيفة - رحمه الله - بأن سلط على هذا الطاعن فيه رؤساء مذهبه
وعملائهم، فقابلوه على طعنه بأن شهدوا عليه بالإلحاد والزندقة والتزوير والمخرقة
عند السلطان سنجر، وأفتوا بإباحة دمه ووجوب قتله... (1). أقول: وهكذا حال الجاحظ
وشأنه مع مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام - وعليه ينطبق جميع ما قاله الكردري
في حق الغزالي، وكذا على من كان على شاكلته.
6_ يستند إلى أقوال العلماء في فنونهم
قد علمت أن مدح الشريف الرضي - رحمه الله - للجاحظ لم يكن مدحا على حقيقته، بل كان
مدح إلزام وإفحام... ثم نقول: إنه لا مانع من أن يكون مدحا واقعيا، وأن يكون استناد
الشريف إلى كلام الجاحظ في معرفة كلام الإمام - عليه السلام - استنادا حقيقيا
(هامش)
(1) الرد على مطاعن أبي حنيفة في كتاب المنخول للغزالي. (*)
ص 315
... وذلك لأن العلماء كثيرا ما يستندون إلى أشعار الكفار، وفي المسائل الطبية -
مثلا - إلى أقوال الطبيب الملحد، ولا يرون في ذلك بأسا أبدا... وقد تعرض لهذه
المسألة علماء الدراية وعلم الحديث في كتبهم التي وضعوها في هذا العلم، قال الجاحظ
جلال الدين السيوطي: قال عز الدين بن عبد السلام في جواب سؤال كتبه إليه أبو محمد
بن عبد الحميد: وأما الاعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها فقد اتفق العلماء
في هذا العصر على جواز الاعتماد عليها والإسناد إليها، لأن الثقة قد حصلت بها كما
تحصل بالرواية، ولذلك اعتمد الناس على الكتب المشهورة في النحو واللغة والطب وسائر
العلوم، لحصول الثقة بها وبعد التدليس، ومن زعم [اعتقد] أن الناس قد اتفقوا على
الخطأ في ذلك فهو أولى بالخطأ منهم، ولولا جواز الاعتماد على ذلك لتعطل كثير من
المصالح المتعلقة بها. وقد رجع الشارع إلى قول الأطباء في صور، وليست كتبهم مأخوذة
في الأصل إلا عن قول الكفار [قوم كفار] ولكن لما بعد التدليس فيها اعتمد عليها، كما
اعتمد في اللغة على أشعار العرب وهم كفار، لبعد التدليس (1). هذا، وأما مدح
الكفار والمشركين والخوارج بصفات كانوا يتصفون بها فكثير في الصحاح وكتب الحديث
والتواريخ وغيرها. وبهذا نكتفي في رد دفاع الفاضل رشيد الدين الدهلوي عن الجاحظ.
(هامش)
(1) تدريب الراوي - شرح تقريب النواوي 1 / 152. (*)
ص 317
5 _ عدم رواية ابن أبي داود حديث الغدير

ص 319
وأما استناد الفخر الرازي إلى ترك ابن أبي داود حديث الغدير وقدحه فيه، فمردود
بوجوه:
1. لا دليل على القدح

إن دعوى قدح ابن أبي داود السجستاني في حديث الغدير
دعوى لا يدعمها أي دليل، ولم يقم عليها برهان. وكل دعوى لم يقم صاحبها على صحتها
دليلا فهي غير مسموعة...
2. دعوى القدح كاذبة

بل إن هذه الدعوى باطلة لا أصل لها،
فقد قيل: إن ابن أبي داود لم ينكر خبر الغدير، وإنما أنكر منه بعض أمور خارجة عن
أصل الحديث... قال الشريف المرتضى رحمه الله تعالى: فإن قيل: أليس قد حكي عن ابن
أبي داود السجستاني في دفع الخبر، وحكي عن الخوارج مثله، وطعن الجاحظ في كتاب
العثمانية فيه؟ قيل له: أول ما نقوله أن لا معتبر في باب الاجمال بشذوذ كل شاذ عنه،
بل الواجب أن يعلم أن الذي خرج عنه ممن يعتبر قوله في الإجماع ثم يعلم أن الإجماع
لم يتقدم خلافه.
ص 320
فإن ابن أبي داود والجاحظ لو صرحا بالخلاف لسقط خلافهما بما ذكرناه من الإجماع،
خصوصا بالذي لا شبهة فيه من تقدم الإجماع وفقد الخلاف وقد سبقهما ثم تأخر عنهما.
على أنه قد قيل: إن ابن أبي داود لم ينكر الخبر، وإنما أنكر كون المسجد الذي بغدير
خم متقدما، وقد حكي عنه التنصل من القدح في الخبر والتبري مما قذفه به محمد بن جرير
الطبري. وأما الجاحظ فلم يتجاسر أيضا على التصريح بدفع الخبر، وإنما طعن على بعض
رواته، وادعى اختلاف ما نقل من لفظه. ولو صرح الجاحظ والسجستاني وأمثالهما بالخلاف
لم يكن قادحا لما قدمناه (1).
3. استدلال الرازي يخالف قواعد البحث

ولو سلمنا ما
حكي من قدح ابن أبي داود في حديث الغدير، فإنه لا وجه لتمسك الرازي بذلك، لأنه خروج
عن قواعد البحث وآداب المناظرة، إذ قد تقرر في علم المناظرة أن يتخذ المخاصم من
أقوال خصمه وتصريحات أصحابه وأبناء طائفته دليلا على الرد، لا أن يعتمد المخاصم على
ما ذكره أهل مذهبه وعلماء نحلته لأجل أن يخصم بذلك خصمه... وعلى هذا الأساس التزم
(الدهلوي) في مقدمة (التحفة) ومن قبله والده في (قرة العينين) بعدم الاحتجاج
بروايات أهل السنة، حتى من البخاري وغيره من صحاحهم في محاجة الإمامية... ولكنهما -
مع الأسف - خالفا ما التزما ولم يفيا بما وعدا...
(هامش)
(1) الشافي في الإمامة / 132. (*)
ص 321
4. المعارضة بتصحيح الأئمة الحديث

على أن ترك ابن أبي داود حديث الغدير أو قدحه فيه، معارض
برواية أكابر أئمة أهل السنة إياه، وتصريحهم بصحته، وتنصيصهم على ثبوته وتواتره عن
رسول الله - صلى الله عليه وآله -... فهو حديث مجمع على صحته، ولا اعتبار بقول شاذ
خارج عن هذا الإجماع...
5. المعارضة برواية أبي داود

ومن رواة حديث الغدير: أبو
داود (والد أبي بكر ابن أبي داود) فقد قال الحافظ النسائي ما نصه: أخبرني أبو
داود قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد الملك بن أبي عيينة، قال: أخبرنا الحكم،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن بريدة، قال: خرجت مع علي - رضي الله عنه - إلى
اليمن فرأيت منه جفوة، فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت عليا - رضي الله
عنه - فتنقصته، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتغير وجهه فقال: يا بريدة
ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: من كنت مولاه فعلي
مولاه (1). فما ذكره ابن أبي داود - لو ثبت - معارض برواية أبيه للحديث، ومن
المسلم به تقدم والده عليه علما وحفظا وثقة... ومن هنا يظهر ما في نسبة القدح في
حديث الغدير إلى أبي داود السجستاني، كما عن ابن حجر المكي في (الصواعق) وكمال
الدين الجهرمي في (البراهين القاطعة) ونور الدين الحلبي في (السيرة) وعبد الحق
الدهلوي في (شرح المشكاة)
(هامش)
(1) خصائص أمير المؤمنين علي / 94. (*)
ص 322
والسهارنبوري في (المرافض)... فإنها نسبة باطلة لا أساس لها من الصحة...
6. قال أبو
داود: ابني عبد الله كذاب

ثم إن أبا بكر ابن أبي داود قد تكلم فيه جماعة من كبار
الأئمة والحفاظ المشاهير وغيرهم... منهم: ابن صاعد وإبراهيم الاصفهاني والبغوي وابن
أبي عاصم وابن منده والأخرم وابن الجارود والقطان والطبري وابن الفرات وعلي بن عيسى
الوزير وقال أبوه: إبني عبد الله كذاب . وقد كفانا ما قال أبوه... وإليك النص
الكامل لما جاء بترجمته على لسان الحافظ الذهبي حيث قال: أبو بكر عبد الله بن
سليمان بن الأشعث، الإمام العلامة الحافظ شيخ بغداد، أبو بكر السجستاني صاحب
التصانيف، ولد بسجستان في سنة 230، روى عن خلق كثير بخراسان والحجاز والعراق والشام
وإصبهان وفارس، وكان من بحور العلم، بحيث أن بعضهم فضله على أبيه. صنف السنن،
والمصاحف، وشريعة القاري، والناسخ والمنسوخ، والبعث وأشياء. حدث عنه خلق كثير
ص 323
منهم: ابن حبان، وأبو أحمد الحاكم، وأبو عمر ابن حيويه وابن المظفر، وابن شاهين،
والدارقطني وآخرون. قال الحاكم أبو عبد الله: سمعت ابن أبي داود يقول: حدثت من حفظي
بإصفهان بستة وثلاثين ألفا، ألزموني الوهم فيها في سبعة أحاديث، فلما انصرفت وجدت
في كتابي خمسة منها على ما كنت حدثتهم به. قال الحافظ أبو محمد الخلال: كان ابن أبي
داود إمام أهل العراق، ومن نصب له السلطان المنبر، وقد كان في وقته بالعراق مشايخ
أسند منه، ولم يبلغوا في الجلالة والاتقان ما بلغ هو. أبو ذر الهروي: أنبأ أبو حفص
ابن شاهين، قال: أملى علينا ابن أبي داود وما رأيت بيده كتابا، إنما كان يملي حفظا،
فكان يقعد على المنبر بعد ما عمي ويقعد دونه بدرجة ابنه أبو يعمر بيده كتاب فيقول
له: حديث كذا، فيسرده من حفظه حتى يأتي على المجلس، قرأ علينا يوما حديث الفنون من
حفظه، فقام أبو تمام النرسي وقال: لله درك ما رأيت مثلك إلا أن يكون إبراهيم الحربي
فقال: كلما كان يحفظ إبراهيم فأنا أحفظه، وأنا أعرف النجوم وما كان هو يعرفها. أبو
بكر الخطيب: كان فقيها عالما حافظا. قلت: وكان رئيسا عزيز النفس مدلا بنفسه سامحه
الله. قال أبو حفص ابن شاهين: أراد الوزير علي بن عيسى أن يصلح بين ابن أبي داود
وابن صاعد فجمعهما وحضر أبو عمر القاضي، فقال الوزير: يا أبا بكر أبو محمد أكبر منك
فلو قمت إليه، فقال: لا أفعل. فقال الوزير: أنت شيخ زيف، فقال: الشيخ الزيف الكذاب
على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال الوزير: من الكذاب؟ قال: هذا، ثم قام
وقال: تتوهم أني أذل لك لأجل رزقي وأنه يصل على يدك؟ والله لا آخذ من يدك شيئا،
قال: فكان الخليفة المقتدر يزن رزقه بيده ويبعث به في طبق على يد الخادم. قال أبو
أحمد الحاكم سمعت أبا بكر يقول: قلت لأبي زرعة الرازي: ألق
ص 324
علي حديثا غريبا من حديث مالك، فألقى علي حديث وهب بن كيسان عن أسماء لا تحصى فيحصى
عليك، رواه عن عبد الرحمن بن شيبة وهو ضعيف، فقلت: نحب أن نكتبه عن أحمد بن صالح،
عن عبد الله بن نافع، عن مالك، فغضب أبو زرعة وشكاني إلى أبي وقال: أنظر ما يقول لي
أبو بكر. ويروى بإسناد منقطع أن أحمد بن صالح كان يمنع المرد من حضور مجلسه، فأحب
أبو داود أن يسمع ابنه منه، فشد على وجهه لحية وحضر، فعرف الشيخ فقال: أمثلي يعمل
معه هذا؟ فقال أبو داود: لا تنكر علي واجمع ابني مع الكبار، فإن لم يقاومهم
بالمعرفة فأحرمه السماع. حدث بها القاسم ابن السمرقندي، حدثنا يوسف بن الحسن
التفكري، سمعت الحسن بن علي بن بندار الزنجاني، قال: كان أحمد بن صالح يمنع المرد
من التحديث تنزها، فذكرها وزاد: فاجتمع طائفة فغلبهم الابن بفهمه، ولم يرو له أحمد
بعدها شيئا، وحصل له الجزء الأول فأنا أرويه. قلت: بل أكثر عنه. قال أبو عبد الرحمن
السلمي: سألت الدارقطني عن ابن أبي داود فقال: ثقة كثير الخطأ في الكلام على
الحديث. وقد ذكر أبو أحمد ابن عدي أبا بكر في كامله وقال: لولا أنا شرطنا أن كل من
تكلم فيه ذكرناه لما ذكرت ابن أبي داود، قال: وقد تكلم فيه: أبوه وإبراهيم بن
أورمة، ونسب في الابتداء إلى شيء من النصب، ونفاه ابن الفرات من بغداد إلى واسط، ثم
رده الوزير علي بن عيسى فحدث وأظهر فضائل علي - رضي الله عنه ثم تحنبل فصار شيخا
فيهم، وهو مقبول عند أصحاب الحديث، وأما كلام أبيه فيه فلا أدري إيش تبين له منه.
وسمعت عبدان يقول: سمعت أبا داود يقول: من البلاء أن عبد الله يطلب القضاء. ابن
عدي: أنبأ علي بن عبد الله الداهري، سمعت أحمد بن محمد بن عمرو كركره، سمعت علي بن
الحسين الجنيد، سمعت أبا داود يقول: ابني عبد الله
ص 325
كذاب. قال ابن صاعد: كفانا ما قال فيه أبوه. ابن عدي: سمعت موسى بن القاسم بن
الأسلت يقول: حدثني أبو بكر: سمعت إبراهيم الاصفهاني يقول: أبو بكر بن أبي داود
كذاب. ابن عدي: سمعت أبا القاسم البغوي - وقد كتب إليه أبو بكر بن أبي داود رقعة
يسأله عن لفظ حديث لجده، فلما قرأ رقعته قال: أنت والله منسلخ من العلم. قال: وسمعت
محمد بن الضحاك بن عمرو بن أبي عاصم يقول: أشهد على محمد بن يحيى بن منده بين يدي
الله تعالى أنه قال: أشهد على أبي بكر بن أبي داود بين يدي الله أنه قال: روى
الزهري عن عروة قال: حفيت أظافير فلان من كثرة ما كان يتسلق على أزواج النبي - صلى
الله عليه وسلم -. قلت: هذا باطل وإفك مبين، وأين إسناده إلى الزهري؟ ثم هو مرسل،
ثم لا يسمع قول العدو في عدوه، وما أعتقد أن هذا صدر عن عروة أصلا، وابن أبي داود
إن كان حكى هذا فهو خفيف الرأس، ولقد بقي بينه وبين ضرب العنق شبر، لكونه تفوه بمثل
هذا البهتان، فقام معه وشد متنه رئيس أصبهان محمد بن عبد الله بن حفص الهمداني
الذكواني وخلصه من أبي ليلى أمير إصبهان، وكان انتدب له بعض العلوية خصما ونسبت إلى
أبي بكر المقالة، وأقام عليه الشهادة محمد بن يحيى بن منده الحافظ، ومحمد بن العباس
الأخرم، وأحمد بن علي بن الجارود، واشتد الخطب، وأمر أبو ليلى بقتله، فوثب الذكواني
وجرح الشهود مع جلالتهم، فنسب ابن منده إلى العقوق، ونسب أحمد إلى أنه يأكل الربا،
وتكلم في آخر، وكان الهمداني الذكواني كبير الشأن، فقام وأخذ بيد أبي بكر وخرج به
من الموت، فكان أبو بكر يدعو له طول حياته ويدعو على أولئك الشهود. حكاها أبو نعيم
الحافظ ثم قال: فاستجيب له فيهم منهم من احترق، ومنهم من خلط وفقد عقله.
ص 326
قال أحمد بن يوسف الأزرق: سمعت أبا بكر بن أبي داود يقول: كل الناس مني في حل إلا
من رماني ببغض علي - رضي الله عنه - قال الحافظ ابن عدي: كان في الابتداء ينسب إلى
شيء من النصب، فنفاه ابن الفرات من بغداد فرده ابن عيسى فحدث وأظهر فضائل علي، ثم
تحنبل فصار شيخا فيهم. قلت: كان شهما قوي النفس، وقع بينه وبين ابن جرير وابن صاعد
وبين الوزير الذي قربه (1). أقول: في هذه الترجمة فوائد: الأولى: أن ابن أبي داود
كان مدلا بنفسه ومتكبرا، شيخا زيفا... وهذه صفات ذميمة كما لا يخفى على ناظر كتاب
(إحياء علوم الدين) وغيره. الثانية: أنه كان ناصبيا معاديا لأمير المؤمنين - عليه
السلام -، وقد روى حديثا لا يرويه إلا من كان كذلك. الثالثة: أنه كان كثير الخطأ في
الكلام على الحديث، كما قال الحافظ الدارقطني، وقد نقله عنه الذهبي في (ميزان
الاعتدال في نقد الرجال) أيضا. الرابعة: أنه قد تكلم فيه جماعة من كبار الأئمة منهم
أبوه. الخامسة: أنه كان كذابا كما قال أبوه وإبراهيم الاصفهاني. السادسة: أنه كان
مسلخا من العلم كما قال البغوي.
ترجمة ابن صاعد

وابن صاعد البغدادي القائل: كفانا
ما قال فيه أبوه من كبار الحفاظ الثقات، وقد أنثى عليه كل من ترجم له، فقد قال
الحافظ الذهبي في حوادث سنة 318: وفيها يحيى بن محمد بن صاعد، الحافظ الحجة، أبو
محمد البغدادي مولى
(هامش)
(1) سير أعلام النبلاء 13 / 229. (*)
ص 327
بني هاشم، في ذي القعدة وله تسعون سنة، عني بالأثر وجمع وصنف وارتحل إلى الشام
والعراق ومصر والحجاز، وروى عن مطين وطبقته. وقال أبو علي النيسابوري: لم يكن
بالعراق في أقران ابن صاعد في فهمه، والفهم عندنا أجل من الحفظ، وهو فوق أبي بكر من
أبي داود في الفهم والحفظ (1). وقال أيضا: حافظ بغداد يحيى بن محمد بن صاعد،
وله تسعون سنة، قال أبو علي النيسابوري: هو عندنا فوق ابن أبي داود في الفهم والحفظ
(2). وكذا قال اليافعي في تاريخه (مرآة الجنان وعبرة اليقظان) في حوادث السنة
المذكورة.
ترجمة إبراهيم الاصفهاني

وإبراهيم الاصفهاني الذي قال: أبو بكر بن أبي
داود كذاب من كبار الحفاظ كذلك، قال السمعاني: وأما أبو إسحاق إبراهيم بن أورمة
بن سادس بن فروخ الحافظ الاصفهاني كان حافظا مكثرا من الحديث، وكان يتعبد ببغداد...
روى عنه: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وإسماعيل بن أحمد ابن أصيب، ومحمد
بن يحيى وغيرهم وتوفي ببغداد سنة 271 (3). وقال الذهبي في حوادث سنة 266: وفيها
مات إبراهيم بن أورمة أبو إسحاق الاصفهاني الحافظ أحد أذكياء
(هامش)
(1) العبر: حوادث سنة 318. (2) دول الإسلام: حوادث سنة 318. (3) الأنساب:
الاصبهاني. (*)
ص 328
المحدثين... (1). وقال الذهبي أيضا: إبراهيم بن أورمة الإمام الحافظ البارع أبو
إسحاق الاصبهاني مفيد الجماعة ببغداد... قال الدارقطني: هو ثقة حافظ نبيل. وقال أبو
الحسين ابن المنادي: ما رأينا في معناه مثله، وكان ينتخب على عباس الدوري. وقال أبو
نعيم الحافظ: فاق إبراهيم أورمة أهل عصره في المعرفة والحفظ، وأقام بالعراق يكتبون
عنه مدة بقائه. قلت: لم ينتشر حديثه، لأنه مات قبل محل الرواية... (2). وهكذا
ترجم له كل من: الحافظ السيوطي في (طبقات الحفاظ). واليافعي في (مرآة الجنان وعبرة
اليقظان).
ترجمة البغوي

والبغوي الذي قال لما قرأ رقعة ابن أبي داود إليه: أنت
والله منسلخ من العلم من كبار الحفاظ كذلك، قال السمعاني بترجمته ما ملخصه:
وكان محدث العراق في عصره، عمر العمر الطويل حتى رحل الناس إليه وكتبوا عنه، وكان
ثقة مكثرا، فهما عارفا بالحديث، سمع أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وعلي بن الجعد
وخلف بن هشام ومحمد بن عبد الوهاب الحارثي. روى عنه: يحيى بن محمد بن صاعد، وعلي بن
إسحاق البحري، وابن قانع، وحبيب بن الحسن القزاز، وأبو بكر الجعابي، وابن حبان،
وابن عدي وأبو بكر الاسماعيلي، وأبو القاسم الطبراني، وابن المقرئ، والدارقطني،
ومحمد بن
(هامش)
(1) العبر: حوادث سنة 266. (2) سير أعلام النبلاء 13 / 145. (*)
ص 329
المظفر، وخلق كثير سوى هؤلاء. قال أبو الحسن الدارقطني: كان أبو القاسم ابن منيع قل
ما يتكلم على الحديث فإذا تكلم كان كلامه كالمسمار في الساج. وكانت ولادته سنة 213.
ومات سنة 317 (1). وقال الذهبي في حوادث سنة 317 ما ملخصه: وكان محدثا حافظا
مجودا مصنفا، إنتهى إليه علو الاسناد في الدنيا (2). وقال الذهبي أيضا في حوادث
السنة المذكورة. وفيها مات مسند الدنيا المعمر الحافظ المصنف، أبو القاسم عبد
الله بن محمد البغوي ببغداد ليلة الفطر، وعمر مائة وأربع سنين (3). وقال السيوطي:
البغوي الحافظ الكبير الثقة، مسند العالم، أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد
العزيز بن المرزبان البغوي الأصل البغدادي، ابن بنت أحمد ابن منيع، ولد في رمضان
سنة 213، وسمع ابن الجعد، وأحمد، وابن المديني وخلقا، وصنف: معجم الصحابة،
والجعديات. وطال عمره وتفرد في الدنيا. قال ابن أبي حاتم: أبو القاسم يدخل في
الصحيح. وقال الدارقطني: كان قل أن يتكلم على الحديث، فإذا تكلم كان كلامه كالمسمار
في الساج، ثقة جليل إمام، أقل المشايخ خطأ. وقال الخطيب: حافظ عارف. توفي ليلة عيد
الفطر سنة 317 عن مائة وثلاث سنين (4).
(هامش)
(1) الأنساب - البغوي. (2) العبر - حوادث سنة 317. (3) دول الإسلام - حوادث سنة
317. 2 / 86. 13 / 364. 13 / 361. 13 / 369. (4) طبقات الحفاظ / 312، وتاريخ الوفاة
فيه: 214. وفيه بدل الخطيب ، الخليلي . (*)
ص 330
الشهود على روايته الحديث الموضوع

وأما قصة الحديث الذي ذكره الذهبي ثم قال: هذا
باطل وإفك مبين والذي كاد ابن أبي داود يقتل بسببه، فإن المقصود من فلان فيه،
هو أمير المؤمنين علي عليه السلام !! وقد شهد على تفوه ابن أبي داود بهذا الإفك
المبين والبهتان العظيم ثلاثة من كبار الحفاظ: 1 - محمد بن يحيى بن منده.
2 - محمد بن العباس أبو جعفر الأخرم. 3 - أحمد بن علي بن الجارود.
ترجمة ابن
منده

وابن منده ذكره الحافظ الذهبي في حوادث سنة 301 قائلا: وفيها محمد ابن يحيى
بن منده الحافظ الإمام أبو عبد الله الاصفهاني جد الحافظ الكبير محمد ابن إسحاق بن
مندة، روى عن لوين وأبي كريب وخلق. قال أبو الشيخ: كاد أستاذ شيوخنا وإمامهم. وقيل:
إنه كان يجاري أحمد ابن الفرات الرازي وينازعه (1). وكذا قال اليافعي بترجمته من
تاريخه (2). وقال الصلاح الصفدي: محمد بن يحيى بن منده - الحافظ المشهور أبو عبد
الله صاحب تاريخ إصبهان، كان أحد الحفاظ الثقات، وهو من أهل بيت كبير خرج منهم
جماعة من العلماء لم يكونوا عبديين، وإنما أم الحافظ أبي عبد الله المذكور كانت من
عبد ياليل... (3).
(هامش)
(1) العبر - حوادث سنة 301. (2) مرآة الجنان: حوادث سنة 301. (3) الوافي بالوفيات 5
/ 189. (*)
ص 331
وترجم له السيوطي في طبقاته ووصفه بالحافظ الرحال (1).
ترجمة الأخرم

وقال السيوطي
بترجمة أبي جعفر الأخرم: ابن الأخرم الحافظ الإمام أبو جعفر محمد بن العباس بن
أيوب الاصبهاني ثقة محدث حافظ. مات سنة 301 (2). وقال الذهبي في حوادث السنة
المذكورة: وفيها الحافظ أبو جعفر محمد بن العباس بن الأخرم الاصفهاني الفقيه، روى
عن أبي كريب وخلق (3).
الطبري وابن أبي داود

وكما ثبت نصب ابن أبي داود وعداوته
لأمير المؤمنين - عليه السلام - من كلام هؤلاء الأعلام وشهادتهم، كذلك ثبت من كلام
محمد بن جرير الطبري فقد قال الحافظ الذهبي ما نصه: وقال محمد بن عبد الله
القطان: كنت عند محمد بن جرير، فقال رجل، ابن أبي داود يقرأ على الناس فضائل علي -
رضي الله عنه - فقال ابن جرير: تكبيرة من حارس (4). وذكر الذهبي كلام الطبري هذا
في (سير أعلام النبلاء) أيضا إلا أنه تعقبه هناك بقوله: قلت: لا يسمع هذا من ابن
جرير للعداوة الواقعة بين الشيخين . أقول: ولكن ابن جرير - صاحب المذهب المستقل
والإمام المعتمد لدى أهل السنة قاطبة، حتى لقد فضله وقدمه ابن تيمية في منهاجه على
الإمامين
(هامش)
(1) طبقات الحفاظ: 313. (2) طبقات الحفاظ: 315. (3) العبر حوادث سنة 302. (4) ميزان
الاعتدال 2 / 433. (*)
ص 332
العسكريين عليهما السلام، كما قد اعتمد عليه الذهبي نفسه في أمور مهمة جدا - أجل من
أن يطعن في رجل وينسبه إلى أمر فظيع ومذهب شنيع تبعا لهواه وبدافع العداوة
والبغضاء.
دفاع الذهبي

ثم إن الذهبي شكك في تكلم أبي داود في ابنه وحاول توجيهه،
فقال بعد كلامه السابق: قلت: لعل قول أبيه فيه - إن صح - أراد الكذب في لهجته لا
في الحديث وأنه حجة فيما ينقله، أو كان يكذب ويوري في كلامه. ومن زعم أنه لا يكذب
فهو أرعن، نسأل الله تعالى السلامة من عثرة السيئات. ثم إنه شاخ وارعوى ولزم الصدق
والتقى... . أقول: لكن هذا التشكيك مندفع بما نقله هو في (ميزان الاعتدال) عن ابن
عدي وابن صاعد. وأما تأويله، فنقول: إن لم يكن ابن أبي داود كاذبا في حديثه وفيما
ينقله - على ما زعم - فإن مجرد كذبه في لهجته يكفي لإثبات فسقه وعدم جواز الاعتماد
على روايته. ثم إن التورية، إن كانت جائزة فالقول بأنه كذب غير صحيح، وإن لم
تكن جائزة فلا جدوى لهذا التأويل، إذ تكون التورية والكذب حينئذ على حد سواء. وأما
قوله: ثم إنه شاخ وارعوى ولزم الصدق والتقى فاعتراف منه بكونه كاذبا
ومرتكبا لهذه الصفة القبيحة والذنب الكبير... هذا، وكأن الذهبي قد شعر بعدم ترتب
فائدة على هذه التأولات، فلم يذكرها بترجمة ابن أبي داود في (ميزان الاعتدال في نقد
الرجال). كما لم يتعرض الحافظ ابن حجر في (لسان الميزان) للذب عن ابن أبي داود
ص 333
بهذه الوجوه السخيفة. والجدير بالذكر اعتراف الذهبي بردائة بعض عبارات ابن أبي
داود، ونحوسة بعض كلماته بالنسبة إلى فضيلة من فضائل مولانا أمير المؤمنين عليه
السلام، وهو حديث الطير ... فقد قال في (سير أعلام النبلاء). قال أبو أحمد ابن
عدي: سمعت علي بن عبد الله الداهري يقول: سألت ابن أبي داود عن حديث الطير فقال: إن
صح حديث الطير، فنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - باطلة، لأنه حكى عن حاجب النبي
صلى الله عليه وسلم خيانة - يعني أنسا - وحاجب النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون
خائنا. قلت: هذه عبارة ردية وكلام نحس، بل نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - حق
قطعي إن صح خبر الطير وإن لا يصح، وما وجه الارتباط؟ هذا أنس قد خدم النبي - صلى
الله عليه وسلم - قبل جريان القلم، فيجوز أن تكون قصة الطائر في تلك المدة، فرضنا
أنه كان محتلما، ما هو بمعصوم من الخيانة، بل فعل هذه الخيانة متأولا، ثم إنه حبس
عليا عن الدخول كما قيل، فكان ماذا؟ والدعوة النبوية قد نفذت واستجيبت، فلو حبسه أو
رده مرات ما بقي يتصور أن يدخل ويأكل مع المصطفى سواه، أللهم أن يكون النبي - صلى
الله عليه وسلم - قصد بقوله: ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي عددا من الخيار
يصدق على مجموعهم أنهم أحب الناس إلى الله، فنقول: الصديقون والأنبياء، فيقال: فمن
أحب الأنبياء كلهم إلى الله تعالى؟ فنقول: محمد وإبراهيم وموسى، والخطب في ذلك
يسير. وأبو لبابة - مع جلالته - بدت منه خيانة، حيث أشار لبني قريظة إلى خيانة وتاب
الله عليه. وحاطب بدت منه خيانة فكاتب قريشا بأمر يخفي به نبي الله - صلى الله عليه
وسلم - من غزوهم. وغفر الله لحاطب مع عظم فعله رضي الله عنه. وحديث الطير - على
ضعفه - فله طرق جمة، وقد أفردتها في جزء ولم يثبت،
ص 334
ولا أنا بالمعتقد بطلانه، وقد أخطأ ابن أبي داود في عبارته وقوله، وله على خطئه أجر
واحد، وليس من شرط الثقة أن لا يخطئ ولا يغلط ولا يسهو، والرجل فمن كبار علماء
الإسلام، ومن أوثق الحافظ - رحمه الله تعالى. قال ابن عبد الأعلى: توفي أبي وله ست
وثمانون سنة وأشهر .
تكملة

وقد روى ابن أبي داود حديثا موضوعا في فضائل السور وهو
يعلم أنه موضوع، قال ابن الجوزي بعد أن ذكره وبين كونه موضوعا: وإنما عجبت من أبي
بكر ابن أبي داود كيف فرقه - يعني هذا الحديث - على كتابه الذي صنفه في فضائل
القرآن، وهو يعلم أنه حديث محال. ولكن شره بذلك جمهور المحدثين، فإن من عادتهم
تنفيق حديثهم ولو بالبواطيل، وهذا قبيح منهم، لأنه قد صح عن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم أنه قال: من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين (1). وقال
السيوطي: وإنما عجبت من أبي بكر ابن أبي داود كيف أورده في كتابه الذي صنفه في
فضائل القرآن، وهو يعلم أنه حديث محال مصنوع بلا شك، ولكن إنما حمله على ذلك الشره
(2). أقول: وكأن السيوطي استحيى من أن يذكر الحديث الذي ذكره ابن الجوزي في ذيل
كلامه، فاكتفى بهذا القدر في التشنيع على ابن أبي داود. ولكن الأحاديث في ذم رواية
الأكاذيب مع العلم بكذبها كثيرة، قال مسلم ابن الحجاج: ودلت السنة على نفي رواية
المنكر من الأخبار، كنحو دلالة القرآن على
(هامش)
(1) الموضوعات 1 / 240. (2) اللآلئ المصنوعة 1 / 227. (*)
ص 335
نفي خبر الفاسق، وهو الأثر المشهور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من حدث
عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين. وأيضا فيه عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع (1). وقال
النووي - بشرح قوله صلى الله عليه وآله - من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من
النار -: فيه تحريم رواية الحديث الموضوع على من عرف كونه موضوعا أو غلب على
ظنه وضعه. فمن روى حديثا علم أو ظن وضعه فهو داخل في هذا الوعيد، مدرج [مندرج] في
جملة الكاذبين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويدل عليه أيضا الحديث السابق:
من حدث عني بحديث يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين (2).
(هامش)
(1) صحيح مسلم 1 / 7. (2) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 1 / 100. (*)
ص 337
6 _ عدم رواية أبي حاتم حديث الغدير

ص 339
وأما تمسك الرازي بعدم إخراج أبي حاتم حديث الغدير، أو قدحه فيه، فالجواب عنه
بوجوه:
1. أبو حاتم متعنت

إن قدح أبي حاتم في حديث الغدير - إن ثبت - دليل آخر من
أدلة تعنته في الرجال، وبرهان على عداوته لأمير المؤمنين - عليه الصلاة والسلام -
وتعصبه الشديد تجاه فضائله ومناقبه الثابتة بالتواتر... ولقد نص على تعنت أبي حاتم،
وأنه كان كثير الجرح في الرواة بدون تورع وبغير دليل، جميع علماء الرجال وأئمة
الجرح والتعديل... وإليك بعض الشواهد على ذلك: قال الذهبي بترجمة أبي حاتم: إذا
وثق أبو حاتم رجلا فتمسك بقوله، فإنه لا يوثق إلا رجلا صحيح الحديث، وإذا لين رجلا
أو قال فيه: لا نحتج به فلا، توقف حتى ترى ما قال غيره فيه، وإن وثقه أحد فلا تبن
على تجريح أبي حاتم، فإنه متعنت في الرجال، قد قال في طائفة من رجال الصحاح: ليس
بحجة، ليس بقوي، أو نحو ذلك (1).
(هامش)
(1) سير أعلام النبلاء 13 / 260. (*)
ص 340
وقال الذهبي بترجمة أبي زرعة الرازي: يعجبني كثيرا كلام أبي زرعة في الجرح
والتعديل يبين الورع والخبرة، بخلاف رفيقه أبي حاتم فإنه جراح (1). وقال الذهبي
بترجمة أبي ثور الكلبي: إبراهيم بن خالد أبو ثور الكلبي، أحد الفقهاء الأعلام،
وثقه النسائي والناس، وأما أبو حاتم فتعنت وقال: يتكلم بالرأي فيخطئ ويصيب، ليس
محله محل المستمعين في الحديث. فهذا غلو من أبي حاتم سامحه الله. وقد سمع أبو ثور
من سفيان بن عيينة، وتفقه على الشافعي وغيره، وقد روي عن أحمد بن حنبل أنه قال: هو
عندي في مسلاخ سفيان الثوري. قلت: مات سنة 240 ببغداد وقد شاخ (2). 2
. أبو حاتم
ممن قدح في البخاري

لقد قدم سابقا أن أبا حاتم الرازي من جملة المحدثين الذين طعنوا
وقدحوا في محمد بن إسماعيل البخاري وكتابه المعروف بالصحيح، فمن العجيب ذكر الرازي
إياه فيمن قدح في حديث الغدير، لا سيما مع ثبوت كونه جراحا متعنتا، وأنه كان كثير
الجرح والقدح في الرجال من غير دليل. وإذا كان جمهور أهل السنة لا يعبأون بقدحه في
البخاري، فإن الشيعة والمنصفين من العلماء لا يعبأون بقدحه في هذا الحديث، ولا
يصغون إلى اعتماد الفخر الرازي على ذلك، فإنه ليس إلا تعنتا وتعصبا مقيتا... بل لقد
نقل عن بعضهم اللعنة على من تكلم في البخاري فقد قال السبكي: وقال أبو عمرو أحمد
بن نصر الخفاف: محمد بن إسماعيل أعلم بالحديث من إسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل
وغيرهما بعشرين درجة، ومن
(هامش)
(1) سير أعلام النبلاء 13 / 81. (2) ميزان الاعتدال 1 / 29. (*)
ص 341
قال فيه شيئا فمني عليه ألف لعنة (1). ولا ريب في سقوط الملعون عن درجة
الاعتبار...
3. نسبة أبي حاتم كتابا للبخاري إلى نفسه

ومما يذكر عن أبي حاتم الرازي
أنه نسب كتابا لمحمد بن إسماعيل البخاري إلى نفسه، فقد قال السبكي ما نصه: وقال
أبو حامد الحاكم في الكنى: عبد الله بن الديلمي أبو بسر، وقال البخاري ومسلم فيه:
أبو بشر - بشين معجمة -. قال الحاكم: وكلاهما أخطأ في علمي، إنما هو أبو يسر، وخليق
أن يكون محمد بن إسماعيل مع جلالته ومعرفته بالحديث اشتبه عليه، فما نقله مسلم في
كتابه تابعه على زلته. ومن تأمل كتاب مسلم في الأسماء والكنى علم أنه منقول من كتاب
محمد بن إسماعيل حذو القذة بالقذة، حتى لا يزيد عليه فيه إلا ما يسهل عده، وتجلد في
نقله حق الجلادة إذ لم ينسبه إلى قائله. وكتاب محمد بن إسماعيل في التاريخ كتاب لم
يسبق إليه، ومن ألف بعده شيئا في التاريخ أو الأسماء أو الكنى لم يستغن عنه، فمنهم
من نسبه إلى نفسه مثل أبي زرعة وأبي حاتم ومسلم، ومنهم من حكاه عنه، فالله يرحمه
فإنه الذي أصل الأصول (2). وهذا الذي صنع أبو حاتم من أشنع الأشياء وأقبحها، قال
الشيخ سالم السنهوري - الذي ترجم له المحبي في خلاصة الأثر 2 / 204 -: وألزم
العزو غالبا إلا فيما أنقله من شروح الشيخ بهرام والتوضيح وابن عبد السلام وابن
عرفة، فلا أعزو لها غالبا إلا ما كان غريبا، أو ذكره في غير موضعه، أو لغرض من
(هامش)
(1) طبقات الشافعية للسبكي 2 / 225 ترجمة البخاري. (2) طبقات السبكي 1 / 225 - 226.
(*)
ص 342
الأغراض. وقد ذكر ابن جماعة الشافعي في منسكه الكبير أنه صح عن سفيان الثوري أنه
قال: إن نسبة الفائدة إلى مفيدها من الصدق في العلم وشكره، فإن السكوت عن ذلك من
الكذب في العلم وكفره (1).
4. المعارضة برواية ابنه

ثم إن ما نسبه الرازي إلى أبي
حاتم معارض برواية ابنه عبد الرحمن بن أبي حاتم الحافظ نزول آية التبليغ في يوم
الغدير في مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام -، قال الحافظ السيوطي: وأخرج ابن
أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية - *(يا
أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك)* - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم
غدير خم في علي بن أبي طالب (2).
(هامش)
(1) تيسير الملك الجليل لجمع الشروح وحواشي الشيخ خليل - خطبة الكتاب: 3. (2) الدر
المنثور في التفسير بالمأثور 2 / 298. (*)
ص 343
رد الرازي على نفسه

وبعد... فقد اعترف الفخر الرازي بأن من خالف الشيعة إنما
يروون أصل الحديث للاحتجاج به على فضيلة علي ، فحديث الغدير - باعتراف الرازي - من
مرويات أهل السنة، وهم يجعلونه من فضائل أمير المؤمنين عليه السلام -... وللرازي
كلمات أخرى في هذا المضمار كذلك سننقلها. وهلا كان من المناسب أن تكون كلماته هذه
نصب عينيه، لئلا ينكر صحة حديث الغدير، وحتى لا يتشبث بتعنت هذا وتعصب ذاك
لمناقشته. وإليك نصوص عبارات الفخر الرازي في كتبه المختلفة: قال في نهاية العقول:
ثم إن سلمنا صحة أصل الحديث، ولكن لا نسلم صحة تلك المقدمة وهي قوله - عليه
السلام - ألست أولى بكم من أنفسكم. وبيانه: إن الطرق التي ذكرتموها في تصحيح أصل
الحديث لا يمكن دعوى التواتر فيها، ولا يمكن أيضا دعوى إطباق الأمة على قبولها، لأن
من خالف الشيعة إنما يروون أصل الحديث للاحتجاج به على فضيلة علي - رضي الله عنه -
ولا يروون هذه المقدمة .
ص 344
كما صرح فيه بأن الأمة روت هذا الحديث. وقال في أربعينه ما نصه. وأما الشبهة
الثانية عشر - وهي التمسك بقوله عليه السلام: من كنت مولاه فعلي مولاه. فجوابها من
وجوه: الأول: أنه خبر واحد. قوله: الأمة اتفقت على صحته، لأن منهم من تمسك به في
فضل [تفضيل] علي، ومنهم من تمسك به في إمامته. قلنا: تدعي أن كل الأمة قبلوه قبول
القطع أو قبول الظن. الأول: ممنوع وهو نفس المطلوب. والثاني: مسلم وهو لا ينفعكم في
مطلوبكم... (1). وقال في تفسيره - في الأقوال في شأن نزول آية التبليغ: العاشر
- نزلت هذه الآية في فضل علي، ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده فقال: من كنت مولاه
فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. فلقيه عمر - رضي الله عنه - فقال:
هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. وهو قول ابن عباس،
والبراء بن عازب، ومحمد بن علي (2).
(هامش)
(1) الأربعين / 462. (2) تفسير الرازي 12 / 49. (*)
ص 345
7 _ تفنيد المعارضة بحديث قريش والأنصار... موالي دون الناس...

ص 347
وقد عارض الفخر الرازي حديث الغدير بقوله صلى الله عليه وآله: قريش والأنصار
وجهينة ومزينة وأسلم وغفار موالي دون الناس كلهم، ليس لهم موالي دون الله ورسوله .
ولكن هذه المعارضة باطلة لوجوه:
1. إنه من أخبار المخالفين

إن هذا الحديث من أخبار
أهل السنة، قد انفردوا بروايته، فلا حجية له عند أهل الحق الشيعة الإمامية حتى
يقابل به حديث الغدير. بل إن التمسك والاستدلال بأحاديث أهل السنة لا يفيد لإفحام
الشيعة مطلقا، ولا يجوز للمناظر أن يلزم خصمه إلا بما رواه قومه في كتبهم المعتبرة
وبأسانيدهم المعتمدة، ولذا ترى (الدهلوي) يدعي في مقدمة (تحفته) الالتزام بأن لا
يستدل إلا بكتب الشيعة، ليتم له مراده ويثبت مرامه في الاحتجاج معهم.
2. ليس من
الأحاديث المشتهرة

بل ليس هذا الحديث من الأحاديث المتفق على روايتها لدى أهل السنة
ص 348
أنفسهم أيضا، فلم يرد في كتبهم إلا قليلا، بل لم يرو في جميع صحاحهم، وقد أوضح ابن
الأثير أنه مما تفرد به الشيخان (1).
3. هو خبر واحد عن أبي هريرة

ثم هو من أخبار
الآحاد، إذ لم يخرجه الشيخان عن غير أبي هريرة، وهذا لا يصلح لأن يذكر في مقابلة
حديث رواه أكثر من مائة نفس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومنهم
أبو هريرة نفسه...
4. حديث الغدير برواية أبي هريرة

فقد روى أبو هريرة حديث الغدير
واعترف بصحته وسماعه إياه من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في غدير خم...
قال الخوارزمي: قال الأصبغ: دخلت على معاوية وهو جالس على نطع من الأدم متكيا على
وسادتين خضراويتين عن يمينه عمرو بن العاص وحوشب وذو الكلاع، وعن يساره أخوه عتبة
وابن عامر وابن كريز والوليد بن عقبة وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وشرحبيل بن
السمط، وبين يديه أبو هريرة وأبو الدرداء والنعمان بن بشير وأبو أمامة الباهلي.
فلما قرأ الكتاب قال: إن عليا لا يدفع إلينا قتلة عثمان. فقلت له: يا معاوية لا
تعتل بدم عثمان، فإنك تطلب الملك والسلطان، ولو كنت أردت نصرته حيا، ولكنك تربصت به
لتجعل ذلك سببا إلى وصولك إلى الملك، فغضب. فأردت أن يزيد غضبه فقلت لأبي هريرة: يا
صاحب رسول الله! إني أحلفك بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، وبحق
حبيبه المصطفى
(هامش)
(1) جامع الأصول 10 / 136. (*)
ص 349
عليه السلام - إلا أخبرتني أشهدت غدير خم؟ فقال: بلى شهدته. قلت: فما سمعته يقول في
علي؟ قال: سمعته يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه
وانصر من نصره واخذل من خذله. قلت له: فإذن أنت واليت عدوه وعاديت وليه. فتنفس أبو
هريرة الصعداء وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فتغير معاوية عن حاله وغضب وقال: كف
عن كلامك... (1).
5. أبو هريرة كذاب

هذا كله بناء على توثيق أبي هريرة، ولكن أبا
هريرة لم يكن ثقة في حديثه عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - لدى كبار الصحابة
ومن دونهم... فمن الصحابة الذين كذبوه: أمير المؤمنين علي، وعمر بن الخطاب وعثمان
ابن عفان، وعبد الله بن الزبير، وعائشة بنت أبي بكر... كما لا يخفى على من راجع
كتاب (الرد على من قال بتناقض الحديث لابن قتيبة) و(عين الإصابة فيما استدركته
عائشة على الصحابة للسيوطي) و(التاريخ لابن كثير) وغير ذلك. بل رووا عن أبي هريرة
نفسه قوله مخاطبا لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ألا إنكم تحدثون
أني أكذب على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -... راجع (الجمع بين
الصحيحين) و(المفاتيح في شرح المصابيح) وغيره من الشروح. بل ثبت أن عمر نهاه عن
التحديث قائلا له: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس ، وقد روي
هذا الكلام بلفظ آخر والمعنى واحد
(هامش)
(1) مناقب علي بن أبي طالب، لأخطب خطباء خوارزم 134 - 135. (*)
ص 350
... أنظر (الأصول للسرخسي) و(التاريخ لابن كثير) وغيرهما. وأما قصة عزل عمر إياه عن
البحرين فمشهورة، وممن رواها بالتفصيل: 1 - ابن عبد ربه في العقد الفريد 2 - جار
الله الزمخشري في الفائق في غريب الحديث. 3 - ياقوت الحموي في معجم البلدان. 4 -
ابن كثير الدمشقي في تاريخه. ومن التابعين والفقهاء الذين كذبوه وصرحوا بعدم الثقة
به: أبو حنيفة فقد رووا عنه قوله: أترك قولي بقول الصحابة إلا ثلاثة منهم:
أبو هريرة، وأنس ابن مالك وسمرة بن جندب راجع (روضة العلماء للزندويستي) و(كتائب
أعلام الأخيار للكفوي) وغيرهما. ومنهم: عيسى بن أبان الفقيه الحنفي، فقد ذكر عنه
الزندويستي قوله: أقلد أقاويل جميع الصحابة إلا ثلاثة منهم: أبو هريرة ووابصة بن
معبد، وأبو سنابل بن بعك . ومنهم: جماعة من الحنفية، كذبوا أبا هريرة في حديث
المصراة كما في (المحلى لابن حزم) و(فتح الباري لابن حجر) وغيرهما. ومنهم: محمد بن
الحسن الشيباني... كما في (المحلى) في مسألة أن البائع أحق بالمتاع إذا أفلس...
6.
وجوه القدح في أبي هريرة

هذا بالاضافة إلى وجوه أخرى من القدح والطعن في أبي هريرة،
وهي أمور يكفي كل منها لسقوطه عن درجة الاعتبار، أو يفيد فسقه بوضوح، وإليك بعضها:
ألف - كان يلعب بالشطرنج: قال الدميري: وروى الصعلوكي تجويزه - أي الشطرنج - عن
عمر بن الخطاب والحسن البصري والقاسم بن محمد وأبي
ص 351
قلابة وأبي مجلز وعطا والزهري وربيعة بن عبد الرحمن وأبي زناد، رحمهم الله. والمروي
عن أبي هريرة من اللعب به مشهور في كتب الفقه (1). وقال ابن الأثير: وفي حديث
بعضهم، قال: رأيت أبا هريرة يلعب بالسدر والسدر لعبة يقامر بها... (2). وكذا قال
محمد طاهر الكجراتي الفتني (3). ولا ريب في أن الشطرنج حرام. وقال ابن تيمية:
مذهب جمهور العلماء أن الشطرنج حرام، وقد ثبت عن علي بن أبي طالب مر بقوم يلعبون
بالشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون. وكذلك النهي عنها معروف عن
أبي موسى وابن عباس وابن عمر وغيرهم من الصحابة. وتنازعوا في [أن] أيهما أشد تحريما
الشطرنج أو النرد، فقال مالك: الشطرنج أشد من النرد. وهذا منقول عن ابن عمر، وهذا
لأنها تشغل القلب بالفكر الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر من النرد. وقال أبو
حنيفة وأحمد: النرد أشد (4). ب - كان مخلطا: قال ابن كثير الدمشقي: وقال مسلم
بن الحجاج، ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ثنا مروان الدمشقي، عن الليث بن
سعد، حدثني بكير بن الأشج، قال: قال لنا بشر بن سعيد: إتقوا الله وتحفظوا من
الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث حديث رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - عن كعب وحديث كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: يجعل ما
قاله كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
(هامش)
(1) حياة الحيوان: الهر . (2) النهاية في غريب الحديث: السدر . (3) مجمع
البحار: السدر . (4) منهاج السنة 2 / 98. (*)
ص 352
وما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كعب، فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث
(1). ج - كان مدلسا: قال ابن كثير: وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو
هريرة كان يدلس. أي: يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ولا يبين، [يميز] هذا من هذا. ذكره ابن عساكر. وكان شعبة يشير بهذا إلى
حديثه: من أصبح جنبا فلا صيام له. فإنه لما حوقق عليه، قال: أخبرنيه مخبر ولم أسمعه
من رسول الله - صلى الله عليه وسلم (2). د - كان متروكا: قال ابن كثير: وقال
شريك، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة. وروى
الأعمش، عن إبراهيم، قال: ما كانوا يأخذون من كل حديث أبي هريرة. قال الثوري، عن
منصور، عن إبراهيم، قال: كانوا يرون في أحاديث أبي هريرة شيئا، وما كانوا يأخذون من
حديثه إلا ما كان من حديث صفة جنة أو نار أو حديث على عمل صالح أو نهي عن شيء جاء
القرآن به . قال ابن كثير: وقد انتصر ابن عساكر لأبي هريرة ورد هذا الذي قاله
إبراهيم النخعي، وقد قال ما قاله إبراهيم طائفة من الكوفيين والجمهور على خلافهم.
وقد كان أبو هريرة من الصدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على
جانب عظيم (3).
(هامش)
(1) تاريخ ابن كثير 8 / 109 مع اختلاف. (2) تاريخ ابن كثير 8 / 109. (3) تاريخ ابن
كثير 8 / 109 - 110. (*)