ص 253
من قبلها، ولقد طلب بها أبوك بكل وجه فأخرجها تخاصم ومرضها سرا ودفنها ليلا، فأبى
الناس إلا تقديم الشيخين. ولقد حضر أبوك وفاة رسول الله فأمر بالصلاة غيره، ثم أخذ
الناس رجلا رجلا فلم يأخذوا أباك فيهم) (1). هذا، وقد روى هذه الكتب ابن الأثير
وابن خلدون أيضا في تأريخيهما.
18 - طعن علماء أهل السنة في أئمة أهل البيت

وأهل
السنة في مثل هذا المورد الذي يريدون فيه التغلب على أهل الحق يحترمون الحسن
المثنى، ويوجبون متابعته والانقياد له، والحال أن المتعصبين منهم يقدحون في الأئمة
الاثني عشر المعصومين أنفسهم، ويسقطون إجماعهم عن الاعتبار، ويطعنون في عدالتهم.
فهذه عقيدة متعصبيهم - كوالد الدهلوي في (قرة العينين) - في الأئمة أنفسهم - وفي
سيدهم أمير المؤمنين عليه السلام - الذي تعتقد الإمامية العصمة فيهم وتوجب إطاعتهم
والانقياد لهم، فهل يجوز لمن يطعن في هؤلاء الأئمة الأطهار أن يلزم شيعتهم بكلام
ينسبونه إلى أحد أولادهم؟! وهل يجوز الاصغاء إلى هكذا استدلال من هكذا أناس؟!.
19 -
طعنهم في أولاد الأئمة

وهكذا شأن أهل السنة مع أولاد الأئمة، فإنهم متى أرادوا
التغلب على أهل الحق - بزعمهم - عن طريق التشبث بكلام لواحد من المنتمين إلى أهل
البيت قد قاله أو وضع على لسانه، ذكروا ذلك الكلام مع مزيد التكريم والاحترام
لقائله، ليتم لهم الالزام به كما يريدون. ولكنهم يطعنون في كثير من أولاد أئمة أهل
البيت، ويجرحونهم في الكتب الرجالية، ويسقطون أخبارهم عن درجة الاعتبار:
(هامش)
(1) الكامل للمبرد 2 / 382. (*)
ص 254
فقال الذهبي في (محمد بن جعفر بن محمد بن علي): (تكلم فيه) وهذا نص كلامه: (محمد بن
جعفر بن محمد بن علي الهاشمي الحسيني. عن أبيه. تكلم فيه... ذكره ابن عدي في
الكامل، وقال البخاري: أخوه إسحاق أوثق منه...) (1). وقال ابن حجر: (وقول المؤلف:
إنه مات ببغداد غير مستقيم، فقد روى الخطيب في ترجمته: إنه لما ظفر به أصعد المنبر
فقال: يا أيها الناس إني قد حدثتكم بأحاديث زورتها، فشق الناس الكتب والسماع الذي
كانوا سمعوه منه، ثم خرج إلى المأمون بخراسان فمات عنده، وتولى المأمون دفنه، وهو
أخو موسى الكاظم بن جعفر الصادق) (2). وقال في حديث وقع محمد بن جعفر في طريقه:
(ومحمد بن جعفر هذا هو أخو موسى الكاظم، حدث عن أبيه وغيره، روى عنه إبراهيم بن
المنذر وغيره، وكان قد دعا لنفسه بالمدينة ومكة وحج بالناس سنة 200 وبايعوه
بالخلافة، فحج المعتصم فظفر به، فحمله إلى أخيه المأمون بخراسان، فمات بجرجان سنة
203. وذكر الخطيب في ترجمته أنه لما ظفر به صعد المنبر فقال: أيها الناس إني قد كنت
حدثتكم بأحاديث زورتها، فشق الناس الكتب التي سمعوها منه، وعاش سبعين سنة. قال
البخاري: أخوه إسحاق أوثق منه، وأخرج له الحاكم حديثا. قال الذهبي: إنه ظاهر
النكارة في ذكر سليمان بن داود عليهما السلام) (3). وقال الذهبي في (علي بن جعفر):
(علي بن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه وأخيه موسى والثوري. وعنه عبد العزيز الأويسي
ونصر بن علي الجهضمي وأحمد البري وجماعة، ما هو من شرط كتابي، لأني ما رأيت أحدا
لينه ولا من وثقه، لكن حديثه منكر جدا ما صححه الترمذي ولا حسنه، رواه نصر بن علي
عنه عن موسى عن أبيه عن أجداده. أخبرني ابن قدامة إجازة أنا عمر بن محمد أنا ابن
(هامش)
(1) ميزان الاعتدال في نقد الرجال 3 / 500. (2) لسان الميزان 5 / 103. (3) الإصابة
لابن حجر العسقلاني - ترجمة الخضر عليه السلام 1 / 428. (*)
ص 255
ملوك وأبو بكر القاضي، قال أنا أبو الطيب الطبري، أنا أبو أحمد الغطريفي، ثنا عبد
الرحمن بن المغيرة، ثنا نصر بن علي، أنا علي بن جعفر بن محمد، حدثني أخي موسى عن
أبيه عن أبيه محمد عن أبيه علي عن جده علي رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه
وسلم أخذ بيد الحسن والحسين فقال: من أحبني وأحب هذين وأبويهما كان معي في درجتي
يوم القيامة. قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه) (1). وقال الذهبي في (حسن بن
محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله ابن الحسين بن زين العابدين علي بن
الحسين): (الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله بن الحسين بن زين
العابدين علي ابن الشهيد الحسين العلوي. ابن أخي أبي طاهر النسابة. عن إسحاق
الديري. روى بقلة حياء عن الديري عن عبد الرزاق بإسناد كالشمس: علي خير البشر. وعن
الديري عن عبد الرزاق عن معمر عن محمد بن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر مرفوعا قال:
علي وذريته يختمون الأوصياء إلى يوم القيامة. فهذان دالان على كذبه ورفضه. عفا الله
عنه) (2). و(حسن بن زيد) قال ابن المديني: (فيه ضعف) (3).
[6] ليس في الحديث تقييد
بلفظ (بعدي)

قوله: (وأيضا: ففي الحديث ما يدل بصراحة على اجتماع الولايتين في زمان
واحد، إذ لم يقع فيه التقييد بلفظ بعدي). أقول: لقد علمت سابقا أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال بعد نزول
(هامش)
(1) ميزان الاعتدال 3 / 117. (2) ميزان الاعتدال 1 / 521. (3) المصدر 1 / 492. (*)
ص 256
قوله عز وجل: *(اليوم أكملت لكم دينكم)* في واقعة غدير خم قال: (الحمد لله على كمال
الدين وتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي) وتقييده الولاية هنا
بلفظ (من بعدي) دليل صريح على أن مراده من قوله: (من كنت مولاه) هو هذا المعنى
أيضا. وأيضا: شعر حسان بن ثابت صريح في أن المراد من حديث الغدير هو الإمامة
والولاية لأمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه
قد جاء في شعره: (رضيتك من بعدي إماما وهاديا). وأيضا: رواية عبد الرزاق لحديث
الغدير - الواردة في تاريخ ابن كثير - هي بلفظ: (من كنت مولاه فإن عليا بعدي
مولاه). ومتى ورد هذا القيد حمل عليه سائر ألفاظ الحديث التي لم يرد فيها القيد،
لأن الحديث يفسر بعضه بعضا كما في (فتح الباري) وغيره. هذا، وفي بعض طرق حديث
الغدير قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (هذا وليكم بعدي) ففي كتاب (فضائل أمير
المؤمنين للسمعاني): (عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بغدير خم، وأمر
فكسح بين شجرتين وصيح بالناس فاجتمعوا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألست أولى
بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، فدعا عليا فأخذ بعضده ثم قال: هذا وليكم من بعدي،
اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. فقام عمر إلى علي فقال: ليهنئك يا ابن أبي طالب
أصبحت - أو قال أمسيت - مولى كل مؤمن).
حديث تسمية علي بأمير المؤمنين... وآدم بين
الروح والجسد

ومع ذلك كله: فإنه لا يلزم محذور من اجتماع الولايتين في الزمان
الواحد، ولا يلزم من ذلك أمر محال أبدا، كيف؟ والأحاديث الدالة على ثبوت إمامة علي
عليه السلام في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة، وأهل السنة وإن حاولوا
إخفاء تلك الأحاديث وإنكارها، لكن الحق يعلو ولا يعلى عليه: فقد روى الحافظ شيرويه
الديلمي عن حذيفة بن اليمان حديثا هذا نصه:
ص 257
(حذيفة: لو علم الناس متى سمي علي أمير المؤمنين ما أنكروا فضله، سمي أمير المؤمنين
وآدم بين الروح والجسد، قال الله تعالى: *(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم
وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم)* قالت الملائكة بلى فقال: أنا ربكم ومحمد نبيكم
وعلي أميركم) (1). وروى السيد علي الهمداني: (عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: لو علم الناس متى سمي علي أمير المؤمنين ما أنكروا فضله،
سمي أمير المؤمنين وآدم بين الروح والجسد) (2). وروى عنه أيضا: (قال قال عليه
السلام: لو علم الناس متى سمي علي أمير المؤمنين ما أنكروا فضله، سمي أمير المؤمنين
وآدم بين الروح والجسد قال الله تعالى: *(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم
وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم)* قالت الملائكة بلى. فقال الله تبارك وتعالى: أنا
ربكم ومحمد نبيكم وعلي أمير كم)*(3). وروى الحاج عبد الوهاب بن محمد بن رفيع الدين
بن أحمد في تفسيره: (عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لو يعلم الناس متى سمي علي أمير المؤمنين ما أنكروا فضله، سمي بذلك وآدم بين الروح
والجسد، حين قال تعالى *(ألست بربكم قالوا بلى)* فقال الله تعالى: أنا ربكم ومحمد
نبيكم وعلي أميركم. رواه صاحب الفردوس) (4). وروى السيد علي بن شهاب الدين الهمداني
أيضا: (عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله متى وجبت لك النبوة؟ قال: قبل أن يخلق
الله آدم وينفخ الروح فيه وقال: *(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم
على
(هامش)
(1) فردوس الأخبار 3 / 286. (2) المودة في القربى، انظر ينابيع المودة 248. (3)
روضة الفردوس الباب الرابع عشر - مخطوط. (4) تفسير الحاج عبد الوهاب - بتفسير آية
المودة. (*)
ص 258
أنفسهم ألست بربكم)* قالت الملائكة بلى. فقال: أنا ربكم ومحمد نبيكم وعلي أميركم)
(1). وقال أبو علي أحمد بن محمد المرزوقي: (روى لنا أبو الحسن البديهي قال سمعت أبا
عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي يقول: وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم
تولى دفن فاطمة بنت أسد وكان أشعرها قميصا له، فسمع صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
ابنك ابنك، فسئل صلى الله عليه وسلم فقال: إنها سئلت عن ربها فأجابت، وعن نبيها
فأجابت، وعن إمامها فلجلجت فقلت: ابنك ابنك) (2). وقال عبد الكريم بن محمد الرافعي
القزويني: (أبو عبد الله الرازي - حدث بقزوين عن محمد بن أيوب. قال ميسرة في
المشيخة: ثنا أبو عبد الله الرازي الشيخ الصالح في الجامع بقزوين، ثنا محمد بن
أيوب، ثنا علي بن المؤمن، ثنا إسماعيل ابن أبان عن ناصح أبي عبد الله عن سماك بن
حرب عن جابر بن سمرة قال: كان علي رضي الله عنه يقول: أرأيتم لو أن نبي الله صلى
الله عليه وآله وسلم قبض من كان أمير المؤمنين إلا أنا. قال: وربما قيل له: يا أمير
المؤمنين والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ويتبسم. ويمكن أن يكون هذا أبا عبد
الله الأرنبوي الذي روى عنه أبو الحسن القطان. وذكر حديثه عن يحيى بن درست وأبي
مصعب وغيرهما) (3). وروى جمال الدين المحدث الشيرازي - من مشايخ والد (الدهلوي) -
في روضة الأحباب عن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم قوله: (علي خليفتي عليكم
في حياتي ومماتي فمن عصاه فقد عصاني) وروى عن أم سلمة أنها قالت سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
(هامش)
(1) المودة في القربى. انظر ينابيع المودة: 248. (2) كتاب الأزمنة والأمكنة. الباب
الحادي والخمسون. (3) التدوين في ذكر علماء قزوين 4 / 188. (*)
ص 259
(علي خليفتي عليكم في حياتي ومماتي، فمن عصاه فقد عصاني) ثم قالت لعائشة: وهل
تشهدين بذلك يا عائشة؟ قالت: نعم). ولا يخفى، أن المراد من إمامة علي في حياة النبي
صل الله عليه وآله وسلم هو وجوب إطاعته وامتثال أوامره ونواهيه على جميع المسلمين،
كما هو الأمر بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد من إمامته عليه
السلام بعد رسول الله هو كون تنفيذ الأحكام الشرعية والقيام بأمور الرعية والتصرف
في شئونهم منصبا خاصا به، فإن هذا للنبي في حياته، ولو أنه عليه السلام قام بأمر من
أمور المسلمين نيابة عن النبي في حال حياته وجب عليهم امتثاله. بل إن طريق إثبات
إمامة علي عليه السلام في حال حياته النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل في الزمان
السابق عليها - كما يدل عليه خبر الفردوس - هو نفس طريق إثبات النبوة للنبي صلى
الله عليه وآله وسلم قبل الوجود الظاهري، قال محمد بن يوسف الشامي في (سبل الهدى
والرشاد): (ويستدل بخبر الشعبي وغيره مما تقدم في الباب السابق على أن صلى الله
عليه وسلم ولد نبيا، فإن نبوته وجبت له حين أخذ الميثاق، حيث استخرج من صلب آدم،
فكان نبيا من حينئذ، لكن كانت مدة خروجه إلى الدنيا متأخرة عن ذلك، وذلك لا يمنع
كونه نبيا، كمن يولى ولاية ويؤمر بالتصرف فيها في زمن مستقبل، فحكم الولاية ثابت له
من حين ولايته، وإن كان تصرفه يتأخر إلى حين مجئ الوقت، والأحاديث السابقة في باب
تقدم نبوته صريحة في ذلك). وحديث الشعبي الذي أشار إليه هو ما رواه ابن سعد (عن
الشعبي مرسلا قال رجل: يا رسول الله متى استنبئت؟ قال: وآدم بين الروح والجسد حين
أخذ مني الميثاق). وقوله: (بل سوق الكلام هو للتسوية بين الولايتين في جميع الأوقات
ومن جميع الوجوه). أقول: إنه وإن قصد (الدهلوي) من هذا الكلام إبطال الحق، لكنه
كلام
ص 260
يفيد مطلوب أهل الحق بأدنى تأمل، لأنه إذا كانت محبة أمير المؤمنين مساوية لمحبة
النبي عليهما السلام من جميع الوجوه، فقد ثبتت أفضلية الأمير عليه السلام، لأن هذه
المرتبة غير حاصلة لغيره. وأيضا: لا ريب في كون محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
مطلقة، بمعنى وجوبها على كل الأحوال ومن جميع الوجوه وفي كل الأزمنة، وهذه
المحبوبية بهذه الكيفية غير واجبة إلا بالنسبة إلى المعصوم، وإذا ثبتت هذه المرتبة
للأمير عليه السلام فقد ثبتت عصمته من هذا الطريق أيضا، وفيه المطلوب. ثم هل يخرج
(الدهلوي) الصحابة الذين عادوا أمير المؤمنين عليه السلام وقاتلوه وشهروا سيوفهم في
وجهه من زمرة المسلمين، من جهة كون عداوته كعداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
المستلزمة للخروج من الدين، أو أن (الدهلوي) يقلد أسلافه فيرفع اليد عما ذكره هنا
واعترف به، حماية لأولئك الأصحاب، وتجنبا عن أن يلتزم فيهم بلازم كلامه؟! قوله:
(لوضوح امتناع كون علي شريكا للنبي في كل ما يستحق النبي التصرف فيه في حال حياته).
أقول: لا خفاء في عدم امتناع شركة أمير المؤمنين عليه السلام مع النبي صلى الله
عليه وآله وسلم في التصرف في حال حياته، لأن المراد من هذه المشاركة هي المشاركة من
حيث النيابة والخلافة لا من حيث الاستقلال والأصالة. وإذا ثبت له التصرف في شئون
الرعية من هذه الحيث في حال حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يلزم أي محذور،
وليس لمن يدعي امتناع ذلك دليل يصغى إليه. قوله: (فهذا أدل دليل على أن المراد وجوب
المحبة، إذ لا مانع من اجتماع المحبتين). أقول: هذا أدل دليل على أن غرض (الدهلوي)
هو تلبيس الأمر على
ص 261
العوام وسفهاء الأحلام، لأن صحة ما ذكره تتوقف على إثبات امتناع استحقاق الأمير
عليه السلام للتصرف، و(الدهلوي) لم يذكر لهذه الدعوى دليلا بل اكتفى بدعوى امتناع
اجتماع التصرفين في زمان واحد. قوله: (بل إن كلا منهما مستلزم للآخر). أقول: إذا
كان بين محبة الأمير ومحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلازم، كما اعترف
(الدهلوي) فقد ثبت أن من فقد محبة الأمير عليه السلام فقد فقد محبة النبي. فظهر -
ولله الحمد - حقيقة حال معاوية الذي كان يعادي أمير المؤمنين عليه السلام كما نص
عليه الأمير نفسه كما في (تاريخ الخلفاء للسيوطي) وغيره، وكذلك ظهر حال أشياع
معاوية وأتباعه، وحال عائشة بنت أبي بكر وطلحة والزبير ومن وافقهم وتابعهم، وحال
سعد بن أبي وقاص وأمثاله الذين قعدوا عن نصرته. قوله: (أما في اجتماع التصرفين
فالمحاذير كثيرة). أقول: من العجب دعواه كثرة المحذورات وعدم ذكره محذورا واحدا
منها، ومن الواضح أن الدعوى المجردة عن الدليل يكفي الجواب عنها بمجرد المنع.
والواقع والحقيقة أنه لا يلزم أي محذور من اجتماع التصرفين، قال في (إحقاق الحق)
بعد بيان ثبوت إمامة الأمير عليه السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: (لا يقال: كيف يمكن التزام ذلك مع امتناع اجتماع أوامر الخليفة مع أوامر
المستخلف بحسب العرف والعادة؟ لأنا نقول: الامتناع ممنوع، وذلك لأنه إن أراد أنه
يمتنع اجتماعهما لاختلاف مقتضى أوامرها فبطلانه فيما نحن فيه ظاهر، لأن ذلك
الاختلاف إنما يحصل إذا حكموا بموجب اشتهائهم، كالحكام الجائرة وبالاجتهاد الذي لا
يخلو عن الخطأ، وليس الحال في النبي ووصيه المعصوم كذلك، لأن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم إنما ينطق عن الوحي، وأمير المؤمنين عليه بالسلام باب مدينة علمه وعيبة
سره فلا اختلاف. وإن أراد أنه يمتنع اجتماعهما بمعنى أنه لا يتصور في كل حكم صدور
الأمر منهما
ص 262
معا. فهذا غير لازم في تحقق الخلافة، بل يكفي في ذلك كون الخليفة بحيث لو لم يبادر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى إنفاذ الحكم الخاص لكان له أن يبادر إلى إنفاذه.
ولا امتناع في ذلك عقلا ولا عرفا). قوله: (فإن قيدناه بما يدل على إمامته في المآل
دون الحال فمرحبا بالوفاق، لأن أهل السنة قائلون بذلك في حين إمامته).
وجوه إبطال
تقييد ولاية الأمير بزمان ما بعد عثمان

أقول: إن هذا تأويل سخيف لهذا الحديث
الشريف، ولقد كان الاحرى ب (الدهلوي) أن لا يتفوه به، لأنه لا يناسب المقام العلمي
الذي يدعيه لنفسه، ويحاول أتباعه وأنصاره إثباته له،... إن هذا التأويل باطل لوجوه
عديدة نذكرها فيما يلي، لئلا يغتر بهذا الكلام الفاسد أحد فيما بعد، فيحسبه تحقيقا
علميا في هذا المقام:
1 - لا نص على خلافة الثلاثة
إن هذا الكلام من (الدهلوي)
إعتراف بكون حديث الغدير نصا في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام (غير أنه يدعي
تقييده بالمآل دون الحال) وهذا يكفي لهدم بنيان خلافة الثلاثة من أسه وأساسه، فيكون
الأمير عليه السلام الخليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا خليفة غيره،
وذلك لأنه عليه السلام خليفة منصوص عليه من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد
ثبت بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة عدم صدور نص منه في خلافة الثلاثة، بل إن
هذا المعنى من الأمور المسلم بها لدى الفريقين، وقد صرح بذلك ونص عليه أعلام أهل
السنة، ويوضحه النظر في أخبار سقيفة بني ساعدة وقصة الشورى وغير ذلك، وحتى أن
(الدهلوي) نفسه من المعترفين بعدم صدور النص في خلافة الثلاثة، كما تجد
ص 263
كلامه في أول الباب السابع من (التحفة). فنقول للدهلوي: لقد اعترفت بوجود النص على
خلافة علي وبعدم وجوده بالنسبة إلى خلافة الثلاثة، فكيف تصح خلافة أولئك؟ وكيف يجوز
تقدم غير المنصوص عليه على المنصوص عليه؟ وإذا بطلت خلافة القوم وتقدمهم عليه بطل
تقييدك الإمامة والخلافة بما ذكرت...
2 - عموم (من كنت مولاه)
للثلاثة إن لفظة (من)
في الحديث الشريف حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (من كنت مولاه فعلي مولاه) من
ألفاظ العموم كما تقرر في علم الأصول، ومن هنا استند (الدهلوي) نفسه إلى هذه
القاعدة المقررة في علم الأصول، في مقام الاستدلال على خلافة أبي بكر بقوله تعالى:
*(من يرتد منكم عن دينه)* كما لا يخفى على من راجعه. فنقول: هل نسي (الدهلوي) أو
تناسى وجود هذه اللفظة الدالة على العموم في حديث الغدير، أو أنه يدعي دلالتها على
العموم في تلك الآية، لأنه يريد الاستدلال بها على خلافة أبي بكر، وعدم دلالتها
عليه في هذا الحديث، لأنه يدل على إمامة علي عليه السلام؟ نعم في حديث الغدير توجد
لفظة (من) الدالة على العموم الشامل للثلاثة، فسيدنا أمير المؤمنين عليه السلام
مولى الثلاثة قطعا، وقد عرفت دلالة حديث الغدير على الإمامة، فعلي عليه السلام مولى
الثلاثة قطعا وإمامهم، فهم ليسوا بخلفاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى
تقيد خلافة علي عليه السلام بزمان ما بعد ثالثهم.
3 - بطلانه من كلام بعض أكابر
علمائهم
. ولقد اعترف بعض أكابر علماء السنة ببطلان التأويل المذكور وصرح بالحق
ص 264
الحقيق بالقبول، وقال بأن كلمة (من) عامة، فتكون ولاية علي عليه السلام عامة كولاية
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيجب أن يكون علي هو الولي لأبي بكر دون العكس،
وإليك نص كلام الملا يعقوب اللاهوري في (شرح تهذيب الكلام) فإنه قال: [ولما تواتر
من قوله صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه، وأنت مني بمنزلة هارون من
موسى إلا أنه لا نبي بعدي]. بيان التمسك بالحديث الأول: إنه صلى الله عليه وسلم جمع
الناس يوم غدير خم - وغدير خم موضع بين مكة والمدينة بالجحفة، وذلك اليوم كان بعد
رجوعه عن حجة الوداع - ثم صعد النبي خطيبا مخاطبا معاشر المسلمين: ألست أولى بكم من
أنفسكم؟ قالوا: بلى. قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من
عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله. وهذا الحديث أورده علي رضي الله عنه يوم الشورى
عندما حاول ذكر فضائله، ولم ينكره أحد. ولفظ (المولى) جاء بمعنى المعتق الأعلى
والأسفل والحليف والجار وابن العم والناصر والأولى بالتصرف، وصدر الحديث يدل على أن
المراد هو الأخير، إذ لا احتمال لغير الناصر والأولى بالتصرف ههنا. والأول منتف
لعدم اختصاصه ببعض دون بعض، بل يعم المؤمنين كلهم، قال الله تعالى: *(والمؤمنون
والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)*. وبيان التمسك بالثاني: إن لفظ المنزلة اسم جنس،
وبالاضافة صار عاما بقرينة الاستثناء كما إذا عرف باللام، فبقي شاملا لغير المستثنى
وهو النبوة، ومن جملة ما يدخل تحت ذلك اللفظ الرياسة والامامة. وإلى الأول يشير
قوله: [لأن المراد المتصرف في الأمر] إذ لا صحة لكون علي معتقا وابن عم مثلا لجميع
المخاطبين [ولا فائدة لغيره] ككونه جارا أو حليفا، لأنه ليس في بيانه فائدة، أو
ناصرا الشمول النصرة جميع المؤمنين. وإلى الثاني يشير قوله: [ومنزلة هارون عامة
أخرجت منه النبوة فتعينت الخلافة].
ص 265
[ورد بأنه لا تواتر] فيما ادعى الخصم فيه التواتر بل هو خبر الواحد [ولا حصر في
علي]. يعني: إن غاية ما لزم من الحديث ثبوت استحقاق علي رضي الله عنه للإمامة،
وثبوتها في المآل، لكن من أين يلزم نفي إمامة الأئمة الثلاثة. وهذا الجواب من
المصنف، وتوضيحه: إنه لم يثبت له الولاية حالا بل مآلا، فلعله بعد الأئمة الثلاثة،
وفائدة التنصيص لاستحقاقه الإمامة الالزام على البغاة والخوارج. أقول: يرد عليه أنه
كما كانت ولاية النبي عامة كما يدل عليه كلمة (من) الموصولة فكذا ولاية علي، فيجب
أن يكون علي هو الولي لأبي بكر دون العكس). هذا، والعجب من التفتازاني الذي يعد من
أكابر أئمة العربية كيف يتشبث بهذا التأويل الفاسد، ويغفل عما ينبه عليه الملا
اللاهوري، ويتنبه إليه كل ناظر في الحديث بأدنى تأمل؟!
ترجمة ملا يعقوب
والملا
يعقوب من مشاهير علماء أهل السنة، وقد وصفه (الدهلوي) نفسه في البحث حول حديث
الثقلين بكونه من علماء أهل السنة ونقل كلامه معتمدا عليه. كما أثنى عليه محمد صالح
المؤرخ في كتابه (عمل صالح). وترجم له شاه نوازخان في كتابه (مرآة آفتاب نما) وأثنى
عليه ووصفه بالأوصاف الحميدة، ثم نقل عن المولوي رزق الله الملقب بحافظ عالم خان
أنه ذكر الملا يعقوب في الطبقة التاسعة من كتابه (الأفق المبين في أحوال المقربين)
قائلا: (والمولى الأعز قدوة العلماء وأسوة الصلحاء مولانا محمد يعقوب البنباني رحمة
الله عليه. وهو من أكابر المشايخ، كان عالما وعارفا، جمع بين المعقول والمنقول،
وحوى بين الفروع والأصول، كان أوحد العلماء في وقته وكان يعتقد في التصوف طريق صاحب
كتاب عوارف المعارف وصاحب كتاب كشف المحجوب وتحرير
ص 266
طريق كتاب فصوص الحكم. ولي التدريس بالمدرسة الشاهجانية، وانتفع به كثير من طلبة
العلم، وكان ثقة وحجة دينا، وشفيقا على الطلبة غاية الشفقة. وله تصانيف كثيرة، ومن
أشهرها كتاب الخير الجاري في شرح البخاري، وكتاب المسلم في شرح صحيح الإمام أبي
الحسين مسلم قدس سره، وكتاب المصفى في شرح الموطأ، وشرح تهذيب الكلام، وشرح الحسامي
في أصول الفقه وشرح شرعة الإسلام، وكتاب أساس العلوم في علم الصرف، وحاشية الرضي،
وله باع طويل في علم الحديث، ورأيته في درسه كان يعرض بتعريضات على الفاضل
السيالكوتي رحمه الله هكذا يقول بعض الناس فاندفع ما قيل مرارا. وله أيضا حاشية على
شرح العضدي والبيضاوي، وكان وفاته في شاهجهان آباد، وحول داره قبره مشهور يزار
ويتبرك به. رحمه الله رحمة واسعة ونفعنا به منفعة كاملة). وله ترجمة في نزهة
الخواطر 5 / 439 قال: (الشيخ العالم المحدث أبو يوسف يعقوب البنباني اللاهوري أحد
الرجال المشهورين في الفقه والحديث والفنون الحكمية، ولد ونشأ بلاهور، وقرأ العلم
على أساتذة عصره، وبرع في كثير من العلوم والفنون.. مات سنة 1098).
4 - قول عمر
لعلي: أصبحت مولاي
... إن هذا التأويل العليل ينافي قول عمر بن الخطاب لسيدنا أمير
المؤمنين عليه السلام يوم غدير خم (هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي
ومولى كل مؤمن ومؤمنة) رواه أحمد في الفضائل على ما نقله سبط ابن الجوزي. وهل يجوز
للدهلوي أن يكذب إمامه عمر بن الخطاب بهذا التأويل الفاسد؟ ولقد أرسل الفخر الرازي
قول عمر هذا إرسال المسلم حيث قال في (نهاية العقول) بجواب حديث الغدير: (ثم إن
سلمنا دلالة الحديث من الوجه الذي ذكرتموه على الإمامة. ولكن فيه ما يمنع من دلالته
وهو من وجهين).
ص 267
- فقال بعد بيان الأول -: (والثاني: إن عمر قال له: أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن
ومؤمنة، مع أنهم لم يصبح إماما لهم، فعلمنا أنه ليس المراد من المولى الإمامة. لا
يقال: إنه لما حصل الاستحقاق في الحال للتصرف في ثاني الحال حسنت التهنية لأجل
الاستحقاق الحاضر. لأنا نقول: إنا لا نحتج بحسن التهنية بل نحتج بأن قوله أصبحت
مولاي يقتضي حصول فائدة المولى في ذلك الصباح، مع أن الإمامة غير حاصلة في ذلك
الصباح، فعلمنا أن المراد من المولى غير الإمامة، ولا يمكن حمل المولى على المستحق
للإمامة، لأن المولى وإن كان حقيقة في الإمامة لكنه غير حقيقة في المستحق للإمامة
بالاتفاق. فحمل اللفظ على هذا المعنى يكون على خلاف الأصل).
5 - كلام جبرئيل في يوم
الغدير برواية عمر
روى السيد علي الهمداني: (عن عمر بن الخطاب قال نصب رسول الله
صلى الله عليه وسلم عليا علما. فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه
وعاد من عاداه واخذل من خذله وانصر من نصره، اللهم أنت شهيدي عليهم، قال: وكان في
جنبي شاب حسن الوجه طيب الريح. فقال: يا عمر، لقد عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم
عقدا لا يحله إلا منافق، فاحذر أن تحله. قال عمر: فقلت يا رسول الله إنك حيث قلت في
علي كان في جنبي شاب حسن الوجه طيب الريح قال كذا وكذا، فقال: يا عمر إنه ليس من
ولد آدم لكنه جبرئيل أراد أن يوكد عليكم ما قلته في علي) (1). ومن هذه الرواية يظهر
عموم (من) في (من كنت مولاه فعلي مولاه) لعمر ابن الخطاب - وللأول والثالث أيضا
بالاجماع المركب - من تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجبرئيل عليه السلام.
(هامش)
(1) المودة في القربى. انظر ينابيع المودة 249. (*)
ص 268
فهذا التأويل محاولة لإخراج الثلاثة من تحت هذا العام تحكما وزورا...
6 - أحاديث
عدم موافقة النبي لاستخلاف الشيخين
إن هذا التأويل يبتنى على رضا النبي صلى الله
عليه وآله وسلم باستخلاف الشيخين والثالث، لكن الأحاديث التي يرويها ثقاة أهل السنة
أنفسهم صريحة في عدم موافقته مع ذلك وإليك بعضها: روى بدر الدين محمد بن عبد الله
الشبلي الحنفي بعد ذكر اجتماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الجن وحضور ابن
مسعود هناك: (وقد ورد ما يدل على أن ابن مسعود حضر ليلة أخرى بمكة غير ليلة الحجون
فقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا علي
بن الحسين بن أبي بردة البجلي، حدثنا يحيى بن يعلى الأسلمي عن حرب بن صبيح حدثنا
سعيد بن مسلم عن أبي مرة الصنعاني عن أبي عبد الله الجدلي عن عبد الله ابن مسعود
قال: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فانطلقت حتى بلغنا أعلى
مكة، فخط علي خطا وقال: لا تبرح، ثم انصاع في الجبال، فرأيت الرجال ينحدرون عليه من
رؤس الجبال حتى حالوا بيني وبينه، فاخترطت السيف وقلت: لأضربن حتى استنقذ رسول
الله، ثم ذكرت قوله لا تبرح حتى آتيك قال: فلم أزل كذلك حتى أضاء الفجر، فجاء النبي
وأنا قائم فقال: ما زلت على حالك؟ قلت: لو مكثت شهرا ما برحت حتى تأتيني، ثم أخبرته
بما أردت أن أصنع، فقال: لو خرجت ما التقيت أنا وأنت إلى يوم القيامة، ثم شبك
أصابعه في أصابعي وقال: إني وعدت أن تؤمن بي الجن والإنس، فأما الإنس فقد آمنت بي،
وأما الجن فقد رأيت وما أظن أجلي إلا وقد اقترب. قلت: يا رسول الله ألا تستخلف أبا
بكر؟ فأعرض عني، فرأيت أنه لم يوافقه. قلت: يا رسول الله ألا تستخلف عمر؟ فأعرض
عني، فرأيت أنه لم يوافقه. قلت: يا رسول الله ألا تستخلف عليا؟ قال: ذاك والذي لا
إله غيره لو بايعتموه وأطعتموه أدخلكم الجنة
ص 269
أكتعين) (1). ورواه باختلاف يسير أحمد بن حنبل - الذي قال سبط ابن الجوزي: وأحمد
مقلد في الباب، متى روى حديثا وجب المصير إلى روايته، لأنه إمام زمانه وعالم أوانه،
والمبرز في علم النقل على أقرانه، والفارس الذي لا يجارى في ميدانه - فقد قال
الشبلي المذكور: (قد روى الإمام أحمد عن عبد الرزاق عن أبيه عن مينا عن عبد الله بن
مسعود قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن فتنفس، فقلت: ما لك يا
رسول الله؟ قال: نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود قلت: استخلف، قال: ومن؟ قلت أبو بكر.
قال: فسكت، ثم مضى ساعة ثم تنفس، قلت: ما شأنك بأبي وأمي يا رسول الله؟ قال: نعيت
إلي نفسي يا ابن مسعود. قلت: استخلف، قال: من؟ قلت عمر، فسكت، ثم مضى ساعة ثم تنفس،
قلت: ما شأنك؟ قال: نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود. قلت: استخلف، قال: من؟ قلت: علي.
قال: أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلون الجنة أكتعين) (2).
آكام المرجان
ومؤلفه
والشبلي مؤلف كتاب (آكام المرجان في أحكام الجان) من كبار علماء أهل السنة
الأعيان، ومن فقهائهم ومحدثيهم المشهورين، قال الذهبي: (محمد بن عبد الله الفقيه
العالم المحدث بدر الدين أبو البقاء الشبلي السابقي الدمشقي الحنفي، من نبهاء
الطلبة وفضلاء الشباب، سمع الكثير وعني بالرواية وقرأ على الشيوخ وسمع في صغره من
أبي بكر بن عبد الدائم وعيسى المطعم. ألف كتابا في الأوائل. مولده سنة 712. كتب
عني) (3). وفي هامشه بخط الميرزا محمد بن معتمد خان: (وكانت وفاة الشبلي هذا في
(هامش)
(1) آكام المرجان في أحكام الجان: 52. (2) المصدر: 48. (3) المعجم المختص: 128. (*)
ص 270
سنة 769: أرخها السخاوي في ذيل دول الإسلام). وذكر في (كشف الظنون) كتاب (آكام
المرجان) بقوله: (آكام المرجان في أحكام الجن للقاضي بدر الدين محمد بن عبد الله
الشبلي الحنفي المتوفى سنة 769. أوله الحمد لله خالق الإنس والجن. رتبه على مائة
وأربعين بابا في أخبار الجن وأحوالهم) (1). وقد اعتمد على الكتاب المذكور السيوطي
في (تحفة الجلسا برؤية الله للنسا) والعزيزي في (السراج المنير في شرح الجامع
الصغير). والحديث المذكور الذي أخرجه أحمد وأبو نعيم رواه الموفق بن أحمد المعروف
بأخطب خوارزم بقوله: (أنبأني الإمام الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد العطار
والإمام الأجل نجم الدين أبو منصور محمد بن الحسين بن محمد البغدادي، قالا أنبأني
الشريف الإمام الأجل نور الهدى أبو طالب الحسين بن محمد بن علي الزينبي، عن الإمام
محمد بن أحمد بن علي بن حسين بن شاذان، حدثنا سهل بن أحمد عن علي بن عبد الله عن
الديري إسحاق بن إبراهيم، قال حدثني عبد الرزاق ابن همام عن أبيه عن مينا مولى عبد
الرحمن بن عوف عن عبد الله بن مسعود قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وقد أصحر فتنفس الصعداء - فقلت يا رسول الله مالك تنفس؟ قال: يا ابن مسعود نعيت إلي
نفسي. قلت: استخلف يا رسول الله. قال: من؟ قلت: أبا بكر. فسكت، ثم تنفس، فقلت: مالي
أراك تنفس يا رسول الله؟ قال: نعيت إلي نفسي، قلت: استخلف يا رسول الله، قال: من؟
قلت: عمر بن الخطاب فسكت. ثم تنفس، فقلت مالي أراك تنفس يا رسول الله؟ قال: نعيت
إلي نفسي. فقلت: استخلف يا رسول الله، قال: من؟ قلت: علي بن أبي طالب. قال: أوه ولن
تفعلوا إذا أبدا، والله لئن فعلتموه ليدخلنكم الجنة وإن خالفتموه ليحبطن أعمالكم)
(2). وفي (وسيلة المتعبدين للملا عمر): (عن ابن مسعود قال: كنت مع رسول
(هامش)
(1) كشف الظنون 1 / 141. (2) المناقب للخوارزمي: 64. (*)
ص 271
الله ليلة الجن فتنفس، فقلت يا رسول الله ما شأنك؟ قال: نعيت إلي نفسي. قلت:
فاستخلف. قال: من؟ قلت: أبا بكر، قال: فسكت ساعة ثم تنفس فقلت: ما شأنك يا رسول
الله، قال: نعيت إلي نفسي. قلت: استخلف قال: من؟ قلت: عمر، فسكت حتى ذهب ساعة ثم
تنفس. فقلت: ما شأنك؟ قال: نعيت إلي نفسي. فقلت: استخلف، قال: من؟ قلت: علي بن أبي
طالب. قال: أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعون) (1). وقال شهاب
الدين أحمد: (عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يحكي عن ليلة الجن... ثم شبك صلى
الله عليه وسلم أصابعه في أصابعي وقال: إني وعدت أن يؤمن بي الجن والإنس، فأما
الإنس فقد آمنت، وأما الجن فقد رأيت، وما أظن أجلي إلا قد اقترب، قلت: يا رسول الله
ألا تستخلف أبا بكر؟ فأعرض عني، فرأيت أنه لم يوافقه. قلت: يا رسول الله ألا تستخلف
عمر؟ فأعرض عني، فرأيت أنه لم يوافقه. قلت: يا رسول الله ألا تستخلف عليا؟ قال صلى
الله عليه وسلم: ذاك والذي لا إله غيره لو بايعتموه أدخلكم الجنة أجمعين أكتعين.
رواه الحافظ أبو نعيم في كتابه دلائل النبوة) (2). وقال عبد القادر بن محمد الطبري
(3): (وفي دلائل النبوة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: استتبعني النبي صلى
الله عليه وسلم ليلة، فانطلقت معه حتى بلغت أعلى مكة، فخط علي خطة فقال: لا تبرح،
ثم انصاع في الجبال فرأيت الرجال ينحدرون عليه من رؤس الجبال حتى حالوا بيني وبينه،
فاخترطت السيف وقلت: لأضربن حتى استنقذ رسول الله. ثم ذكرت قوله لا تبرح حتى آتيك.
قال: فلم أزل كذلك حتى أضاء الفجر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأنا قائم فقال:
ما زلت على حالك؟ قلت: لو كنت شهرا ما برحت حتى تأتيني ثم أخبرته بما أردت أن أصنع
فقال: لو خرجت ما التقيت أنا ولا أنت إلى يوم
(هامش)
(1) وسيلة المتعبدين 1 / 221. (2) توضيح الدلائل - مخطوط. (3) ترجمته في خلاصة
الأثر 2 / 457. (*)
ص 272
القيامة. ثم شبك أصابعه في أصابعي وقال: إني وعدت أن يؤمن بي الجن والإنس، فأما
الإنس فقد آمنت بي، وأما الجن فقد رأيت وما أظن أجلي إلا وقد اقترب. فقلت: يا رسول
الله ألا تستخلف أبا بكر؟ فأعرض عني فرأيت أنه لم يوافقه. قلت: يا رسول الله ألا
تستخلف عمر؟ فأعرض عني فرأيت أنه لم يوافقه. قلت: يا رسول الله ألا تستخلف عليا؟
قال: ذلك والذي لا إله غيره لو بايعتموه وأطعتموه أدخلكم الجنة أكتعين. وعن ابن
مسعود رضي الله عنه أيضا قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة وفد
الجنة، فتنفس، فقلت: مالك يا رسول الله؟ قال: نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود. فقلت:
استخلف. قال: من؟ قلت: أبا بكر، فسكت ثم مضى ساعة ثم تنفس، فقلت: ما شأنك بأبي أنت
وأمي؟ قال: نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود. قلت: فاستخلف. قال: من؟ قلت: عمر، ثم مضى
ساعة ثم تنفس فقلت: ما شأنك؟ قال: نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود. قلت: فاستخلف، قال:
من؟ قلت: علي بن أبي طالب. قال: أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلن الجنة
أجمعين أكتعين. وبالجملة فعلي بن أبي طالب هو الصديق الأكبر، وخليفة رسول الله
الأطهر، فعن أبي رافع رضي الله عنه أنه قال: أتيت أبا ذر أودعه فقال: إنه ستكون
فتنة ولا أراكم إلا أنكم ستدركون كونها، فعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب، فإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أنت أول من آمن بي وأول من يصافحني يوم
القيامة، وأنت الصديق الأكبر وأنت الفاروق الأعظم، تفرق بين الحق والباطل، وأنت
يعسوب المؤمنين، وأنت أخي ووزيري وخليفتي في أهلي، وخير من أخلف من بعدي، تقضي ديني
وتنجز عدتي) (1). قوله: (ووجه تخصيص المرتضى بذلك علمه صلى الله عليه وسلم عن طريق
(هامش)
(1) حسن السريرة في حسن السيرة - مخطوط. (*)
ص 273
الوحي بوقوع البغي والفساد في زمان المرتضى، وأن بعض الناس سينكرون إمامته). أقول:
وهذا الوجه الذي ذكره مخدوش بوجوه: الأول: إن البغي والفساد وإنكار الإمامة لم يكن
في زمن سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام خاصة، بل قد وقع ذلك كله في زمن الأول وبلغ
أقصى الشدة في زمن الثالث كما هو معلوم، بل لقد استنكر طلحة وجماعة من الصحابة على
أبي بكر استخلافه عمر بن الخطاب أيضا، أللهم إلا أن يقول (الدهلوي) بعدم كون هذه
الوقائع بغيا وفساد، وهذا عين المرام. والثاني: إن حاصل هذا الوجه - مع الالتفات
إلى عدم تنصيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خلافة الثلاثة كما اعترف بذلك
(الدهلوي) أيضا - هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص على خلافة أمير المؤمنين،
لعلمه بوقوع البغي والفساد في زمن خلافته وترك ما كان عليه من التنصيص على خلافة
الثلاثة المتقدمين عليه، مع وقوع البغي والفساد في زمنهم كذلك، ولا ريب في علمه
بذلك أيضا... وحينئذ يرد على هذا الوجه ما زعم (الدهلوي) وروده على أهل الحق في
استدلالهم بحديث الغدير، من لزوم نسبة التقصير والمساهلة في أمر تبليغ الأحكام
والأوامر الإلهية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة أن صلى الله عليه وآله
وسلم ترك التنصيص على الثلاثة وخص أمير المؤمنين عليه السلام، مع أن الوجه الذي
ذكره لهذا التخصيص موجود بالنسبة إلى أولئك المتقدمين أيضا. والثالث: إنه إذا كان
ما ذكره هو الوجه في التنصيص على خلافة أمير المؤمنين عليه السلام، فإن عائشة وطلحة
والزبير ومعاوية وأتباعهم الذين بغوا على أمير المؤمنين عليه السلام وأفسدوا عليه
الأمر وأنكروا إمامته خارجون عن دين الإسلام، وهذا ما يبطل مذهب أهل السنة ويهدم
أساس اعتقادتهم، فلا مناص
ص 274
(للدهلوي) من رفع اليد عن هذا الوجه الذي ذكره أو الالتزام بما يترتب عليه.
[7]
التشكيك في دلالة صدر الحديث وجوابه

قوله: (ومن الطريف أن بعض علمائهم تمسك لإثبات أن
المراد من المولى هو الأولى بالتصرف باللفظ الواقع في صدر الحديث، وهو قوله: ألست
أولى بالمؤمنين من أنفسهم). أقول: كأن (الدهلوي) يزعم أن الاستدلال بصدر الحديث
يختص بالامامية، فيشكك في دلالته على الأولوية بالتصرف غير مبال بصرف الكلام الإلهي
عن مدلوله الحقيقي، إلا أنك قد عرفت سابقا تمسك سبط ابن الجوزي والسيد شهاب الدين
أحمد بصدر الحديث. والجدير بالذكر هنا أن (الدهلوي) يناقش في دلالة صدر الحديث على
مطلوب أهل الحق، ولا ينكر ثبوته وصدوره من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...
خلافا للفخر الرازي وبعض مقلديه الذين حملتهم العصبية العمياء إلى المناقشة في
صدوره. قوله: (فيعود الاشكال بأنهم متى سمعوا لفظ (الأولى) حملوه على (الأولى
بالتصرف)). أقول: إن هذه الجملة من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم مأخوذة -
باعتراف (الدهلوي) - من قوله تعالى: *(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)* وقد نص
أئمة التفسير وجهابذة المحققين على أن المراد في هذه الآية هو الأولوية في جميع
الأمور، فيكون هذا المعنى هو المراد في كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم
المذكور، وإذا ثبتت الأولوية في جميع الأمور ثبتت الأولوية بالتصرف بالبداهة.
ص 275
وهو المطلوب. قوله: (فما الدليل على هذا الحمل في هذا المورد؟). أقول: لا بد من حمل
هذا اللفظ على (الأولى بالتصرف) بالضرورة، لأن (الأولى) محمول حسب تصريحات أئمة
القوم على العموم، أي: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولى بالمؤمنين من
أنفسهم في جميع الأمور، كما نص على ذلك أئمة التفسير في تفسير *(النبي أولى
بالمؤمنين من أنفسهم)* وذكروا دلالة الآية المباركة على لزوم نفوذ أوامره في حق
المؤمنين ووجوب إطاعتهم له على كل حال، وحينئذ يثبت لأمير المؤمنين عليه السلام
كلما ثبت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالآية المباركة، بنص من النبي صلى
الله عليه وآله وسلم نفسه، وهذا هو معنى الإمامة والخلافة. قوله: (بل المراد هنا
أيضا هو: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم في المحبة). أقول ما الدليل على هذا
التقييد؟ أليس هو من التفسير بالرأي المنهي عنه بالاجماع؟ وبالجملة، فهو يخالف
تصريحات كبار أئمة التفسير من علماء طائفته، فلا عبرة بما ذكر ولا يصغى إليه. قوله:
(بل إن (الأولى) ههنا مشتق من الولاية بمعنى المحبة، يعني ألست أحب إلى المؤمنين من
أنفسهم). أقول: ما أسرع ذهول (الدهلوي) وشدة غفلته عما ذكره آنفا!! أما قال في مقام
تخطئة مجئ (المولى) بمعنى (الأولى) بأنه إذا جاز ذلك لزم جواز أن يقال (فلان مولى
منك) بدل (فلان أولى منك) قال: وهو باطل
ص 276
بالاجماع؟! فكيف يفسر (ألست أولى بالمؤمنين...) بقوله: (ألست أحب إلى المؤمنين...)
مع أنه إذا كان (الأولى) بمعنى (الأحب) لزم جواز أن يقال (أولى إليكم) كما يقال
(أحب إليكم)؟! والواقع أن تفسير (الأولى) ب (الأحب) بالاضافة إلى أنه يناقض كلامه
السابق مردود بأنه غير مناسب للمقام وغير منسبق إلى الأذهان. قوله: (حتى يحصل
التلائم بين أجزاء الكلام والتناسق بين جمله). أقول: إن نظم هذا الكلام وتناسق
أجزائه وجمله يكون في صورة إرادة معنى الإمامة والإمارة منه كما عرفت من المباحث
السابقة، وإلا يلزم أن ننسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وحسان بن ثابت، وقيس بن
سعد بن عبادة وكبار علماء أهل السنة، الذي فسروا الحديث بالإمامة والخلافة، إخراج
كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن النظم والتنسيق إلى الركاكة والاختلاط، ولا
نجد مسلما يتجاسر على هذه النسبة إلا (الدهلوي). وأما كلمات علماء أهل السنة الذين
فسروا حديث الغدير بإرادة الخلافة فقد تقدمت نصوصها، ونكتفي هنا بذكر كلمة شهاب
الدين الدولت آبادي حيث قال: (واحتجوا بخبر المولى. وتمام الحديث ذكرناه في الجلوة
الخامسة من الهداية التاسعة. قال أهل السنة يحمل في وقت خلافته). فإن هذه العبارة
ظاهرة في أن أهل السنة يرون دلالة حديث الغدير في الإمامة والخلافة، ثم إنهم
يحملونها على الخلافة في وقت خلافته، أي في المرتبة الرابعة بعد عثمان، وقد ذكرنا
عدم الدليل على هذا التقييد بل بطلانه بوجوه عديدة، فكلمات (الدهلوي) في صرف دلالته
على الإمامة والخلافة باطلة على كل حال. قوله: (ويكون حاصل معنى هذه الخطبة: يا
أيها المسلمون عليكم أن
ص 277
تجعلوني أحب إلى أنفسكم من أنفسكم، وإن من يحبني يحب عليا، اللهم أحب من أحبه وأبغض
من أبغضه). أقول: من الغريب جدا فرار (الدهلوي) عن بيان المعنى الذي يزعمه للفظة
(المولى) في قوله صلى الله عليه وآله وسلم (من كنت مولاه فعلي مولاه) بعد نفيه
دلالته على (الأولى) مكابرة وعنادا للحق وأهله... ففي كلماته السابقة اكتفى بالقول
بأن (الولاية) هي بمعنى (المحبة) ساكتا عن المعنى المراد من (المولى) أهو (المحب)؟
أو (المحبوب)؟ وهنا يكتفي ببيان حاصل معنى الخطبة حسب زعمه!!. إن جعل (الدهلوي)
لفظة (المولى) بمعنى (المحب) فواضح أنه ليس معنى (من كنت مولاه فعلي مولاه) ما ذكره
من أن من أحبني فقد أحب عليا، بل يكون المعنى بالعكس، وهو أنه يجب على أمير
المؤمنين عليه السلام أن يحب الآخرين. وإن جعل (المولى) بمعنى (المحبوب) فلا بد
أولا من أن يثبت مجئ (المولى) بهذا المعنى من كلمات أئمة اللغويين، بحيث لا يرد
عليه ما زعموا ورده على كونه بمعنى (الأولى)، ثم يدعي كون حاصل معنى الخطبة ما
ذكره. قوله: (وكل عاقل يصدق بصحة هذا الكلام وحسن انتظامه). أقول: نعم ينبغي للعاقل
أن يتأمل في مدى تعصب (الدهلوي) وعناده للحق، فهو يدعي بطلان ما يذكره أهل الحق
بالاستناد إلى الأدلة القويمة والبراهين القاطعة، ثم يدعي إفادة (من كنت مولاه فعلي
مولاه) معنى لا سبيل إلى إثباته إن جعل (المولى) فيه بمعنى (المحبوب)، لعدم مساعدة
اللغة، وإن جعله بمعنى (المحبوب) فهو يفيد عكس ما ذكره، فمن أين يثبت هدا الذي
ذكره؟! على أنك قد عرفت رواية السيد علي الهمداني الحديث بلفظ: (ألست أولى بكم من
أنفسكم آمركم وأنها كم ليس لكم علي أمر ولا نهي؟) فإنه صريح في أن المراد من
(المولى) هو (الأولى) بالمؤمنين من أنفسهم بالتصرف والأمر والنهي.
ص 278
قوله: (وإن قول النبي: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ما خوذ من الآية القرآنية،
ومن هنا جعل هذا المعنى من المسلمات لدى أهل الإسلام، وفرع عليه الحكم اللاحق له).
أقول: إنا نحمد الله ونشكره على إلجائه (الدهلوي) على الاعتراف بهذا الأمر الذي
يقوله أهل الحق ويثبت على ضوئه مطلوبهم، فإن هذه الفقرة لما كانت مأخوذة من الآية
المباركة، وقد عرفت دلالتها على الأولوية بالتصرف في عامة الأمور حسب تصريحات
جهابذة المحققين من أهل السنة، تكون قرينة على أن المراد من (من كنت مولاه فعلي
مولاه) نفس ذلك المعنى، وهو الأولوية بالتصرف في جميع أمور المؤمنين عامة. فاعترافه
المذكور ينتهي إلى الاستدلال المطلوب لأهل الحق. ولله الحمد. قوله: (ولقد وقع هذا
اللفظ في القرآن في موقع لا يصح أن يكون معناه الأولى بالتصرف أصلا...). أقول: إن
كلام (الدهلوي) هذا من أقوى الشواهد على متابعته للكابلي في خرافاته التي سطرها في
كتابه، فلم يراجع كتب الحديث والتفسير، ولم يلاحظ كلمات أئمة طائفته في تفسير الآية
المباركة هذه، وكان أكبر همه وأكثر سعيه مصروفا إلى الرد على استدلالات أهل الحق،
مع التعسف والمكابرة وإنكار الحقائق الراهنة. وإنا نقول هذا وننبه عليه حتى لا يغتر
الناظرون في كتابه، من أوليائه ومقلديه وغيرهم بما تفوه به وسطرته يده تبعا لهواه،
بل يجب عليهم التفحص والتوقف والدقة والتأمل، ثم الأخذ بما يقتضيه الانصاف وتساعده
الأدلة والبراهين. وبعد، فقد عرفت من كلمات أئمة القوم وأكابر المفسرين كالواحدي،
والبغوي، والزمخشري، والبيضاوي، والنسفي، والخوئي، والنيسابوري، والشربيني: أن
المراد من الأولوية في الآية المباركة *(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)* أولوية
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤمنين في جميع الأمور، وفي
ص 279
وجوب الطاعة ونفوذ الحكم ولزوم الانقياد والاتباع... وكما أن (الدهلوي) غفل أو
تغافل عما قاله المفسرون في تفسير الآية، كذلك غفل أو تغافل عما قاله المحدثون
وشراح الحديث: كالعراقي، والعيني، والقسطلاني، والمناوي، والعزيزي... فنعوذ بالله
من شرور أنفسنا وغفلاتها وحصائد ألسنتنا وهفواتها. قوله: (فإن سوق هذا الكلام هو
لنفي نسبة المتبنى إلى المتبني، ولبيان النهي من أن يقال لزيد بن حارثة: زيد بن
محمد...). أقول: إن سوق هذا الكلام هو لتخديع العوام، وهو من التفسير بالرأي الوارد
فيه الوعيد الشديد من النبي عليه السلام، فقد عرفت أن هذه الآية - حسب الرواية التي
رواها البغوي والبيضاوي - واردة في شأن من لم يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بالجهاد، إلا أن يأذن لهم آباؤهم وأمهاتهم... فليس شأن نزول الآية ما ذكره
(الدهلوي). ولو سلمنا ارتباط هذه الآية بما تقدم عليها، فإنه ليس المراد ما اخترعه
(الدهلوي) من المعنى، بل إنه حينئذ لدفع أمر مقدر، ومحمول على المعنى الذي تعتقده
الشيعة الإمامية، كما عرفت من تقرير أحمد بن خليل ونظام الدين النيسابوري. قوله:
(ولا دخل للأولى بالتصرف في المقصود في هذا المقام. فكذلك الأمر في الحديث، والمراد
في الآية هو المراد فيه). أقول: هذا الكلام مخدوش بوجوه: الأول: إنه ليس هذا الكلام
إلا معاندة ومكابرة، فأي مناسبة وارتباط أقوى وأوضح من هذا الكلام، وهو أن يثبت
النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأولوية لنفسه بالتصرف في أمور المؤمنين من أنفسهم
ثم يقول: فمن كنت مولاه
ص 280
- أي أولى بالتصرف في أموره من نفسه - فعلي مولاه أي أولى بالتصرف في أموره منه؟ إن
هذا الكلام في غاية المتانة والانتظام، وإلا فلا يوجد في العالم كلام متناسقة
ألفاظه ومترابطة جمله أبدا. الثاني: لقد نص حسام الدين السهارنبوري على كون صدر
الحديث قرينة على إرادة معنى (الأولى) من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كنت
مولاه فهذا علي مولاه). فمن العجب أن يقلد (الدهلوي) هذا الرجل في مواضع، وينتحل
خرافاته في بعض الأبحاث، ثم يدعي في هذا الموضع خلاف ما نص عليه السهارنبوري، وكأنه
أشد منه تعصبا وأكثر عنادا للحق وأهله!! الثالث: لقد عرفت سابقا أن سبط ابن الجوزي
يستند إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم...) في
حمل (المولى) على (الأولى) في قوله: (من كنت مولاه فعلي مولاه). الرابع: لقد عرفت
سابقا أن السيد شهاب الدين أحمد صاحب (توضيح الدلائل) نقل عن بعض العلماء أنه جعل
قوله: (ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين) قرينة على إرادة معنى (السيد) من (المولى)
ثم وافقه على ذلك. الخامس: لقد أثبتنا سابقا لزوم حمل (المولى) في (من كنت مولاه
فعلي مولاه) على المعنى المراد من (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم) بنص حديث صحيح
أخرجه الحاكم في (المستدرك) فلاحظ. السادس: لقد جاء في بعض طرق حديث الغدير لفظ (من
كنت مولاه أولى به من نفسه) بدل (من كنت مولاه)، فقد قال البدخشاني في (مفتاح
النجا): (وللطبراني برواية أخرى عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم بلفظ: من كنت أولى به
من نفسه فعلي وليه). وذكر سبط ابن الجوزي والسيد شهاب الدين أحمد عن أبي الفرج يحيى
بن سعيد الثقفي في (مرج البحرين) أنه روى حديث الغدير بلفظ (من كنت وليه وأولى به
من نفسه فعلي وليه). فظهر أن المراد من هذا القول نفس المراد من (ألست أولى
بالمؤمنين من أنفسهم) فلا يرتكب الفصل والتفريق إلا من يستنكف عن الإيمان والتصديق
والله ولي التوفيق.
ص 281
قوله: (ولو سلمنا كون المراد من صدر الحديث هو الأولى بالتصرف، فإنه لا وجه لحمل
المولى على الأولى بالتصرف كذلك، لأنه إنما صدر الحديث بتلك العبارة لينبه
السامعين، كي يتلقوا الكلام بكل توجه وإصغاء...). أقول: الحديث الذي أخرجه الطبراني
بلفظ صحيح يشتمل كغيره على ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل جملة (ألست
أولى...) جملا فيها الاقرار بالوحدانية والرسالة والبعث والمعاد والجنة والنار
قائلا: (أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله...) ثم إنه قال: يا
أيها الناس إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت
مولاه فهذا مولاه يعني عليا). وكل ذلك صريح في أن الغرض من تقديمه أولوية نفسه
بالمؤمنين من أنفسهم هو حمل (المولى) على (الأولى). وليس الغرض ما ذكره (الدهلوي)،
إذ لو كان الغرض ما ذكره لكان قوله: (ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا
عبده ورسوله) فقط وافيا بهذا الغرض. قوله: (وأما أخذ لفظة واحدة من الحديث وجعلها
فقط مورد العلاقة والربط بعبارة الصدر فمن كمال السفاهة، بل يكفي الارتباط الموجود
بين جميع الكلام مع هذه العبارة). أقول: لقد عرفت المناسبة التامة والعلامة الكاملة
بين جملتي (ألست أولى بالمؤمنين...) و(من كنت مولاه...) وأن سبط ابن الجوزي وشهاب
الدين أحمد وصاحب (مرافض الروافض) قد صرحوا بذلك، وجعلوا الجملة السابقة قرينة على
المراد في الجملة اللاحقة، ولكن (الدهلوي) يسفه هؤلاء وغيرهم كما هو صريح عبارته.
بل لقد صرح بما ذكرنا من المناسبة بعض المشاهير من أئمة الحديث وشراحه كالطيبي حيث
قال بشرح حديث الغدير: (قوله: إني أولى بالمؤمنين من أنفسهم. يعني به قوله تعالى:
*(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)* أطلق فلم يعرف بأي
ص 282
شيء هو أولى بهم من أنفسهم، ثم قيد بقوله: *(وأزواجه أمهاتهم)* ليؤذن بأنهن بمنزلة
الأمهات، ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو
أب لهم. وقال مجاهد: كل نبي فهو أبو أمته، ولذلك صار المؤمنون إخوة. فإذن وقع
التشبيه في قوله: من كنت مولاه فعلي مولاه في كونه كالأب، فيجب على الأمة احترامه
وتوقيره وبره، وعليه رضي الله عنه أن يشفق عليهم ويرأف بهم رأفة الوالد على
الأولاد، ولذا هنأه عمر بقوله: يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة)
(1). قوله: (والأغرب من ذلك استدلال بعض مدققيهم على عدم إرادة المحبة...). أقول:
إن الذي يقوله المدققون من أهل الحق هو أنه لما كان وجوب مودة أمير المؤمنين عليه
السلام سواء بالخصوص أو في ضمن العموم أمرا ثابتا بالآيات والأحاديث الكثيرة،
ومشتهرا بين جميع الناس من الخواص والعوام، ولم يكن هذا الأمر - وهو وجوب المودة -
عند أهل السنة مختصا به وحده، بل كان يشاركه فيه سائر الصحابة أيضا كان هذا
الاهتمام بهذا الأمر - الثابت لدى الجميع والمشترك فيه جميع الأصحاب كما عليه
الجماعة - أمرا غير معقول. بل إنه بناءا على مذهب أهل السنة القائلين بأفضلية
الشيخين بل الثلاثة من علي عليه السلام يكون مودة الثلاثة - لا سيما الشيخين - آكد
وألزم وأهم من محبة علي عليه السلام، فترك الأهم وإيثار غير الأهم مع هذا الاهتمام
البالغ يستحيل صدوره ووقعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فبالنظر إلى جميع ما
ذكر مع الالتفات إلى ذاك الاهتمام البالغ الذي كان من النبي صلى الله عليه وآله
وسلم في تبليغ الأمر يوم غدير خم، مع تلك الأحوال والمقارنات والخصوصيات، التي من
أهمها قرب وفاة النبي يعلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان بصدد تبليغ أمر مهم
يختص بعلي عليه السلام وحده، ولا يشاركه
(هامش)
(1) الكاشف - شرح المشكاة - مخطوط. (*)
ص 283
فيه أحد من القوم، ولا يكون ذلك الأمر إلا الخلافة والامامة. ولو أن ملكا من الملوك
كان في سفر فتوقف عن السير في وسط الطريق فجأة، وأمر من كان معه - وهم ألوف -
بالوقوف في مكان ليس فيه أبسط وسائل الراحة مع حرارة الجو، ثم أمر بأن يصنع له من
أقتاب الإبل منبر، فصعد المنبر وعرف من معه بقرب وفاته، وذكرهم بأولويته بالتصرف في
أنفسهم، ثم أثبت لأحد أقاربه مقاما كان قد أثبته قبل ذلك له مرارا وسمعه القوم منه
تكرارا، وكان ذلك الشأن والمقام غير مختص بهذا الشخص، بل كان جل الحاضرين أو كلهم
يشاركونه فيه، بل كان بعضهم أجل شأنا... كان هذا العمل من هذا الملك في غاية
الغرابة وبعيدا عن الحكمة والصواب والسياسة كل البعد... لا سيما لو كان في أقربائه
أو أصحابه من هو أليق وأولى بالاهتمام في إثبات ذلك المقام له. قوله: (ولم يعلم
هؤلاء بأن الدلالة على محبة شخص بدليل عام أمر، وإيجاب محبته بدليل خاص أمر
آخر...). أقول: من العجب أن يغفل (الدهلوي) عن أن إيجاب المودة لأمير المؤمنين عليه
السلام بالخصوص، مع كونه عند أهل السنة أقل شأنا من الشيخين بل من عثمان ابن عفان،
لا يستحق هذا الحد من الاهتمام بحيث يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس
بالوقوف في مكان شديد الحر، وأن يصنعوا له منبرا من أقتاب الإبل، فيرقى المنبر
ويطلب عليا فيعممه بيده ويأخذه بعضده فيبين وجوب مودته بعد ذكر قرب وفاته ورحيله...
فلو كان الغرض من ذلك كله ما ذكروا للزم اللغو والعبث، ونحن نعوذ بالله من نسبة
العبث إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. بل إن تركه إيجاب مودة الثلاثة والتأكيد
عليه، والاهتمام بشأن علي المفضول عند أهل السنة أمر لا يعقل نسبته إلى صلى الله
عليه وآله وسلم على مذهب أهل السنة. فمع التأمل في هذه الجهات يظهر صحة استدلال
المدققين من أهل الحق،
ص 284
واستهزاء (الدهلوي) بما ذكروه إما غفلة لقصور فهم، وإما تغافل عن عناد. قوله:
(فالمراد من الحديث إيجاب محبة علي بشخصه وإن تقدم ما يدل على وجوب محبته ضمن عموم
المؤمنين). أقول: من هذا الكلام يثبت أن مودة أمير المؤمنين عليه السلام مثل مودة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه قد بلغت مودته في الأهمية والعظمة مرتبة
لا تكفي معها مودته عليه السلام من باب المودة في عموم المؤمنين، بل إن مثله كمثل
من آمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضمن الإيمان بجميع أنبياء الله ورسله،
فإنه حينئذ لا يعتبر مؤمنا ومسلما. إذن، تجب مودة علي عليه السلام بالخصوص كما يجب
الإيمان بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم بالخصوص، فمودة علي كالإيمان بمحمد عليهما
وآلهما الصلاة والسلام في الوجوب والمرتبة، ومن كانت مودته بهذه المثابة كان أفضل
ممن لم يكن كذلك قطعا، وإذا ثبتت أفضليته ثبت تعينه للإمامة والخلافة، لاستلزام
الأفضلية للإمامة والخلافة بالأدلة القاطعة التي اضطر والد (الدهلوي) إلى الاعتراف
بها في كتابه (إزالة الخفا). وقد أذعن الكابلي في (الصواقع) بأن (من أمر الله النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأله أن يهديه إلى حبه فهو أفضل الناس وأنه حقيق
بالزعامة الكبرى) وهذا نص كلامه: (الرابع والخمسون: إشاعة ما يروون من الموضوعات:
إن الله تعالى أمر نبيه سيد الرسل أن يسأله أن يهديه إلى حب علي كما يجئ إن شاء
الله تعالى، فينخدع الخدوع ويوقن أن من أمر الله سيد رسله أن يسأله أن يهديه إلى
حبه فهو أفضل الناس وأنه حقيق بالزعامة الكبرى، وأن الخلفاء غصبوا حقه، فيضل عن
سواء السبيل ضلالا بعيدا، ولا يدري أنه من كذباتهم ومفترياتهم الواضحة، كيف؟ وهو
ناص على أن عليا أفضل من خاتم النبيين صلى الله عليه وآله أجمعين، وهو باطل) (1).
(هامش)
(1) الصواقع الموبقة، الباب الرابع والخمسون. (*)
ص 285
فإذا كان ما ذكره نصا في أنه أفضل الناس كان إيجاب المودة - مع هذا الاهتمام العظيم
على الثلاثة وغيرهم، حتى قال ثانيهم مهنئا إياه (أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن) وقال
أولهم أيضا كما في (الصواعق) وغيره دليلا على الأفضلية بالأولوية القطعية. قوله:
(وعلى تقدير وحدة المضمون في الآية والحديث، فأي قبح فيه؟ إن شأن النبي هو التأكيد
على مضامين الآيات والتذكير بها). أقول: ذكر (الدهلوي) في باب المكائد من (التحفة)
أن التأكيد دليل قطعي وبرهان يقيني على وقوع التغافل والتساهل، ومن هنا حكم بوضع
أخبار نسب روايتها إلى أهل الحق، من دون أن يذكر رواتها والكتب المخرجة فيها ولو
بالاجمال فضلا عن نقل العبارة. وإن كلامه في هذه المكيدة (وهي المكيدة السادسة
والأربعون) - الذي ذكره تبعا للكابلي وزاد عليه أشياء أخرى من عنده - صريح في أن
تأكيد أمر بالنسبة إلى شخص دليل على عدم حصول ذلك الأمر لذلك الشخص، وقصور الشخص
وإهماله وتغافله عن الأمر المطلوب منه. وعلى ضوء هذا الكلام يثبت أن الصحابة
الحاضرين في حجة الوداع المخاطبين بحديث الغدير - وفيهم الثلاثة فمن دونهم - لم
يكونوا واجدين لمحبة علي عليه السلام ومودته حتى ذلك الحين (الأمر الذي يكشف عنه
تكرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمر بمحبة علي وولايته بخطبته في يوم
الغدير، الدال على وجوب محبته في أقل تقدير) وأنهم كانوا مهملين لهذا الأمر البالغ
الأهمية. ولو أن (الدهلوي) إلتفت إلى ما يستلزمه كلامه في هذا المقام، ولا سيما مع
النظر إلى ما ذكره في باب المكائد، لما تفوه به قطعا. قوله: (لا سيما متى رأى
تهاونا من المكلفين في العمل بموجب القرآن. قال تعالى: *(وذكر فإن الذكرى تنفع
المؤمنين)*).
ص 286
أقول: ظاهر هذا الكلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجد من صحابته تهاونا في
الالتزام والعمل بما حكم وأوجب عليهم من قبل الله تعالى، في حق سيدنا أمير المؤمنين
عليه السلام في وجوب محبته ولزوم مودته... فهذا ظاهر الكلام (الدهلوي) في هذا
المقام. وحينئذ يبطل جميع كلمات (الدهلوي) واستدلالاته في مقام تنزيه الصحابة عن
المخالفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في باب الخلافة والامامة، ورفع شأنهم
عن المطاعن المتوجهة إليهم، وصدور الفضائح والقبائح منهم... لأن هؤلاء الصحابة إذا
كانوا متساهلين ومتهاونين في مجرد مودة علي أمير المؤمنين فلا غرابة في تهاونهم
وتساهلهم تجاه أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرشاداته في باب الإمامة
والخلافة، التي هي أعظم شأنا وأكبر مقاما من مجرد المودة والمحبة. قوله: (وما من
شيء دلت عليه آية من القرآن إلا وأكدت عليه الآيات الأخرى ثم الأحاديث على لسان
النبي، حتى تتم النعمة والحجة). أقول: فيه أولا: منع هذه الكلية، ووجه المنع ظاهر
على من قرأ القرآن. وثانيا: إن من العجيب تأكيد (الدهلوي) في هذا المقام على حسن
التكرار وإثباته الفائدة له باهتمام عظيم، ثم غفلته أو تغافله في باب المطاعن، عما
ذكره هنا فإنه يبذل هناك قصارى جهده لإثبات أن لا فائدة في التأكيد، وعلى هذا
الأساس يبرر منع عمر بن الخطاب عن كتابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصيته في
الساعات الأخيرة من حياته قائلا: إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندنا كتاب الله،
حسبنا كتاب الله. فما هذا التهافت والتناقض في كلمات (الدهلوي)؟ أفهل من الصحيح أن
يقرر أمرا في مقام ويؤكد عليه ثم ينكره في مقام آخر ويصر على إنكاره ونفيه؟! لقد
أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتب في وصيته أمرا أو أمورا
ص 287
ذكرها للأمة في خلال حياته الكريمة لغرض التأكيد، فإذا كان للتأكيد هذه الفوائد
التي ذكرها (الدهلوي) هنا فلماذا يدافع عن منع عمر بن الخطاب عن تأكيد النبي لما
أراد التأكيد عليه بكتابة الوصية؟ لكن لا ريب في جناية عمر على الأمة في ذلك اليوم،
وشناعة كلامه في ذلك الموقف، وأما توجيهات (الدهلوي) لصنيع عمر فباطلة، بل إن كلامه
هنا يتضمن وجوها توضح فساد تلك التوجيهات: (الأول): إنه يقول بأن عمل النبي وشأنه
هو التأكيد على ما جاء في القرآن والتذكير به... فيكون عمر الذي حال دون كتابة
النبي وصيته قد منع النبي من القيام بأمر واجب عليه، ويكون (الدهلوي) الذي برر عمل
عمر شريكا مع عمر في صنيعه. (الثاني): إنه يقول بأن التأكيد يفيد الالزام بالحجة
وإتمام النعمة... فيكون المانع من كتابة الوصية قد منع من الالزام بالحجة وإتمام
النعمة، ويكون (الدهلوي) الذي أيده في صنيعه شريكا معه في هذه الجريمة... هذا من
جهة. ومن جهة أخرى: إنه لو دار الأمر بين الاعتقاد بإمامة المانع من الالزام بالحجة
وإتمام النعمة، والاعتقاد بإمامة من كان نصبه يوم الغدير سببا لإكمال الدين وإتمام
النعمة، فإنه لا يستريب عاقل في أن الثاني أولى بها من الأول... (الثالث): إنه يقول
- كما سيأتي - بأن من لاحظ القرآن والحديث لا يقول مثل هذا الكلام الفارغ، وهذا
الكلام صريح في أن إنكار حسن التأكيد كلام فارغ مخالف للكتاب والسنة، فمن كلام نفسه
تظهر قيم كلماته في الدفاع عن من حال دون كتابة النبي وصيته!!... (الرابع): إنه
يقول - كما سيأتي - بأن إنكار حسن التأكيد يستلزم لغوية تأكيدات النبي صلى الله
عليه وآله وسلم في أبواب الصيام والصلاة والزكاة وتلاوة القرآن. فثبت أن منع الوصية
وتأييد هذا المنع يستلزم الاعتقاد بلغوية تأكيدات النبي في الأبواب والأحكام
المذكورة وغيرها...
ص 288
قوله: (وإن من نظر في القرآن والحديث لا يتفوه بمثل هذا الكلام الفارغ...). أقول:
إن من لاحظ الكتاب والسنة لا يتفوه بهذا الكلام الفارغ فينفي دلالة حديث الغدير على
الإمامة والخلافة لعلي عليه السلام، بالرغم من نزول قوله تعالى: *(يا أيها الرسول
بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته)* وقوله تعالى: *(اليوم أكملت
لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)* في واقعة غدير خم، وبالرغم
من تصريح حسان بن ثابت بإمامة علي عليه السلام في أشعاره نقلا عن لسان النبي صلى
الله عليه وآله وسلم، وبالرغم من تصريح الإمام عليه السلام نفسه بثبوت إمامته
وخلافته في يوم الغدير... إن من لاحظ الكتاب والسنة لا يتجاسر على نفي دلالة حديث
الغدير على الإمامة بالرغم من كل هذه الأدلة وغيرها... ومن هنا ترى بعض علماء أهل
السنة الذين وقفوا على حقيقة الأمر يعترفون ببطلان إنكار دلالة حديث الغدير على
إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وإن حاولوا اللجوء إلى تأويل مدلول الحديث،
وحملوه على إرادة الإمامة والخلافة بعد عثمان بن عفان. وقد عرفت فساد هذا الحمل
وبطلانه. قوله: (ويكون التنصيص على إمامة الأمير - كما يدعيه الشيعة - مرة بعد أخرى
والتأكيد عليه لغوا باطلا. معاذ الله من ذلك). أقول: وهذا التوهم مخدوش بوجوه:
الأولى: إنه وإن كان أمر الإمامة مبينا مرارا - لكن الذي كان يوم غدير خم كان أمرا
جديدا، فقد وقع في هذا اليوم الاستخلاف العلني الرسمي بحضور الآلاف المؤلفة من
الأمة، وأخذ البيعة منهم، مع قرب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورحلته عن
الدنيا إلى الرفيق الأعلى. الثاني: إن أهل السنة يزعمون تقدم الثلاثة على أمير
المؤمنين عليه السلام
ص 289
في لزوم المحبة ووجوب المودة، وإن محبة علي عليه السلام تأتي في المرتبة الرابعة،
فهذا من جهة. ومن جهة أخرى: لا ريب في تأخر عمر بن الخطاب عن أبي بكر رتبة ومقاما،
بل لقد وصل تأخر عمر عنه حدا بحيث كان يود أن لو كان شعرة في صدر أبي بكر، فقد روي:
(عن عمر قال: وددت أني شعرة في صدر أبي بكر. مسدد عن عمر) (1). بل (عن الحسن قال
قال عمر: وددت أني من الجنة حيث أرى أبا بكر. ش) (2). بل (عن ضبة بن محصن الغنوي
قال: قلت لعمر بن الخطاب: أنت خير من أبي بكر. فبكى وقال: والله لليلة من أبي بكر
ويوم خير من عمر عمر، هل لك أن أحدثك بليلته ويومه؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: أما ليلته فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هاربا من أهل مكة خرج ليلا،
فتبعه أبو بكر، فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره. فقال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا أبا بكر؟ ما أعرف هذا من فعلك. فقال:
يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك ومرة
عن يسارك، لا آمن عليك. فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة على أطراف أصابعه
حتى حفيت رجلاه، فلما رآه أبو بكر قد حفيت رجلاه حمله على كاهله يشتد به حتى أتى به
فم الغار فأنزله. ثم قال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله، فإن كان فيه شيء
نزل بي قبلك فدخل فلم ير شيئا، فحمله فأدخله، وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاعي،
فخشي أبو بكر أن يخرج منهن شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقمه قدمه،
فجعلن يضربنه ويلسعنه الحيات والأفاعي، وجعلت دموعه تنحدر ورسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول له: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته طمأنينة لأبي
بكر. فهذه ليلته.
(هامش)
(1) كنز العمال 14 / 138 (2) كنز العمال 14 / 137. (*)
ص 290
وأما يومه، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب فقال بعضهم: لا
نصلي ولا نزكي، فأتيته ولا آلوه نصحا، فقلت: يا خليفة رسول الله تألف الناس وأرفق
بهم. فقال: جبار في الجاهلية خوار في الإسلام! فبماذا أتألفهم؟ أبشعر مفتعل أو سحر
مفترى؟ قبض النبي صلى الله عليه وسلم وارتفع الوحي، فوالله لو منعوني عقالا مما
كانوا يعطون رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. فقاتلنا معه وكان والله
رشيد الأمر. فهذا يومه. الدينوري في المجالسة، وأبو الحسن بن بشران في فوائده، ق في
الدلائل، واللالكائي في السنة. كر) (1). وفي (كنز العمال) أيضا (عن محمد بن سيرين
قال: ذكر رجال على عهد عمر فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر، فبلغ ذلك عمر فقال: والله
لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول
الله صلى الله عليه وسلم لينطلق إلى الغار ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعة بين يديه
وساعة خلفه حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا بكر مالك تمشي ساعة
بين يدي وساعة خلفي؟ فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك وأذكر الرصد فأمشي
بين يديك. فقال: يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك
بالحق ما كانت لتكون مثلة إلا أن تكون بي دونك. فلما انتهى إلى الغار قال أبو بكر:
مكانك يا رسول حتى أستبرئ لك الغار. فدخل واستبرأه حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم
يستبرء الحجر، فدخل واستبرأ ثم قال: إنزل يا رسول الله. فنزل. قال عمر: والذي نفسي
بيده لتلك الليلة خير من آل عمر. ك ق في الدلائل) (2). وأيضا: فمن المعلوم أن مرتبة
عثمان بن عفان أدنى بمراتب كثيرة من مرتبة عمر بن الخطاب، فبناء على كون عثمان أفضل
من علي عليه السلام - معاذ الله من ذلك - تكون مرتبة علي أدنى من مرتبة أبي بكر
بمراتب لا تعد ولا تحصى، فيكون لزوم محبته أقل من لزوم محبة أبي بكر بمراتب لا تعد
ولا تحصى، وحينئذ
(هامش)
(1) كنز العمال 14 / 135. (2) المصدر 14 / 134. (*)
ص 291
فإن صرف هذا الاهتمام البالغ في بيان وجوب المودة المفضولة بهذه الكيفية، وترك
الاهتمام بالمودة الفاضلة، غريب في غاية الغرابة. لكن هذا الاستغراب لا يكون في
صورة تكرير النص أبدا. ومن الأمور الغريبة أن (الدهلوي) صرح في جواب الاستدلال بآية
التطهير *(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)* بأن إرادة
الباري عز وجل إذهاب الرجس عن أهل البيت عليهم السلام وتطهيرهم دليل على عصمة أهل
البيت، وقال: بأن دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإذهاب الرجس في حق أم سلمة
تحصيل للحاصل. وقد غفل (الدهلوي) عن أن الأمة الإسلامية تكرر سورة الفاتحة في كل
ليل ونهار عشرة مرات في الأقل، وقد جهل أو تجاهل عن أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم مع حصول الهداية له - وهدايته هو للآلاف المؤلفة - إلى الصراط المستقيم يطلب
من الله سبحانه الهداية إلى الصراط المستقيم في كل ليل ونهار خمس مرات في الأقل!!
وهل يقول (الدهلوي) أن الهداية لم تحصل له مع هذا الطلب؟ أو أن طلبه كان عبثا
وتحصيلا للحاصل؟ ونعوذ بالله من كل ذلك؟ وأيضا، فقد جعل في باب المكائد سؤال سيدنا
إبراهيم عليه السلام في ليلة المعراج أن يكون من شيعة علي عليه السلام، مع كونه من
شيعته منذ نبوته من قبيل تحصيل الحاصل، ليتمكن من تكذيب رواية السؤال المذكور من
هذا الطريق... فعلى هذا يمتنع حمل حديث الغدير على إيجاب المودة، لأن الحمل على
إيجاب المودة الثابت في المقامات العديدة الكثيرة من قبل يستلزم تحصيل الحاصل
المحال. الثالث: إنه يظهر من الأحاديث العديدة المذكورة بعضها سابقا والتي سنذكر
بعضا آخر منها إن شاء الله تنصيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إمامة أمير
المؤمنين عليه السلام مرارا عديدة، وهذه الأحاديث أخرجها كبار أساطين أهل السنة،
فرواية تكرير النص على إمامة علي عليه السلام وتأكيده لا تختص بالشيعة كما لا يخفى
على من راجعها.
ص 292
[8] دعوى أن سبب الخطبة وقوع بعضهم في علي، وجعل ذلك قرينة على إرادة المحبة

قوله:
(وإن سبب هذه الخطبة - كما روى المؤرخون وأهل السير - يدل بصراحة على أن الغرض
إفادة محبة الأمير. وذلك: إن جماعة من الأصحاب الذين كانوا معه في اليمن مثل بريدة
الأسلمي وخالد بن الوليد وغيرهما من المشاهير، جعلوا يشكون لدى رجوعهم من الأمير
عند النبي صلى الله عليه وسلم شكايات لا مورد لها، فلما رأى رسول الله شيوع تلك
الأقاويل من الناس، وأنه إن منع بعضهم عن ذلك حمل على شدة علاقته بالأمير ولم يفد
في ارتداعهم، لهذا خطب خطبة عامة وافتتح كلامه بنص من القرآن قائلا: ألست أولى
بالمؤمنين من أنفسهم. يعني: إنه كلما أقوله لكم ناشئ من شفقتي عليكم، ورأفتي بكم،
وليس الغرض الحماية عن أحد، وليس ناشئا عن فرط المحبة له. وقد روى محمد بن إسحاق
وغيره من أهل السير هذه القصة بالتفصيل). أقول: إن هذا الكلام ساقط بوجوه عديدة:
1
- الاستدلال برواية ابن إسحاق في غير محله

إن الاستدلال برواية محمد بن إسحاق في
مقابلة أهل الحق في غير محله، لوضوح أن ابن إسحاق من أهل السنة لا من أهل الحق
الإمامية، وقد عرفت مرارا من كلام (الدهلوي) نفسه وكلام والده وغيرهما أن من قواعد
المناظرة في العلوم والمسائل الخلافية أن يستند الخصم في مقام المناظرة إلى روايات
الطرف الآخر، لا روايات علماء طائفته وكتب قومه، فصنيع (الدهلوي) هذا خروج عن
القواعد المقررة في علم المناظرة.
ص 293
2 - ابن إسحاق مقدوح عند بعضهم

على أن محمد بن إسحاق لم يجمع أهل السنة وأبناء
مذهبه على توثيقه وقبول رواياته، فقد عرفت سابقا طعن جماعة من أعلام أهل السنة في
محمد بن إسحاق وقدحهم له، فبالاضافة إلى عدم جواز استناد (الدهلوي) إلى روايته لما
ذكر في الوجه الأول، فإنه رجل ضعيف غير قابل للاعتماد والاستناد عند جماعة من أهل
السنة.
3 - زعم الرازي عدم رواية ابن إسحاق لحديث الغدير

بل إن الفخر الرازي ذكر أن
محمد بن إسحاق لم يرو حديث الغدير، فقد تقدم في الكتاب أن الرازي استند - بصدد
الجواب عن حديث الغدير بزعمه - إلى عدم. نقل الشيخين والواقدي وابن إسحاق لهذا
الحديث، جاعلا ذلك دليلا على القدح فيه، فإذا لم يكن ابن إسحاق من رواة الحديث من
أصله، فقد بطل نسبة القول بأن سبب إيراد حديث الغدير هو شكاية بعض الأصحاب من علي
إلى محمد بن إسحاق.
4 - ليس في سيرة ابن هشام ما نسب الدهلوي إلى ابن إسحاق

هذا،
وفي سيرة ابن هشام التي هي خلاصة سيرة ابن إسحاق ما نصه: (موافاة علي رضي الله عنه
في قفوله من اليمن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج. قال ابن إسحاق: وحدثني
عبد الله بن أبي نجيح: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث عليا رضي الله عنه
إلى نجران، فلقيه بمكة وقد أحرم، فدخل على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فوجدها قد حلت وتهيأت، فقال: مالك يا بنت رسول الله؟ قالت: أمرنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن
ص 294
نحل بعمرة فحللنا. قال: ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من الخبر عن
سفره قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنطلق فطف بالبيت وحل كما حل أصحابك.
قال: يا رسول الله إني قلت حين أحرمت: اللهم إني أهل بما أهل به نبيك وعبدك ورسولك
محمد. قال: فهل معك من هدي؟ قال: لا. أشركه صلى الله عليه وسلم في هديه وثبت على
إحرامه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى فرغ من الحج ونحر رسول الله صلى الله
عليه وسلم عنهما. قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي
عمرة، عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال: لما أقبل علي رضي الله عنه من اليمن
ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تعجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسى كل رجل من القوم
حلة من البز الذي كان مع علي رضي الله عنه، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم
الحلل. قال: ويلك ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس. قال:
ويلك! إنزع قبل أن تنتهي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فانتزع الحلل
من الناس، فردها في البز. قال: وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم. قال ابن إسحاق:
فحدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم، عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجزة،
عن عمته زينب بنت كعب - وكانت عند أبي سعيد الخدري - عن أبي سعيد الخدري قال: إشتكى
الناس عليا رضي الله عنه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيبا فسمعته
يقول: أيها الناس لا تشتكوا عليا فوالله لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله) (1).
هذه رواية ابن إسحاق، فأين ما نسبه (الدهلوي) إليه؟
5 - دلالة كلام الدهلوي على حمل
الصحابة أوامر النبي على الأغراض النفسانية

إن مفاد كلام (الدهلوي) هذا هو أن
الصحابة كانوا يحملون أوامر النبي
(هامش)
(1) سيرة ابن هشام 2 / 603. (*)
ص 295
صلى الله عليه وآله وسلم ونواهيه على الأغراض النفسانية، ولا يعتقدون بكونها مطابقة
للواقع والحق، وأنها أحكام يجب إطاعتها والانقياد لها. وإذا كان هذا حال الصحابة في
قبال محبة أمير المؤمنين عليه السلام التي قال بوجوبها أهل السنة، ودلت عليها
الأحاديث المتكثرة والآثار النبوية المؤكدة، بل كان الإيمان بوجوب مودة أمير
المؤمنين عليه السلام على حد الإيمان بوجوب مودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما
نص عليه (الدهلوي) نفسه... إذا كان هذا حالهم بالنسبة إلى هذا الأمر، وأنهم يحملون
أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم به على الأغراض النفسانية والعلائق الشخصية،
فلما ذا يحاول أهل السنة إثبات الفضائل والمناقب لهكذا أناس، ويقولون باستحالة وقوع
الشنائع وصدور القبائح منهم؟! ولما ذا يصرون على امتناع مخالفتهم لأوامر الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم وللنصوص الصادرة منه... والواقع، أن أوامر النبي صلى الله عليه
وآله وسلم واجبة الامتثال، سواء كان المخاطب بها واحدا أو اثنين أو كل المسلمين،
سواء صدر الأمر منه علانية أو في الخفاء، ومن أعرض عن شيء من أوامره ونواهيه ولم
يمتثل فقد كفر كائنا من كان، وكيفما كان الحكم الصادر منه صلى الله عليه وآله وسلم،
لأن كلماته من حيث الشرع لا يختلف حكمها باختلاف الأحوال، وهكذا كان حال الصحابة
المؤمنين حقا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واعتقادهم به وبأقواله وأفعاله،
وأما المنافقون الذين كانوا حوله، فكانوا يعرضون عن أحكامه وأقواله، لعدم إيمانهم
القلبي، سواء كانت صادرة إليهم في ملأ من الناس أو خفية، ويحملونها على الأغراض
النفسانية مطلقا. فظهر أن الفرق الذي ذكره (الدهلوي) من أنه لو خاطب الواحد
والاثنين من الصحابة لحمل كلامه على العلاقة الشخصية، وأما إذا خاطب القوم كلهم
حملوه على الواقع، لا نصيب له من الواقع والحقيقة مطلقا.
ص 296
6 - منع النبي خصوص بريدة من الوقوع في علي

لقد ذكر (الدهلوي) أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم لم يمنع الشخص. الواحد الذي وقع في علي عليه السلام وتكلم فيه عند
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلمه بأن ذلك لا يجدي، بل يحمل على المحبة
الشخصية له بالنسبة إلى علي عليه السلام... لكن الموجود في روايات أهل السنة وأكابر
محدثيهم أنه منع بريدة بالخصوص من ذلك قائلا له (لا تقع علي علي فإنه مني وأنا منه
وهو وليكم بعدي) كما في (مسند أحمد بن حنبل (1)) وفي (إنسان العيون): (يا بريدة لا
تقع في علي فإن عليا مني وأنا منه...) (2). وقال ابن حجر المكي: (وأيضا، فسبب ذلك
كما نقله الحافظ شمس الدين الجزري عن ابن إسحاق: إن عليا تكلم فيه بعض من كان معه
في اليمن، فلما قضى صلى الله عليه وسلم حجه خطبها تنبيها على قدره وردا على من تكلم
فيه كبريدة، لما في البخاري أنه كان يبغضه، وسبب ذلك ما صححه الذهبي أنه خرج معه
إلى اليمن، فرأى منه جفوة فنقصه للنبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يتغير وجهه ويقول:
يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: من كنت مولاه
فعلي مولاه) (3).
7 - حديث الغدير كان بأمر من الله

لقد دلت روايات وكلمات أكابر
محدثي أهل السنة وأئمتهم أمثال: ابن أبي
(هامش)
(1) مسند أحمد بن حنبل 5 / 356. (2) إنسان العيون 3 / 338. (3) الصواعق المحرقة:
25. (*)
ص 297
حاتم الرازي، وأحمد الشيرازي، وأبي بكر ابن مردويه، وأبي إسحاق الثعلبي، وأبي نعيم
الاصبهاني، وأبي الحسن الواحدي، ومسعود السجستاني، والقاضي عبد الله الحسكاني، وابن
عساكر الدمشقي، والفخر الرازي، وفريد الدين العطار، ومحمد بن طلحة الشافعي، وعبد
الرزاق الرسعني، ونظام الدين النيسابوري، والسيد علي الهمداني، والحسين الميبدي،
وابن الصباغ المالكي، وبدر الدين العيني، وجلال الدين السيوطي، ومحمد محبوب العالم،
والحاج عبد الوهاب، وجمال الدين المحدث الشيرازي، والسيد شهاب أحمد، والميرزا محمد
ابن معتمد خان. لقد دلت كلمات هؤلاء - المؤيدة بالروايات الكثيرة الواردة من طريق
أهل الحق - على أن سبب حديث الغدير لم يكن شكوى إنسان من علي عليه السلام، بل كان
ذلك بأمر من الله سبحانه ووحي أكيد نزل به جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، فهو يدل دلالة صريحة على أن مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا
الحديث الشريف هو النص على إمامة سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام.
8 - واقعة
الغدير متأخرة عن قضية شكوى بريدة

وإن المستفاد من روايات أهل السنة: أن قضية شكوى
بريدة عليا عليه السلام عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنعه إياه عن الوقوع
والتكلم في علي، كانت قبل واقعة غدير خم التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: (من كنت مولاه فعلي مولاه). فهما قضيتان كما يدل على ذلك كلام نور الدين
علي بن إبراهيم الحلبي في (سيرته) حيث قال في وجوه الجواب على الاستدلال بحديث
الغدير: (ثانيها - إن اسم المولى يطلق على عشرين معنى منها: السيد الذي ينبغي
ص 298
محبته ويجتنب بغضه، ويؤيد إرادة ذلك أن سبب إيراد ذلك: إن عليا تكلم فيه بعض من كان
معه باليمن من الصحابة - وهو بريدة - لما قدم هو، وأتاه صلى الله عليه وسلم في تلك
الحجة التي هي حجة الوداع جعل يشكو له صلى الله عليه وسلم منه، لأنه حصل له منه
جفوة، فجعل يتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا بريدة لا تقع في علي،
فإن عليا مني وأنا منه، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قال: نعم يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال ذلك لبريدة
خاصة. ثم لما وصل إلى غدير خم أحب أن يقول ذلك للصحابة عموما. أي فكما عليهم أن
يحبوني فكذلك ينبغي أن يحبوا عليا) (1). فظهر أن دعوى سببية شكوى بريدة من علي
لحديث الغدير دعوى بلا دليل، وتخرص غير قابل للتعويل.
9 - على فرض الاتحاد فالدلالة
محفوظة

وعلى فرض الاتحاد بين القضيتين، وأن سبب الحديث الشريف هو تكلم بريدة أو
غيره في علي عليه السلام، فمن أين يثبت (الدهلوي) إرادته صلى الله عليه وآله
والمحبة والمودة لا الإمامة والخلافة؟ إن ما يقوله (الدهلوي) دعوى مجردة عن الدليل
والبرهان، فيكفي في الجواب عنه المنع المجرد كذلك...
10 - بطلان كلام الدهلوي من
قاضي القضاة عبد الجبار

على أن بطلان ما قاله (الدهلوي) من دلالة صدور هذا الحديث
الشريف
(هامش)
(1) السيرة الحلبية 3 / 328. (*)
ص 299
في مورد النهي عن التكلم في علي على إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المحبة
والمودة، دون الإمامة والخلافة ثابت من صريح كلام قاضي القضاة عبد الجبار حيث قال
بأن ذلك لو صح لم يمنع من التعلق بظاهر الحديث وما يقتضيه لفظه... وإليك نص عبارته
في الجواب عن حديث الغدير: (وقد قال شيخنا أبو الهذيل في هذا الخبر: إنه لو صح لكان
المراد به الموالاة في الدين. وذكر بعض أهل العلم حمله على أن قوما نقموا على علي
بعض أموره، فظهرت مقالاتهم له وقولهم فيه، فأخبر صلى الله عليه وسلم بما يدل على
منزلته وولايته دفعا لهم عما خاف فيه الفتنة. وقال بعضهم في سبب ذلك: إنه وقع بين
أمير المؤمنين وبين أسامة بن زيد كلام فقال له أمير المؤمنين: أتقول هذا لمولاك؟
فقال: لست مولاي وإنما مولاي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه. يريد بذلك قطع ما كان من أسامة وبيان أنه
بمنزلته في كونه مولى له. وقال بعضهم مثل ذلك في زيد بن حارثة، وأنكروا أن خبر
الغدير بعد موته. والمعتمد في معنى الخبر على ما قدمناه، لأن كل ذلك لو صح، وكان
الخبر خارجا عليه فلم يمنع من التعلق بظاهره وما يقتضيه لفظه، فيجب أن يكون الكلام
في ذلك، دون بيان السبب الذي وجوده كعدمه في أن وجود الاستدلال بالخبر لا يتغير)
(1).
ترجمة القاضي عبد الجبار

فهذا كلام القاضي عبد الجبار الذي طالما اقتفى القوم
أثره في المناقشة مع
(هامش)
(1) المغني للقاضي عبد الجبار بن أحمد. (*)
ص 300
الإمامية، وارتضوا أجوبته وشبهاته حول استدلالات أهل الحق، في مباحث الإمامة
والكلام، وقد أثنوا عليه بالغ الثناء في كتب التراجم: قال أبو بكر ابن قاضي شهبة:
(عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد ابن الخليل القاضي، أبو الحسن الهمداني،
قاضي الري وأعمالها. وكان شافعي المذهب وهو مع ذلك شيخ الاعتزال، وله المصنفات
الكثيرة في طريقهم وفي أصول الفقه. قال ابن كثير في طبقاته: ومن أجل مصنفاته
وأعظمها (دلائل النبوة) في مجلدين، أبان فيه عن علم وبصيرة حميدة، وقد طال عمره
ورحل الناس إليه من الأقطار واستفادوا به. مات في ذي القعدة سنة 415) (1). وقال
الأسنوي: (القاضي أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الاسترابادي، إمام
المعتزلة، كان مقلدا للشافعي في الفروع وعلى رأي المعتزلة في الأصول وله في ذلك
التصانيف المشهورة، تولى قضاء القضاة بالري. ورد بغداد حاجا وحدث بها عن جماعة
كثيرين. توفي في ذي القعدة سنة 415 ذكره ابن الصلاح) (2). وقال اليافعي: (القاضي
عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار. من رؤس أئمة المعتزلة وشيوخهم صاحب التصانيف
والخلاف العنيف) (3).
11 - دلالته على الإمامة حتى إذا كان في جواب شكوى بريدة

ثم
إن حديث الغدير يدل على الإمامة حتى في صورة كونه جوابا على شكوى بريدة، وذلك لأن
شكوى بريدة من علي عليه السلام كانت عند رجوعه من سفره معه إلى اليمن، فشكى عند
النبي صلى الله عليه وآله وسلم اصطفاء
(هامش)
(1) طبقات الشافعية 1 / 183. (2) طبقات الشافعية للأسنوي 1 / 354. (3) مرآة الجنان.
حوادث سنة 415 (*)
ص 301
أمير المؤمنين عليه السلام لنفسه جارية من السبايا، فذكر رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم في جوابه ولاية علي عليه السلام، فما معنى ذلك؟ إن معنى ذلك والغرض منه
إثبات أولوية علي عليه السلام بالتصرف في جميع الأمور، وأن من كان أولى بالتصرف من
غيره في الأمور، فليس لأحد أن يعترض عليه أو يتكلم فيه أو ينازعه في أمور من
الأمور، بل يجب على الكل متابعته والانقياد له، وقد ورد في حديث أنه صلى الله عليه
وآله وسلم قال لبريدة: (يا بريدة: إن عليا وليكم بعدي، فأحب عليا، فإنه يفعل ما
يؤمر. الديلمي عن علي). دل هذا الحديث على ولاية علي عليه السلام وعصمته كما هو
واضح. فإذا كان سبب حديث الغدير شكوى بريدة لأجل الواقعة المذكورة كما يزعم بعضهم،
فقد دلت الواقعة وصدور الحديث الشريف فيها على الإمامة والخلافة، وهو المطلوب.
وأيضا: فقد رووا عن بريدة أنه قال بعد أن نهاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن
بغض علي عليه السلام وتنقيصه: (فما كان من الناس من أحد بعد قول النبي أحب إلي من
علي) أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده، والحافظ ابن كثير عن أحمد (1) والشيخ عبد الحق
الدهلوي في معارج النبوة والسيد شهاب الدين أحمد (2) والبرزنجي (3) وغيرهم. ولا ريب
في دلالة مثل هذا الكلام على الأفضلية، قال اللاهوري في (شرح تهذيب الكلام
للتفتازاني) في ذكر أفضلية أبي بكر: (ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: والله ما
طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أحد أفضل من أبي بكر. ومثل هذا
الكلام لبيان الأفضلية، إذ الغالب من حال كل اثنين هو. التفاضل دون التساوي، فإذا
نفى أفضلية أحدهما ثبت أفضلية الآخر).
(هامش)
(1) تاريخ ابن كثير 7 / 345. (2) توضيح الدلائل - مخطوط. (3) نواقض الروافض -
مخطوط. (*)
ص 302
وإذا ثبتت الأفضلية لعلي عليه السلام فإن الأفضلية تثبت إمامته وتبطل خلافة
المتقدمين عليه.
12 - اختلافهم في سبب الحديث دليل الاختلاق

هذا، ولقد اضطرب أهل
السنة في بيان سبب حديث الغدير فذكروا وجوها متضاربة وأسبابا مختلفة، الأمر الذي
يدعو كل منصف إلى الاعتقاد بأن جميع ما ذكروه مفتعل ومختلق، ولا نصيب لشيء من تلك
الوجوه من الصحة أبدا. فتارة يجعلون السبب شكوى بريدة، وأخرى يجعلونه الكلام الذي
وقع بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين أسامة بن زيد، وثالثة يجعلونه الكلام الذي
وقع بين زيد بن حارثة وبين أمير المؤمنين عليه السلام. فأما الأول فقد ذكره ابن حجر
في الصواعق وتبعه عليه البرزنجي وعبد الحق الدهلوي وصاحب المرافض وأمثالهم، واختاره
(الدهلوي) مضيفا إليه شكوى خالد بن الوليد وغيره. وأما الثالث فقد ذكره القاضي عبد
الجبار في المغني عن بعضهم. وقد اختاره الفخر الرازي حيث قال: (سلمنا أنه محمول على
الأولى، لكن لا نسلم أنه يجب أن يكون أولى بهم في كل شيء، بل يجوز أن يكون أولى بهم
في بعض الأشياء، وهو وجوب محبته وتعظيمه والقطع على سلامة باطنه. فإنه روي أنه عليه
السلام إنما قال هذا الكلام عند منازعة جرت بين زيد وعلي فقال علي لزيد: أنت مولاي،
فقال زيد: لست مولى لك إنما أنا مولى رسول الله عليه السلام. فقال عليه السلام هذا
الكلام عند هذه الواقعة، فينصرف الأولوية إلى حكم هذه الواقعة. وهو أن من كنت أولى
به في المحبة والتعظيم والقطع على سلامة الباطن فعلي أولى به في هذه الأحكام) (1).
(هامش)
(1) الأربعين للرازي: 463. (*)