نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الحادي عشر

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الحادي عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 153

ومنهم: شمس الدين اللاهيجي، استدل به في مفاتيح الاعجاز على أنه عليه السلام أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومنهم: الكاشفي، استدل به في روضة الشهداء في مدح علم الإمام عليه السلام. ومنهم: ابن روزبهان، استدل به على وفور علمه في كتابه الباطل. ومنهم: الميبدي، استدل به في شرح الديوان على وجوب توجه أهل العرفان إلى أمير المؤمنين عليه السلام. ومنهم: الشامي صاحب السيرة استدل به على كون مدينة العلم من أسماء الرسول الكريم صلى الله عليه وآله في سيرته. ومنهم: ابن حجر المكي، استدل به في المنح المكية على أن الإمام عليه السلام وارث معظم علم القرآن من النبي صلى الله عليه وآله، وفي تطهير الجنان على أعلميته.. ومنهم: جمال الدين المحدث، استدل به في روضة الأحباب في مدح علم الإمام عليه السلام. ومنهم: السيد محمد البخاري في تذكرة الأبرار على وفور علمه. ومنهم: العزيزي في السراج المنير، استدل به على أنه ينبغي للعالم أن يخبر الناس بفضل من علم فضله.. (1). ومنهم: الشبراملسي في تيسير المطالب على أن من أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مدينة العلم . ومنهم: الكردي في النبراس على أن باب مدينة العلم من أسماء الإمام عليه السلام. ومنهم: إسماعيل الكردي في جلاء النظر، استدل به على براءة ساحته عليه

(هامش)

(1) السراج المنير في شرح الجامع الصغير: 2 / 63. (*)

ص 154

السلام عن الخطأ.. ومنهم: الزرقاني، استدل به في شرح المواهب اللدنية على كون مدينة العلم من أسماء النبي صلى الله عليه وآله. (1). ومنهم: سليمان جمل، استدل به في الفتوحات الأحمدية على إمداد النبي عليا بالعلوم. ومنهم: الأورنقابادي، استدل به في نور الكريمتين على أن النبي أشار إلى كلية بيت النبوة... ومنهم: العجيلي، احتج به في ذخيرة المآل على أنه عليه السلام باب مدينة العلم. إحتجاج شاه ولي الله ومن العجيب إنكار (الدهلوي) صلوح حديث مدينة العلم للاحتجاج به، مع احتجاج والده في مواضع من (قرة العينين) وكذا في (إزالة الخفاء) به.. إحتجاج (الدهلوي) نفسه والأعجب من ذلك أنه يقول هذا من استدلاله هو بحديث مدينة العلم في فتوى له، وقد تقدم ذكر السؤال وجوابه عنه في محله من الكتاب، وهل هذا إلا تناقض؟! ومن هنا يتضح لك أن الحق يعلو ولا يعلى عليه والحمد لله على ذلك حمدا جزيلا.

(هامش)

(1) شرح المواهب اللدنية: 3 / 143. (*)

ص 155

قوله: إن هذا العمل منهم ليشبه حال من تعامل مع خادم - لشخص عزله عن الخدمة لتقصيراته وخيانته، وأخرجه من داره، ونادى المنادي بذلك بأمره، معلنا أن لا علاقة لفلان الخادم بفلان ولا ذمة له عنده - ثم جاء هذا المتعامل مع هذا الخادم عالما بكل ما ذكر، إلى سيده، ليطالبه بدينه على الخادم! إن هذا الشخص في أعلى مراتب الحمق في نظر العقلاء أقول: لا يخفى على المنصف النبيل أن (الدهلوي) قد ضل سواء السبيل في هذا التمثيل العليل، كبر مقتا عند الله أن يرمى الحديث الصحيح بالسخرية والاستهزاء، ويعزو الحق الواضح إلى الكذب والافتراء، ولا يخاف بطش الله وسطوته، ولا يخشى أخذه بالقدرة ونقمته. ولكن حب الباطل يعمي البصائر ويغشى السرائر، ويصم الآذان ويفسد الإيمان، ويبعث على الاقحام في المهالك والتوغل في الحوالك. وقد حاق - والحمد لله - بنفسه وبال هذا التمثيل الأعوج، ونزل به وبوالده نكال هذا الهذر الأسمج، فإنهما بنفسهما قد اعتمدا على هذا الحديث الشريف واستندا بهذا الخبر المنيف، فكيف ينسب نفسه ووالده إلى الاعتماد على الخادم الخائن، والركون إلى السارق المائن، هل هذا إلا هذر قبيح وهراء فضيح؟!

ص 157

دلالة حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها

ص 159

قوله: ومع هذا، فإن هذا الحديث غير مفيد لما يدعونه! فأي ملازمة بين كون الشخص باب مدينة العلم وكونه صاحب الرئاسة العامة بلا فصل بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ . أقول: إن إنكار دلالة حديث مدينة العلم على مذهب أهل الحق عدوان محض وغمط للحق، ولا يرتضيه ذوو الإنصاف والبصيرة والمتجنبون للعناد والعصبية، ونحن نوضح دلالته في وجوه: 1 - دلالة حديث مدينة العلم على الأعلمية إن حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها يدل على أعلمية أمير المؤمنين عليه

ص 160

السلام، والأعلمية تستلزم الأفضلية، ولا ريب في استحقاق الأفضل الإمامة وتعينه لها دون غيره. أما دلالته على أعلميته فلأنه باب مدينة العلم، إذ لو كان غيره أعلم منه لزم النقص في الباب، والنقص فيه يفضي إلى النقص في المدينة، وذلك ما لا يجترئ مسلم على تقوله ولا مؤمن على تخيله.. وأيضا: صريح الحديث إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدينة العلم، وإن أمير المؤمنين عليه السلام باب تلك المدينة، والعقل السليم يحكم بأنه لا يكون بابا لمدينة العلم إلا من أحاط بجميع علومها.. وهذا المعنى يستلزم أعلمية أمير المؤمنين عليه السلام من كافة الخلائق - فضلا عن سائر الأصحاب - لأن رسول الله صلى الله عليه وآله كان أفضل وأكمل من جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين بالإجماع. ونحن نورد في المقام كلمات بعض العلماء الأعلام في تقرير أعلمية مدينة العلم عليه وآله السلام، لئلا يرتاب أحد في حصول كمالاته وعلومه لباب المدينة عليه السلام: قال أبو حامد الغزالي في (الرسالة اللدنية): والطريق الثاني: التعليم الرباني، وذلك على وجهتين: الأول: إلقاء الوحي وهو أن النفس إذا كملت بذاتها يزول عنها دنس الطبيعة ودرن الحرص والأمل، وينفصل نظرها عن شهوات الدنيا وينقطع نسبها عن الأماني الفانية، وتقبل بوجهها على بارئها ومنشئها، وتتمسك بجود مبدعها وتعتمد على إفادته وفيض نوره، والله تعالى - بحسن عنايته - يقبل على تلك النفس إقبالا كليا وينظر إليها نظرا إلهيا، ويتخذ منها ألواحا ومن النفس الكلي قلما، وينقش فيها جميع علومه، ويصير العقل الكلي كالمعلم والنفس القدسي كالمتعلم، فيحصل جميع العلوم لتلك النفس وينقش فيها جميع الصور من غير تعلم وتفكر، ومصداق هذا قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وعلمك ما لم تكن تعلم) الآية.

ص 161

فعلم الأنبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلائق، لأن حصوله من الله تعالى بلا واسطة ووسيلة، وبيان هذه الكلمة يوجد في قصة آدم والملائكة، فإنهم تعلموا طول عمرهم وحصلوا بفنون الطرق الكثيرة العلوم حتى صاروا أعلم المخلوقات وأعرف الموجودات، وآدم لما جاء ما كان عالما لأنه ما تعلم وما رأى معلما، فتفاخرت الملائكة عليه وتجبروا وتكبروا وقالوا: (نحن نسبح بحمدك ونقدسك لك) ونعلم حقائق الأشياء، فرجع آدم إلى باب خالقه وأخرج قلبه وأقبل بالاستغاثة على الرب تعالى، فعلمه الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة فقال: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) فصغر حالهم عند آدم وقل علمهم وانكسرت سفينة جبروتهم، فغرقوا في العجز فقالوا: (لا علم لنا)، فقال تعالى: (يا آدم أنبئهم بأسمائهم) فأنبئهم آدم عن مكنونات الغيب ومستترات الأمر. فتقرر الأمر عند العقلاء: أن العلم الغيبي المتولد عن الوحي أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة، وصار علم الوحي إرث الأنبياء وحق الرسل، حتى أغلق الله باب الوحي في عهد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وكان أعلم وأفصح العرب والعجم، وكان يقول: أدبني ربي فأحسن تأديبي، وقال لقومه: أنا أعلمكم بالله وأخشاكم من الله، وإنما كان علمه أشرف وأكمل وأقوى لأنه حصل عن التعليم الرباني وما اشتغل قط بالتعلم والتعليم الإنساني، فقال تعالى: (علمه شديد القوى) . وقال القاضي عياض: فصل: ومن معجزاته الباهرة: ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم، وخصه به من الاطلاع على جميع مصالح الدنيا والدين، ومعرفته بأمور شرائعه وقوانين دينه وسياسة عباده ومصالح أمته، وما كان في الأمم قبله، وقصص الأنبياء والرسل والجبابرة والقرون الماضية من لدن آدم إلى زمنه، وحفظ شرائعهم وكتبهم، ووعي سيرهم وسرد أنبائهم وأيام الله فيهم، وصفات أعيانهم واختلاف آرائهم، والمعرفة بمددهم وأعمارهم، وحكم حكمائهم، ومحاجة كل أمة من الكفرة،

ص 162

ومعارضة كل فرقة من الكتابيين بما في كتبهم، وإعلامهم بأسرارها ومخبات علومها، وإخبارهم بما كتموه من ذلك وغيره. إلى الاحتواء على لغات العرب وغريب ألفاظ فرقها والإحاطة بضروب فصاحتها، والحفظ لأيامها وأمثالها وحكمها ومعاني أشعارها، والتخصيص بجوامع كلمها، إلى المعرفة بضرب الأمثال الصحيحة والحكم البينة، لتقريب التفهيم للغامض والتبيين للمشكل. إلى تمهيد قواعد الشرع الذي لا تناقض فيه ولا تخاذل، مع اشتمال شريعته على محاسن الأخلاق ومحامد الآداب وكل شيء مستحسن مفضل لم ينكر منه ملحد ذو عقل سليم شيئا إلا من جهة الخذلان، بل كل جاحد له وكافر به من الجاهلية إذا سمع ما يدعو إليه صوبه واستحسنه، دون طلب إقامة برهان عليه، ثم ما أحل لهم من الطيبات وحرم عليهم من الخبائث، وصان به أنفسهم وأعراضهم وأموالهم من المعاقبات والحدود عاجلا والتخويف بالنار آجلا. إلى الاحتواء على ضروب العلوم وفنون المعارف كالطب والعبادة والفرائض والحساب والنسب وغير ذلك من العلم، مما اتخذ أهل هذه المعارف كلامه عليه السلام فيها قدوة وأصولا في علمهم.. هذا، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يكتب، ولكنه أوتي علم كل شيء.. ولا سبيل إلى جحد الملحد بشيء مما ذكرناه، ولا وجد الكفرة حيلة في دفع ما نصصناه، إلا قولهم: أساطير الأولين، وإنما يعلمه بشر، فرد الله قولهم بقوله: (لسان الذين يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين).. (1). وقال الرازي في بيان الحجج على أفضلية نبينا صلى الله عليه وآله من سائر الأنبياء عليهم السلام. الحجة السادسة عشرة: قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي في تقرير

(هامش)

(1) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى: 412 - بشرح القاري. (*)

ص 163

هذا المعنى: إن كل أمير فإنه مزيته على قدر رعيته، فالأمير الذي تكون إمارته على قرية تكون إمارته ومزيته بقدر تلك القرية، ومن ملك الشرق والغرب احتاج إلى أموال وذخائر أكثر من أموال تلك القرية، فكذلك كل رسول بعث إلى قومه فأعطي من كنوز التوحيد وجواهر المعرفة على قدر ما حمل من الرسالة، فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوص من الأرض إنما يعطى من هذه الكنوز الروحانية بقدر ذلك الموضع، والمرسل إلى كل أهل الشرق والغرب - إنسهم وجنهم - لا بد وأن يعطى من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بسعيه بأمور أهل الشرق والغرب. وإذا كان كذلك كان نسبة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى نبوة سائر الأنبياء كنسبة كل المشارق والمغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة، ولو كان كذلك لا جرم أعطي من كنوز الحكمة والعلم ما لم يعط أحد قبله، فلا جرم بلغ في العلم إلى الحد الذي لم يبلغه أحد من البشر قال تعالى في حقه: (فأوحى إلى عبده ما أوحى) وفي الفصاحة إلى أن قال: أوتيت جوامع الكلم، وصار كتابه مهيمنا على الكتب وصارت أمته خير الأمم (1). وقال ابن حجر المكي في (المنح المكية) بشرح قول البوصيري: لك ذات العلوم من عالم * الغيب ومنها لآدم الأسماء . قال ... واحتاج الناظم إلى هذا التفصيل مع العلم به مما قبله، لأن آدم ميزه الله تعالى على الملائكة بالعلوم التي علمها له، وكانت سببا لأمرهم بالسجود والخضوع له، بعد استعلائهم عليه بذمة ومدحهم أنفسهم بقولهم (أتجعل فيها من يفسد) الخ، فربما يتوهم أن هذه المرتبة الباهرة لم تحصل لنبينا صلى الله عليه وسلم، إذ قد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل، فرد ذلك التوهم ببيان أن آدم عليه الصلاة والسلام لم يحصل له من العلوم إلا مجرد العلم بأسمائها، وأن الحاصل لنبينا صلى الله عليه وسلم هو العلم بحقائقها ومسمياتها، ولا ريب أن

(هامش)

(1) تفسير الرازي. (*)

ص 164

العلم بهذا أعلى وأجل من العلم بمجرد أسمائها، لأنها إنما يؤتى بها لتبيين المسميات فهي المقصود بالذات وتلك بالوسيلة وشتان ما بينهما. ونظير ذلك أن المقصود من خلق آدم صلى الله عليه وسلم إنما هو خلق نبينا صلى الله عليه وسلم من صلبه، فهو المقصود بطريق الذات وآدم بطريق الوسيلة، ومن ثم قال بعض المحققين: إنما سجد الملائكة لأجل نور محمد صلى الله عليه وسلم الذي في جبينه.. . وقال الشيخ خالد الأزهري شارحا قول البوصيري: فاق النبيين في خلق وفي خلق * ولم يدانوه في علم ولا كرم وكلهم من رسول الله ملتمس * غرقا من البحر أو رشفا من الديم وواقفون لديه عند حدهم * من نقطة العلم أو من شكلة الحكم قال الأزهري: و معنى الأبيات الثلاثة: إنه صلى الله عليه وسلم علا جميع النبيين في الخلقة والسجية، ولم يقاربوه في العلم ولا في الكرم، كما سيأتي بيانه في قوله: يا أكرم الرسل، وفي قوله: ومن علومك علم اللوح والقلم. وكل النبيين أخذ من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدار غرفة من البحر أو مصة من المطر الغزير، وكلهم واقفون عند غايتهم من نقطة العلم أو من شكلة الحكم، وخص الشكلة بالحكم لزيادة التفهيم بها على النقطة (1). وكذا قال العصام بشرح الأبيات المذكور في (شرح البردة) فقال في شرح الأول: قال: لم يدانوه - ولم يقل: لم يدانه كل واحد منهم، لأن ذلك أبلغ، إذ معناه أنهم لو جمعوا وقوبلوا بمحمد عليه الصلاة والسلام وحده لم يدانوه، فكيف لو قوبل واحد بواحد... وفي قوله: في كرم - دلالة على أنهم لا يدانوه في علم وحده ولا في كرم وحده، لا أنهم لا يدانوه في العلم والكرم من حيث المجموع

(هامش)

(1) شرح البردة للأزهري: 63. (*)

ص 165

انتهى ملخصا. وقال في شرح الثاني: فإن قلت: هم عليهم الصلاة والسلام سابقون على النبي صلى الله عليه وسلم كيف يلتمسون غرفا من بحره؟ قلت: هم سألوا منه مسائل مشكلة في علم التوحيد والصفات، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم وحل مشكلاتهم، وبين يديه جرت المحاجة بين آدم صفي الله وبين موسى كليم الله ليلة المعراج، وإليه أشار بقوله: حاج موسى آدم فحج آدم موسى. أو تقول: الاعتبار بتقدم الروح العلوي لا القالب السفلي، وروح نبينا مقدم على سائر الأنبياء، وإليه أشار بقوله: كنت نبيا وآدم بين الماء والطين. والحاصل: كل الأنبياء من نبينا لا من غيره استفادوا العلم وطلبوا الشفقة إذ هو البحر من العلم والسحاب من الجود وهم كالأنهار والأشجار . إنتهى ملخصا. فظهر أن النبي صلى الله عليه وآله أعلم من جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة، وكلهم ملتمس منه غرفا من البحر أو رشفا من الديم، وهذه المراتب بعض مراتب علم مدينة العلم صلى الله عليه وآله، فأمير المؤمنين علي عليه السلام أعلم منهم جميعا، لأنه باب مدينة العلم ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم نص على أن من أراد المدينة فليأتها من بابها . اعترافهم بدلالة الحديث على الأعلمية ولقد بلغت دلالة حديث مدينة العلم على أعلمية الإمام علي عليه السلام حدا من الظهور والوضوح حتى صرح بذلك جماعة من علماء أهل السنة ولنذكر كلمات بعضهم: قال شهاب الدين أحمد في (توضيح الدلائل): الباب الخامس عشر - في أن النبي صلى الله عليه وآله وبارك وسلم دار حكمة ومدينة علم وعلي لهما باب، وأنه أعلم الناس بالله تعالى وأحكامه وآياته وكلامه بلا ارتياب:

ص 166

عن مولانا أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وبارك وسلم: يا علي إن الله أمرني أن أدنيك فأعلمك لتعي وأنزلت هذه الآية: (وتعيها أذن واعية) وأنت أذن واعية لعلمي. رواه الحافظ الإمام أبو نعيم في الحلية، ورواه سلطان الطريقة وبرهان الحقيقة الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر السهروردي في الشوارق بإسناده إلى عبد الله بن الحسن رضي الله تعالى عنهما ولفظ قال: حين نزلت هذه الآية (وتعيها أذن واعية) قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وبارك وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه: سألت أن يجعلها أذنك يا علي، قال علي كرم الله تعالى وجهه: فما نسيت شيئا بعده، وما كان لي أن أنسى. قال شيخ المشايخ في زمانه وواحد الأقران في علومه وعرفانه الشيخ زين الدين أبو بكر محمد بن علي الخوافي قدس الله تعالى سره: فلذا اختص علي كرم الله وجهه بمزيد العلم والحكمة، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وبارك وسلم: أنا مدينة العلم وعلي بابها. وقال عمر: لولا علي لهلك عمر . وقال ابن روزبهان بجواب قول العلامة الحلي: التاسع عشر - في مسند أحمد بن حنبل وصحيح مسلم قال: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سلوني إلا علي بن أبي طالب، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا مدينة العلم وعلي بابها . قال: هذا يدل على وفور علمه واستحضاره أجوبة الوقائع، واطلاعه على أشتات العلوم والمعارف، وكل هذه الأمور مسلمة ولا دليل على النص، حيث أنه لا يجب أن يكون الأعلم خليفة، بل الأحفظ للحوزة والأصلح للأمة، ولو لم يكن أبو بكر أصلح للإمامة لما اختاروه كما مر . وقال المناوي بشرح حديث مدينة العلم ما نصه: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب. فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم المدينة الجامعة لمعالي الديانات كلها، ولا بد للمدينة من باب، فأخبر أن بابها هو علي كرم الله وجهه، فمن أخذ طريقه دخل المدينة، ومن أخطأه أخطأ طريق الهدى.

ص 167

وقد شهد له بالأعلمية الموافق والمؤالف والمعادي والمخالف: أخرج الكلاباذي أن رجلا سأل معاوية عن مسألة فقال: سل عليا هو أعلم مني، فقال: أريد جوابك، قال: ويحك كرهت رجلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغره بالعلم غرا. وكان أكابر الصحب يعترفون له بذلك، وكان عمر يسأله عما أشكل عليه: جاءه رجل فسأله فقال: ههنا علي فسأله، فقال: أريد أن أسمع منك يا أمير المؤمنين، قال: قم لا أقام الله رجليك، ومحا اسمه من الديوان. وصح عنه من طرق أنه كان يتعوذ من قوم ليس هو فيهم، حتى أمكسه عنده ولم يوله شيئا من البعوث لمشاورته في المشكل. وأخرج الحافظ عبد الملك بن سليمان قال: ذكر لعطاء أكان أحد من الصحب أفقه من علي؟ قال: لا والله. وقال الحرالي: قد علم الأولون والآخرون أن فهم كتاب الله منحصر إلى علم علي، ومن جهل ذلك فقد ضل عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن القلوب الحجاب حتى يتحقق اليقين الذي لا يتغير بكشف الغطاء. إلى هنا كلامه (1). وفيه: أنا دار الحكمة - وفي رواية: أنا مدينة الحكمة - وعلي بابها، أي علي ابن أبي طالب هو الباب الذي يدخل منه إلى الحكمة وناهيك بهذه المرتبة ما أسناها وهذه المنقبة ما أعلاها، ومن زعم أن المراد بقوله: وعلي بابها - أنه مرتفع من العلو وهو الارتفاع فقد تمحل لغرضه الفاسد، لا يجديه ولا يسمنه ولا يغنيه. أخرج أبو نعيم عن ترجمان القرآن مرفوعا: ما أنزل الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا إلا وعلي رأسها وأميرها. وأخرج عن ابن مسعود قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم: فسئل عن علي كرم الله وجهه فقال: قسمت الحكمة عشرة أجزاء، فأعطي علي تسعة أجزاء والناس جزء واحدا. وعنه أيضا: أنزل القرآن

(هامش)

(1) فيض القدير: 1 / 46 - 47. (*)

ص 168

على سبعة أحرف، ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن، وأما علي فعنده منه علم الظاهر والباطن. وأخرج أيضا: علي سيد المسلمين وإمام المتقين. وأخرج أيضا: أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب. وأخرج أيضا: علي راية الهدى. وأخرج أيضا: يا علي إن الله أمرني أن أدنيك وأعلمك لتعي، وأنزلت علي هذه الآية (وتعيها أذن واعية) وأخرج أيضا عن ابن عباس: كنا نتحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى علي كرم الله وجهه سبعين عهدا لم يعهد إلى غيره. والأخبار في هذا الباب لا تكاد تحصى (1). وقال ابن حجر المكي في (المنح المكية): تنبيه: مما يدل على أن الله سبحانه اختص عليا من لعلم بما تقصر عنه العبارات قوله صلى الله عليه وسلم: أقضاكم علي، وهو حديث صحيح لا نزاع فيه، وقوله: أنا دار الحكمة - وفي رواية أنا مدينة العلم - وعلي بابها . وقال ابن حجر أيضا في (تطهير الجنان) في الدفاع عن معاوية: السادس: خروجه على علي كرم الله وجهه ومحاربته له، مع أنه الإمام الحق بإجماع أهل الحل والعقد، والأفضل الأعدل الأعلم بنص الحديث الحسن - لكثرة طرقه - خلافا لمن زعم وضعه ولمن زعم صحته ولمن أطلق حسنه: أنا مدينة العلم وعلي بابها.. . وأما استلزام الأعلمية للأفضلية فهو موضع وفاق بين العلماء والعقلاء. لأن العلم أشرف الفضائل وأعلى المناقب وأسنى المراتب، وإن من فاق الناس علما كان أفضلهم وأشرفهم مقاما وأعلاهم درجة.. وبالرغم من تقرر هذا المعنى وثبوته، ولكن من المناسب إيراد عبارات بعض كبار العلماء لمزيد الوضوح والتبيين: قال الحكيم الترمذي: الأصل الخامس والثلاثون والمائة - حدثنا إسماعيل ابن نصر بن راشد قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا

(هامش)

(1) فيض القدير: 1 / 46. (*)

ص 169

عمر مولى عقدة قال: سمعت أيوب بن صفوان يذكر عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه، وإن لله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر، فاغدوا وروحوا في ذكر الله، ألا فارتعوا في رياض الجنة. قالوا: وأين رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: مجالس الذكر فاغدوا وروحوا في ذكر الله وذكروه بأنفسكم. فمنزلة الله عند العبد إنما هو على قلبه على قدر معرفته إياه وعلمه وهيبته منه وإجلاله له، وتعظيمه والحياء منه والخشية منه والخوف من عقابه والوجل عند ذكره وإقامة الحرمة لأمره ونهيه، وقبول منته وروية تدبيره، والوقوف عند أحكامه وطيب النفس بها، والتسليم له بدنا وروحا وقلبا، ومراقبة تدبيره في أموره ولزوم ذكره والنهوض بأثقال نعمه وإحسانه، وترك مشياته لمشياته، وحسن الظن به في كل ما نابه. والناس في هذه الأشياء على درجات يتفاضلون، فمنازلهم عند ربهم على قدر حظوظهم من هذه الأشياء، وإن الله تبارك اسمه أكرم المؤمنين بمعرفته، فأوفرهم حظا من المعرفة أعلمهم به، وأعلمهم بهم أوفرهم حظا من هذه الأشياء، وأوفرهم حظا منها أعظمهم منزلة عنده، وأرفعهم درجة وأقربهم وسيلة، وعلى قدر نقصانه من هذه الأشياء ينتقض حظه وينحط درجته وتبعد وسيلته ويقل علمه به وتضعف معرفته إياه ويسقم إيمانه ويملكه نفسه. قال الله تبارك اسمه (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا) فإنما فضل الخلق بالمعرفة له والعلم به لا بالأعمال، واليهود والنصارى وسائر أهل الملل قد علموا أعمال الشريعة فصارت هنا هباء منثورا، فبالمعرفة تزكو الأعمال، وبها تقبل منهم، وبها تطهر الأبدان فمن فضل بالمعرفة فقد أوتي حظا من العلم به، ومن فضل بالعلم به يكون هذه الأشياء التي وصفنا موجودة عنده (1).

(هامش)

(1) نوادر الأصول - الأصل: 135. (*)

ص 170

وقال الغزالي في (الرسالة اللدنية): إعلم أن العلم هو تصور النفس الناطقة المطمئنة حقائق الأشياء وصورها المجردة عن المواد بأعيانها وكيفياتها وكمياتها وجواهرها وذواتها إن كانت مفردة وإن كانت مركبة، فالعالم هو المحيط المدرك المتصور، والمعلوم هو ذات الشيء الذي ينتقش علمه في النفس، وشرف العلم بقدر شرف معلومه ورتبة العالم بحسب رتبه العلم. ولا شك أن أفضل المعلومات وأعلاها وأشرفها وأجلها هو الله تعالى الصانع المبدع الحق الواحد، فعلمه - وهو علم التوحيد - أفضل العلوم وأجلها وأكملها، وهذا العلم الضروري واجب تحصيله على جميع العقلاء، كما قال صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام: طلب العلم فريضة على كل مسلم، وأمر بالسفر في طلب العلم فقال: أطلبوا العلم ولو بالصين. وعالم هذا العلم أفضل العلماء، وبهذا السبب خصهم الله تعالى بالذكر في أجل المراتب، فقال: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم) فعلماء التوحيد لا بإطلاق هم الأنبياء، وبعدهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وهذا العلم وإن كان شريفا في ذاته كاملا بنفسه لا ينفي سائر العلوم، بل لا يحصل إلا بمقدمات كثيرة، وتلك المقدمات لا تنتظم إلا عن علوم شتى، مثل علم السماوات والأفلاك وجميع علوم المصنوعات، ويتولد عن علم التوحيد علوم أخر كما سنذكرها بأقسامها في مواضعها وقد ذكر الغزالي في الباب الأول من كتاب العلم من كتاب (إحياء علوم الدين) فضل العلم والتعليم والتعلم وشواهده من النقل والعقل.. وبحث حول ذلك بالتفصيل (1). وقال الفخر الرازي في تفسيره: واعلم أنه يدل على فضيلة العلم: الكتاب والسنة والمعقول، أما الكتاب فوجوه:

(هامش)

(1) إحياء علوم الدين: 1 / 5 - 9. (*)

ص 171

الأول: إن الله تعالى سمى العلم بالحكمة، ثم أنه تعالى عظم أمر الحكمة، وذلك يدل على عظم شأن العلم. الثاني: قوله تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون). الثالث: قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) المراد بأولي الأمر العلماء في أصح الأقوال، لأن الملوك يجب عليه طاعة العلماء ولا ينعكس. ثم أنظر إلى هذه المرتبة، فإنه تعالى ذكر العالم في موضعين من كتابه في المرتبة الثانية قال: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط) وقال: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ثم إنه سبحانه وتعالى زاد في الاكرام فجعلهم في المرتبة الأولى في آيتين فقال تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) وقال تعالى: (قد كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب). الرابع: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات). واعلم أنه تعالى ذكر الدرجات لأربعة أصناف، أولها: للمؤمنين من أهل بدر قوله: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) إلى قوله: (لهم درجات عند ربهم) والثانية: للمجاهدين قوله: (وفضل الله المجاهدين على القاعدين) والثالثة: للصالحين: (ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى) والرابعة: للعلماء (والذين أوتوا العلم درجات). فالله تعالى فضل أهل بدر على غيرهم من المؤمنين بدرجات، وفضل المجاهدين على القاعدة أجرا عظيما درجات منه، وفضل الصالحين على هؤلاء بدرجات، ثم فضل العلماء على جميع الأصناف بدرجات. فوجب كون العلماء أفضل الناس. الخامس: قوله: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وإن الله تعالى وصف

ص 172

العلماء في كتابه بخمس مناقب: أحدها: الإيمان: (والراسخون في العلم يقولون آمنا). وثانيها: التوحيد والشهادة: (شهد الله) إلى قوله (وأولوا العلم). وثالثها: البكاء: (يخرون للأذقان يبكون). ورابعها: الخشوع: (إن الذين أوتوا العلم من قبله). وخامسها: الخشية: (إنما يخشى الله من عباده العلماء). وأما الأخبار فوجوه. (1). وقال النيسابوري في تفسيره: البحث الثالث في فضل العلم: لو كان في الامكان شيء أشرف من العلم لأظهر الله تعالى فضل آدم بذلك الشيء، ومما يدل على فضله الكتاب والسنة والمعقول.. فذكر الآيات التي ذكرها الرازي، ثم الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل العلم والعلماء.. (2). كما خص السمهودي الباب الأول من كتاب (جواهر العقدين) للكلام في إيراد الدلائل الدالة على فضل العلم والعلماء، ووجوب توقيرهم واحترامهم والتحذير من بغضهم والأذى لبعضهم، وقد تظاهرت الآيات وصحيح الأخبار والآثار وتواترت، وتطابقت الدلائل العقلية والنقلية وتوافقت على هذا الغرض الذي أشرنا إليه، وعولنا في هذا الباب عليه.. . وقال المولوي عبد العلي في (شرح مسلم) في الكلام على مقامات الأولياء والتفاضل بينهم، قال بعد كلام له: لأن التفاضل ليس إلا بالعلم، والفضل بما عداه غير معتد به .

(هامش)

(1) تفسير الرازي: 1 / 178. (2) تفسير النيسابوري 1 / 241. (*)

ص 173

قصة استخلاف آدم عليه السلام

 قال الله تعالى في كتابه العزيز (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون). قال الرازي: إعلم أن الملائكة لما سألوا عن وجه الحكمة في خلق آدم وذريته، وإسكانه تعالى إياهم في الأرض، وأخبر الله تعالى عن وجه الحكمة في ذلك على سبيل الاجمال بقوله تعالى: (إني أعلم ما لا تعلمون) أراد تعالى أن يزيدهم بيانا وأن يفصل لهم ذلك المجمل، فبين تعالى لهم من فضل آدم عليه السلام ما لم يكن ذلك معلوما لهم، وذلك بأن علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم عليهم، ليظهر بذلك كمال فضله وقصورهم عنه في العلم، فيتأكد ذلك الجواب الاجمالي بهذا الجواب التفصيلي (1). قال: المسألة السادسة: هذه الآية دالة على فضل العلم، فإنه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خلقة آدم عليه السلام إلا بأن أظهر علمه، فلو كان في الامكان وجود شيء أشرف من العلم لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم (2).

(هامش)

(1) تفسير الرازي: 1 / 175. (2) المصدر: 1 / 178. (*)

ص 174

قال: ثم خذ من أول الأمر، فإنه سبحانه لما قال (إني جاعل في الأرض خليفة) فلما قالت الملائكة (أتجعل فيها من يفسد فيها) قال سبحانه (إني أعلم ما لا تعلمون) فأجابهم سبحانه بكونه عالما، فلم يجعل سائر صفات الجلال من القدرة والإرادة والسمع والبصر والوجوب والقدم والاستغناء عن المكان والجهة جوابا لهم وموجبا لسكوتهم، وإنما جعل صفة العلم جوابا لهم، وذلك يدل على أن صفات الجلال والكمال وإن كانت بأسرها في نهاية الشرف إلا أن صفة العلم أشرف من غيرها. ثم إنه سبحانه إنما أظهر فضل آدم عليه السلام بالعم، وذلك يدل أيضا على أن العلم أشرف من غيره. ثم إنه سبحانه لما أظهر علمه جعله مسجود الملائكة وخليفة العالم السفلي، وذلك يدل على أن تلك المنقبة إنما استحقها آدم عليه السلام بالعلم. ثم إن الملائكة افتخرت بالتسبيح والتقديس، والافتخار بهما إنما يحصل لو كانا مقرونين بالعلم، فإنهما إن حصلا بدون العلم كان ذلك نفاقا، والنفاق أخس المراتب، قال تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) أو تقليدا والتقليد مذموم فثبت أن تسبيحهم وتقديسهم إنما صار موجبا للافتخار ببركة العلم (1). وقال بتفسير (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم.) إعلم أن هذا هو النعمة الرابعة من النعم العامة على جميع البشر، وهو أنه سبحانه وتعالى جعل أبانا مسجود الملائكة، وذلك لأنه تعالى ذكر تخصيص آدم بالخلافة أولا، ثم تخصيصه بالعلم الكثير ثانيا، ثم بلوغه في العلوم إلى أن صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم، وذكر الآن كونه مسجودا للملائكة (2).

(هامش)

(1) تفسير الرازي: 1 / 199. (2) تفسير الرازي: 1 / 211. (*)

ص 175

وهكذا قال بتفسير الآيات المذكورة كل من النيسابوري في تفسيره (غرائب القرآن) والبيضاوي في (تفسيره: 140) والخطيب الشربيني في (السراج المنير 1 / 48) وغيرهم من مشاهير المفسرين. المشابهة بين علي وآدم عليهما السلام ومن لطائف المقام أن العاصمي ذكر - لإثبات المشابهة بين أمير المؤمنين وآدم عليهما السلام في العلم والحكمة أنه كما أن آدم فضل على جميع الملائكة بالعلم - وهو أفضل الخصال - فكذلك سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام فضل على جميع الأمة بالعلم والحكمة - ما خلا الخلفاء الماضين -. إلا أنه باستدلاله على هذا الطلب بحديث: يا علي ملئت علما وحكمة ، وبحديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها قد أبطل - من حيث لا يشعر - استثنائه الخلفاء الثلاثة، وأيد استدلال أهل الحق بحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها على أفضلية الإمام عليه السلام - عن طريق الأعلمية - عن جميع الخلائق سوى أخيه وصنوه صلى الله عليه وآله. وهذا نص كلامه في (زين الفتى): وأما العلم والحكمة، فإن الله تعالى قال لآدم عليه السلام (وعلم آدم الأسماء كلها) ففضل بالعلم العباد الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون واستحق بذلك منهم السجود له، فكما لا يصير العلم جهلا والعالم جاهلا فكذلك لم يصر آدم المفضل بالعلم مفضولا، وكذلك حال من فضل بالعلم فأما من فضل بالعبادة فربما يصير مفضولا، لأن العابد ربما يسقط عن درجة العبادة إن تركها معرضا عنها، أو يتوانى تغافلا عنها فيسقط فضله، ولذلك قيل: بالعلم يعلو ولا يعلى، والعالم يزار ولا يزور ومن ذلك وجوب وصف الله سبحانه بالعلم والعالم، وفساد الوصف له بالعبادة والعابد، ولذلك من على نبيه عليه السلام بقوله: (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان

ص 176

فضل الله عليك عظيما) فعظم الفضل عليه بالعلم دون سائر ما أكرمه به من الخصال والأخلاق، وما فتح عليه من البلاد والآفاق. وكذلك المرتضى - رضوان الله عليه - فضل بالعلم والحكمة ففاق بهما جميع الأمة ما خلا الخلفاء الماضين - رضي الله عنهم أجمعين - ولذلك وصفه الرسول عليه السلام بهما حيث قال: يا علي ملئت علما وحكمة، وذكر في الحديث عن المرتضى رضوان الله عليه أن النبي صلى الله عليه كان ذات ليلة في بيت أم سلمة فبكرت إليه بالغداة، فإذا عبد الله بن عباس بالباب، فخرج النبي صلى الله عليه إلى المسجد وعلي عن يمينه وابن عباس عن يساره، فقال النبي عليه السلام: يا علي ما أول نعم الله عليك؟ قال: أن خلقني فأحسن خلقي، قال: ثم ماذا؟ قال: أن عرفني نفسه، قال: ثم ماذا؟ قال قلت: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. قال: فضرب النبي صلى الله عليه يده على كتفي وقال: يا علي ملئت علما وحكمة ولذلك قال النبي صلى الله عليه: أنا مدينة العلم وعلي بابها. وفي بعض الروايات: أنا دار الحكمة وعلي بابها . 2 - دلالته على العصمة إن حديث مدينة العلم يدل على عصمة سيدنا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، ولا ريب حينئذ في خلافته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل.. وأما دلالته على العصمة فقد أفصح عنها المحققون من أهل السنة، قال إسماعيل بن سليمان الكردي في (جلاء النظر في دفع شبهات ابن حجر) بعد كلام له: وإياك والاغترار بظواهر الآثار والأحوال من التزيي بزي آثار الفقر، كلبس المرقعات، وحمل العكاز وغير ذلك، لأنها ليست نافعة لمن اتصف بها وهو ليس علي شيء من المعرفة بالله، بل قد يكون المتصف بها صاحب انتقاد على المشايخ

ص 177

بنظره إلى نفسه، حيث أنه يرى حقيقة الأمر عنده دون غيره، وكثير من أهل هذا الشأن هلكوا في أودية الحيرة، لأنهم اغتراهم الجهل المركب، فلا يدرون ولا يدرون أنهم لا يدرون، كابن تيمية وابن المقري والسعد التفتازاني وابن حجر العسقلاني وغيرهم، فإن اعتراضهم على معاصريهم وعلى من سبق من الموتى دال على حصرهم طريق الحق عندهم لا غير. وقد زاد ابن تيمية بأشياء ومن جملتها: ما ذكره الفقيه ابن حجر الهيتمي - رحمه الله - في فتاواه الحديثية، عن بعض أجلاء عصره أنه سمعه يقول - وهو على منبر جامع الجبل بالصالحية -: إن سيدنا عمر - رضي الله عنه - له غلطات وأي غلطات، وإن سيدنا علي - رضي الله عنه - أخطأ في أكثر من ثلاثمائة مكان! فيا ليت شعري من أين يحصل لك الصواب إذا أخطأ عمر وعلي رضي الله عنهما بزعمك؟ أما سمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم في حق سيدنا علي: أنا مدينة العلم وعلي بابها؟.. . فإن ظاهر عبارته واستدلاله بحديث مدينة العلم في الرد على ذاك المتعصب العنيد دلالة هذا الحديث الشريف على عصمة الإمام عليه السلام.. وقال المولوي نظام الدين السهالوي الأنصاري في (الصبح الصادق) ما نصه: إفاضة - قال الشيخ ابن همام في فتح القدير - بعد ما أثبت عتق أم الولد وانعدام جواز بيعها عن عدة من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وبالأحاديث المرفوعة، واستنتج ثبوت الاجماع على بطلان البيع - مما يدل على ثبوت ذلك الاجماع ما أسنده عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني قال: سمعت عليا يقول: اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، ثم رأيت بعد أن يبعن، فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة، فضحك علي رضي الله تعالى عنه. واعلم أن رجوع علي - رضي الله تعالى عنه - يقتضي أنه يرى اشتراط انقراض العصر في تقرر الاجماع، والمرجح خلافه، وليس يعجبني أن لأمير المؤمنين

ص 178

شأنا يبعد أتباعه أن يميلوا إلى دليل مرجوح ورأي مغسول ومذهب مرذول، فلو كان عدم الاشتراط أوضح لا كوضوح شمس النهار كيف يميل هو إليه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، رواه الصحيحان، وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أنا دار الحكمة وعلي بابها. رواه الترمذي، فالانقراض هو الحق. لا يقال: إن الخلفاء الثلاثة أيضا أبواب العلم، وقد حكم عمر بامتناع البيع. لأن غاية ما في الباب أنهما تعارضا، ثم المذهب أن أمير المؤمنين عمر أفضل، وهو لا يقتضي أن يكون الأفضلية في العلم أيضا، وقد ثبت أنه باب دار الحكمة، والحكمة حكمه . ومفاد هذا الكلام دلالة حديث أنا دار الحكمة وعلي بابها على عصمة الإمام عليه السلام، وحينئذ تكون دلالة حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها ثابتة عليها بالأولوية، لما سيأتي عن ابن طلحة قوله: لكنه صلى الله عليه وسلم خص العلم بالمدينة والدار بالحكمة لما كان العلم أوسع أنواعا وأبسط فتونا وأكثر شعبا وأغزر فائلة وأعم نفعا من الحكمة، خصص الأعم بالأكبر والأخص بالأصغر . 3 - دلالته على أن الإمام واسطة العلوم ويدل حديث مدينة العلم على أن الأمة يجب أن تستمد العلوم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام، وهذا شرف يتضاءل عنه كل شرف، وفضيلة ليس فوقها فضيلة، ومرتبة تثبت الأفضلية فضلا عن غيرها من الأدلة... ومن هنا أيضا تثبت خلافة أمير المؤمنين عليه السلام بلا كلام: قال محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير الصنعاني في (الروضة الندية) بعد تصحيح الحديث: نعم، ولعلك تقول: كيف حقيقة هذا التركيب النبوي،

ص 179

أعني قوله: أنا مدينة العلم وعلي بابها؟ فأقول: الكلام فيه استعارة تخييلية ومكنية وترشيح، وذلك أنه شبه العلم بمحسوس من الأموال يحاز ويحرز، لأن بين العلم والمال تقارن في الأذهان، ولذلك يقرن بينهما كثيرا، مثل ما في كلام الوصي عليه السلام: العلم خير من المال، في كلامه المشهور الثابت لكميل بن زياد، وفي الحديث النبوي: منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا، فشبه العلم بالمال بجامع النفاسة في كل منهما، والحرص على طلبهما والفخر بحيازتهما، ولذلك قال الشافعي رحمه الله: قيمة المرء علمه عند ذي العلم * وما في يديه عند الرعاع وإذا ما جمعت علما ومالا * كنت عين الوجود بالإجماع ولما شبه العلم بالمال أثبت له ما هو من لوازم المال، وهو ما يجمعه ويحفظ فيه من المكان، وجعل المكان المدينة، لأنه لم يرد نوعا من العلم مشبها بنوع من المال، بل علوم جمة واسعة من فنون مختلفة كالأموال المتعددة الأنواع التي لا يحفظها إلا مدينة، ثم طوى ذكر المشبه به أعني المال كما هو شأن المكنية، ورمز إليه بلازمه وهو المدينة استعارة تخييلية، ثم أثبت لها الباب ترشيحا، مثل قولهم: أظفار المنية نشبت بفلان، ثم حمل ضمير قوله: مدينة العلم على ضمير نفسه صلى الله عليه وسلم فأخبر عنه بها، وأخبر عن علي عليه السلام بأنه بابها، فلما كان الباب للمدينة من شأنه أن يجلب منه إليها منافعهما ويستخرج منه إلى غيرها مصالحها كان فيه إيهام أنه صلى الله عليه وسلم يستمد من غيره بواسطة الباب الذي هو علي عليه السلام، دفع صلى الله عليه وسلم هذا الايهام بقوله: فمن أراد العلم فليأت من الباب ، إخبارا بأن هذا باب تستخرج منه العلوم وتستمد بواسطته، ليس له من شأن الباب إلا هذا، لا كسائر الأبواب في المدن، فإنها للجلب إليها والاخراج عنها، فلله در شأن الكلام النبوي ما أرفع شأنه وأشرفه وأعظم بنيانه، ويحتمل وجوها من التخريج أخر، إلا أن هذا أنفسها.

ص 180

وإذا عرفت هذا عرفت أنه قد خص الله الوصي عليه السلام بهذه الفضيلة العجيبة، وتوه شأنه، إذ جعله باب أشرف ما في الكون وهو العلم، وأن منه يستمد ذلك منه أراده، ثم إنه باب لأشرف العلوم وهي العلوم النبوية، ثم لأجمع خلف الله علما وهو سيد رسله صلى الله عليه وسلم، وإن هذا الشرف يتضاءل عنه كل شرف، ويطأطئ رأسه تعظيما له كل من سلف وخلف، وكما خصه باب مدينة العلم فاض عنه منها ما يأتيك من دلائل ذلك قريبا . 4 - دلالته على أن الإمام حافظ العلم ويدل حديث مدينة العلم على أن أمير المؤمنين عليه السلام حافظ علوم رسول الله صلى الله عليه وآله، وهذا المعنى بوحده دليل على أفضليته عليه السلام من سائر الأصحاب، وهو المطلوب في هذا الباب. ولقد صرح بما ذكرنا كمال الدين ابن طلحة حيث قال في ذكر شواهد علم الإمام وفضله: ومن ذلك ما رواه الإمام الترمذي في صحيحه بسنده، وقد تقدم ذكره في الاستشهاد في صفة أمير المؤمنين بالأنزع البطين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها، ونقل الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود القاضي البغوي في كتابه الموسوم بالمصابيح: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا دار الحكمة وعلي بابها، لكنه صلى الله عليه وسلم خص العلم بالمدينة والدار بالحكمة، لما كان العلم أوسع أنواعا وأبسط فنونا وأكثر شعبا وأغزر فائدة وأعم نفعا من الحكمة خصص الأعم بالأكبر والأخص بالأصغر. وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إشارة إلى كون علي عليه السلام نازلا من العلم والحكمة منزلة الباب من المدينة والباب من الدار، لكون الباب حافظا لما هو داخل المدينة وداخل الدار من تطرق الضياع واعتداء يد الذهاب

ص 181

عليه، وكان معنى الحديث أن عليا عليه السلام حافظ العلم والحكمة، فلا يتطرق إليهما ضياع ولا يخشى عليها ذهاب، فوصف عليا بأن حافظ العلم والحكمة، ويكفي عليا عليه السلام علوا في مقام العلم والفضيلة أن جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حافظا للعلم والحكمة (1). 5 - دلالته على وجوب الرجوع إليه ويدل حديث مدينة العلم على وجوب رجوع الأمة إلى أمير المؤمنين عليه السلام لأخذ العلم منه، ولذا قال صلى الله عليه وآله في ذيله فمن أراد العلم فليأت الباب وقال كذب من زعم أنه يصل إلى المدينة إلا من الباب . وهذا أيضا وجه آخر لإثبات المطلوب. والحمد لله. قال العلامة ابن شهرآشوب عليه الرحمة بعد نقل الحديث من طرق المخالفين: وهذا يقتضي وجوب الرجوع إلى أمير المؤمنين عليه السلام، لأنه كنى عنه بالمدينة وأخبر أن الوصول إلى علمه من جهة علي خاصة، لأنه جعله كباب المدينة الذي لا يدخل إليها إلا منه. ثم أوجب ذلك الأمر به بقوله: فليأت الباب . وفيه دليل على عصمته، لأنه من ليس بمعصوم يصح منه وقوع القبيح، فإذا وقع كان الاقتداء به قبيحا فيؤدي إلى أن يكون عليه السلام قد أمر بالقبيح وذلك لا يجوز، ويدل أيضا: أنه أعلم الأمة، يؤيد ذلك ما قد علمناه من اختلافها ورجوع بعضها إلى بعض وغناه عليه السلام عنها، وأبان عليه السلام ولاية علي عليه السلام وإمامته وأنه لا يصح أخذ العلم والحكمة في حياته وبعد وفاته إلا من قبله وروايته عنه كما قال الله تعالى: (وأتوا البيوت من أبوابها) (2).

(هامش)

(1) مطالب السئول: 61 - 62. (2) مناقب آل أبي طالب: 2 / 34. (*)

ص 182

وقال القاضي التستري الشهيد نور الله مرقده في (إحقاق الحق): أقول: في الحديث إشارة إلى قوله تعالى: (وأتوا البيوت من أبوابها) وفي كثير من روايات ابن المغازلي تصريح بذلك، ففي بعضها مسندا إلى جابر رضي الله عنه: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب. وفي بعضها مسندا إلى علي عليه السلام: يا علي أنا مدينة العلم وأنت الباب كذب من زعم أنه يصل إلى المدينة إلا من الباب. وروى عن ابن عباس: أنا مدينة الجنة وعلي بابها فمن أراد الجنة فليأتها من بابها. وعن ابن عباس أيضا بطريق آخر: أنا دار الحكمة وعلي بابها فمن أراد الحكمة فليأت الباب. وهذا يقتضي وجوب الرجوع إلى أمير المؤمنين عليه السلام، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كنى عن نفسه الشريفة بمدينة العلم وبدار الحكمة، ثم أخبر أن الوصول إلى علمه وحكمته وإلى جنة الله سبحانه من جهة علي خاصة، لأنه جعله كباب مدينة العلم والحكمة والجنة التي لا يدخل إليها إلا منه، وكذب عليه السلام من زعم أنه يصل إلى المدينة لا من الباب، وتشير إليه الآية أيضا كما ذكرناه. وفيه دليل على عصمته وهو ظاهر، لأنه عليه السلام أمر بالاقتداء به في العلوم على الاطلاق، فيجب أن يكون مأمونا عن الخطأ، ويدل على أنه إمام الأمة لأنه الباب لتلك العلوم، ويؤيد ذلك ما علم من اختلاف الأمة ورجوع بعض إلى بعض وغناؤه عليه السلام عنها، ويدل أيضا على ولايته وإمامته عليه السلام، وأنه لا يصح أخذ العلم والحكمة ودخول الجنة في حياته صلى الله عليه وآله إلا من قبله، ورواية العلم والحكمة إلا عنه، لقوله تعالى: (وأتوا البيوت من أبوابها) حيث كان عليه السلام هو الباب، ولله در القائل: مدينة علم وابن عمك بابها * فمن غير ذاك الباب لم يؤت سورها . ويدل أيضا: على أنه من أخذ شيئا من هذه العلوم والحكم التي احتوى عليها رسول الله صلى الله عليه وآله من غير جهة علي عليه السلام كان

ص 183

عاصيا كالسارق والمتسور، لأن السارق والمتسور إذا دخلا من غير الباب المأمور بها ووصلا إلى بغيتهما كانا عاصيين، وقوله عليه السلام: فمن أراد العلم فليأت الباب ليس المراد به التخيير، بل المراد به الايجاب والتهديد كقوله عز وجل (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) والدليل على ذلك: أنه ليس ههنا نبي غير محمد صلى الله عليه وآله هو مدينة العلم ودار الحكمة، فيكون العالم مخيرا بين الأخذ من أحدهما دون الآخر. وفقد ذلك دليل على إيجابه وأنه فرض لازم. والحمد لله . وقال: ثم لا يخفى على أولي الألباب أن المراد بالباب في هذه الأخبار الكناية عن الحافظ للشئ الذي لا يشذ عنه منه شيء ولا يخرج إلا منه ولا يدخل عليه إلا به، وإذا ثبت أنه عليه السلام الحافظ لعلوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحكمته، وثبت أمر الله تعالى ورسوله بالتوصل به إلى العلم والحكمة وجب اتباعه والأخذ عنه، وهذا حقيقة معنى الإمام كما لا يخفى على ذوي الأفهام . 6 - دلالته على أن الإمام أول من يقاتل أهل البغي ومما يدل عليه حديث مدينة العلم ما ذكره الكنجي من أن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام أول من يقاتل أهل البغي بعد رسول الله صلى عليه وآله وسلم. وهذا الوجه أيضا يقتضي أفضلية الإمام عليه السلام من سائر الأصحاب، وصحة الاستدلال به على مطلوب أهل الحق.. وهذا نص كلام الحافظ الكنجي: قلت - والله أعلم -: إن وجه هذا عندي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها، أراد صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى علمني العلم وأمرني بدعاء الخلق إلى الاقرار بوحدانيته في أول النبوة، حتى مضى شطر زمان الرسالة على ذلك، ثم أمرني الله بمحاربة من أبى الاقرار لله عز وجل

ص 184

بالوحدانية بعد منعه من ذلك، فأنا مدينة العلم في الأوامر والنواهي وفي السلم والحرب، حتى جاهدت المشركين، وعلي بن أبي طالب بابها، أي: هو أول من يقاتل أهل البغي بعدي من أهل بيتي وسائر أمتي، ولولا أن عليا بين الناس قتال أهل البغي، وشرع الحكم في قتلهم وإطلاق الأسارى منهم وتحريم سلب أموالهم وسبي ذراريهم، لما عرف ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم سن في قتال المشركين ونهب أموالهم وسبي ذراريهم، وسن علي في قتال أهل البغي أن لا يجهز على جريح ولا يقتل الأسير ولا تسبى النساء والذرية ولا تؤخذ أموالهم، وهذا وجه حسن صحيح. ومع هذا، فقد قال العلماء من الصحابة والتابعين وأهل بيته: بتفضيل علي، وزيادة علمه، وغزارته، وحدته فهمه ووفور حكمته، وحسن قضاياه وصحة فتواه، وقد كان أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من علماء الصحابة يشاورونه في الأحكام، ويأخذون بقوله في النقض والابرام، إعترافا منهم بعلمه ووفور فضله ورجاحة عقله وصحة حكمه، وليس هذا الحديث في حقه بكثير، لأن رتبته عند الله عز وجل وعند رسوله وعند المؤمنين من عباد أجل وأعلى من ذلك (1). 7 - الحديث في رواية جابر قال الخطيب: أخبرنا أبو طالب يحيى بن علي الدسكري قال: أخبرنا أبو بكر بن المقري قال: ثنا أبو الطيب محمد بن عبد الصمد الدقاق قال: حدثنا أحمد ابن عبيد الله أبو جعفر المكتب قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: ثنا سفيان عن عبد الله ابن عثمان بن خثيم عن عبد الرحمن بن بهمان قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وهو آخذ بيد علي: هذا أمير

(هامش)

(1) كفاية الطالب: 222. (*)

ص 185

البررة وقاتل الفجرة، منصور من نصره مخذول من خذله، يمد بها صوته، أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب (1). وقال ابن المغازلي: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن المظفر بن أحمد العطار الفقيه الشافعي - رحمه الله تعالى، بقراءتي عليه فأقر به، سنة أربع وثلاثين وأربعمائة - قلت له: أخبركم أبو محمد عبد الله بن محمد بن عثمان المزني - الملقب بابن السقاء الحافظ الواسطي رحمه الله - نا عمر بن الحسن الصيرفي رحمه الله، نا أحمد بن عبد الله بن يزيد، نا عبد الرزاق قال: أنا سفيان الثوري عن عبد الله بن عثمان عن عبد الرحمن بن بهمان عن جابر بن عبد الله قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بعضد علي فقال: هذا أمير البررة وقاتل الكفرة، منصور من نصره مخذول من خذله، ثم مد بها صوته فقال: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب . وقال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن موسى، أنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصلت القرشي، نا علي بن محمد بن المقري، نا محمد بن عيسى ابن شعبة البزاز، نا أحمد بن عبد الله بن يزيد المؤدب، نا عبد الرزاق، أنا معمر عن عبد الله بن عثمان عن عبد الرحمن قال سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - يوم الحديبية، وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب -: هذا أمير البررة وقاتل الفجرة، منصور من نصره فخذول من خذله، ثم مد بها صوته فقال: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب (2). وقال الكنجي: أخبرنا العلامة قاضي القضاة أبو نصر محمد بن هبة الله ابن قاضي القضاة محمد بن هبة الله بن محمد الشيرازي، أخبرنا الحافظ أبو القاسم، أخبرنا القاسم بن السمرقندي، أخبرنا أبو القاسم بن مسعدة، أخبرنا حمزة بن يوسف، أخبرنا أبو أحمد بن عدي، حدثنا النعمان بن هارون البلدي

(هامش)

(1) تاريخ بغداد 2 / 377، 4 / 219. (2) مناقب أمير المؤمنين لابن المغازلي: 80. (*)

ص 186

ومحمد بن أحمد بن المؤمل الصيرفي وعبد الملك بن محمد قالوا: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يزيد المؤدب، حدثنا عبد الرزاق، عن سفيان عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن عبد الرحمن بن بهمان قال: سمعت جابرا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب وهو يقول -: هذا أمير البررة وقاتل الفجرة، منصور من نصره مخذول من خذله، ثم مد بها صوته وقال: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب. قلت: هكذا رواه ابن عساكر في تاريخه، وذكر طرقه عن مشايخه (1). أقول: فهذا الحديث قد رواه كبار الحفاظ أمثال: عبد الرزاق بن همام الصنعاني. وابن السقاء الواسطي. وأبي الحسن العطار الشافعي. والخطيب البغدادي. وأبي محمد الغندجاني. وابن المغازلي. وابن عساكر، والكنجي الشافعي. وهذا الحديث يدل من جهات عديدة على اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإفصاح عن إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وأفضليته قولا وفعلا، وتلك الجهات هي: 1 - إيراده صلى الله عليه وآله هذا الكلام يوم الحديبية ، وهو مشهد عظيم من مشاهد المسلمين يجتمع فيه الوضيع والشريف والصغير والكبير... 2 - أخذه صلى الله عليه وآله بضبع أمير المؤمنين عليه السلام لمزيد التأكيد وإتمام الحجة على الحاضرين والغائبين..

(هامش)

(1) كفاية الطالب: 220. (*)

ص 187

3 - قوله صلى الله عليه وآله في حقه: هذا أمير البررة وقاتل الكفرة وهو نص صريح في إمامته.. 4 - قوله صلى الله عليه وآله وسلم: منصور من نصره مخذول من خذله إيجابا لطاعته وإلزاما لاتباعه... 5 - مده صلى الله عليه وآله صوته بقوله: أنا مدينة.. إبلاغا لجميع الحاضرين.. فكيف يقال: إنه صلى الله عليه وآله لم يقصد بهذا الحديث إمامة أمير المؤمنين عليه السلام؟ وأن هذا الحديث ليس فيه دلالة على مدعى أهل الحق؟ 8 - الحديث في خطبة الإمام الحسن عليه السلام روى القندوزي الحنفي: عن الأصبغ بن نباتة قال: لما جلس علي عليه السلام في الخلافة خطب خطبة ذكرها أبو سعيد البختري إلى آخرها، ثم قال للحسن عليهما السلام: يا بني فاصعد المنبر وتكلم، فصعد وبعد الحمد والتصلية قال: أيها الناس سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها، وهل تدخل المدينة إلا من بابها. فنزل. ثم قال الحسين عليه السلام فاصعد المنبر وتكلم فصعد، فقال بعد الحمد والتصلية: أيها الناس سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن عليا مدينة هدى فمن دخلها نجى ومن تخلف عنها هلك، فنزل. ثم قال علي عليه السلام: أيها الناس إنهما ولدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وديعته التي استودعهما على أمته، وسائل عنهما (1).

(هامش)

(1) ينابيع المودة: 72. (*)

ص 188

فذكر الإمام الحسن عليه السلام حديث مدينة العلم في هذا الحال - أي عند جلوس الإمام علي عليه السلام في الخلافة - واقتصاره عليه، من أوضح البراهين على دلالته على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، ووجوب متابعته والانقياد له.. 9 - رجوع الطرق إلى الإمام عليه السلام قال شهاب الدين أحمد بن عبد القادر العجيلي: ودعوة الحق وباب العلم * وأعلم الصحب بكل حكم . قالت أم سلمة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أما ترضين - يا فاطمة - أن زوجتك أقدم أمتي سلما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما. وقالت أم سلمة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. فهو الداعي إلى الحق وهو دعوة الحق. وفي الجامع الكبير: قسمت الحكمة عشرة أجزاء، فأعطي علي سبعة أجزاء والناس جزء وعلي أعلم بالواحد منه منهم. وأخرج الترمذي أنه قال صلى الله عليه وآله: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب. ولهذا كانت الطرق والسلسلات راجعة إليه . أي: لما كان علي عليه السلام باب مدينة العلم كانت الطرق والسلسلات راجعة إليه، وهذا المعنى أيضا يثبت أفضليته، وثبوتها كاف في هذا الباب كما لا يخفى على أولي الألباب (1).

(هامش)

(1) ذخيرة المآل - مخطوط. (*)

ص 189

10 - دلالة الحديث على أن الإمام خاتم الأولياء قال المولوي حسن الزمان: تنبيه: ومن أحسن بينة على معنى ختم الأولياء: الحديث المشهور الصحيح الذي صححه جماعات من الأئمة: منهم: أشد الناس مقالا في الرجال سند المحدثين ابن معين، كما أسنده ووافقه الخطيب في تاريخه - وقد كان قال أولا لا أصل له -. ومنهم: الإمام الحافظ المنتقد المجتهد المجدد الجامع من العلوم - كما ذكره السيوطي، وابن حجر، والتاج السبكي، والذهبي، والنووي، عن الإمام الحافظ الخطيب البغدادي ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، ويؤيده قول إمام الأئمة ابن خزيمة: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير - في تهذيب الآثار، وقد قال الخطيب: لم أرد مثله في معناه، كما نقل كلامه السيوطي في مسند علي من جمع الجوامع. ومنهم: الحاكم. ومن آخرهم: المجد الشيرازي شيخ ابن حجر، في نقد الصحيح، وأطنب في تحقيقه كما نقله الدهلوي في لمعات التنقيح. واقتصر على تحسينه: العلائي، والزركشي، وابن حجر، في أقوام أخر، ردا على ابن الجوزي. من قوله صلى الله عليه وآله: أنا مدينة العلم وعلي بابها ولا تؤتى المدينة إلا من بابها، قال الله تعالى: (وأتوا البيت من أبوابها). وهو أقوى شاهد لصحة رواية صححها الحاكم: فمن أراد العلم فليأت الباب. وهذا مقام الختم من أنه لا ولي بعده إلا وهو راجع إليه، آخذ من لديه،

ص 190

وإليه الإشارة بما في الحديث الصحيح المستفيض المشهور بل المتواتر، من الأمر بسد كل باب في المسجد إلا بابه، مستندا إلى أمر الله تعالى بذلك، فهو سد كل باب من صاحب الشريعة إلا ما شاء في الطريقة إلى الحقيقة إلا بأنه، فلا جرم قد انحصرت سلاسل الطريقة في باب المرتضى إلا ما ندر كخوخة الصديق أبي بكر، ويؤيده الأحاديث الصحيحة المذكورة وغيرها المشهورة. ومن هنا كان المرتضى مثل عيسى - على نبينا وكل الأنبياء الصلاة والسلام - في إفراط وتفريطهم فيه كما ورد، وقد استشهد ليلة رفع فيها عيسى كما ورد من طرق عن الإمام الحسن بن علي في الخطبة، فإنه خاتم الولاية العامة من آدم إلى آخر ولي. والمرتضى كرم الله وجهه خاتم الولاية الخاصة المحمدية الأكبر، فالمهدي الوارد فيه - عند الطبراني وجماعة: المهدي منا أهل البيت يختم الدين به كما فتح بنا - فولي آخر من العرب من أكرمها أصلا، ويدا كان الشيخ الأكبر خاتم الولاية المحمدية الأصغر عاصره ولقيه ونفيه خاتما خاصا في العالم غيره قبل تحققه برتبته وإن كان بشر به فنسي، ثم لما تحقق حقق (1). وحاصل هذا الكلام: إن حديث مدينة العلم من أحسن بينة على أن أمير المؤمنين عليه السلام خاتم الأولياء، وأن كل ولي راجع إليه، آخذ من لديه، وهذا وجه آخر لدلالة حديث مدينة العلم على أفضليته فإمامته عليه السلام...

(هامش)

(1) القول المستحسن في فخر الحسن 184. (*)

ص 191

قوله: غاية ما في الباب أنه قد تحقق فيه شرط من شروط الإمامة على الوجه الأتم، ومع وجدان أحد الشروط لا يلزم وجود المشروط . أقول: لقد ثبت - من البحوث المتقدمة - دلالة حديث مدينة العلم على إمامة سيدنا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، وكلام (الدهلوي) هذا يؤيد استدلال أهل الحق بهذا الحديث الشريف على الإمامة والخلافة، لأن تحقق أحد شروط الإمامة فيه - وهو العلم - بالوجه الأتم ثبتت أعلمية الإمام عليه السلام، وهذه تقتضي أفضليته وحينئذ لا يبقى ريب في وجدان لسائر شرائط الإمامة. أدلة أخرى على استلزام الأعلمية للأفضلية فالإمامة وبالرغم من ثبوت استلزام الأعلمية للأفضلية، وأيضا استحقاق الأعلم للإمامة والخلافة، من الوجوه المذكورة سابقا، لكنا نذكر فيما يلي بعض الأدلة المحكمة على هذا المطلب: 1 - قصة جالوت قال الله تعالى: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال

ص 192

ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين * وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم). قال الثعلبي والبغوي والنسفي وغيرهم: (قال إن الله اصطفاه) اختاره (عليكم وزاده بسطة) فضيلة وسعة (في العلم) وذلك أنه كان أعلم بني إسرائيل في وقته (1). 2 - قصة استخلاف داود سليمان عليهما السلام وهذه القصة ذكرها أبو الحسن محمد بن عبد الله الكسائي في (قصص الأنبياء) وأبو إسحاق أحمد بن محمد الثعلبي في (العرائس)، وعبيد الله الكاشغري في (نفائس العرائس) بألفاظ متقاربة، وهذه هي القصة بلفظ أبي إسحاق الثعلبي: باب في قصة استخلاف داود ابنه سليمان - عليهما السلام - وذكر بدو الخاتم. قال أبو هريرة رضي الله عنه: أنزل الله تعالى كتابا من السماء على داود عليه السلام مختوما بخاتم من ذهب فيه ثلاثة عشر مسألة، فأوحى الله تعالى إليه أن سل عنها ابنك، فإن هو أخرجهن فهو الخليفة من بعدك، قال: فدعا داود عليه السلام سبعين قسا وسبعين حبرا، وأجلس سليمان بين أيديهم وقال: يا بني إن الله تعالى أنزل علي كتابا من السماء فيه مسائل، وأمرني أن أسألك منها، فإن أخرجتهن فأنت الخليفة من بعدي. فقال سليمان: ليسأل نبي الله عما بدا له وما توفيقي إلا بالله، قال داود:

(هامش)

(1) معالم التنزيل 1 / 343. (*)

ص 193

يا بني ما أقرب الأشياء؟ وما أبعد الأشياء؟ وما آنس الأشياء؟ وما أوحشها؟ وما أحسن الأشياء؟ وما أقبحها؟ وما أقبل الأشياء؟ وما أكثرها؟ وما القائمان؟ وما الساعيان؟ وما المشتركان؟ وما المتباغضان؟ وما الأمر الذي إذا ركبه الرجل حمد آخره؟ وما الأمر الذي إذا ركبه الرجل ذم آخره؟ فقال سليمان عليه السلام: أما أقرب الأشياء فالآخرة. وأما أبعد الأشياء فما فاتك من الدنيا، وأما آنس الأشياء فجسد فيه روح، وأما أوحش الأشياء فجسد لا روح فيه، وأما أحسن الأشياء فالإيمان بعد الكفر، وأما أقبح الأشياء فالكفر بعد الإيمان، وأما أقل الأشياء فاليقين، وأما أكثر الأشياء فالشك، وأما القائمان فالسماء والأرض، وأما الساعيان فالشمس والقمر، وأما المشتركان فالليل والنهار، وأما المتباغضان فالموت والحياة، وأما الأمر الذي إذا ركبه الرجل حمد آخره فالحلم عند الغضب، وأما الأمر الذي إذا ركبه الرجل ذم آخره فالحدة عند الغضب. قال: ففكوا الخاتم، فإذا جواب المسائل سواء على ما نزل من السماء فقال القسيسون: لا نرضى حتى نسأله عن مسألة، فإن أخرجها فهو الخليفة من بعدك، فقال سليمان عليه السلام: سلوني وما توفيقي إلا بالله، فقالوا له: ما الشيء الذي إذا صلح صلح كل شيء من الإنسان، وإذا فسد فسد كل شيء من الإنسان؟ فقال: هو القلب. فقام داود فصعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: إن الله تعالى يأمرني أن استخلف عليكم سليمان. قال: فضجت بنو إسرائيل وقالوا: غلام حدث يستخلف علينا! وفينا من هو أفضل منه وأعلم! فبلغ ذلك داود عليه السلام، فدعا أسباط رؤساء بني إسرائيل وقال لهم: إنه قد بلغني مقالتكم، فأروني عصيكم، فأي عصاه أثمرت فإن صاحبها ولي هذا الأمر بعدي، قالوا: قد رضينا فجاؤوا بعصيهم، فقال لهم داود: ليكتب كل رجل منكم اسمه على عصاه، فكتبوا، ثم جاء سليمان بعصاه، فكتب عليها اسمه، ثم أدخلت بين

ص 194

العصي وأغلق عليها الباب وحرست رؤس أسباط بني إسرائيل، فلما أصبح صلى بهم الغداة ثم أقبل ففتح فأخرج عصيهم فإذا هي كما هي، وعصا سليمان قد أورقت وأثمرت، قال: فسلموا ذلك لداود عليه السلام، فلما رأى ذلك داود حمد الله وجعل سليمان خليفة ثم سار به في بني إسرائيل فقال: إن هذا خليفتي عليكم من بعدي . 3 - حديث: من استعمل عاملا.. ومن الأدلة على تعين الأعلم للخلافة والإمامة: ما جاء في (كنز العمال) من قوله صلى الله عليه وآله: من استعمل عاملا من المسلمين وهو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين. م د. عن ابن عباس (1). لأنه إذا كان استعمال عامل هذا شأنه في أمر صغير خيانة لله ورسوله وجميع المسلمين، فما ظنك بالولاية العامة والإمامة الكبرى والخلافة العظمى عن رسول الله؟! 4 - الدليل من الأشعار المروية ومن الأدلة على اقتضاء الأعلمية للإمامة: الأشعار التي رويت عن واحد من الصحابة أنه قالها بعد السقيفة في مدح علي عليه السلام، وبيان أنه صاحب الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، دون أبي بكر بن أبي قحافة، وهذه هي:

(هامش)

(1) كنز العمال: 6 / 40. (*)

ص 195

ما كنت أحسب أن الأمر منحرف * عن هاشم ثم منها عن أبي حسن أليس أول من صلى لقبلتكم * وأعلم الناس بالآثار والسنن وأقرب الناس عهدا بالنبي ومن * جبريل عون له في الغسل والكفن من فيه ما في جميع الناس كلهم * وليس في الناس ما فيه من الحسن ماذا الذي ردكم عنه فنعرفه * ها إن بيعتكم من أول الفتن وهذه الأبيات ذكرها الخوارزمي ونسبها إلى العباس بن عبد المطلب (1). وذكرها الأيوبي في (المختصر في أخبار البشر) إلا البيت الأخير منها مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ، ناسبا إياها إلى عتبة بن أبي لهب (2) وعزاها في (الموفقيات) إلى بعض ولد أبي لهب بن عبد المطلب وهذا نص كلامه: روى محمد بن إسحاق: إن أبا بكر لما بويع افتخرت تيم بن مرة، قال: وكان عامة المهاجرين وجل الأنصار لا يشكون أن عليا هو صاحبها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الفضل بن عباس: يا معشر قريش - وخصوصا يا بني تيم - إنكم إنما أخذتم الخلافة بالنبوة ونحن أهلها دونكم، ولو طلبنا هذا الأمر الذي نحن أهله لكانت كراهة الناس لنا أعظم من كراهتهم لغيرنا، حسدا منهم لنا وحقدا علينا، وإنا لنعلم أن عند صاحبنا عهدا هو ينتهي إليه، وقال بعض ولد أبي لهب بن عبد المطلب: ما كنت أحسب أن الأمر منصرف * عن هاشم ثم منها عن أبي حسن أليس أول من صلى لقبلتكم * وأعلم الناس بالقرآن والسنن وأقرب الناس عهدا بالنبي ومن * جبريل عون له في الغسل والكفن من فيه ما فيهم لا يمترون به * وليس في الناس ما فيه من الحسن ماذا الذي ردهم عنه فنعلمه * ها إن ذا غبننا من أعظم الغبن

(هامش)

(1) المناقب للخوارزمي: 8. (2) المختصر في أخبار البشر: 1 / 156. (*)

ص 196

وعزاها الزين العراقي في (شرح الألفية) وفي (التقييد والايضاح)، وكذا السخاوي في (فتح المغيث - شرح ألفية الحديث) في البحث حول أول من أسلم... إلى خزيمة بن ثابت وهذا نص كلام العراقي في كتابه الثاني: والصحيح أن عليا أول ذكر أسلم، وحكى ابن عبد البر الاتفاق عليه كما سيأتي، وقال ابن إسحاق في السيرة: أول من آمن خديجة ثم علي بن أبي طالب، وكان أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر سنين، ثم زيد ابن حارثة فكان أول ذكر أسلم بعد علي، ثم أبو بكر فأظهر إسلامه إلى آخر كلامه. وما ذكرنا أن الصحيح من أن عليا أول ذكر أسلم هو قول أكثر الصحابة: أبي ذر، وسلمان الفارسي، وخباب بن الأرت، وخزيمة بن ثابت، وزيد بن أرقم، وأبي أيوب الأنصاري، والمقداد بن الأسود، ويعلى بن مرة، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وعفيف الكندي. وأنشد أبو عبد الله المرزباني لخزيمة بن ثابت: ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفا * عن هاشم ثم منها عن أبي حسن أليس أول من صلى لقبلتهم * وأعلم الناس بالفرقان والسنن (1) وكذا نسبها إليه الشيرازي في (روضة الأحباب) والزرقاني في (شرح المواهب اللدنية). وعزاها بعضهم كالفخر الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب) والنيسابوري في تفسيره (غرائب القرآن) والبيضاوي في (تفسيره) إلى حسان بن ثابت (2). وعزاها بعضهم كأبي جعفر الاسكافي في (نقض العثمانية) إلى أبي سفيان ابن حرب حيث قال في بيان أنه عليه السلام أول من أسلم: وأما الأشعار المروية

(هامش)

(1) فتح المغيث 3 / 124. (2) الرازي النيسابوري البيضاوي تفسير الآية: 34 من سورة البقرة. (*)

ص 197

فمعروفة كثيرة منتشرة، فمنها قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مجيبا للوليد بن عقبة بن أبي معيط: وإن ولي الأمر بعد محمد * علي وفي كل المواطن صاحبه وصي الرسول حقا وصنوه * وأول من صلى ومن لاذ جانبه وقال خزيمة بن ثابت: وصي رسول الله من دون أهله * وفارسه مذ كان في سالف الزمن وأول من صلى من الناس كلهم * سوى خيرة النسوان والله ذو منن وقال أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس حين بويع أبو بكر: ما كنت أحسب أن الأمر منصرف * عن هاشم ثم منها عن أبي حسن أليس أول من صلى لقبلتهم * وأعلم الناس بالأحكام والسنن وقال أبو الأسود الدؤلي يهدد طلحة والزبير: وإن عليا لكم مصحر * يماثله الأسد الأسود أما إنه أول العابدين * بمكة والله لا يعبد وقال سعيد بن قيس الهمداني يرتجز بصفين: هذا علي وابن عم المصطفى * أول من أجابه فيما روى هو الإمام لا يبالي من غوى وقال زفر بن يزيد بن حذيفة الأسدي: فحوطوا عليا وانصروه فإنه * وصي وفي الإسلام أول أول وإن تخذلوه والحوادث جمة * فليس لكم عن أرضكم متحول

ص 198

والأشعار كالأخبار إذا امتنع في مجئ القبيلتين التواطي والاتفاق كان ورودهما حجة . 5 - قول عمر: لو أدركت معاذ بن جبل... ومن غرائب الأمور: ما رووه عن عمر بن الخطاب أنه كان يتمنى وجود معاذ بن جبل حين موته ليستخلفه من بعده، وكان السبب في ذلك ما كان سمعه - على حد زعمه - من قول رسول الله صلى الله عليه وآله في حق معاذ إن العلماء إذا اجتمعوا يوم القيامة كان معاذ بن جبل بين أيديهم . وممن روى هذه القصة: ابن سعد (الطبقات) وأحمد (المسند) وابن قتيبة (الإمامة والسياسة) وأبو نعيم (الحلية) وابن حجر والعسقلاني (فتح الباري) والمتقي (كنز العمال).. قال ابن سعد: أخبرنا يزيد بن هارون، أنا سعيد بن أبي عروبة: سمعت شهر بن حوشب يقول: قال عمر بن الخطاب: لو أدركت معاذ بن جبل فاستخلفته، فسألني عنه ربي لقلت: ربي! سمعت نبيك يقول: إن العلماء إذا اجتمعوا يوم القيامة كان معاذ بن جبل بين أيديهم بقذفة حجر (1). ومن هنا يعلم أن تقدم الرجل في العلم كاف لاستخلافه، وأن عمر كان يرى جواز ذلك بالاستناد إلى تلك الجهة، وهذا من أقوى الشواهد على أفضلية الأعلم وأولويته بالخلافة والإمامة، ومن ادعى خلاف هذا المعنى فقد سفه عمر وجهله.. هذا، مع عدم وجدان معاذ غير العلم من الشروط المعتبرة في الإمام، منها القرشية وقد تقرر أن الأئمة من قريش ..

ص 199

قوله: لا سيما مع وجود ذاك الشرط أو ما يفوقه في غيره، كما ثبت برواية أهل السنة، مثل: ما صب الله شيئا في صدري إلا وقد صببته في صدر أبي بكر . أقول: إن من له أدنى تتبع للأخبار والآثار يعلم أن الشيوخ الثلاثة كانوا على جانب عظيم من الجهل والغباوة، وقد ذكر العلامة السيد محمد قلي طرفا من براهين ذلك في (تشييد المطاعن) ومن شاء فليراجع. وبالنظر إلى هذه الحقيقة الراهنة لم يشترط أهل السنة في الإمام أن يكون عالما بالفعل بجميع الأحكام، بل اكتفى جمهورهم باشتراط الاجتهاد، إلا أن بعضهم لم يشترطها وجوز أن يكون الإمام مقلدا للمجتهدين في أمور الدين، وليس هذا إلا محاولة منهم لتصحيح خلافة المشايخ... وقد ذكر ذلك كله التفتازاني في (شرح المقاصد) في ذكر شروط الإمام حيث

قال وزاد الجمهور اشتراط أن يكون شجاعا لئلا يجبن عن إقامة الحدود ومقاومة الخصوم، مجتهدا في الأصول والفروع ليتمكن من القيام بأمر الدين، ذا رأي في تدبير الأمور لئلا يخبط في سياسة الجمهور. ولم يشترطها بعضهم لندرة اجتماعا في الشخص، وجواز الاكتفاء فيها بالاستعانة من الغير، بأن يفوض أمر الحروب ومباشرة الخطوب إلى الشجعان، ويستفتي المجتهدين في أمور الدين، ويستشير أصحاب الآراء الصائبة في أمور الملك (1)

(هامش)

(1) شرح المقاصد 5 / 244. (*)

ص 200

ولقد أيد صديق حسن خان قول هذا البعض ودافع عنه في (إكليل الكرامة في تبيان الإمامة).

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الحادي عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

01