ص 253
يكن المرتضى طريقه، ولكان فيه إبطال كثير من شرائع الدين التي أجمعت عليها الأمة
باليقين فإن هذا الكلام بعينه يتوجه إلى الوجه الذي اختاره، ولا سيما وأن أهل
السنة يأخذون عن كل من دب ودرج من أصحابهم، وأن روايات غير الخلفاء في مصادر الحديث
عندهم أكثر بكثير من روايات الخلفاء. 7 - بطلانه من ذيل كلامه ومن الطريف قول
العاصمي بعدئذ: وهذا وإن كان صحيحا في المعنى والحكم، فإن تخصيص النبي عليه
السلام إياه بلفظة باب مدينة العلم يدل على تخصيص كان له في العلم والخبرة وكما في
الحكمة ونفاذ في القضية، وكفى بها رتبة وفضيلة ومنقبة شريفة جليلة . فإنه بعد ما
حاول تأويل الحديث وتوجيهه بما ذكره لم يجد بدا من الاعتراف بتخصيص أمير المؤمنين
عليه السلام بهذه الفضيلة، لعدم وصف أولئك بلفظ باب مدينة العلم أو نحوه لا في
هذا الحديث ولا في غيره من الأحاديث، فاعترف بدلالة هذا التخصيص على تخصيص كان له
في العلم والخبرة وكمال في الحكمة ونفاذ في القضية، وكفى بها رتبة وفضيلة ومنقبة
شريفة جليلة وهذا يفيد أعلمية الإمام عليه السلام. فهذا الحديث يدل على إمامته من
جهة دلالته على الأعلمية. كما يدل على الإمامة من جهة دلالته على أنه لا يوصل إلى
النبي صلى الله عليه وآله إلا من جهته عليه الصلاة والسلام. فكلام العاصمي هذا
يتضمن وجها آخر لدلالة حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها على إمامة أمير
المؤمنين عليه السلام. والله يحق الحق بكلماته، ويبطل الباطل بقواهر حججه وبيناته.
ص 254
(2) مع العاصمي أيضا واعلم أن للعاصمي في كتابه المذكور كلاما آخر حول حديث مدينة
العلم هذا نصه: قلت: ومعنى الحديث أن النبي صلى الله عليه مثل المدينة، وإذا كانت
مدينة مثل النبي صلى الله عليه فليس بعجب أن يكون لها أبواب كثيرة، لأن مدينة مثلها
مثل النبي عليه السلام فليس بعجب أن يكون لها طول وسعة وعرض كأوسع مدينة في الدنيا،
وليس بعجب أن يكون لها أبواب كثيرة. فعلي باب منها في القضاء، كما خصه النبي صلى
الله عليه به: أخبرنا الحسين بن محمد البستي قال: حدثنا عبد الله بن أبي منصور قال:
حدثنا محمد بن بشر قال: حدثنا محمد بن إدريس قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى
قال: حدثني حميد عن أنس قال: قضى علي قضاء، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه
فأعجبه فقال: الحمد لله الذي جعل الحكمة فينا أهل البيت. قال: وبعثه رسول الله صلى
الله عليه إلى اليمن بالقضاء فقال: يا رسول الله لا علم لي بالقضاء. فوضع النبي صلى
الله عليه يده على صدره ثم قال: اللهم اهد قلبه وسدد لسانه. قال: فما شككت في قضاء
بين اثنين حتى جلست مجلسي هذا. ثم يكون أبو بكر الصديق رضوان الله عليه بابا منها،
وهو أول باب وأفضل باب، حيث جعله النبي صلى الله عليه أولهم في الحديث الذي ذكر فيه
أصحابه وخص كل واحد منهم بخاصية، فكان رضوان الله عليه بابا في الرحمة والرأفة
ص 255
بالمسلمين والشفقة عليهم كما قال صلى الله عليه: أرحم أمتي أبو بكر. وفي رواية
أخرى: أرأف أمتي بأمتي أبو بكر. ولا يكون الرحمة بالمسلمين إلا من أصل العلم. وبعد
الصديق كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بابا في الشدة على المنافقين والمخالفين في
الدين، قوله صلى الله عليه: وأشدهم - وروي: وأصلبهم - في دين الله عمر بن الخطاب.
ثم عثمان بن عفان الباب الثالث منها في صدق الحياء، قوله صلى الله عليه: وأصدق أمتي
حياء عثمان بن عفان. وباب منها: أبي بن كعب حيث فضله النبي صلى الله عليه بعلم
القرآن وقراءته، قوله عليه السلام: وأقرؤهم أبي بن كعب، وروي: وأقرؤهم لكتاب الله.
ومنها: معاذ بن جبل، لما فضله النبي صلى الله عليه في العلم خاصة دون غيره، قوله
عليه السلام: وأعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل. وباب منها: زيد بن ثابت، لما
فضله النبي صلى الله عليه بعلم الفرائض خاصة دون غيره، قوله عليه السلام: وأفرض
أمتي زيد بن ثابت. وباب منها: أبو عبيدة بن الجراح في الأمانة في الإسلام، حيث خصه
النبي عليه السلام بالأمانة في الإسلام، والأمانة لا تؤدى إلا بالعلم، قوله عليه
السلام: ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح. ثم قال لأبي ذر في غير
هذا الحديث: من أراد أن ينظر إلى بعض زهد عيسى فلينظر إليه. فينبغي أن يكون له باب
في الزهد من تلك المدينة. وجعل له أيضا باب الصدق، قوله صلى الله عليه: ما حملت
الأرض ولا أظلت الخضراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر، فجعل له بابين: باب الصدق وباب
الزهد. والزهد في الدنيا جامع للعلم كله، وقد ذكرنا - في فضل مشابه أبينا آدم عليه
السلام - في معنى هذا الحديث ما أغنى عن إعادته ههنا .
ص 256
وجوه الجواب عن هذا الكلام وفي هذا الكلام وجوه من النظر، منها ما نذكره فيما يلي
باختصار: 1 - التناقض في كلماته إن هذا الكلام يناقض كلامه المردود المتقدم، لأنه
زعم هناك إن المدينة لا تخلو من أربعة أبواب، لأنها مبنية على أربعة أركان
وأسباب.. فجعل الخلفاء الأربعة الأبواب المؤدية إلى المدينة، وهنا يقول: فليس
بعجب أن يكون لها أبواب كثيرة.. ثم ذكر تسعة أشخاص جعلهم الأبواب الموصلة إليها،
مستندا إلى روايات موضوعة سيأتي بيان حالها. 2 - بطلان دعوى اختصاص علي بالقضاء وإن
قوله: فعلي باب منها في القضاء تخصيص بلا مخصص إلا التعصب والعناد، وأما
الحديثان اللذان ذكرهما في باب قضائه عليه السلام فلا يقتضيان تخصيص حديث أنا
مدينة العلم وعلي بابها بكونه بابها في القضاء، بل إنهما يدلان على علو مقامه في
القضاء وأعلميته من سائر الأصحاب، وذلك يستلزم إمامته وخلافته من تلك الجهة، كما
سيأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى. على أنه لو سلم هذا التخصيص في حديث أنا
مدينة العلم فإنه سيأتي أن تخصيص النبي صلى الله عليه وآله إياه بهذه الفضيلة
تصريح منه بأنه قد جمع له جميع العلوم وسائر أنواعها وأقسامها، فلو فرض أن يكون
معنى حديث أنا مدينة العلم كون علي عليه السلام بابا لها في القضاء، ثبت كونه بابا
إليها في جميع
ص 257
العلوم، ومن هنا قال ابن حجر المكي: تنبيه - مما يدل على أن الله سبحانه اختص
عليا من العلوم بما تقصر عنه العبارات: قوله صلى الله عليه وسلم: أقضاكم علي. وهو
حديث صحيح لا نزاع فيه، وقوله: أنا دار الحكمة - وفي رواية - مدينة العلم وعلي
بابها (1) حيث جعل كلا من حديث مدينة العلم وحديث أقضاكم علي دالا على أن
الله سبحانه اختص عليا من العلوم بما تقصر عنه العبارات... 3 - حديث: أرحم أمتي..
موضوع. واستند العاصمي في هذا الكلام إلى حديث: أرحم أمتي أبو بكر.. وهو من
الأكاذيب الموضوعة والأباطيل المصنوعة، حسب اعتراف كبار حفاظ أهل السنة ومشاهير
علمائهم، كما سنوضح ذلك عن قريب. ولما كان هذا الحديث مما وضعته ألسنة المفترين
وصنعته أيدي الوضاعين والكذابين، نجد الاختلاف الفاحش في ألفاظه، فهو في بعضها كذب
من أوله إلى آخره، وفي بعضها يشتمل على بعض الجمل الصادقة الصادرة عن رسول الله صلى
الله عليه وآله في حق علي عليه السلام وبعض خواص أصحابه، وهي فضائل واردة في أحاديث
خلطتها أيدي الخيانة مع هذا الحديث الموضوع لغرض التغطية. ولنرفع الستار عن ذلك
بالاجمال فنقول: الحديث عن أنس بن مالك لقد رووا هذا الحديث عن أنس بن مالك، وأخرجه
الترمذي وابن ماجة من أصحاب الصحاح.. قال الترمذي: مناقب معاذ بن جبل وزيد بن
ثابت
(هامش)
(1) المنح المكية في شرح القصيدة الهمزية: 120. (*)
ص 258
وأبي وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم: حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا حميد بن عبد
الرحمن، عن داود بن العطار، عن معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم
حياء عثمان ابن عفان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت،
وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح. هذا حديث
غريب لا نعرفه من حديث قتادة إلا من هذا الوجه. وقد رواه أبو قلابة عن أنس عن النبي
صلى الله عليه وسلم نحوه -: حدثنا محمد بن بشار، نا عبد الوهاب بن عبد الحميد
الثقفي، حدثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء
عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال
والحرام معاذ ابن جبل. ألا وإن لكل أمة أمينا وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن
الجراح. هذا حديث حسن صحيح (1). وقال ابن ماجة: حدثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد
الوهاب بن عبد المجيد، ثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم
حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل،
وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح.
حدثنا علي بن محمد ثنا وكيع عن سفيان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة مثله (2).
(هامش)
(1) صحيح الترمذي 5 / 623. (2) سنن ابن ماجة 1 / 55. (*)
ص 259
نظرة في رجاله أما أنس بن مالك فهو من كبار أعداء أمير المؤمنين عليه السلام.
وحديث قصة الطائر المشوي من أصدق الشواهد على ذلك، بل يدل على ذلك هذا الحديث نفسه
- على فرض ثبوته - حيث مدح فيه الثلاثة وجماعة من أشياعهم، ولم يذكر فيه أمير
المؤمنين عليه السلام. وأما أبو قلابة الذي عليه مدار حديثي ابن ماجة وطريقه
الثاني عند الترمذي، فهو أيضا مقدوح ومجروح كما سيأتي. وأما خالد الحذاء - وهو
من رجال ابن ماجة في طريقيه والترمذي في الطريق الثاني - فقد طعن فيه وجرحه أعلام
القوم: كشعبة بن الحجاج، وابن علية وحماد بن زيد، وسليمان التيمي، وأبي حاتم،
والعقيلي صاحب الضعفاء.. كما لا يخفى على ناظر كتب القوم، وستسمع بعض ذلك فيما بعد
إن شاء الله تعالى. وأما عبد الوهاب بن عبد المجيد - الثقفي الواقع في الطريق
الثاني عند الترمذي، والأول عند ابن ماجة - فقد قال ابن حجر العسقلاني: عده ابن
مهدي فيمن كان يحدث عن كتب الناس ولا يحفظ ذلك الحفظ قال: وقال الدوري عن ابن
معين: اختلط بآخره. وقال عقبة بن مكرم: إختلط قبل موته بثلاث سنين أو أربع سنين
وفيه: وقال عمرو بن علي: اختلط حتى كان لا يعقل، وسمعته وهو مختلط يقول: حدثنا
محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان باختلاط شديد (1) وقال سبط ابن العجمي الحلبي: عبد
الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت قال عقبة بن مكرم: كان قد اختلط قبل موته بثلاث سنين
أو أربع. قال أبو داود: تغير، وذكره العقيلي فقال: تغير في آخر عمره، وذكره ابن
الصلاح أيضا
(هامش)
(1) تهذيب التهذيب 6 / 397. (*)
ص 260
فيهم (1). وأما محمد بن بشار - راويه عن عبد الوهاب في الطريق الثاني عند
الترمذي - فسيأتي القدح فيه إن شاء الله تعالى. وأما سفيان الثوري - راويه عن
خالد عند ابن ماجة في الطريق الثاني - فسيأتي بيان البدح فيه كذلك. وأما وكيع
- راويه عن سفيان عند ابن ماجة في الطريق الثاني - فقد طعن فيه أحمد وابن
المديني كما في (تهذيب التهذيب) (2) وذكره الذهبي في (ميزان الاعتدال في نقد
الرجال) (3). وأما قتادة - راويه عن أنس في الطريق الأول عند الترمذي - فله
قوادح عظيمة ومثالب جسيمة، لا تخفى على من راجع ترجمته في (تهذيب التهذيب) (4)
وغيره. وأما داود بن العطار - راويه عن معمر في أول طريقي الترمذي - ففي
(ميزان الاعتدال): قال الحاكم: قال يحيى بن معين: ضعيف الحديث. وقال الأزدي:
يتكلمون فيه (5). وأما سفيان بن وكيع - في طريق الترمذي - فمقدوح كذلك، قال
الذهبي: قال البخاري: يتكلمون فيه لأشياء لقنوه إياها، وقال أبو زرعة: يتهم
بالكذب، وقال ابن أبي حاتم: أشار أبي عليه أن يغير وراقه فإنه أفسد حديثه.. (1)
وفي (الكاشف): ضعيف (2) وذكره الذهبي أيضا في (المغني في الضعفاء) قائلا:
ضعف. وقال أبو زرعة: كان يتهم بالكذب (3).
(هامش)
(1) الاغتباط بمن رمي بالاختلاط. (2) تهذيب التهذيب 11 / 109. (3) ميزان الاعتدال 4
/ 336. (4) تهذيب التهذيب 8 / 315. (5) ميزان الاعتدال 2 / 12. (*)
ص 261
إنه لا يخلو عن إرسال ثم إن هذا الحديث لا يخلو عن إرسال، فلو سلم رواته عن الطعن
لم يجز الحكم بصحته.. قال ابن حجر بشرح قول عمر أقرؤنا أبي : كذا أخرجه
موقوفا، وقد أخرجه الترمذي وغيره من طريق أبي قلابة عن أنس مرفوعا في ذكر أبي وفيه
ذكر جماعة وأوله: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وفيه: أقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب.
الحديث وصححه. لكن قال غيره: إن الصواب إرساله (4). وقال السخاوي في حديث أرحم
أمتي بأمتي أبو بكر: والحديث أعل بالارسال، وسماع أبي قلابة من أنس صحيح إلا أنه
قيل: إنه لم يسمع منه هذا. وقد ذكر الدار قطني في العلل الاختلاف فيه على أبي
قلابة، ورجح هو وغيره كالبيهقي والخطيب في المدرج أن الموصول منه ذكر أبي عبيدة،
والباقي مرسل، ورجح ابن المواق وغيره رواية الموصول (5).
(هامش)
(1) ميزان الاعتدال 2 / 173. (2) الكاشف 1 / 379. (3) المغني 1 / 269. (4) فتح
الباري في شرح البخاري 8 / 135. (5) المقاصد الحسنة: 124. (*)
ص 262
المرسل حديث ضعيف

ومن المعلوم أن الحديث المرسل ضعيف والاحتجاج به ساقط، وقد نص على
ذلك ابن الصلاح في (علوم الحديث) والسيوطي في (تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي)
وكذا غيرهما، وهذه عبارة السيوطي: ثم المرسل حديث ضعيف لا يحتج به عند جماهير
المحدثين والشافعي، كما حكاه عنهم مسلم في صدر صحيحه، وابن عبد البر في التمهيد،
وحكاه الحاكم عن ابن المسيب ومالك وكثير من الفقهاء وأصحاب الأصول والنظر.. (1).
رواية العاصمي واضحة الارسال وأما العاصمي نفسه فقد روى هذا الحديث بسند مرسل، حيث
رواه بإسناده عن أبي قلابة عن رسول الله صلى الله عليه وآله بلا وساطة أنس، فإنه لم
يجرأ على دعوى سماعها منه، ومن المعلوم أن أبا قلابة تابعي لم يدرك صحبة النبي صلى
الله عليه وآله، وهذا نص روايته: أخبرني شيخي محمد بن أحمد رحمه الله قال: حدثنا
أبو سعيد الرازي قال: حدثنا يوسف بن عاصم الرازي البزار قال: حدثنا إبراهيم بن
الحجاج قال: حدثنا حماد عن عاصم الأحول، عن أبي قلابة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأحدهم في دين الله عمر، وأكثرهم حياء عثمان بن
عفان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي كعب،
ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح .
(هامش)
(1) تدريب الراوي 1 / 162. (*)
ص 263
رواية قتادة مرسل

بل يظهر من مراجعة (المصابيح) و(المشكاة) و(فتح الباري) رواية
قتادة هذا الحديث مرسلا، فلم يجرأ على دعوى سماعها من أنس كذلك، وهذه عبارة
[المصابيح للبغوي]: عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أرحم
أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم بأمتي في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأفرضهم
زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ ابن جبل، ولكل أمة أمين
وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح. صح. ورواه بعضهم عن قتادة رضي الله عنه مرسلا
وفيه: وأقضاهم علي . حصيلة البحث إن هذا الحديث عن أنس مرسل، فضلا عن كونه ضعيفا
سندا، وجعل الترمذي وابن ماجة - ومن حذا حذوهما - أنسا بين أبي قلابة أو قتادة وبين
رسول الله صلى الله عليه وآله خطأ فاحش أو تدليس ظاهر. الحديث عن ابن عمر وقد روي
هذا الحديث الموضوع عنه صلى الله عليه وآله وسلم برواية عبد الله بن عمر قال
الحاكم: حدثنا عبد الرحمن بن حمدان الجلاب بهمدان، حدثنا أبو حاتم الرازي، حدثنا
محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي، حدثنا الكوثر ابن حكيم أبو محمد الحلبي، عن نافع عن
ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أرأف أمتي بها أبو بكر، وإن
أصلبها في أمر الله عمر، وإن أشدها
ص 264
حياء عثمان، وإن أقرأها أبي بن كعب، وإن أفرضها زيد بن ثابت، وإن أقضاها علي بن أبي
طالب، وإن أعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وإن أصدقها لهجة أبو ذر، وإن أمين
هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وإن حبر هذه الأمة لعبد الله بن عباس (1). نظرة
في رجاله وهذا السند ضعيف أيضا، فأما محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي فقد صرحوا
بضعفه، ففي (الميزان): قال الدارقطني: ضعيف... وقال النسائي: ليس بالقوي (2)
وأورده في (المغني في الضعفاء) (3) وقال ابن حجر: قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه
فقال: ليس بشيء، هو أشد غفلة من أبيه.. وقال البخاري أبو فروة متقارب الحديث إلا
ابنه محمدا يروي عنه مناكير. وقال الآجري عن أبي داود: وأبو فروة الجزري ليس بشيء
وابنه ليس بشيء. وقال النسائي ليس بالقوي.. قال الترمذي: لا يتابع على روايته وهو
ضعيف وقال الدار قطني: ضعيف (4) وقال ابن حجر في (تقريب التهذيب): ليس بالقوي
(5). وأما كوثر بن حكيم ففي (الضعفاء والمتروكين للبخاري : كوثر بن حكيم عن
نافع: منكر الحديث وفي (الضعفاء والمتروكين للنسائي): متروك الحديث وقال
الذهبي: قال أبو زرعة: ضعيف، وقال ابن معين، ليس بشيء، وقال أحمد بن حنبل،
أحاديثه بواطيل ليس بشيء، وقال الدار قطني وغيره:
(هامش)
(1) المستدرك 3 / 535. (2) ميزان الاعتدال 4 / 69. (3) المغني في الضعفاء 2 / 644.
(4) تهذيب التهذيب 9 / 462. (5) تقريب التهذيب 2 / 219. (*)
ص 265
متروك (1) وقال الذهبي أيضا تركوا حديثه، له عجائب (2). طريق آخر عن ابن عمر
وقد أورد السيوطي هذا الحديث الموضوع عن مسند أبي يعلى الموصلي عن ابن عمر حيث قال:
أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم
علي، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ. ألا وإن لكل
أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح. عن ابن عمر (3). نظرة في سنده
لا حاجة لأن نراجع مسند أبي يعلى للوقوف على رجال هذا السند بالتفصيل، لأن الحافظ
السخاوي والعلامة المناوي قد نصا - كما ستسمع - على أنه من طريق ابن البيلماني عن
أبيه، وكلاهما ساقط عن درجة الاعتبار، فأما محمد بن عبد الرحمن البيلماني فقد
قال البخاري: محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه. منكر الحديث، كان الحميدي
يتكلم فيه وقال النسائي: منكر الحديث (4) وفي (الموضوعات لابن الجوزي) بعد
حديث في فضل جدة: محمد بن عبد الرحمن قال يحيى: ليس بشيء. وقال ابن حبان: حدث عن
أبيه بنسخة شبيها بمائتي
(هامش)
(1) ميزان الاعتدال 3 / 416. (2) المغني في الضعفاء 2 / 534. (3) الجامع الصغير
بشرح المناوي 1 / 459. (4) الضعفاء والمتروكين أنظر المجموع: 205. (*)
ص 266
حديث كلها موضوعة، لا يحل الاحتجاج به (1) وفي (ميزان الاعتدال): محمد ابن عبد
الرحمن بن البيلماني عن أبيه ضعفوه. وقال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث، وقال
الدارقطني وغيره: ضعيف.. قال ابن عدي: كلما يرويه ابن البيلماني البلاء منه (2)
وقال في (المغني في الضعفاء): ضعفوه. وقال ابن حبان: روى عن أبيه نسخة موضوعة
(3) وأورده سبط ابن العجمي في (الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث) وقال ابن حجر:
ضعيف، وقد اتهمه ابن عدي وابن حبان (4). وأما أبوه عبد الرحمن بن البيلماني
ففي (ميزان الاعتدال): عبد الرحمن ابن البيلماني، من مشاهير التابعين، يروي عن
ابن عمر، لينه أبو حاتم وقال الدارقطني: ضعيف لا تقوم به حجة (5) وذكره في
(المغني في الضعفاء) (6) وفي (تقريب التهذيب): ضعيف (7).
حصيلة البحث

فظهر
بطلان هذا الحديث عن ابن عمر بكلا طريقيه، ومن هنا قال الحافظ السخاوي: وعن ابن
عمر عند ابن عدي في ترجمة كوثر بن حكيم، وهو متروك. وله طريق أخرى في مسند أبي يعلى
من طريق ابن البيلماني عن أبيه عنه (8) فإن في
(هامش)
(1) الموضوعات 2 / 51. (2) ميزان الاعتدال 3 / 617. (3) المغني في الضعفاء 2 / 603.
(4) تقريب التهذيب 2 / 182. (5) ميزان الاعتدال 2 / 551. (6) المغني 2 / 377. (7)
تقريب التهذيب 1 / 474. (8) المقاصد الحسنة 124. (*)
ص 267
هذا الكلام فوائد: 1 - إن حديث: ارحم أمتي بأمتي.. عن ابن عمر مذكور في كتاب الكامل
لابن عدي، وذلك مما يدل على وهنه، لأن كتاب الكامل لابن عدي موضوعه الضعفاء
والمجروحون وأحاديثهم. 2 - إن ابن عدي أورد هذا الحديث في ترجمة كوثر بن حكيم، ومنه
يظهر أنه يتهم كوثر بن حكيم بوضع هذا الحديث. 3 - إن راويه كوثر بن حكيم متروك عند
الحافظ السخاوي. 4 - إن طريقه الآخر هو من طريق ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر.
5 - إن ضعف ابن البيلماني وأبيه ثابت مشهور إلى حد أعرض السخاوي عن بيانه، واكتفى
بالقول بأنه من طريق ابن البيلماني عن أبيه. الحديث عن جابر وأخرج الطبراني هذا
الحديث الموضوع عن جابر حيث قال: ثنا علي بن جعفر الملحي الإصبهاني، ثنا محمد بن
الوليد العباسي، ثنا عثماني بن زفر، ثنا مندل بن علي، عن ابن جريج، عن محمد بن
المنكدر عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله
عليه وآله: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأرفق أمتي لأمتي عمر بن الخطاب، وأصدق أمتي
حياء عثمان. وأقضى أمتي علي بن أبي طالب، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل يجيئ
يوم القيامة أمام العلماء برتوة، وأقرأ أمتي أبي بن كعب، وأفرضها زيد بن ثابت. وقد
أوتي عويمر عبادة يعني أبا الدرداء رضي الله عنهم أجمعين. لم يروه عن ابن جريج إلا
مندل (1).
(هامش)
(1) المعجم الصغير 1 / 201. (*)
ص 268
نظرة في رجاله

وهذا الحديث أيضا مطروح، لأن في طريقه مندل بن علي - وقد تفرد به
عن ابن جريج كما نص عليه الطبراني نفسه - قال النسائي (كتاب الضعفاء والمتروكين):
مندل بن علي ضعيف وقال الذهبي: قال أبو حاتم: شيخ. وقال أبو زرعة: لين. وقال
أحمد: ضعيف (1) وفي (الضعفاء للذهبي): فيه لين، ضعفه أحمد والدارقطني (2)
وقال ابن حجر: قال الجوزجاني: ذاهب الحديث، وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي
عندهم. وقال الساجي: ليس بثقة، روى مناكير. وقال ابن معين: كان عبد الرحمن بن مهدي
لا يحدث عنه. قال ابن قانع والدارقطني: ضعيف. وقال ابن حبان: كان ممن يرفع المراسيل
والموقوفات من سوء حفظه فاستحق الترك. وقال الطحاوي: ليس من أهل الثبت في الرواية
بشيء ولا يحتج به (3) وفي (تقريب التهذيب): ضعيف (4) وقال صفي الدين الخزرجي:
ضعفه أحمد وغيره (5). و ابن جريح قال ابن حجر العسقلاني قال الجرمي عن
مالك: كان ابن جريج حاطب ليل قال: وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ليس بشيء في
الزهري قال: و قال جعفر بن عبد الواحد عن يحيى بن سعيد: كان ابن جريج صدوقا فإذا
قال حدثني فهو سماع، وإذا قال أخبرني فهو قراءة، وإذا قال: قال فهو شبه الريح
(6). قلت: وأنت ترى في سند الطبراني أنه لم يقل: قال أيضا.
(هامش)
(1) ميزان الاعتدال 4 / 180. (2) المغني في الضعفاء 2 / 676. (3) تهذيب التهذيب 10
/ 264. (4) تقريب التهذيب 2 / 274. (5) خلاصة تهذيب الكمال: 387. (6) تهذيب التهذيب
6 / 357. (*)
ص 269
وقال الدار قطني بأنه قبيح التدليس، ففي (تهذيب التهذيب): وقال الدارقطني يتجنب
تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس، لا يدلس إلا مما سمعه من مجروح وفيه عن ابن
حبان: وكان يدلس وفيه: وقال أبو بكر: وأريت في كتاب علي بن المديني: سألت
يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني فقال: ضعيف. قلت ليحيى: أنه يقول:
أخبرني. قال: لا شيء، إنه ضعيف، إنما هو كتاب وقفه عليه (1). قلت: وسيأتي ذكر بعض
المطاعن التي تترتب على ارتكاب التدليس، ولقد بلغت جرأة ابن جريج على التدليس حدا
كان يرتكب الكذب فيه بصراحة ووضوح ففي (تهذيب التهذيب): قال ابن سعد: ولد سنة 85
عام الجحاف. أنا محمد بن عمر - يعني الواقدي - قال ثنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد
قال: شهدت ابن جريج جاء إلى هشام بن عروة فقال: يا أبا المنذر الصحيفة التي أعطيتها
فلانا أهي من حديثك؟ قال: نعم. قال محمد بن عمر: فسمعت ابن جريج بعد ذلك يقول:
حدثنا هشام الأحصى (2). الحديث عن أبي سعيد الخدري وروى ابن عبد البر هذا الحديث
الموضوع عن أبي سعيد الخدري حيث قال: وقد أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال: حدثنا
قاسم بن أصبغ قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال:
حدثنا سلام، عن زيد العمي عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: أرحم أمتي بها أبو بكر، وأقواهم في دين الله عمر، وأصدقهم
حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب،
وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن
(هامش)
(1) تهذيب التهذيب 6 / 359. (2) تهذيب التهذيب 6 / 359. (*)
ص 270
الجراح، وأبو هريرة وعاء للعلم - أو قال وعاء العلم - وعند سلمان علم لا يدرك، وما
أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر (1). نظرة في رجاله وفي
سنده زيد العمي قال النسائي (كتاب الضعفاء والمتروكين): زيد العمى ضعيف (2)
وفي (ميزان الاعتدال): قال ابن معين: صالح، وقال مرة: لا شيء. وقال مرة: ضعيف
يكتب حديثه. وقال أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه. وقال الدار قطني: صالح. وضعفه
النسائي. وقال ابن عدي: لعل شعبة لم يرو عن أضعف منه. وقال السعدي: متماسك.. (3)
وقال في (الكاشف): فيه ضعف (4) وقال ابن حجر: ضعيف (5). وفي هذا السند
سلام وهو سلام بن سليم الطويل قال النسائي متروك الحديث (6) وفي
(الموضوعات لابن الجوزي) في حديث في فضل المؤذنين: وفيه سلام الطويل قال يحيى:
ليس بشيء لا يكتب حديثه. وقال البخاري: تركوه. وقال النسائي والدارقطني: متروك وقال
ابن حبان: يروي عن الثقات الموضوعات كأنه كان المعتمد لها (7) وقد أورد الذهبي
هذا الحديث بعد كلمات القدح فيه في (ميزان الاعتدال) وذكره في (المغني في الضعفاء)
(8) وقال ابن حجر: قال
(هامش)
(1) الإستيعاب 1 / 17. (2) الضعفاء والمتروكين: 106. (3) ميزان الاعتدال 2 / 102.
(4) الكاشف 1 / 337. (5) تقريب التهذيب 1 / 274. (6) الضعفاء المتروكين. المجموع:
113. (7) الموضوعات 2 / 88. (8) ميزان الاعتدال 2 / 176، المغني في الضعفاء 1 /
270. (*)
ص 271
أحمد: روى أحاديث منكرة. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: له أحاديث منكرة. وقال
الدوري وغيره عن ابن معين: ليس بشيء. وقال ابن المديني: ضعيف. وقال ابن عمار: ليس
بحجة. وقال الجوزجاني: ليس بثقة، وقال البخاري: تركوه. وقال مرة: يتكلمون فيه. وقال
أبو حاتم: ضعيف الحديث، تركوه. وقال أبو زرعة: ضعيف. وقال النسائي: متروك وقال مرة:
ليس بثقة ولا يكتب حديثه. قال ابن خراش: كذاب، وقال مرة: متروك. وقال أبو القاسم
البغوي: ضعيف الحديث جدا. وروى ابن عدي أحاديث وقال: لا يتابع على شيء منها.. وقال
ابن حبان: روى عن الثقات الموضوعات كأنه كان المتعمد لها.. وقال العجلي: ضعيف. وقال
الساجي: عنده مناكير. وقال الحاكم: روى أحاديث موضوعة. وقال أبو نعيم في الحلية في
ترجمة الشعبي: سلام بن سليم الخراساني متروك باتفاق.. (1). ومن هنا ترى الحافظ
السخاوي يقول في هذا الحديث بهذا الطريق: وعن أبي سعيد عن قاسم بن أصبغ، عن ابن
أبي خيثمة. وعنه العقيلي في الضعفاء عن علي بن عبد العزيز كلاهما عن أحمد بن يونس
عن سلام عن زيد العمي عن أبي الصديق عنه. وزيد وسلام ضعيفان (2). وقال محمد بن
معتمد خان في (تحفة المحبين) في فصل الأحاديث الضعيفة: أرحم أمتي بها أبو بكر..
أخرجه ابن عبد البر في الإستيعاب عن أبي سعيد الخدري. وفي سنده سلام وهو الطويل
متروك عن زيد العمي ضعيف (3).
(هامش)
(1) تهذيب التهذيب 4 / 247. (2) المقاصد الحسنة: 124. (3) تحفة المحبين - مخطوط.
(*)
ص 272
الحديث عن أبي محجن الثقفي

وأخرجه ابن عبد البر عن أبي محجن الثقفي حيث قال: وقد
وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه أصحابه وخلالهم ليقتدي به فيهم بمثل ذلك،
فيما رواه شيخنا عيسى بن سعيد بن سعدة المقري قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم
ابن شاذان قال: حدثنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، وأنبأنا به أبو عثمان سعيد بن
عثمان قال: حدثنا أحمد بن دحيم قال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد قال: حدثنا محمد بن
عبيد بن ثعلبة العامري بالكوفة قال: حدثنا عبد الحميد بن عبد الرحمن أبو يحيى
الحماني قال: حدثنا أبو سعد الأعور. يعني البقال وكان مولى لحذيفة - قال حدثنا شيخ
من الصحابة يقال له أبو محجن أو محجن بن فلان قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إن أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، وأقواها في دين الله عمر، وأصدقها حياء عثمان،
وأقضاها علي بن أبي طالب، وأقرأها أبي بن كعب، وأفرضها زيد بن ثابت، وأعلمهم
بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح
(1). نظرة في سنده. وفي سنده سعيد البقال قال النسائي: ضعيف (2) وقال
الذهبي: تركه الفلاس. وقال ابن معين: لا يكتب حديثه. وقال أبو زرعة: صدوق مدلس.
(هامش)
(1) الإستيعاب 1 / 16. (2) الضعفاء والمتروكين. أنظر: المجموع: 170. (*)
ص 273
وقال ح: منكر الحديث.. (1) وذكره في (المغني في الضعفاء) (2) وقال ابن حجر:
ضعيف مرسل (3) وقال صفي الدين الخزرجي: قال الذهبي مات سنة بضع وأربعين ومائة
وما علمت أحدا وثقه (4) وقد نص ابن حجر في الإصابة بترجمة أبي محجن على ضعف الرجل
وأنه لم يدرك أبا محجن (5). وأما أبو محجن الثقفي فكان فاسقا فاجرا منهمكا في
الشراب لا يكاد يقلع عنه ولا يردعه حد ولا لوم، جلده عمر بن الخطاب في الخمر مرارا
- وقد كان عمر يحاول أن لا يجري الحد في شاربي الخمر من أصحابه لأنه كان منهم -
لانهماكه وتجريه وفعله ذلك علانية وجهارا، ونفاه إلى جزيرة في البحر، وقد حضر
القادسية وهو سكران من الخمر، فأمر به سعد بن أبي وقاص إلى القيد.. فهذا طرف من
قبائح هذا الرجل وفضائحه ومن شاء التفاصيل فليرجع إلى ترجمته في (الإستيعاب) و(أسعد
الغابة) و(الإصابة) وغيرها من مصادر تراجم الصحابة. الحديث عن شداد بن أوس في
الموضوعات وقد أخرج أبو جعفر العقيلي هذا الحديث الموضوع عن شداد بن أوس في (كتاب
الضعفاء) وابن عساكر في (تاريخ دمشق) وضعفه، وأورده ابن الجوزي في (الموضوعات) وفي
سنده مجروحون، واتهم منهم بشير بن زاذان فإما وضعه وإما دلسه عن بعض الضعفاء.. قال
محمد بن معتمد خان البدخشاني في (تحفة
(هامش)
(1) ميزان الاعتدال 2 / 158. (2) المغني في الضعفاء 1 / 266. (2) المغني في الضعفاء
1 / 266. (3) تقريب التهذيب 1 / 305. (4) خلاصة تذهيب الكمال: 142. (5) الإصابة 4 /
174. (*)
ص 274
المحبين) في الفصل الذي عقده للأحاديث الضعيفة: أبو بكر أرأف أمتي وأرحمها، وعمر
بن الخطاب خير أمتي وأعدلها، وعثمان بن عفان أحيا أمتي وأكرمها، وعلي بن أبي طالب
ألب أمتي وأشجعها. عق عس وضعفه عن شداد ابن أوس. وفي سنده مجروحون واتهم منهم بشير
فإما وضعه وإما دلس عن بعض الضعفاء. وأورده ابن الجوزي في الموضوعات (1). وهذه
عبارة ابن الجوزي في (الموضوعات): حديث في ذكر جماعة من الصحابة: أنبأنا عبد
الوهاب بن المبارك قال: أنبأنا محمد بن المظفر قال: أنبأ أبو الحسن أحمد بن محمد
العتيقي قال: أخبرنا يوسف بن الدخيل قال: ثنا أبو جعفر العقيلي قال: ثنا بشر بن
موسى قال: ثنا عبد الرحيم بن واقد الواقدي قال: ثنا بشير بن زاذان، عن عمر بن صبيح
عن كن عن شداد بن أوس: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أبو بكر أوزن أمتي
وأرجحها، وعمر بن الخطاب خير أمتي وأكملها، وعثمان أحيى أمتي وأعدلها، وعلي بن أبي
طالب ولي أمتي وأوسمها، وعبد الله بن مسعود أمين أمتي وأوصلها، وأبو ذر أزهد أمتي
وأرأفها، وأبو الدرداء أعدل أمتي وأرحمها، ومعاوية بن أبي سفيان أحلم أمتي وأجودها.
طريق آخر - أخبرنا علي بن عبيد الله قال: أنبأنا علي بن أحمد البندار قال: أنبأنا
أبو عبد الله ابن بطة قال: حدثني أبو صالح محمد بن أحمد قال: ثنا خلف ابن عمرو
العكبري قال: حدثنا محمد بن إبراهيم قال: ثنا يزيد الحلال صاحب ابن أبي الشوارب
قال: حدثنا أحمد بن القاسم بن بهرام قال: ثنا محمد بن بشير عن بشير بن زاذان عن
عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر خير أمتي
وأتقاها، وعمر أعزها وأعدلها، وعثمان أكرمها وأحياها، وعلي ألبها وأوسمها، وابن
مسعود آمنها وأعدلها، وأبو ذر أزهدها وأصدقها، وأبو
(هامش)
(1) تحفة المحبين - مخطوط. (*)
ص 275
الدرداء أعبدها، ومعاوية أحلمها وأجودها. قال المصنف: هذا حديث موضوع على رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وفي الطريقين جماعة مجروحون، والمتهم به عندي بشير بن زاذان،
إما أن يكون من فعله أو من تدليسه عن الضعفاء وقد خلط في إسناده. قال ابن عدي: هو
ضعيف يحدث عن الضعفاء (1). و بشير بن زاذان ضعفه الذهبي أيضا، إذ ذكره في
(المغني في الضعفاء) وقال: ضعفه الدارقطني وغيره (2). الحديث عن ابن عباس لا
سند له وروى الملا في سيرته هذا الإفك الشنيع والكذب الفظيع عن ابن عباس: قال المحب
الطبري في: الفصل الرابع في وصف كل واحد من العشرة بصفة حميدة - عن ابن عباس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأقواهم في دين الله
عمر، وأشدهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، ولكل نبي حواري وحواري طلحة
والزبير، وحيثما كان سعد ابن أبي وقاص كان الحق معه، وسعد بن زيد من أحباء الرحمن،
وعبد الرحمن بن عوف من تجار الرحمن، وأبو عبيدة بن الجراح أمين الله وأمين رسوله،
ولكل نبي صاحب وصاحب سري معاوية بن أبي سفيان، فمن أحبهم فقد نجا ومن أبغضهم فقد
هلك. خرجه الملا في سيرته (3). وهذا الحديث باطل قطعا، إذ لا سند له أبدا، وركاكة
ألفاظه وسخافة
(هامش)
(1) الموضوعات 2 / 29. (2) المغني في الضعفاء 1 / 108. (3) الرياض النضرة 1 / 36.
(*)
ص 276
معانيه تشهد بوضعه، ومما ينادى بذلك اشتماله على فضيلة لمعاوية بن أبي سفيان، وقد
نص كبار الأئمة كالبخاري، والنسائي، والحاكم، وابن الجوزي، وابن تيمية وابن حجر،
وغيرهم، على أنه لم يثبت حديث في فضل معاوية بن أبي سفيان.. كما ستطلع عليه في ما
بعد إن شاء الله تعالى. حصيلة البحث وقد علم من هذا البحث بوضوح: أن حديث أرحم
أمتي بأمتي.. . حديث موضوع ومفتعل بجميع طرقه وألفاظه، على ضوء كلمات كبار أئمة
الجرح والتعديل، ومشاهير حفاظ الحديث والأخبار. آراء المحققين الآخرين وقد نص جماعة
من مشاهير محققي أهل السنة في الحديث والرجال على وضع هذا الحديث أو بطلانه أو ضعفه
ولا بأس بذكر بعض كلماتهم في هذا المقام: قال المناوي بشرح هذا الحديث: ع من طريق
ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر بن الخطاب. وابن البيلماني حاله معروف. لكن في
الباب أيضا عن أنس وجابر وغيرهما عند الترمذي، وابن ماجة، والحاكم وغيرهم. لكن
قالوا في روايتهم بدل أرأف: أرحم. وقال ت: حسن صحيح. وقال ك: على شرطهما. وتعقبهم
ابن عبد الهادي في تذكرته بأن في متنه نكارة، وبأن شيخه ضعفه، بل رجح وضعه (1).
(هامش)
(1) فيض القدير 1 / 460. (*)
ص 277
ترجمة ابن عبد الهادي

وابن عبد الهادي - الذي تعقب القوم في تذكرته بأن في الحديث نكارة وبأن شيخه ابن تيمية ضعفه بل رجح وضعه - من محققي حفاظ أهل السنة المشاهير،
قال الحافظ الذهبي في ذكر مشايخه: وسمعت من الإمام الأوحد الحافظ، ذي الفنون، شمس
الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي. ولد سنة خمس أو ست وسبعمائة، وسمع من القاضي ولي
الدين عبد الدائم والمطعم، واعتنى بالرجال والعلل وبرع وجمع، وتصدى للإفادة
والاشتغال في القراءات والحديث والفقه والأصول والنحو، وله توسع في العلوم وذهن
سيال. توفي في شهر جمادى الأولى سنة 744 (1). وقال ابن رجب بترجمة: المقرئ
الفقيه المحدث الحافظ الناقد النحوي المتفنن.. عني بالحديث وفنونه ومعرفة الرجال
والعلل وبرع في ذلك، وتفقه في المذهب وأفتى وقرأ الأصلين والعربية وبرع فيها، ولازم
الشيخ تقي الدين ابن تيمية مدة.. وكتب بخطه المتقن الكثير، وصنف كتبا كثيرة...
(2). وقال الحافظ ابن حجر: مهر في الحديث والفقه والأصول والعربية وغيرها. قال
الصفدي: لو عاش لكان آية.. وقال الذهبي في معجمه المختص: الفقيه البارع المقرئ
المجود المحدث الحافظ النحوي الحاذق ذو الفنون، كتب عني واستفدت منه. وقال ابن
كثير: كان حافظا علامة ناقدا، حصل من العلوم ما لا يبلغه الشيوخ الكبار، وبرع في
الفنون، وكان جبلا في العلل والطرق والرجال، حسن الفهم جدا صحيح الذهن.. (3).
(هامش)
(1) تذكرة الحفاظ 4 / 1508. (2) طبقات ابن رجب 2 / 436. الدرر الكامنة 3 / 421.
ص 278
4 - بطلان دعوى إن أبا بكر أول باب لأنه باب ف0ي الرحمة

وقول العاصمي: ثم يكون أبو
بكر الصديق رضوان الله عليه بابا منها، وهو أول باب وأفضل باب، حيث جعله النبي صلى
الله عليه وسلم أولهم في الحديث الذي ذكر فيه أصحابه، وخص كل واحد منهم بخاصية،
فكان رضوان الله عليه باب في الرحمة والرأفة بالمسلمين والشفقة عليهم، كما قال صلى
الله عليه وسلم: أرحم أمتي أبو بكر. وفي رواية أخرى: أرأف أمتي بأمتي أبو بكر. ولا
يكون الرحمة بالمسلمين إلا من أصل العلم . واضح البطلان، لأن شواهد جهل أبي بكر
متظافرة جدا، ومن كان جاهلا بمعنى الأب و الكلالة و إرث العمة والخالة
كيف يجوز أن يكون بابا لمدينة العلم؟! وكيف يكون أول باب وأفضل باب؟! وقد عرفت أن
الحديث المذكور موضوع، فبطل الاستدلال به. نوادر الأثر في شدة أبي بكر على أن هناك
في كتب أهل السنة، أحاديث وآثارا تحكي شدة أبي بكر على المسلمين، وهذا من وجوه
بطلان قوله: فكان بابا في الرحمة والرأفة بالمسلمين والشفقة عليهم .. ومن تلك
القضايا ما يلي: (1) ما أخرجه البخاري في كتاب الأدب قائلا: باب ما يكره من الغضب
والجزع عند الضيف - حدثنا عياش بن الوليد، حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا سعيد
الجريري، عن أبي عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي بكر: إن أبا بكر تضيف رهطا فقال لعبد
الرحمن: دونك أضيافك فإني منطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فافرغ من قراهم قبل
أن أجئ. فانطلق عبد الرحمن فأتاهم بما عنده
ص 279
فقال: اطعموا. فقالوا: أين رب منزلنا؟ قال: اطعموا. قالوا: ما نحن بآكلين حتى يجئ
رب منزلنا. قال: إقبلوا عنا قراكم فإنه إن جاء ولم تطعموا لنلقين منه، فأبوا. فعرفت
أنه يجد علي، فلما جاء تنحيت عنه. فقال: ما صنعتم؟ فأخبروه. فقال: يا عبد الرحمن،
فسكت. ثم قال: يا عبد الرحمن. فسكت. فقال: يا غنثر أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي لما
جئت. فخرجت فقلت: سل أضيافك. فقالوا: صدق، أتانا به. قال: فإنما انتظرتموني، والله
لا أطعمه الليلة. فقال الآخرون: والله لا نطعمه حتى تطعمه. قال: لم أر في الشر
كالليلة! ويلكم ما أنتم! لما لا تقبلون عنا قراكم. هات طعامك. فجاء به، فوضع يده
فقال: بسم الله الأولى للشيطان. فأكل وأكلوا (1). وأخرجه مسلم في باب إكرام الضيف
وفضل إيثاره: حدثنا محمد بن مثنى قال: نا سالم بن نوح العطار عن الجريري عن أبي
عثمان عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: نزل علينا أضياف لنا. قال وكان أبي يتحدث إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فانطلق وقال: يا عبد الرحمن افرغ من أضيافك.
قال: فلما أمسيت جئنا بقراهم قال: فأبوا فقالوا: حتى يجئ أبو منزلنا فيطعم معنا.
قال فقلت لهم: إنه رجل حديد وإنكم إن لم تفعلوا خفت أن يصيبني منه أذى. قال: فأبوا.
فلما جاء لم يبدأ بشيء أول منهم فقال: أفرغتم من أضيافكم. قال: قالوا لا والله ما
فرغنا. قال: ألم آمر عبد الرحمن؟ قال: وتنحيت عنه. فقال: يا عبد الرحمن! قال:
فتنحيت عنه. قال فقال: يا غنثر أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي إلا جئت. قال: فجئت.
قال فقلت: والله ما لي ذنب، هؤلاء أضيافك فسلهم، قد أتيتهم بقراهم فأبوا أن يطعموا
حتى تجئ قال فقال: ما لكم ألا تقبلوا عنا قراكم؟ قال فقال أبو بكر: فوالله لا أطعمه
الليلة. قال فقالوا والله لا نطعمه حتى تطعمه. قال فقال: ما رأيت في الشر كالليلة
قط، ويلكم ما لكم ألا تقبلوا
(هامش)
(1) صحيح البخاري 4 / 364. (*)
ص 280
عنا قراكم! قال: ثم قال: أما الأولى فمن الشيطان هلموا قراكم. قال: فجئ بالطعام
فسمى فأكل وأكلوا. قال: فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول
الله بروا وحنثت. قال فأخبره. فقال: بل أنت أبرهم وأخيرهم. قال: ولم تبلغني كفارة
(1). أقول: وهذا الحديث يدل على الشدة والغضب من جهات: فالأولى: قول عبد الرحمن:
إنه رجل حديد، وإنكم إن لم تفعلوا خفت أن يصيبني منه أذى فهذا يشهد بأن ما رووه
من أنه أرحم الأمة بالأمة... كذب مختلق. والثانية: تنحي عبد الرحمن عنه. والثالثة:
نداؤه عبد الرحمن: يا غنثر وهو شتم أي: يا لئيم أو نحو ذلك من المعاني القبيحة.
وقد أخرج البخاري في باب قول الضيف لا آكل حتى تأكل القصة وفيها: فغضب أبو
بكر فسب وجدع قال القسطلاني في شرحه: فسب أي شتم لظنه أنهم فرطوا في حق ضيفه،
وجدع بالجيم المفتوحة والدال المهملة المشددة وبعدها عين مهملة: دعا بقطع الأنف أو
الأذن أو الشفة فهذا يدل على شدة غضبه وبذائة لسانه وسوء خلقه، حيث جعل يدعو
عليهم بذلك من غير استعلام منهم هل فرطوا في حق ضيفه أو لا! بل المستفاد من البخاري
أنه فعل ذلك بعد أن سأل أهله: ما صنعتم؟ فأخبروه وحينئذ يكون سبه إياهم أشنع
وأفظع. والرابعة: قوله للأضياف: فوالله لا أطعمه الليلة صنيع قبيح منه تجاه
إبائهم عن الأكل حتى يجئ، يكشف عن غضبه معهم وعدم إكرامه لهم، من دون أن يكون منهم
شيء يستحقون ذلك به!! بل يجب إكرام الضيف عقلا وعرفا وشرعا على كل حال، وهذا أمر
يعرفه ويفعله حتى أجلاف العرب...
(هامش)
(1) صحيح مسلم 6 / 131. (*)
ص 281
بل من عادة الأضياف أنهم لا يأكلون حتى يأكل معهم مضيفهم، كما يشهد بذلك ما أخرجه
البخاري في صحيحه في كتاب الأدب: إن سلمان زار أبا الدرداء فصنع له طعاما فقال:
كل فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل ... فلو كان في أبي بكر شيء من الرحمة
والرأفة لأكل مع أضيافه بعد انتظارهم له وإن كان صائما، لا أن يقول بكل خشونة:
والله لا أطعمه الليلة!! والخامسة: إنه لا ريب في مرجوحية هذا القسم، لظهور رجحان
الأكل مع الأضياف ولو استلزم الترك هتكهم كان حراما لحرمة هتك المسلم - وهذا من
آيات جهله وسوء خلقه. والسادسة: قوله: ما رأيت في الشر كالليلة قط كلام خشن
يؤذي الأضياف بلا موجب. والسابعة: قوله لهم: ويلكم.. ينافي الأدب والاكرام..
(2) ما أخرجه محي السنة البغوي في (المصابيح) والخطيب التبريزي في (مشكاة
المصابيح): عن النعمان بن بشير إنه قال: استأذن أبو بكر رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت عائشة رضي الله عنها عاليا، فلما دخل تناولها ليلطمها
وقال: لا أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي يحجزه،
وخرج أبو بكر مغضبا فقال النبي حين خرج أبو بكر: كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟ قالت:
فمكث أبو بكر أياما ثم استأذن فوجدهما قد اضطجعا فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما
أدخلتماني في حربكما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد فعلنا، قد فعلنا (1).
ومن الواضح: أنه كان عليه بادئ بدء أن ينهاها عن ذلك بلسانه، ثم إذا لم تنته بادر
إلى لطمها، فإن ذلك طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أقول: وسبب هذه القضية
إعتراض عائشة على النبي صلى الله عليه وآله
(هامش)
(1) مشكاة المصابيح 3 / 1370. (*)
ص 282
وسلم في أن عليا أحب إليه من أبيها ومنها، حسدا منها وعنادا له عليه الصلاة
والسلام، ولكن أبا داود ومن حذا حذوه أسقطوا من الحديث هذه الفقرة وقد جاء بتمامه
في (المسند) حيث قال: ثنا أبو نعيم، ثنا يونس، ثنا العيزار بن حريث قال قال
النعمان بن بشير: إستأذن أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع صوت عائشة
عاليا وهي تقول: والله لقد عرفت أن عليا أحب إليك من أبي ومني - مرتين أو ثلاثا -
فاستأذن أبو بكر فدخل فأهوى إليها فقال: يا بنت فلانة! لا أسمعك ترفعين صوتك على
رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورواه النسائي قائلا: أخبرني عبدة بن عبد الرحيم
المروزي قال: أنبأنا عمر بن محمد قال: أنبأنا يونس بن أبي إسحاق، عن العيزار بن
حريث عن النعمان بن بشير قال: إستأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع
صوت عائشة عاليا وهي تقول: والله لقد علمت أن عليا أحب إليك من أبي، فأهوى لها
ليلطمها وقال لها: يا بنت فلانة أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه
وسلم! فأمسكه رسول الله وخرج أبو بكر مغضبا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا
عائشة! كيف رأيتني أنقذتك من الرجل! ثم استأذن أبو بكر بعد ذلك وقد اصطلح رسول الله
صلى الله عليه وسلم وعائشة فقال: أدخلاني في السلم كما أدخلتماني في الحرب. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد فعلنا (1). وقد جاء في هذا اللفظ قوله لعائشة:
يا بنت فلانة ولا يخفى عليك معناه!! (3) ما رواه محي السنة البغوي في تفسيره
قائلا: أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنا عبد الغافر بن محمد، أنا محمد بن عيسى
الجلودي، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، أنا زهير بن حرب، أنا
روح بن عبادة،
(هامش)
(1) مسند أحمد بن حنبل 4 / 275، خصائص علي: 81. (*)
ص 283
أنا زكريا بن إسحاق، أنا أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر يستأذن
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه ولم يؤذن لأحد منهم. قال:
فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي جالسا حوله نساؤه
واجما ساكتا قال: فقال: لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول
الله ما لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها؟ فضحك رسول الله
وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة. فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر
إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس
عنده؟! قلن: والله لا نسأل رسول الله شيئا أبدا ليس عنده.. (1). وانظر (لباب
التأويل) عن مسلم، (تفسير ابن كثير) عن أحمد، (الدر المنثور) عن أحمد والنسائي وابن
مردويه. (4) ما أخرجه أحمد قال: ثنا عبد الله بن إدريس قال: ثنا ابن إسحاق عن
يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه: إن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجا، حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله، فجلست
عائشة إلى جنب رسول الله وجلست إلى جنب أبي، وكانت زمالة رسول الله صلى الله عليه
وسلم وزمالة أبي بكر واحدة مع غلام أبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظره أن يطلع عليه،
فطلع وليس معه بعيره فقال: أين بعيرك؟ قال: قد أضللته البارحة. فقال أبو بكر: بعير
واحد تضله! فطفق يضربه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول: انظروا إلى هذا
المحرم وما يصنع (2). وانظر: (سنن أبي داود) و(سنن ابن ماجة) و(الدر المنثور)
بتفسير (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) عن الحاكم - قال وصححه -.. لكن عند ابن
(هامش)
(1) معالم التنزيل 4 / 460. (2) المسند 6 / 344. (*)
ص 284
ماجة وكانت زمالتنا وزمالة أبي بكر واحدة مع غلام أبي بكر وعند الحاكم: وكانت
زاملتنا مع غلام أبي بكر . (5) ما أخرجه في (مشكاة المصابيح) في باب حفظ اللسان
والغيبة والشتم: وعن عائشة قالت: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي بكر - وهو
يلعن بعض رقيقه - فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لعانين وصديقين! كلا
ورب الكعبة، فأعتق أبو بكر يومئذ بعض رقيقه ثم جاء إلى النبي فقال: لا أعود (1).
أقول: من الواضح أن ذلك البعض من رقيقه لم يكن مستحقا للعن، إذ لو كان مستحقا له
لما منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن لعنه، ولما أعتقه أبو بكر يومئذ، ولما
قال للنبي: لا أعود.. ويستفاد من هذا الحديث أن اللعان لا يكون صديقا، لأن هاتين
الصفتين لا يجتمعان، وقد بلغ امتناع اجتماعهما حدا أقسم عليه النبي صلى الله عليه
وآله وسلم بقوله: كلا ورب الكعبة .. وحيث ثبت من هذا الحديث كون أبي بكر لعانا
فهو ليس صديقا، فمن هنا أيضا يثبت بطلان ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم في باب تلقيبه أبا بكر بالصديق... هذا، وفي (المشكاة): عن أبي هريرة: إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا. رواه مسلم. وعن
أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: إن اللعانين لا يكونون شهداء،
ولا شفعاء يوم القيامة. رواه مسلم (2). وفيه: وعن ابن مسعود قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذي. رواه
الترمذي والبيهقي في
(هامش)
(1) مشكاة المصابيح 3 / 1365. (2) مشكاة المصابيح 3 / 1357. (*)
ص 285
شعب الإيمان. وفي أخرى له: ولا الفاحش البذي وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وعن ابن
عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يكون المؤمن لعانا. وفي رواية: لا
ينبغي للمؤمن أن يكون لعانا. رواه الترمذي. وعن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضب الله ولا بجهنم. وفي رواية: ولا
بالنار. رواه الترمذي وأبو داود.. (1).
(6) ما رواه الطبري وابن الأثير في
تاريخيهما في ذكر جيش أسامة

واللفظ للأول: فوقف أسامة بالناس ثم قال لعمر: إرجع
إلى خليفة رسول الله فاستأذنه يأذن لي أن أرجع بالناس، فإن معي وجوه الناس وجلتهم،
ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل رسول الله وأثقال المسلمين أن يتخطفهم المشركون.
وقالت الأنصار: فإن أبى إلا أن نمضي فأبلغه عنا، واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلا
أقدم سنا من أسامة. فخرج عمر بأمر أسامة وأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة. فقال
أبو بكر: لو خطفتني الكلاب والذياب لم أرد قضاء قضى به رسول الله صلى الله عليه
وسلم. قال: فإن الأنصار أمروني أن أبلغك، وأنهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلا
أقدم سنا من أسامة. فوثب أبو بكر - وكان جالسا - فأخذ بلحية عمر فقال له: ثكلتك أمك
وعدمتك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه؟!
فخرج عمر إلى الناس فقالوا له: ما صنعت؟ قال: إمضوا ثكلتكم أمهاتكم، ما لقيت في
سببكم من خليفة رسول الله! (2).
(هامش)
(1) مشكاة المصابيح 3 / 1362. (2) تاريخ الطبري 3 / 226. الكامل لابن الأثير 2 /
334. (*)
ص 286
لكن ابن الأثير حرف الرواية وأسقط منها جملة قال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم.. لأنه
كلام شديد قاله عمر للأصحاب، تشفيا من قول أبي بكر له: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن
الخطاب ولما كانت القصة - على كل حال - تدل على غلظة الرجلين وشدتهما وعدم
رأفتهما فقد رواها ابن خلدون محرفة محورة فقال: ووقف أسامة للناس ورغب من عمر
التخلف عن هذا البعث، والمقام مع أبي بكر شفقة من أن يدهمه أمر. وقالت له الأنصار:
فإن أبي إلا المضي فليول علينا أسن من أسامة. فأبلغ عمر ذلك كله أبا بكر. فقال وقعد
وقال: لا أترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخرج وأنفذه (1) فانظر كيف
جعل جملة فقام وقعد وقال.. مكان: فوثب أبو بكر وكان جالسا فأخذ بلحية عمر..
! وما أكثر صنائع يد الأمانة! من نظائر المقام.. قال أبو بكر: إن لي شيطانا
يعتريني.. وما ذكرنا بعض الأدلة والشواهد على أن أبا بكر أرحم الأمة بالأمة!! وسبب
وقوع هذه الصنائع القبيحة منه - بالإضافة إلى قساوته الطبيعية وجفائه الباطني -
شيطانه الذي كان يعتريه ويتخبطه من المس، وهذا أمر قد اعترف به على رؤس الأشهاد في
أول خطبة خطبها.. قال الحافظ جلال الدين السيوطي: أخرج ابن سعد عن الحسن البصري
قال: لما بويع أبو بكر قام خطيبا فقال: أما بعد فإني وليت هذا الأمر وأنا له كاره،
والله لوددت أن بعضكم كفانيه، ألا وإنكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل رسول
الله صلى الله عليه وسلم لم أقم به، كان رسول الله عبدا أكرمه الله بالوحي وعصمه
به، ألا وإنما أنا بشر ولست بخير من أحدكم فراعوني، فإذا رأيتموني استقمت فاتبعوني،
وإذا رأيتموني زغت
(هامش)
(1) تاريخ ابن خلدون 4 / 856. (*)
ص 287
فقوموني. واعلموا أن لي شيطانا يعتريني، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني لا أوثر في
أشعاركم وأبشاركم (1). وانظر: (الطبري) و(الرياض النضرة) و(منهاج السنة) و(كنز
العمال) و(الصواعق) وغيرها. هذا.. ولو سلمنا كون أبي بكر أرحم الأمة بالأمة، فإن
هذا لا يتم للعاصمي مرامه، لأن قوله: ولا تكون الرحمة بالمسلمين إلا من أصل العلم
ممنوع، وإلا لزم أن يكون كثير من النسوان والصبيان ذوي الرحمة بالمسلمين علماء،
وهذا مما يضحك الثكلى.. ولو سلمنا كونه أرحم الأمة وأن الرحمة بالمسلمين لا تكون
إلا من أصل العلم.. فإن هذا يستلزم ثبوت علم له في الجملة، ومن الواضح أن حصول علم
في الجملة لأحد لا يكفي لأن يكون باب مدينة العلم، وإلا للزم أن يكون كل من حصل على
علم ما في الجملة باب لمدينة العلم، وهذا من البطلان بمكان، لا يتجاسر عليه أحد من
أهل الإيمان. 5 - بطلان دعوى أن عمر باب المدينة بعد أبي بكر قال العاصمي: وبعد
الصديق كان عمر بن الخطاب بابا في الشدة على المنافقين والمخالفين في الدين، قوله:
صلى الله عليه: وأشدهم - وروى: وأصلبهم - في دين الله عمر بن الخطاب . وهو باطل
جدا، فإن وأشدهم.. فقرة من الحديث الموضوع الذي أوله: أرحم أمتي بأمتي.. وقد
تقدم إثبات وضعه بجميع طرقه وألفاظه. فهذا
(هامش)
(1) تاريخ الخلفاء: 71. (*)
ص 288
أولا. من شواهد محاماة عمر للمنافقين والمخالفين وثانيا: دعوى كونه شديدا على
المنافقين والمخالفين كذب صريح، وتلك قضاياه في المحاماة لهم والمجاملة معهم
والثناء عليه مدونة في كتب الحديث والتاريخ، نتعرض لبعضها هنا باختصار: (1) ما رواه
الحافظ السيوطي في الدر المنثور بتفسير قوله تعالى: وإذ يعدكم الله إحدى
الطائفتين) عن دلائل النبوة للبيهقي في رواية مطولة في غزوة بدر: ثم سار رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا يلقاه خبر ولا يعلم بنفرة قريش، فقال رسول الله أشيروا
علينا في أمرنا ومسيرنا. فقال أبو بكر: يا رسول الله أنا أعلم الناس بمسافة الأرض،
أخبرنا عدي بن أبي الزغباء أن العير كانت بوادي كذا وكذا، فكأنا وإياها فرسا رهان
إلى بدر. ثم قال: أشيروا علي. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله إنها قريش وعزها،
والله ما ذلت منذ عزت ولا آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنك، فتأهب لذلك أهبته وأعدد
له عدته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي. فقال المقداد بن عمرو:
إنا لا نقول لك كما قال أصحاب موسى (إذهب أنت وربك فقاتلا إنها ههنا قاعدون) ولكن
إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون (1). وفي (السيرة الحلبية): ثم قال:
أشيروا علي. فقال عمر: يا رسول الله إنها قريش وعزها، والله ما ذلت منذ عزت ولا
آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنك،
(هامش)
(1) الدر المنثور 3 / 164. (*)
ص 289
فتأهب لذلك أهبته وأعد لذلك عدته (1). أقول: لقد آذى عمر بكلامه المذكور رسول
الله صلى الله عليه وآله وأغضبه حتى احمرت وجنتاه، ولقد حاول أهل السنة إخفاء هذا
الأمر، ولكنه لا يخفى على المتتبع للأخبار والآثار، قال الطبري في ذكر غزوة بدر:
ثنا محمد بن عبيد المحاربي قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو يحيى قال: ثنا المخارق،
عن طارق، عن عبد الله بن مسعود قال: لقد شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون أنا صاحبه
أحب إلي مما في الأرض من شيء، كان رجلا فارسا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا غضب احمرت وجنتاه، فأتاه المقداد على تلك الحال فقال: أبشر يا رسول الله،
فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا
قاعدون) ولكن والذي بعثك بالحق لنكونن من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك،
أو يفتح الله لك (2). وقد أسقط بعض مؤرخيهم كلامي أبي بكر وعمر الدال أحدهما على
الجبن والخور والآخر على مدح أهل الكفر والجور.. ففي (طبقات ابن سعد) ومضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان دون بدر أتاه الخبر بمسير قريش، فأخبر به
رسول الله ص أصحابه واستشارهم، فقال المقداد بن عمرو البهراني: والذي بعثك
بالحق لو سرت إلى برك الغماد لسرنا معك حتى ننتهي إليه (3). وأسقطهما البعض
الآخر، وجعل في مكان كل واحد قال فأحسن ثم ذكر كلام المقداد بتمامه.. ففي (سيرة
ابن هشام): و أتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم عن
قريش. فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن. ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن. ثم قام
المقداد بن عمرو فقال:
(هامش)
(1) السيرة الحلبية 2 / 386. (2) تاريخ الطبري 2 / 14. (3) طبقات ابن سعد 2 / 434.
(*)
ص 290
يا رسول الله، إمض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل
لموسى (إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما
مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى
تبلغه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له به (1). ولكن صنيع
هؤلاء لا ينفع الشيخين بحال، فقد رفعت روايتا السيوطي والطبري الستار عن حقيقة
أمرهما، وكشفتا النقاب عن باطن سرهما، وعلم أنه كيف أغضب عمر بكلامه رسول الله صلى
الله عليه وآله، وأنه كيف أزال المقداد كربته بكلامه فدعا له وقال له خيرا، حتى
تمنى ابن مسعود أن يكون صاحب هذا الموقف الكريم والمشهد العظيم.. (2) ما أخرجه
الحاكم في كتاب قسم الفئ حيث قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي الشيباني، ثنا ابن
أبي عزرة، ثنا محمد بن سعيد الإصبهاني، ثنا شريك، عن منصور، عن ربعي بن خراش، عن
علي قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتاه ناس من قريش فقالوا: يا
محمد إنا حلفاؤك وقومك، وإنه لحق بك أرقاؤنا، ليس لهم رغبة في الإسلام، وإنهم فروا
من العمل، فأرددهم. فشاور أبا بكر في أمرهم فقال: صدقوا يا رسول الله. فقال لعمر:
ما ترى؟ فقال قول أبي بكر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر قريش،
ليبعثن الله عليكم رجلا منكم امتحن الله قلبه للإيمان يضرب رقابكم على الدين. فقال
أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا. قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا.
(هامش)
(1) السيرة لابن هشام 1 / 614. (*)
ص 291
ولكن خاصف النعل في المسجد، وقد كان ألقى نعله إلى علي يخصفها. ثم قال: أما إني
سمعته يقول: لا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار. هذا حديث صحيح على شرط مسلم
ولم يخرجاه (1). وانظر: (مسند أحمد) و(الخصائص) و(كنز العمال) وغيرها. وقد عد
القضية شاه ولي الله الدهلوي في (إزالة الخفا) من مآثر أمير المؤمنين عليه السلام
وصرح بدلاته على خلافته. أقول: ولما كانت هذه القصة دالة على مجاراة الشيخين للكفار
ومحاماتهم لهم والتصديق لقولهم، فقد رجح بعض محدثي القوم تحريفها بإسقاط كلامهما في
النقل رأسا.. في (صحيح الترمذي) ما هذا لفظه: حدثنا سفيان بن وكيع، نا أبي عن
شريك، عن منصور عن ربعي بن خراش قال: نا علي بن أبي طالب بالرحبة فقال: لما كان يوم
الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين، فيهم سهيل بن عمرو وأناس من رؤساء المشركين
فقالوا: يا رسول الله خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا، وليس لهم فقه في
الدين، وإنما خرجوا فرارا من أموالنا وضياعنا، فأرددهم إلينا، فإن لم يكن لهم فقه
في الدين سنفقههم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر قريش لتنتهين أو ليبعثن
الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين.. (2). لكن البعض الآخر منهم رجح
الابقاء على نص الرواية، لكن جعل كلمة فقال ناس: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم
بدل اسم الشيخين سترا عليهما.. في (سنن أبي داود) ما نصه: باب في عبيد المشركين
يلحقون بالمسلمين فيسلمون - حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني قال: ثنا محمد - يعني
ابن سلمة - عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن منصور بن المعتمر، عن ربعي
(هامش)
(1) المستدرك 3 / 123 (2) صحيح الترمذي 5 / 592 (*)
ص 292
ابن خراش عن علي بن أبي طالب قال: خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يعني يوم الحديبية قبل الصلح - فكتب إليه مواليهم فقالوا: يا محمد، والله ما خرجوا
إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هربا من الرق. فقال ناس: صدقوا يا رسول الله ردهم
إليهم. فغضب رسول الله وقال: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من
يضرب رقابكم على هذا. وأبى أن يردهم وقال: هم عتقاء الله عز وجل (1). وانظر:
(المستدرك) و(المصابيح) و(المشكاة) وغيرها. وهذا التحريف وإن كان لغرض حماية
الشيخين، لكن شاء الله تعالى أن يكون سببا لمزيد هتكهما وظهور كفرهما ووضوح
نفاقهما.. وذلك لأن شراح (المصابيح) و(المشكاة) - حيث شرحوا هذا الحديث المحرف
وغفلوا عن أن القائل لهذا القول هما الشيخان - ذكروا في تعليل غضب النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: لأنهم عارضوا حكم الشرع فيهم بالظن والتخمين، وشهدوا لأوليائهم
المشركين بما ادعوه.. فكان معاونتهم لأوليائهم تعاونا على العدوان . ولنذكر نصوص
عباراتهم لتعرف حقيقة أمر الرجلين ومعنى كلامهما في تصديق المشركين: قال فضل الله
بن الحسن التوربشتي في (شرح المصابيح): وإنما غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
لأنهم عارضوا حكم الشرع فيهم بالظن والتخمين، وشهدوا لأولياء المشركين بما ادعوه
أنهم خرجوا من الرق لا رغبة في الإسلام، وكان حكم الشرع فيهم أنهم صاروا بخروجهم عن
دار الحرب مستعصمين بعروة الإسلام أحرارا، فكان معاونتهم لأوليائهم تعاونا على
العدوان (2).
(هامش)
(1) سنن أبي داود 1 / 423. (2) الميسر في شرح المصابيح - مخطوط. (*)
ص 293
وقال الخلخالي: قوله: ردهم إليهم. أمر مخاطب. فغضب رسول الله عليه السلام، لأنهم
عارضوا حكم الشرع فيهم بالظن والتخمين، وشهدوا لأوليائهم المشركين بما ادعوه أنهم
خرجوا هربا من الرق لا رغبة في الإسلام، وكان حكم الشرع فيهم أنهم صاروا بخروجهم من
دار الحرب مستعصمين بعروة الإسلام أحرارا، فكان معاونتهم لأوليائهم تعاونا على
العدوان. قوله: ما أراكم تنتهون. النفي وإن دخل على أراكم ظاهرا لكنه بالحقيقة ينفي
الانتهاء، أي أراكم ما تنتهون من تعصب أهل مكة. حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم
على هذا. أي على هذا الحكم. وأبى أن يردهم. أي وأبي النبي صلى الله عليه وسلم أن
يرد العبدان (1). وقال الطيبي: وقوله: ما أراكم تنتهون. فيه تهديد عظيم..
التوربشتي: وإنما غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم عارضوا حكم الشرع فيهم..
(2). وكذا جاء في (المرقاة في شرح المشكاة) و(أشعة اللمعات في شرح المشكاة لعبد
الحق الدهلوي) فراجع. (3) ما رواه القوم من امتناعه من قتل ذي الثدية المنافق،
بالرغم من أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتله، فقد قال الحافظ ابن حجر بترجمة
ذي الثدية: وقال أبو يعلى في مسنده - رواية ابن المقرى عنه - ثنا محمد بن الفرج،
ثنا أحمد بن الزبرقان، حدثني موسى بن عبيدة، أخبرني هود بن عطا، عن أنس قال: كان في
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يعجبنا تعبده واجتهاده، فذكرنا ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم باسمه فلم يعرفه، ووصفناه بصفته فلم يعرفه، فبينا نحن
نذكره إذ طلع الرجل فقلنا: هو هذا، قال: إنكم لتخبروني عن
(هامش)
(1) المفاتيح في شرح المصابيح - مخطوط. (2) الكاشف في شرح المشكاة - مخطوط. (*)
ص 294
رجل إن في وجهه سفعة من الشيطان، فأقبل حتى وقف عليهم ولم يسلم، فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم: أنشدك الله هل قلت حين وقفت على المجلس ما في القوم أحد أفضل
مني أو خير مني؟ قال: اللهم نعم. ثم دخل يصلي، فقال رسول الله: من يقتل الرجل؟ قال
أبو بكر: أنا، فدخل عليه فوجده يصلي فقال: سبحان الله أقتل رجلا يصلي وقد نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن قتل المصلين! فخرج. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما فعلت؟ قال: كرهت أن أقتله وهو يصلي وقد نهيت عن قتل المصلين! فقال: من يقتل
الرجل؟ قال عمر: أنا. فدخل فوجده واضعا جبهته، قال عمر: أبو بكر أفضل مني، فخرج!
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: مه؟ قال: وجدته واضعا جبهته لله فكرهت أن أقتله!
فقال: من يقتل الرجل؟ فقال علي: أنا. فقال: أنت إن أدركته، قال: فدخل عليه فوجده قد
خرج. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: مه؟ قال: وجدته قد خرج. قال:
لو قتل ما اختلف من أمتي رجلان كان أولهم وآخرهم. قال موسى: فسمعت محمد بن كعب
يقول: هو الذي قتله علي، ذو الثدية (1). وانظر: (نوادر الأصول) و(حلية الأولياء)
و(الباهر في حكم النبي بالباطن والظاهر) قال السيوطي بعد الحديث: أخرجه أبو يعلى
في مسنده من طرق عن موسى به. وموسى وشيخ فيهما لين. ولكن للحديث طرق متعددة تقتضي
ثبوته.. فذكر تلك الطرق بالتفصيل عن أبي يعلى، والبزار، والبيهقي، والمحاملي من
حديث أنس، وعن ابن أبي شيبة، وابن منيع، وأبي يعلى من حديث
(هامش)
(1) الإصابة 1 / 484. (*)
ص 295
جابر، وقال: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم . ورواه السيوطي في (الخصائص الكبرى)
عن ابن أبي شيبة وأبي يعلى، والبزار، والبيهقي من حديث أنس.. (4) ما رووه من
امتناعه عن قتل منافق في قضية مشابهة للقضية السابقة، قال أحمد: ثنا روح، ثنا
عثمان الشحام، ثنا مسلم بن أبي بكرة عن أبيه، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مر
برجل ساجد وهو ينطلق إلى الصلاة، فقضى الصلاة ورجع عليه وهو ساجد، فقام النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: من يقتل هذا؟ فقام رجل فحسر عن يديه فاخترط سيفه وهزه، ثم
قال: يا نبي الله بأبي أنت وأمي كيف أقتل رجلا ساجدا يشهد أن لا إله إلا الله وأن
محمدا عبده ورسوله؟! ثم قال: من يقتل هذا؟ فقام رجل فقال: أنا، فحسر عن ذراعيه
واخترط سيفه وهزه حتى أرعدت يده، فقال: يا نبي الله، كيف أقتل رجلا ساجدا يشهد أن
لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس
محمد بيده لو قتلتموه لكان أو فتنة وآخرها (1). ورواه أبو العباس المبرد في
(الكامل) والسيوطي في (الباهر) عن المسند، ثم قال: هذا الإسناد أيضا صحيح على شرط
مسلم، فإن روحا من رجال الصحيحين، وعثمان الشحام ومسلم بن أبي بكرة كلاهما من رجال
مسلم. وسياق هذه القصة فيه مغايرة لسياق حديث أنس وجابر، فلعلها قصة أخرى وقعت لرجل
آخر.. .
(5) ما رووه في قصة أخرى تتعلق بالخوارج أيضا.. قال أحمد: ثنا بكر ابن
عيسى، ثنا جامع بن مطر الحبطي، ثنا أبو روبة شداد بن عمران القيسي، عن أبي سعيد
الخدري، إن أبا بكر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني
مررت بوادي كذا وكذا، فإذا رجل متخشع حسن الهيئة يصلي.
(هامش)
(1) المسند 5 / 42. (*)
ص 296
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذهب إليه فاقتله. قال: فذهب إليه أبو بكر، فلما
رآه على تلك الحال كره أن يقتله! فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فقال
النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: إذهب فاقتله. فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه
أبو بكر، فكره أن يقتله. فرجع فقال: يا رسول الله إني رأيته يصلي متخشعا فكرهت أن
أقتله. قال: يا علي إذهب فاقتله. قال: فذهب علي فلم يره. فرجع علي فقال: يا رسول
الله إني لم أره. قال فقال النبي: إن هذا وأصحابه يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم،
يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم في
قوسه، فاقتلوهم هم شر البرية (1). وفي (فتح الباري): تنبيه: جاء عن أبي سعيد
الخدري قصة أخرى تتعلق بالخوارج، فيها ما يخالف هذه الرواية، وذلك فيما أخرجه أحمد
بسند جيد عن أبي سعيد قال: جاء أبو بكر.. ولم شاهد من حديث جابر. أخرجه أبو يعلى
ورجاله ثقات (2). (6) ما رووه في قصة الرجل المنافق الأسود الذي اعترض على رسول
الله صلى الله عليه وآله تقسيمه غنائم خيبر، فأمر الشيخين بقتله فأبيا ولم يطيعاه..
قال المبرد: ويروى أن رجلا أسود شديد السواد، شديد بياض الثياب، وقف على رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو فيهم يقسم غنائم خيبر، ولم تكن إلا لمن شهد الحديبية،
فأقبل ذلك الأسود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عدلت منذ اليوم. فغضب
رسول الله حتى رؤي الغضب في وجهه الشريف. فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:
ألا أقتله يا رسول الله؟ فقال: لا، إن يكون لهذا وأصحابه نبأ. قال أبو العباس: وفي
حديث آخر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ويحك فمن يعدل إذا لم أعدل؟ ثم
قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: أقتله.
(هامش)
(1) المسند 3 / 15. (2) فتح الباري 12 / 251. (*)
ص 297
فمضى ثم رجع فقال: يا رسول الله رأيته راكعا. ثم قال لعمر: أقتله. فمضى ثم رجع
فقال: يا رسول الله رأيته ساجدا. ثم قال لعلي: أقتله فمضى ثم رجع فقال: يا رسول
الله لم أره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قتل هذا ما اختلف اثنان في دين
الله . هذا، وفي بعض الروايات: أن عثمان ذهب ليقتله بعد رجوع الشيخين فوجده في
السجود. فقال: إن أبا بكر وعمر لم يقتلاه في القيام والركوع، فكيف أقتله في السجود؟
فرجع (1). (7) ومن المواقف التي أظهر فيها عمر ضعفه في الدين ورأفته بالمنافقين
قضية المرتدين، قال ابن الأثير في حديث طويل عن عمر: وأما يومه، فلما قبض رسول
الله ارتدت العرب وقالوا: لا نؤدي زكاة. فقال: لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليهم.
فقلت: يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم. فقال لي: أجبار في الجاهلية وخوار
في الإسلام؟! إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي؟! (2). وانظر: (الرياض
النضرة) و(المشكاة) و(تاريخ الخلفاء) و(كنز العمال) و(الصواعق) وغيرها. أقول: وإن
لم تؤمن بدلالة كلام عمر وجواب أبي بكر على ضعف عمر ووهنه في أمر الدين، ورفقه
ورأفته تجاه المنافقين، فعليك بمراجعة شروح المشكاة.. وهذا نص عبارة الطيبي في
(الكاشف) نورده ليطمئن قلبك: قوله: خوار في الإسلام. يه: هو من خار يخور، إذا
ضعفت قوته ووهنت. أقول: أنكر عليه ضعفه ووهنه في أمر الدين، ولم يرد أن يكون جبارا،
بل أراد به التصلب والشدة في الدين، لكن لما ذكر الجاهلية قرنه بذكر الجبار. ومن
العجب أن أبا بكر رضي
(هامش)
(1) الكامل في الأدب 2 / 141. (2) جامع الأصول 9 / 442. (*)
ص 298
الله عنه كان منسوبا إلى الرفق والدماثة، وعمر رضي الله عنه إلى الشدة والصلابة،
فعكس الأمر في هذه القضية . إختلاق آخر ولما رأى القوم أن ما وضعوه على رسول الله
صلى الله عليه وآله من أن أشدهم في دين الله عمر لا يصدق في حق عمر، وتنبهوا
إلى أن الحقائق التاريخية تكشف عن ذلك لا محالة.. إلتجاؤا إلى وضع جملة أخرى بدلها،
فنسبوا إليه صلى الله عليه وآله قوله: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأرفق أمتي لأمتي
عمر أخرجه الطبراني ورواه عنه المحب الطبري حيث قال: ذكر ما جاء في وصف جمع كلا
بصفة حميدة. عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرحم أمتي بأمتي
أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر.. وخرجه الطبراني فقال: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر،
وأرفق أمتي لأمتي عمر، وأقضى أمتي علي بن أبي طالب. ثم معنى ما بقي (1). ولكن قد
غفل واضعه عما قصده واضح الحديث الأول من وصف جمع كلا بصفة حميدة حيث وصف أبا
بكر بالرحمة ووصف عمر بالشدة في الدين أما في هذا الاختلاق الجديد فقد وصف
أبو بكر بالرحمة ووصف عمر بالرفق وكلاهما واحد. وبعد، فلو سلم كون عمر
أشدهم في دين الله فإن هذا الوصف لا يقتضي لأن يكون عمر بابا لمدينة العلم أعني
رسول الله صلى الله عليه وآله، فبطل ما ادعاه العاصمي والحمد لله رب العالمين.
(هامش)
(1) الرياض النضرة: 40. (*)
ص 299
اختصاص حذيفة بعلم المنافقين

ومن الجدير بالذكر هنا ما جاءت به أحاديث القوم من جهل
عمر بالمنافقين واختصاص حذيفة بن اليمان بهذا العلم، فإن عمر كان يسأل حذيفة عنهم
وكان هو المعروف بين الصحابة بهذا العلم، بل في بعض رواياتهم أن عمر خاطبه بقوله:
يا حذيفة، بالله أنا من المنافقين! ... وإليك بعض ما جاء في ذلك: قال ابن عبد البر
بترجمة حذيفة: وكان عمر بن الخطاب يسأله عن المنافقين وهو معروف في الصحابة بصاحب
سر رسول الله صلى الله عليه وآله. وكان عمر ينظر إليه عند موت من مات منهم، فإن لم
يشهد جنازته حذيفة لم يشهدها عمر (1). وفي (إحياء علوم الدين): ولقد كان عمر
رضي الله عنه يبالغ في تفتيش قلبه، حتى كان يسأل حذيفة رضي الله عنه أنه هل يعرف به
من آثار النفاق شيئا، إذ كان قد خصه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعلم
المنافقين (2). وقال الذهبي: زيد بن وهب الجهني الكوفي من جلة التابعين
وثقاتهم، متفق على الاحتجاج به، إلا ما كان عن يعقوب الفسوي، فإنه قال في تاريخه:
في حديثه خلل كثيرة ولم يصب الفسوي، ثم إنه ساق من روايته قول عمر: يا حذيفة بالله
أنا من المنافقين! قال: وهذا محال، أخاف أن يكون كذبا. قال: ومما يستدل به على ضعف
حديثه روايته عن حذيفة: إن خرج الدجال تبعه من كان يحب عثمان. ومن خلل روايته قول:
ثنا - والله - أبو ذر، ثنا بريدة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله فاستقبلنا
أحدا. الحديث.
(هامش)
(1) الإستيعاب 1 / 335. (2) إحياء علوم الدين 1 / 78. (*)
ص 300
فهذا الذي استنكره الفسوي من حديث ما سبق إليه، ولو فتحنا هذه الوساوس علينا رددنا
كثيرا من السنن الثابتة بالوهم الفاسد، ولا نفتح علينا في زيد بن وهب خاصة باب
الاعتزال برد حديث الثابت عن ابن مسعود حديث الصادق المصدوق. وزيد سيد جليل القدر،
هاجر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقبض وزيد في الطريق، وروى عن: عمر،
وعثمان، وعلي، والسابقين، وحدث عنه خلق، ووثقه ابن معين وغيره، حتى أن الأعمش قال:
إذا حدثك زيد بن وهب عن أحد فكأنك سمعته من الذي حدثك عنه. قلت: مات سنة تسعين أو
بعدها (1). وفي (السيرة الحلبية) في ذكر واقعة عقبة: وكان يقال لحذيفة رضي الله
عنه: صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فلما توفي رسول الله كان عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - في خلافته إذا مات الرجل ممن يظن به أنه من أولئك، أخذ بيد
حذيفة رضي الله عنه فناداه إلى الصلاة عليه، فإن مشى معه حذيفة صلى عليه عمر رضي
الله عنه، وإن انتزع يدع من يده ترك الصلاة عليه (2). أقول: فإذا كان هذا حال عمر
في الجهل بالمنافقين، كيف يعقل أن يصفه النبي صلى الله عليه وآله بأنه أشدهم على
المنافقين ! بل لو كان الأشد عليهم لكان من المناسب أن يعرفه النبي صلى الله عليه
وآله وسلم بالمنافقين، لا أن يسر بأسمائهم إلى حذيفة دونه! بل لقد عرفت أنه كان
يسأل حذيفة أنه هل يعرف به من آثار النفاق شيئا؟ ! بل جاء في حديث زيد بن وهب -
المتفق على الاحتجاج به - أنه قال لحذيفة: بالله أنا من المنافقين ! فهل يعقل أن
يكون أشدهم على المنافقين والحال هذه؟!
(هامش)
(1) ميزان الاعتدال 2 / 107. (2) السيرة الحلبية 3 / 121. (*)
ص 301
6 - بطلان دعوى أن عثمان باب المدينة بعد عم

ر قال العاصمي: ثم عثمان بن عفان
الباب الثالث منها في صدق الحياء، قوله صلى الله عليه وآله: وأصدق أمتي حياء عثمان
بن عفان . أقول: وهذا باطل أيضا، لأن هذا الذي نسبه إلى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم هو من أجزاء الحديث الطويل الموضوع الذي أوضحنا وضعه بالتفصيل سابقا. على أن
ثبوت الحياء لعثمان - فضلا عن صدقه - يعد من المستحيلات، لأن كل واحد من قضاياه
وأموره وما أحدثه دليل قاطع على عدم حيائه من الله ومن الناس، حتى جاهده القوم
وفعلوا به ما فعلوا، ثم قتلوه شر قتله... ولما كانت تلك القضايا التي نقم عليه بها
من ضروريات التاريخ التي لا تقبل أي بحث وجدال، فلا نطيل المقام بذكرها ولا نسود
الصفحات بإيرادها. 7 - بطلان دعوى كون أبي من أبواب مدينة العلم ثم قال العاصمي:
وباب منها أبي بن كعب، حيث فضله النبي صلى الله عليه وسلم بعلم القرآن وقراءته.
قوله عليه السلام: وأقرؤهم أبي بن كعب. وروي: وأقرؤهم لكتاب الله . أقول: دعوى أن
أبي بن كعب من أبواب مدينة العلم استنادا إلى دعوى أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فضله بعلم القرآن وقراءته، في غاية الغرابة، وهي باطلة لوجوه: الأول: إنه لا
دليل من النصوص والأحاديث على كونه بابا للمدينة، وكونه
ص 302
أقرأ الأصحاب للقرآن - لو صح - لا يقتضي ذلك ألبتة. الثاني: استدلاله بما نسب إلى
النبي صلى الله عليه وآله بأنه قال وأقرؤهم أبي بن كعب باطل، لأن ذلك من أجزاء
الحديث الطويل الذي أوضحنا كونه موضوعا بالتفصيل. الثالث: لو سلمنا صحة الحديث،
لكنه لا يقتضي تفضيل أبي على جميع الأصحاب في علم قرائة القرآن، كما تشهد بهذا
الكلمات أعلام القوم، حيث صرحوا بكونه أقرأ بالنسبة لجماعة مخصوصين أو وقت من
الأوقات، فإن غيره كان أقرأ منه .. قال المناوي في (فيض القدير) وانظر أيضا كلامه
في (التيسير) وكلام نور الدين العزيز في (السراج المنير في شرح الجامع الصغير).
فظهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفضله بعلم القرآن وقراءته، فبطل ما
ادعاه العاصمي في هذا المقام أيضا. 8 - بطلان دعوى كون معاذ من أبواب مدينة العلم
ثم قال العاصمي: وباب منها معاذ بن جبل، لما فضله النبي صلى الله عليه وسلم في
العلم خاصة دون غيره، قوله عليه السلام: وأعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل .
ثم قال العاصمي: وباب منها معاذ بن جبل، لما فضله النبي صلى الله عليه وسلم في
العلم خاصة دون غيره، قوله عليه السلام: وأعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل .
وجوه بطلان هذه الدعوى أقول: وهذه الدعوى باطلة كذلك لوجوه: الأول: إن دعوى كون
معاذ بن جبل بابا من أبواب مدينة العلم من غير نص صريح في ذلك عن مدينة العلم صلى
الله عليه وآله تجاسر قبيح وتخرص فضيح.