نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الحادي عشر

الصفحة السابقة

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الحادي عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 303

الثاني: إستشهاده بما نسب إليه صلى الله عليه وآله أنه قال: وأعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل يبطله كون هذا من الحديث الطويل الثابت وضعه واختلاقه على رسول الله صلى الله وآله وسلم. الثالث: إن كون معاذ بن جبل بابا من أبواب المدينة إنما يثبت في حال اختصاص علم الحلال والحرام به دون غيره من الأصحاب، أو إثبات كونه مبرزا من بينهم في هذا العلم، وكلا الأمرين غير ثابت، فإن كونه مخصوصا بهذا العلم دونهم - بأن يكون هو العالم بهذا العلم وليس لغيره منهم نصيب منه - ظاهر البطلان جدا، ولا يلتزم به أحد من أهل السنة أبدا. وأما الأمر الثاني فغير ثابت كذلك، لتنصيص العلماء المحققين على أنه يصير كذلك بعد انقراض عظماء الصحابة وأكابرهم قال المناوي (فيض القدير): يعني أنه يصير كذلك بعد انقراض عظماء الصحابة وأكابرهم، وإلا فأبو بكر وعمر وعلي أعلم منه بالحلال والحرام.. وفي (التيسير): يعني: سيصير أعلمهم بعد انقراض أكابر الصحابة وقال العزيزي يعني سيصير أعلمهم بعد انقراض أكابر الصحابة . من شواهد جهل معاذ بالحلال والحرام الرابع: إنه مع قطع النظر عما تقدم هناك في أمهات مصادر أهل السنة شواهد على جهل معاذ بالحلال والحرام، ومعها تبطل دعوى العاصمي من أصلها.. ومن ذلك ما رواه ابن سعد بترجمته حيث قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى، أنا شيبان، عن الأعمش، عن شقيق قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم معاذ على اليمن، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر وهو عليها وكان عمر عامئذ على الحج، فجاء معاذ إلى مكة ومعه رقيق ووصفاء على حدة. فقال له عمر: يا أبا عبد الرحمن لمن هؤلاء الوصفاء؟ قال: هم لي. قال: من أين هم لك؟ قال: أهدوا لي. قال: أطعني

ص 304

وأرسل بهم إلى أبي بكر، فإن طيبهم لك فهم لك. قال: ما كنت لأطيعك في هذا، شيء أهدي لي أرسل بهم إلى أبي بكر؟! قال: فبات ليلة ثم أصبح فقال: يا ابن الخطاب ما أراني إلا مطيعك، إني رأيت الليلة في المنام كأني أجر وأقاد - أو كلمة تشبهها - إلى النار وأنت آخذ بحجزتي! فانطلق بي وبهم إلى أبي بكر. فقال: أنت أحق بهم. فقال أبو بكر: هم لك. فانطلق بهم إلى أهله فصفوا خلفه يصلون. فلما انصرف قال: لمن تصلون؟ قالوا: لله تبارك وتعالى. قال: فانطلقوا فأنتم له (1). وفيه أيضا: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني عيسى بن النعمان، عن معاذ ابن رفاعة، عن جابر بن عبد الله قال: كان معاذ بن جبل - رحمه الله - من أحسن الناس وجها وأحسنه خلقا وأسمحه كفا، فادان دينا كثيرا، فلزمه غرماؤه حتى تغيب منهم أياما في بيته، حتى استأدى غرماؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ يدعوه، فجاءه ومعه غرماؤه، فقالوا: يا رسول الله خذ لنا حقنا منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله من تصدق عليه. قال: فتصدق عليه ناس وأبي آخرون وقالوا: يا رسول الله، خذ لنا حقنا منه. فقال رسول الله: اصبر لهم يا معاذ. قال: فخلعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ماله فدفعه إلى غرمائه فاقتسموه بينهم فأصابهم خمسة أسباع حقوقهم. قالوا: يا رسول الله بعه لنا. قال لهم رسول الله ص : خلوا عنه فليس لكم إليه سبيل.

(هامش)

(1) الطبقات 3 / 585. (*)

ص 305

فانصرف معاذ إلى بني سلمة فقال له قائل: يا أبا عبد الرحمن، لو سألت رسول الله، فقد أصبحت اليوم معدما. قال: ما كنت لأسأله. قال: فمكث يوما، ثم دعاه رسول الله فبعثه إلى اليمن وقال: لعل الله يجبرك ويؤدي عنك دينك. قال: فخرج معاذ إلى اليمن فلم يزل بها حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافى السنة التي حج فيها عمر بن الخطاب - استعمله أبو بكر على الحج - فالتقيا يوم التروية بمنى، فاعتنقا وعزى كل واحد منهما صاحبه برسول الله، ثم أخلدا إلى الأرض يتحدثان، فرأى عمر عند معاذ غلمانا فقال: ما هؤلاء يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أصبتهم في وجهي هذا. فقال عمر: من أي وجه؟ قال: أهدوا إلي وأكرمت بهم فقال عمر: أذكرهم لأبي بكر. فقال معاذ: ما ذكري هذا لأبي بكر؟ ونام معاذ، فرأى في النوم كأنه على شفير النار وعمر آخذ بحجزته من ورائه يمنعه أن يقع في النار، ففزع معاذ فقال: هذا ما أمرني به عمر. فقدم معاذ، فذكرهم لأبي بكر، فسوغه أبو بكر ذلك وقضى بقية غرمائه وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لعل الله يجبرك (1). أقول: وهذه القصة فيها دلالة واضحة على جهل معاذ بالحلال والحرام، وعدم تورعه في جمع الأموال، وحينئذ لا يعقل أن يصدق في حقه كونه أعلم الأصحاب والأمة بالحلال والحرام. حديث موضوع في الذب عن معاذ ومما يضحك الثكلى وضع بعض أسلاف القوم حديثا في حماية معاذ وذب هذه المنقصة المذكورة عنه.. وذلك ما جاء في (الإصابة) بترجمة معاذ وهذا

(هامش)

(1) الطبقات 3 / 587. (*)

ص 306

نصه: وذكر سيف في الفتوح بسند له عن عبيد بن صخر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ - حين بعثه إلى اليمن -: إني قد عرفت بلاءك في الدين، وقد طيبت لك الهدية، فإن أهدي لك شيء فاقبل. قال: فرجع حين رجع بثلاثين رأسا أهديت له (1). الوجوه الدالة على وضعه أقول: وهذا حديث موضوع مختلق لوجوه: الأول: إنه من حديث سيف بن عمر الكوفي صاحب كتاب الفتوح وهو ضعيف جدا، بل إنه متهم بالزندقة... قال الذهبي: قال عباس عن يحيى: ضعيف. وروى مطين عن يحيى: فليس خير منه. وقال أبو داود: ليس بشيء وقال أبو حاتم متروك. وقال ابن حبان: اتهم بالزندقة. وقال ابن عدي: عامة حديثه منكر . قال: وكان سيف يضع الحديث وقد اتهم بالزندقة (2). الثاني: لقد أغفل ابن حجر في (الإصابة) ذكر سند رواية سيف، فلم نعلم حاله، لكن غالب من يروي عنه سيف من المجهولين كما نص عليه الذهبي، ويؤيد ذلك إن في (الإصابة) بترجمة عبيد بن صخر بن لوذان الأنصاري - بعد ذكر أخبار رواها سيف عن سهل بن يوسف بن سهل، عن أبيه، عن عبيد بن صخر -: وبهذا الإسناد: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى معاذ أني عرفت بلاءك في الدين، والذي ذهب من مالك حتى ركبك الدين، وقد طيبت لك الهدية،

(هامش)

(1) الإصابة 3 / 427. (2) ميزان الاعتدال 2 / 255. (3) تهذيب التهذيب 4 / 259. (*)

ص 307

فإن أهدي إليك شيء فاقبل (1) وهذا نفس حديث سيف الذي أسقط ابن حجر سنده، و سهل بن يوسف ، و يوسف بن سهل كلاهما مجهولان. ولعله من هنا أفتى الإمام أبو جعفر الطبري بضعف هذا الحديث، ففي (كنز العمال) ما نصه: عن معاذ بن جبل: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، قال: إني قد علمت ما لقيت في الله ورسوله وما ذهب من مالك، وقد طيبت لك الهدية، فما أهدي لك من شيء فهو لك. ابن جرير وضعفه (2). الثالث: لقد ورد في الأحاديث الكثيرة تحريم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هدايا العمال وجعلها غلولا ونهى عن قبولها قولا وفعلا، وقد أخرج تلك الأحاديث البخاري في صحيحه في باب من لم يقبل الهدية لعلة و باب كيف كانت يمين النبي و باب احتيال العامل ليهدى له و باب هدايا العمال و باب محاسبة الإمام عماله . ومسلم في باب تحريم هدايا العمال . وأحمد بن حنبل في مسنده. ومن الأحاديث التي اتفقوا عليها ما أخرجه أحمد قائلا: ثنا سفيان، عن الزهري سمع عروة يقول: أنا أبو حميد الساعدي. قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبيه على صدقة فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: ما بال العامل نبعثه فيجئ فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي! أفلا جلس في بيت أمه وأبيه فينظر أيهدى إليه أم لا؟! والذي نفس محمد بيده، لا يأتي أحد منكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تبعر. ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة يديه ثم قال: اللهم هل بلغت - ثلاثا -.

(هامش)

(1) الإصابة 2 / 444. (2) كنز العمال 13 / 586. (*)

ص 308

وزاد هشام بن عروة: قال أبو حميد: سمع أذني وأبصر عيني، وسلوا زيد بن ثابت (1). وفي (المسند) أيضا: حدثنا إسحاق بن عيسى، ثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن عروة بن الزبير عن أبي حميد الساعدي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هدايا العمال غلول (2). الرابع: إنه لو كان النبي صلى الله عليه وآله قد طيب الهدية لمعاذ بن جبل لاعتذر بذلك معاذ أمام عمر بن الخطاب، عندما أمره بإرسال الغلمان إلى أبي بكر حتى يطيبهم له، فإنه لو صح تطييب النبي صلى الله عليه وآله وسلم له ذلك لم يكن مورد لتطييب أبي بكر أو عدم تطييبه، لا أن يعتذر بقوله: ما كنت لأطيعك في هذا، شيء أهدي لي، أرسل بهم إلى أبي بكر! . الخامس: إنه لو كان لهذا الحديث الموضوع أصل لما رأى معاذ في المنام كأنه على شفير النار وعمر آخذ بحجزته من ورائه يمنعه أن يقع في النار.. . لأن ما طيبه له النبي صلى الله عليه وآله لا يوجب تملكه دخول النار ألبتة، فرؤيته ذلك في المنام وفزعه منه ثم مجيؤه بهم إلى أبي بكر - كما أمره عمر بن الخطاب - يدل بوضوح على ارتكابه الذنب العظيم الموجب لدخول النار، ويدل أيضا على أن حديث سيف موضوع باطل لا أصل له. ومما يؤكد ما ذكرنا ويقطع الألسنة ويحسم النزاع في المقام: ما أخرجه الترمذي في صحيحه من نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاذا نهيا قاطعا عن إصابة شيء من الأموال بغير إذن منه صلى الله عليه وآله، وإليك نص الحديث:

(هامش)

(1) مسند أحمد 5 / 423. (2) مسند أحمد 5 / 424. (*)

ص 309

باب ما جاء في هدايا الأمراء

 حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو أسامة، عن داود بن يزيد الأودي، عن المغيرة بن شبيل، عن قيس بن أبي حازم، عن معاذ ابن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فلما سرت أرسل في أثري فرددت فقال: أتدري لم بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئا بغير إذني، فإنه غلول ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة. لهذا دعوتك. فامض لعملك. قال: وفي الباب عن عدي بن عميرة، وبريدة، والمستورد بن شداد، وأبي حميد، وابن عمر (1). فإن هذا الحديث نهي قاطع مع التحذير والتخويف الشديدين، وينبغي أن يعد هذا الحديث من معاجز النبي - صلى الله عليه وآله - ومن آيات نبوته، حيث يظهر منه علمه بما سيرتكبه معاذ في مسيرة هذا، فمنعه عن ذلك من ذي قبل، وذكره بحرمة إصابة شيء من تلك الأموال، ولكن ذلك كله لم ينفع معاذا ولم يردعه عن التصرف في الأموال. اتجار معاذ في مال الله ومما ارتكبه معاذ جهلا بالأحكام اتجاره في مال الله الذي كان بيده وكان أول من اتجر في مال الله حتى ذكره عمر فأبى، إلى أن رأى في منامه ما رأى، وإليك نص الخبر الوارد بترجمته حيث قال ابن عبد البر: حدثنا خلف بن قاسم، حدثنا ابن المفسر، حدثنا أحمد بن علي، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن الزهري، عن عبد الرحمن ابن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: كان معاذ بن جبل شابا جميلا أفضل من شباب قومه سمحا لا يمسك، فلم يزل يدان حتى أغلق ماله من الدين،

(هامش)

(1) صحيح الترمذي 3 / 621.

ص 310

فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فطلب إليه أن يسأل غرمائه أن يضعوا له فأبوا، ولو تركوا لأحد من أجل لتركوا معاذا من أجل رسول الله. فباع النبي صلى الله عليه وسلم ماله كله في دينه، حتى قام معاذ بغير شيء، حتى إذا كان عام فتح مكة بعثه النبي إلى طائفة من اليمن ليجبره، فمكث معاذ باليمن أميرا - وكان أول من اتجر في مال الله هو - فمكث حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم قال عمر لأبي بكر رضي الله عنهما: أرسل إلى هذا الرجل فدع له ما يعيشه وخذ سائره منه، فقال أبو بكر: إنما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجبره، ولست بآخذ منه شيئا إلا أن يعطيني. فانطلق عمر إليه إذ لم يطعه أبو بكر فذكر ذلك لمعاذ. فقال معاذ: إنما أرسلني النبي صلى الله عليه وسلم ليجبرني ولست بفاعل. ثم لقي معاذ عمر فقال: قد أطعتك وأنا فاعل ما أمرتني به، إني رأيت في المنام أني في حومة ماء قد خشيت الغرق فخلصتني منه يا عمر، فأتى معاذ أبا بكر فذكر ذلك له وحلف أن لا يكتمه شيئا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا آخذ منك شيئا قد وهبته. فقال: هذا حين حل وطاب، وخرج معاذ عند ذلك إلى الشام (1). 9 - بطلان دعوى كون زيد من أبواب مدينة العلم ثم قال العاصمي: وباب منها: زيد بن ثابت لما فضله النبي صلى الله عليه بعلم الفرائض خاصة دون غيره. قوله عليه السلام: وأفرض أمتي زيد بن ثابت . أقول: وهذا باطل لوجوه: الأول: إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وهو مدينة العلم - ما يفيد كون زيد بابا لهذا المدينة.

(هامش)

(1) الإستيعاب 3 / 1404. (*)

ص 311

الثاني: استدلاله بجملة وأفرض أمتي زيد بن ثابت واضح البطلان، لأن هذه الجملة من أجزاء الحديث الطويل الذي بينا كونه موضوعا بالتفصيل سابقا. الثالث: مقتضى هذه الجملة الموضوعة اختصاص علم الفرائض بزيد بن ثابت أو كونه الأفضل فيه من بين جميع الأصحاب، أما اختصاصه به بحيث لم يكن لغيره حظ من هذا العلم فواضح البطلان. وأما كونه الأفضل فيه فلا سبيل إلى إثباته، بل لقد صرح المحققون من أهل السنة بأن معناه صيرورة زيد أفرض الأمة بعد انقراض عظماء الصحابة، بل يتضح بطلان هذا الكلام بما نقل المناوي عن ابن عبد الهادي من أنه لم يكن زيد في عهد المصطفى مشهورا بالفرائض أكثر من غيره، ولا أعلم أنه تكلم فيها على عهده ولا على عهد أبي بكر.. قال المناوي: وأعلمهم بالحلال والحرام. أي بمعرفة ما يحل ويحرم من الأحكام معاذ بن جبل الأنصاري، يعني أنه يصير كذلك بعد انقراض عظماء الصحابة وأكابرهم، وإلا فأبو بكر وعمر وعلي أعلم منه بالحلال والحرام، وأعلم من زيد بن ثابت بالفرائض. ذكره ابن عبد الهادي، قال: ولم يكن زيد في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم مشهورا بالفرائض أكثر من غيره، ولا أعلم أنه تكلم فيها على عهده ولا على عهد أبي بكر رضي الله عنه (1). وفي (التيسير): أي: إنه سيصير كذلك بعد انقراض أكابر الصحابة. وإلا فعلي وأبو بكر وعمر أفرض منه فظهر بطلان دعوى العاصمي وقوله: لما فضله النبي.. . 10 - بطلان دعوى كون أبي عبيدة من أبواب مدينة العلم ثم قال العاصمي: وباب منها أبو عبيدة بن الجراح في الأمانة في

(هامش)

(1) فيض القدير 1 / 460. (*)

ص 312

الإسلام، حيث خصه النبي عليه السلام بالأمانة في الإسلام، والأمانة لا تؤدى إلا بالعلم. قوله عليه السلام: ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح . أقول: وهذا باطل كذلك، ونحن نوضح ذلك في وجوه: وجوه بطلان هذه الدعوى الوجه الأول: لقد ذكرنا غير مرة عدم جواز جعل أحد بابا لمدينة العلم إلا مع وصول نص صحيح صريح في ذلك عن مدينة العلم صلى الله عليه وآله وسلم نفسه. الوجه الثاني: إن ما ذكره من قوله عليه السلام: ولكل أمة أمين... تقول على رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو كلام مختلق موضوع لا أصل له. ولقد ذكروا هذا الكلام ضمن حديث أرحم أمتي بأمتي.. وقد سبق أن هذا الحديث طويل موضوع بطوله. ورووه أيضا حديثا مستقلا برأسه، لكن جميع طرقه في الصحيحين مقدوحة وموهونة سندا، فإن عامة طرقه مطعونة ولم يسلم منها شيء، فإذا لم يصح هذا الحديث بطرق الكتابين فكيف بأسانيده الأخرى؟ ولنذكر طرقه في البخاري أولا، ثم نتبعها بطرقه عند مسلم فنتكلم عليها بالتفصيل: طرق الحديث في صحيح البخاري قال البخاري في كتاب المناقب: مناقب أبي عبيدة بن الجراح - حدثنا

ص 313

عمرو بن علي، ثنا عبد الأعلى، ثنا خالد، عن أبي قلابة قال: حدثني أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لكل أمة أمين وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح. حدثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن صلة، عن حذيفة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: لأبعثن - يعني عليكم - أمينا حق أمين، فأشرف أصحابه، فبعث أبا عبيدة . وفي كتاب المغازي: باب قصة أهل نجران - حدثني عباس بن الحسين، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه قال فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيا فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا فابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعثه معنا إلا أمينا. فقال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف له أصحاب رسول الله فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة. حدثني محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، قال سمعت أبا إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة قال: جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إبعث لنا رجلا أمينا، فقال: لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف له الناس فبعث أبا عبيدة. حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن خالد عن أبي قلابة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح . وفي كتاب أخبار الآحاد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن صلة عن حذيفة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل نجران: لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف لها أصحاب النبي، فبعث أبا عبيدة.

ص 314

حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة (1). طرق الحديث في صحيح مسلم وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا إسماعيل بن علية، عن خالد. ح وحدثني زهير بن حرب، نا إسماعيل بن علية، أنا خالد عن أبي قلابة قال قال أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل أمة أمينا وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح حدثني عمرو الناقد قال: نا عفان، نا حماد، عن ثابت عن أنس: إن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إبعث معنا رجلا يعلمنا السنة والإسلام. قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: هذا أمين هذه الأمة. حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار - واللفظ لابن المثنى - قالا: ثنا محمد بن جعفر قال: سمعت أبا إسحاق يحدث عن صلة بن زفر، عن حذيفة قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إبعث إلينا رجلا أمينا. فقال: لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين، قال: فاستشرف لها الناس. قال: فبعث أبا عبيدة بن الجراح. حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: أنا أبو داود الحفري قال: نا سفيان عن أبي إسحاق بهذا الإسناد نحوه (2).

(هامش)

(1) صحيح البخاري 4 / 740. (2) صحيح مسلم 7 / 129. (*)

ص 315

وجوه الوهن في هذه الطرق وغير خاف على ذوي العلم والتحقيق أن عامة هذه الطرق مطعون، وإليك البيان: أما الطريق الأول عند البخاري فمداره على أنس بن مالك ومن أعظم قوادح أنس عداؤه لأمير المؤمنين علي عليه السلام، وقد فصلنا الكلام في ذلك في مجلد حديث الغدير، ومجلد حديث الطائر. * وفيه أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي وهو أيضا من المشهورين بالنصب والتحامل على سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام، وهذا من أعظم الجرائم وأقبح الآثام المسقطة عن العدالة والوثاقة، بل الموجبة للكفر والخلود في العذاب الأليم - لكن القوم يوثقونه مع اعترافهم بذلك! - قال ابن حجر: وقال العجلي: بصري تابعي ثقة، وكان يحمل على علي ولم يرو عنه شيئا (1). ومن قوادحه إنه كان يدلس.. قال الذهبي إمام شهير من علماء التابعين، ثقة في نفسه، إلا أنه يدلس عمن لحقهم وعمن لم يلحقهم، وكان له صحف يحدث منها ويدلس (2). ومن هنا فقد أورده البرهان سبط ابن العجمي في (التبيين لأسماء المدلسين). ومن الواضح أن ارتكاب التدليس خيانة واضحة على الشرع، وقد ذهب فريق من المحدثين والفقهاء إلى أن من عرف بارتكاب التدليس ولو مرة صار مجروحا مردودا.. هذا كله بالإضافة إلى تصريح جماعة من الحفاظ وأعيان العلماء بأن أبا قلابة

(هامش)

(1) تهذيب التهذيب 5 / 197. (2) ميزان الاعتدال 2 / 425. (*)

ص 316

معدود عند الناس في البله، وعلى هذا الأساس تعجبوا من عمر بن عبد العزيز إبطال حكم القسامة الثابت بحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وعمل الخلفاء الراشدين بقول أبي قلابة، في قضية ذكرها البخاري في (صحيحه). فراجع كلماتهم في (عمدة القاري) و(إرشاد الساري) وكذا في ترجمة أبي قلابة من (تهذيب التهذيب). فظهر أن الرجل مجروح مقدوح للغاية، وإن أعظم قوادحه وجرائمه انحرافه عن سيدنا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام كأنس بن مالك، ولذا نراه قد ابتلاه الله تعالى - كما ابتلى أنسا - بالأسقام والأمراض، قال الذهبي: وأخبرني عبد المؤمن بن خالد الحافظ قال: وأبو قلابة ممن ابتلى في بدنه ودينه، أريد على القضاء بالبصرة فهرب إلى الشام فمات بعريش مصر سنة أربع، وقد ذهبت يداه ورجلاه وبصره، وهو مع ذلك حامد شاكر (1). وفي (حاشية ميزان الاعتدال): أبو قلابة ابتلي في دينه فأريد للقضاء فهرب إلى الشام، وفي بدنه فأصابه الجذام، فذهبت يداه ورجلاه وبصره وهو مع ذلك شاكر، زاره عمر بن عبد العزيز فقال له: يا أبا قلابة تشدد لا يشمت بنا المنافقون . * وفي هذا الطريق خالد بن مهران الحذاء وهو أيضا مجروح جدا، قال أبو حاتم: لا يحتج به، ووقع فيه شعبة، وضعفه ابن علية.. كما في ترجمته في (تهذيب التهذيب). وفي (تقريب التهذيب): قد أشار حماد بن زيد إلى أن حفظه تغير لما قدم من الشام، وعاب عليه بعض دخوله في عمل السلطان . * وفي هذا الطريق عبد الأعلى بن عبد الأعلى البصري قال الذهبي: قال محمد بن سعد: لم يكن بالقوي، ومات سنة تسع وثمانين ومائة. وقال أحمد:

(هامش)

(1) تذكرة الحفاظ 1 / 94.

ص 317

كان يرى القدر، وقال بندار: والله ما كان يدري أي رجليه أطول (1) وكذا ذكره في (المغني في الضعفاء) وابن حجر في (تهذيب التهذيب). وقد عده السيوطي في (تدريب الراوي) في من رمي ببدعة ممن أخرج لهم البخاري ومسلم أو أحدهما (2). وأما الطريق الثاني عند البخاري الذي جاء في - كتاب المناقب - أيضا ففيه أبو إسحاق السبيعي وقد كان مختلطا قال الذهبي: وروى جرير عن مغيرة قال: ما أفسد حديث أهل الكوفة غير أبي إسحاق والأعمش. وقال الفسوي قال ابن عيينة: ثنا أبو إسحاق في المسجد ليس معنا ثالث. قال الفسوي: قال بعض أهل العلم: كان قد اختلط، وإنما تركوه مع ابن عيينة لاختلاط (3). وكان مدلسا.. قال ابن حجر: وقال ابن حبان في كتاب الثقات: كان مدلسا: ولد سنة 29 ويقال: 32. وكذا ذكره في المدلسين: حسين الكرابيسي وأبو جعفر الطبري. وقال ابن المديني في العلل قال شعبة: سمعت أبا إسحاق يحدث عن الحرث بن الأرمع بحديث فقلت له: سمعت منه؟ فقال: حدثني به مجالد عن الشعبي عنه. قال شعبة: وكان أبو إسحاق إذا أخبرني عن رجل قلت له: هذا أكبر منك؟ فإن قال: نعم علمت أنه لقي، وإن قال: أنا أكبر منه تركته. وقال أبو إسحاق الجوزجاني: كان قوم من أهل الكوفة لا تحمد مذاهبهم - يعني التشيع - هم رؤس محدثي الكوفة مثل: أبي إسحاق، والأعمش، ومنصور وزبيد، وغيرهم من أقرانه، احتملهم الناس على صدق ألسنتهم في الحديث، ووقفوا عندما أرسلوا، لما خافوا أن لا يكون مخارجها صحيحة فأما أبو إسحاق يروي عن قوم لا يعرفون، ولم ينشر عنهم عند أهل العلم إلا ما حكى أبو إسحاق

(هامش)

(1) ميزان الاعتدال 2 / 531. (2) تدريب الراوي 1 / 279. (3) ميزان الاعتدال 3 / 270. (*)

ص 318

عنهم، فإذا روى تلك الأشياء عنهم كان التوقف في ذلك عندي الصواب، وقد حدثنا أبو إسحاق، ثنا جرير عن مغيرة قال: أفسد حديث أهل الكوفة الأعمش وأبو إسحاق - يعني للتدليس -. وقال يحيى بن معين: سمع منه ابن عيينة بعد ما تغير (1). وقد ذكره سبط ابن العجمي في (التبيين لأسماء المدلسين) وفي (الاغتباط بمن رمي بالاختلاط). ومن قوادحه العظيمة روايته عن عمر بن سعد - لعنه الله - قاتل سيدنا الحسين بن علي عليهما السلام.. قال الذهبي: عمر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه. وعنه ابنه إبراهيم وأبو إسحاق. وأرسل عنه الزهري وقتادة. قال ابن معين: كيف يكون من قتل الحسين ثقة؟! قتله المختار سنة 65 أو سنة 67 (2) وفي (ميزان الاعتدال): عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري، هو في نفسه غير متهم، لكنه باشر قتال الحسين عليه السلام وفعل الأفاعيل، روى شعبة عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن عمر بن سعد فقام إليه رجل فقال: أما تخاف الله! تروي عن عمر بن سعد؟ فبكى وقال: لا أعود. وقال العجلي: روى عنه الناس، تابعي ثقة. وقال أحمد بن زهير: سألت ابن معين: أعمر بن سعد ثقة؟ فقال: كيف يكون من قتل الحسين ثقة؟! قال: خليفة: قتله المختار سنة خمس وستين (1). والأفظع من ذلك روايته عن شمر بن ذي الجوشن قال الذهبي: شمر بن ذي الجوشن أبو السابغة الضبابي. عن أبيه. وعنه أبو إسحاق السبيعي. ليس بأهل للرواية، فإنه أحد قتلة الحسين رضي الله عنه، وقد قتله أعوان المختار. روى أبو بكر ابن عياش عن أبي إسحاق قال: كان شمر يصلي معنا ثم يقول

(هامش)

(1) تهذيب التهذيب 8 / 59. (2) الكاشف 2 / 311. (3) ميزان الاعتدال 3 / 198. (*)

ص 319

اللهم إنك تعلم أني شريف فاغفر لي. قلت: كيف يغفر لك وقد أعنت على قتل ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ويحك فكيف نصنع! إن أمرائنا هؤلاء أمرونا بأمر فلم نخالفهم، ولو خالفناهم كنا شرا من هذه الحمير السقاة. قلت: إن هذا العذر قبيح، فإنما الطاعة في المعروف (1). وأما الطريق الثالث عند البخاري في كتاب المغازي: * ففيه أبو إسحاق السبيعي . وقد عرفته قريبا. * وفيه: إسرائيل بن يونس وقد ضعفه ابن المديني شيخ البخاري، وكان يحيى القطان لا يرضاه ولا يحدث عنه، وعن أحمد أنه قال فيه لين وقال عبد الرحمن بن مهدي: لص يسرق الحديث راجع: (ميزان الاعتدال) و(تهذيب التهذيب) وغيرهما. * وفيه: عباس بن الحسين القنطري وهو مجهول، قال ابن حجر (تهذيب التهذيب): وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: مجهول (2). وأما الطريق الرابع عند البخاري في كتاب المغازي فمداره على أبو إسحاق السبيعي . وقد عرفته آنفا. * وفيه محمد بن جعفر غندر وقد كان من المغفلين قال الذهبي: وقيل: كان مغفلا (3) وفي (تذكرة الحفاظ): ومع إتقانه كان فيه تغفل . قال علي بن غنام: أتيت غندرا فذكر منفصله وعلمه بحديث شعبة، فقال لي: هات كتابك، فأبيت إلا أن يخرج كتابه وأخرجه وقال: يزعم الناس أني اشتريت سمكا فأكلوه وأنا نائم ولطخوا به يدي، ثم قالوا: أكلت فشم يدك، أفما كان يدلني بطني (4).

(هامش)

(1) ميزان الاعتدال 3 / 270. (2) تهذيب التهذيب 5 / 102. (3) ميزان الاعتدال 3 / 502. (4) تذكرة الحفاظ 1 / 276. (*)

ص 320

ومما يقتضي ضعفه ويقضي بسقوطه عن درجة الاعتبار ما حكاه الذهبي قائلا: قال الدينوري في المجالسة: نا جعفر بن أبي عثمان سمعت يحيى بن معين يقول: دخلنا على غندر فقال: لا أحدثكم بشيء حتى تمشوا خلفي إلى السوق فيراكم الناس فيكرموني، فمشينا خلفه فجعل الناس يقولون: من هؤلاء يا أبا عبد الله؟ فيقول: هؤلاء أصحاب الحديث جاؤني من بغداد يكتبون عني (1). ومن هنا كان يحيى بن سعيد إذا ذكر غندر عنده عوج فمه كأنه يستضعفه، قال ابن حجر: قال ابن المديني: كنت إذا ذكرت غندرا عند يحيى بن سعيد عوج فمه كأنه يستضعفه (2). * وفيه: محمد بن بشار بندار وله قوادح كثيرة، منها: انهماكه في المجون حتى كان يستهزء عند التحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال الذهبي: قال إسحاق بن إبراهيم الفزاري: كنا عند بندار فقال في حديث عن عائشة: قال قالت رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال رجل: تمزح؟! أعيذك بالله فما أفضحك! فقال: كنا إذا خرجنا من عند روح دخلنا على أبي عبيدة فقال: قد بان عليك ذاك (3) وقال ابن حجر: قال إسحاق بن إبراهيم الفزاري: كنا عند بندار فقال في حديث عن عائشة قال قالت رسول الله. فقال له رجل: تسخر منه أعيذك بالله ما أفضحك؟! فقال: كنا إذا خرجنا من عند روح دخلنا إلى أبي عبيدة فقال: قد بان ذلك عليك (4). ومنها: إن عمرو بن علي الفلاس كان يحلف أن بندارا يكذب، قال ابن حجر: قال عبد الله بن محمد بن سيار: سمعت عمرو بن علي يحلف أن بندارا يكذب فيما يروي .

(هامش)

(1) تذكرة الحفاظ 1 / 277. (2) تهذيب التهذيب 9 / 84. (3) ميزان الاعتدال 3 / 490. (4) تهذيب التهذيب 9 / 61. (*)

ص 321

ومنها: إن علي بن المديني كذب حديثه، قال ابن حجر: قال عبد الله بن علي بن المديني: سمعت أبي - وسئل عن حديث رواه بندار، عن ابن مهدي، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم عمن روى - عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تسحروا فإن في السحور بركة - فقال: هذا كذب، وأنكره أشد الانكار وقال حدثني أبو داود موقوفا . ومنها: إن يحيى بن معين كان لا يعبأ به ويستضعفه، قال الذهبي: قال عبد الله بن الدورقي: كنا عند ابن معين فجرى ذكر بندار فرأيت يحيى بن معين لا يعبأ به ويستضعفه (1). ومنها: إن القواريري كان لا يرضاه وقال: كان صاحب حمام.. قال الذهبي: قال عبد الله بن الدورقي: كنا عند يحيى بن معين فجرى ذكر بندار، فرأيت يحيى لا يعبأ به ويستضعفه، ورأيت القواريري لا يرضاه وقال: كان صاحب حمام (2). وكذا بترجمته من (تهذيب التهذيب). ولقد بلغ حال بندار في الضعف والقدح حدا جعل الأدفوي رواية الشيخين عن بندار من وجوه الجرح في صحيحهما حيث قال (الامتاع في أحكام السماع): ووراء هذا بحث آخر وهو: إن قول الشيخ أبي عمرو بن الصلاح: إن الأمة تلقت الكتابين بالقبول، إن أراد كل الأمة فلا يخفى فساد ذلك، إذ الكتابان إنما صنفا في المائة الثالثة بعد عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وأئمة المذاهب المتبعة ورؤس حفاظ الأخبار ونقاد الآثار، المتكلمين في الطرق والرجال، المميزين بين الصحيح والسقيم. وإن أراد بالأمة الذين وجدوا بعد الكتابين فهم بعض الأمة، فلا يستقيم له دليله الذي قرره من تلقي الأمة وثبوت العصمة لهم، والظاهرية إنما يعتنون

(هامش)

(1) المغني في الضعفاء 2 / 559. (2) ميزان الاعتدال 3 / 490. (*)

ص 322

بإجماع الصحابة خاصة، والشيعة لا تعتد بالكتابين وطعنت فيهما، وقد اختلف في اعتبار قولهم في الاجماع وانعقاده. ثم إن أراد كل حديث فيهما تلقي بالقبول من الناس كافة فغير مستقيم، قد تكلم جماعة من الحفاظ في أحاديث فيهما، فتكلم الدارقطني في أحاديث وعللها، وتكلم ابن حزم في أحاديث كحديث شريك في الإسراء قال إنه خلط، ووقع في الصحيحين أحاديث متعارضة لا يمكن الجمع بينهما، والقطع لا يقع التعارض فيه. وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراج حديث محمد بن بشار بندار، وأكثر من الاحتجاج بحديثه، وتكلم فيه غير واحد من الحفاظ وأئمة الجرح والتعديل، ونسب إلى الكذب، وحلف عمرو بن علي الفلاس شيخ البخاري أن بندارا يكذب في حديثه عن يحيى، وتكلم فيه أبو موسى، وقال علي بن المديني في الحديث الذي رواه في السحور: هذا كذب. وكان يحيى لا يعبأ به ويستضعفه وكان القواريري لا يرضاه . وأما الطريق الخامس عند البخاري الذي أخرجه في كتاب المغازي أيضا فمداره على أبو قالبة و خالد الحذاء . وقد عرفت أنهما مجروحان ومقدوحان.. وأما الطريق السادس عند البخاري الذي أخرجه في كتاب أخبار الآحاد فمداره على أبو إسحاق السبيعي . وقد عرفت أنه مقدوح. وأما الطريق السابع عند البخاري الذي أخرجه في كتاب أخبار الآحاد كذلك، فمداره على أبو قلابة و خالد الحذاء . وقد عرفت أنهما مقدوحان ومجروحان. وأما طرق مسلم، فالطريق الأول منها مداره على أبي قلابة و خالد الحذاء . وقد سبق قدحهما بالتفصيل. * وفيه إسماعيل بن علية ، وهو أيضا لا يخلو عن قدح، قال الذهبي:

ص 323

سهل بن شادويه، سمعت علي بن خشرم يقول: قلت لوكيع: رأيت ابن علية يشرب النبيذ حتى يحمل على الحمار يحتاج من يرده إلى منزله. قال وكيع: إذا رأيت البصري يشرب فاتهمه. قلت: وكيف؟ قال: الكوفي يشربه تدينا والبصري يتركه تدينا. قال عفان: ثنا حماد بن سلمة: ما كنا نشبه شمائل ابن عليه إلا بشمائل يونس بن عبيد حتى دخل فيما دخل فيه. وقال مرة: حتى أحدث ما أحدث (1). وأما الطريق الثاني عند مسلم فمداره على ثابت البناني وقدح فيه بالاختلاط، قال ابن حجر: وفي سؤالات أبي جعفر محمد بن الحسين البغدادي لأحمد بن حنبل: سئل أبو عبد الله عن ثابت وحميد أيهما أثبت في أنس؟ فقال قال يحيى القطان: ثابت اختلط، وحميد أثبت في أنس منه (2). * وفيه حماد بن سلمة وهو كذلك، قال ابن حجر: حماد بن سلمة بن دينار البصري، أبو سلمة، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بآخره، من كبار الثامنة، مات سنة 67 (3) وفي (الكاشف): هو ثقة صدوق يغلط وليس في قوة مالك وفي (الموضوعات لابن الجوزي) في حديث فيه حماد بن سلمة: هذا حديث لا يثبت. قال ابن عدي الحافظ: كان ابن أبي العوجاء ربيب حماد بن سلمة وكان يدس في كتبه الأحاديث . * وفيه عمرو الناقد قال ابن حجر: وأنكر علي بن المديني عليه روايته عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود: إن ثقفيا وقرشيا وأنصاريا عند أستار الكعبة. الحديث. وقال: هذا كذب لم يرو هذا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح. قال الخطيب: والأصح أن حجاجا سأل أحمد

(هامش)

(1) ميزان الاعتدال 1 / 219. (2) تهذيب التهذيب 2 / 3. (3) تقريب التهذيب 1 / 197. (*)

ص 324

عنه فقال أحمد ذلك (1). وأما الطريق الثالث عند مسلم فإن مداره على أبي إسحاق السبيعي وقد تقدم القدح فيه بالتفصيل قريبا. * وفيه: محمد بن جعفر غندر وقد تقدم قدحه أيضا. * وفيه: محمد بن بشار بندار وقد تقدم قدحه أيضا. وأما الطريق الرابع عند مسلم فمداره على أبو إسحاق السبيعي المذكور قدحه سابقا. أقول: وإذا عرفت القدح والجرح في طرق البخاري ومسلم التي هي أحسن طرق هذا الحديث في فضل أبي عبيدة، فلا حاجة إلى الخوض في بيان بطلان أسانيد الترمذي، فإن تلك الأسانيد مشتملة على بعض هؤلاء الرجال المقدوحين، كما لا تخفى على من راجعها. حديث أمانة أبي عبيدة بلفظ آخر وقدح الحفاظ فيه ثم إن بعض رواة أهل السنة رووا حديث أمانة أبي عبيدة بلفظ وسياق آخر، لكنه قد بلغ من البطلان حدا التجأ الحافظ الذهبي، والحافظ العسقلاني، إلى الاعتراف ببطلانه. قال الذهبي: الحسين بن محمد بن عباد. بغدادي لا يعرف. روى البزار عنه عن محمد بن يزيد بن سنان، ثنا كوثر بن حكيم، عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمين هذه الأمة أبو عبيدة، وإن حبر هذه الأمة ابن عباس. وهذا باطل (2). وقال ابن حجر العسقلاني: الحسين بن محمد بن عباد بغدادي لا يعرف،

(هامش)

(1) تهذيب التهذيب 8 / 85. (2) ميزان الاعتدال 1 / 546. (*)

ص 325

روى البزار عنه.. هذا باطل. وهذا لا ذنب فيه لشيخ البزار، والحمل فيه على كوثر بن حكيم فإنه متهم بالكذب وسيأتي (1). الوجه الثالث: بطلان الحديث معنى وبالإضافة إلى بطلان حديث أمانة أبي عبيدة سندا، فإن هذا الحديث موضوع باطل معنى، لأمور نذكرها فيما يلي باختصار: 1 - خيانة أبي عبيدة في كتمان خبر عزل خالد لو كان أبو عبيدة أمينا لما كتم خبر عزل خالد بن الوليد عن أمارة جيوش المسلمين في فتح الشام، وقد ذكر المؤرخون الاثبات أن عمر قد كتب إلى أبي عبيدة بولاية الشام وأمارة جيوش للمسلمين وعزل خالد عن ذلك، فكتم أبو سمرته إلى البياض وغضب.. وقد ذكر الواقدي الخبر بالتفصيل في كتاب (فتوح الشام). اعتذار الطبري ورده وبالرغم من أنه لم يكن لأبي عبيدة في كتم الخبر عذر إلا الضعف واللين والخيانة والاستهانة بدماء المسلمين وأموالهم وأمورهم، فقد حاول رواة أهل السنة وعلماؤهم أن يعتذروا له، فذكروا لهذا الأمر أعذارا شتى، فجعل الطبري عذره

(هامش)

(1) لسان الميزان 2 / 309. (*)

ص 326

الاستحياء حيث قال: ثم ساروا إلى دمشق وخالد على مقدمة الناس وقد اجتمعت الروم إلى رجل منهم يقال له ياهان بدمشق، وقد كان عمر عزل خالد بن الوليد واستعمل أبا عبيدة على جميع الناس، فالتقى المسلمون والروم فيما حول دمشق فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم هزم الله الروم وأصاب منهم المسلمون، ودخلت الروم دمشق فغلقوا أبوابها، وجثم المسلمون عليها فرابطوها حتى فتحت دمشق وأعطوا الجزية. وقد قدم الكتاب على أبي عبيدة بأمارته وعزل خالد، فاستحيى أبو عبيدة أن يقرئ خالدا الكتاب حتى فتحت دمشق، وجرى الصلح على يدي خالد وكتب الكتاب باسمه (1). ولكن هذا العذر غير مقبول، إذ لا مجال للحياء في إنفاذ الأمور الدينية ولا سيما الإمارة ونحوها، على أن كتاب عمر إلى أبي عبيدة ينادي ببطلان هذا العذر، حيث كتب له - كما في (فتوح الشام للواقدي): بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله أمير المؤمنين وأجير المسلمين إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح - سلام عليكم، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وقد وليتك على أمور المسلمين، فلا تستحي فإن الله لا يستحي من الحق شيئا . اعتذار سبط ابن الجوزي ووجوه رده واعتذر له سبط ابن الجوزي بأنه قد كتم الحال حياء من خالد وخوفا من اضطراب الأمور، حيث قال في (مرآة الزمان): فكتب عمر إلى أبي عبيدة: سلام عليك، أما بعد فإني قد عزل خالدا عن جند الشام ووليتك أمرهم، فقم به. والسلام. فوصل الكتاب إلى أبي عبيدة، فكتم الحال حياء من خالد وخوفا من

(هامش)

(1) تاريخ الطبري 3 / 435. (*)

ص 327

اضطراب الأمور، ولم يوقفه على الكتاب حتى فتحت دمشق وكان خالد على عادته في الإمرة وأبو عبيدة يصلي خلفه . وهذا العذر غير مقبول كذلك لوجوه: (الأول): لو كان هناك خوف من اضطراب أمر المسلمين لما صدر هذا الأمر من عمر، إذ لا يشك أهل السنة في بصيرة عمر بأمور الرعية وإدارة الدولة، بل ظاهر كلماتهم تقدمه على أبي بكر في هذا الشأن. (الثاني): لو كان الخوف من اضطراب الأمور هو العذر الحقيقي لأبي عبيدة - في كتم الحال عن خالد - لما غضب عمر من ذلك، بل كان يستحسن ذلك من أبي عبيدة ويشكره عليه، وقد ذكر الواقدي أن عمر قال: يا ابن قرط: ما علم المسلمون بموت أبي بكر الصديق ولا بولايتي عليهم أبا عبيدة؟ قال: لا فغضب وجمع الناس إليه وقام على المنبر... . (الثالث): إنه لو فرض بأن غضب عمر كان على عادته في الغلظة والفظاظة، وأنه لو كان قد علم بهذا العذر من أبي عبيدة لما غضب، لكان على عبد الله بن قرط أن يخبر عمر بواقع العذر ليمنعه عن هذا الغضب، ولكنا لم نجد لذلك أثرا في التاريخ، وذلك دليل على بطلان هذا الاعتذار. (الرابع): أنه لو سلم هذا العذر باعتبار أن الظروف لم تكن مساعدة للإخبار بالعزل والمسلمون محاصرون لدمشق، فلو أخبر احتمل اضطراب أمورهم وضعف عزائمهم.. فإنه لا محال لهذا العذر في كتم الكتاب الثاني الذي أرسله عمر بعد فتح دمشق، ولكن أبا عبيدة كتم الحال عن خالد، حتى كتب خالد بفتح الشام وما جرى من الأمور باسم أبي بكر، وأرسل الكتاب على يد عبد الله بن قرط الذي حمل الكتاب الأول من عمر إلى أبي عبيدة، ومن هنا لما وجد عمر الكتاب باسم أبي بكر خاطب عبد الله بقوله: يا ابن قرط.. وغضب من ذلك غضبا شديدا.. فظهر بطلان هذا العذر أيضا كسابقة..

ص 328

فإن قيل: إن عمر وإن كتب إلى أبي عبيدة بأمارة الجيوش وعزل خالد عنها، لكنه لم يعلم أبا عبيدة سبب عزل خالد وهو ارتكابه القبائح وصدور الفسوق منه، وإلا لما توانى أبو عبيدة في إطاعة الأمر وامتثاله. قلنا: إن هذا أيضا لا يكون عذرا لأبي عبيدة كذلك. أما أولا فلأن التفريط في أوامر الخليفة والتأخير في امتثالها - ولا سيما مثل هذا الأمر - غير جائز، والجهل بسبب النصب والعزل لا يجوز ذلك. وأما ثانيا فلأن عمر قد أعلم أبا عبيدة بسبب عزل خالد كما في (الطبري) و(الكامل) و(مرآة الزمان) و(تاريخ ابن كثير) قال الطبري: وأما ابن إسحاق فإنه قال في أمر خالد وعزل عمر إياه ما: ثنا محمد بن حميد قال: ثنا سلمة عنه قال: إنما نزع عمر خالدا في كلام كان خالد تكلم به فيما يزعمون، ولم يزل عمر عليه ساخطا ولأمره كارها في زمان أبي بكر، كلمه لوقعته بابن نويرة وما كان يعمل به في حربه، فلما استخلف عمر كان أول ما تكلم به عزله، فقال: لا يلي لي عملا أبدا. فكتب إلى أبي عبيدة: إن خالد أكذب نفسه فهو أمير على ما هو عليه، وإن هو لم يكذب نفسه فأنت الأمير على ما هو عليه، ثم انزع عمامته عن رأسه وقاسمه ماله نصفين (1). ومما ذكرنا يظهر أن الواقدي لم يذكر النص الكامل للكتاب الأول الذي أرسله عمر إلى أبي عبيدة.. 2 - مخالفة أخرى لأبي عبيدة في باب كتمان عزل خالد ولأبي عبيدة في قضية عزل خالد بن الوليد مخالفة صريحة لحكم عمر بن الخطاب، توجب القدح في أمانته وديانته، وإليك تفصيل القضية من الطبري:

(هامش)

(1) تاريخ الطبري 4 / 66. (*)

ص 329

وفي هذه السنة (سنة 17) أدرب خالد بن الوليد وعياض بن غنم في رواية سيف عن شيوخه. ذكر ذلك: كتب إلي السري: عن شعيب عن سيف عن أبي عثمان وأبي حارثة والمهلب، قالوا: وأدرب سنة 17 خالد وعياض، فسار فأصابا أموالا عظيمة، وكانا توجها من الجابية، فرجع عمر إلى المدينة وعلى حمص أبو عبيدة، وخالد تحت يديه على قنسرين، وعلى دمشق يزيد بن أبي سفيان، وعلى الأردن معاوية، وعلى فلسطين علقمة بن مجزز، وعلى الاهراء عمرو بن عبسة، وعلى السواحل عبد الله بن قيس، وعلى كل عمل عامل، فقامت مسالح الشام ومصر والعراق على ذلك إلى اليوم لم تجز أمة إلى أخرى عملها، بعد إلا أن يفحموا عليهم بعد كفرهم منهم فيقدموا مسالحهم بعد ذلك، فاعتدل ذلك سنة 17. كتب إلي السري: عن شعيب، عن سيف، عن أبي المجالد وأبي عثمان والربيع وأبي حارثة قالوا: ولما قفل خالد وبلغ الناس ما أصابت تلك الصائفة انتجعه رجال، فانتجع خالدا رجال من أهل الآفاق، فكان الأشعث بن قيس ممن انتجع خالدا بقنسرين فأجازه بعشرة آلاف، وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله، وكتب معه إلى أبي عبيدة أن يقيم خالدا ويعلقه بعمامته وينزع عنه قلنسوته، حتى يعلمهم من أين إجازة الأشعث، أمن ماله؟ أمن إصابة أصابها. فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أقر بخيانة، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف. واعزله على كل حال واضمم إليك عمله. فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه، ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام البريد فقال: يا خالد أمن مالك أجزت بعشرة آلاف أم من إصابة؟ فلم يجبه، حتى أكثر عليه وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئا. فقام بلال إليه فقال: إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا. ثم تناول قلنسوته فعقله بعمامته وقال: ما تقول أمن مالك أم من إصابة؟ قال: لا، بل من مالي، فأطلقه وأعاد قلنسوته ثم عممه بيده ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا ونفخم ونخدم موالينا. قالوا: وأقام خالد متحيرا لا يدري أمعزول أم غير معزول؟ وجعل أبو

ص 330

عبيدة لا يخبره، حتى إذا طال على عمر أن يقدم ظن للذي قد كان، فكتب إليه بالاقبال، فأتى خالد أبا عبيدة فقال: رحمك الله ما أردت إلى ما صنعت! كتمتني أمرا كنت أحب أن أعلمه قبل اليوم. فقال أبو عبيدة: إني والله ما كنت لأروعك ما وجدت لذلك بدا، وقد علمت أن ذلك يروعك. قال: فرجع خالد إلى قنسرين فخطب أهل عمله وودعهم وتحمل، ثم أقبل إلى حمص فخطبهم وودعهم، ثم خرج نحو المدينة حتى قدم على عمر فشكاه وقال: لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله إنك في أمري غير مجمل يا عمر. فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان ما زاد على الستين ألفا فلك. فقوم عمر عروضه، فخرجت إليه عشرون ألفا فأدخلها بيت المال. ثم قال: يا خالد والله إنك علي لكريم وإنك إلي لحبيب، ولن تأتيني بعد اليوم على شيء (1). وقد رواه عز الدين ابن الأثير في تاريخه كذلك (2). 3 - تهاون أبي عبيدة في إجراء الحد الشرعي وهو خيانة عظيمة ومما ينافي الأمانة ويؤكد وضع الحديث الموضوع في أمانة أبي عبيدة: تهاونه في إجراء حد شرب الخمر في أبي جندل وصاحبيه، فإن التهاون تجاه الحدود الإلهية خيانة كبيرة وذنب عظيم. قال ابن عبد البر بترجمة أبي جندل: وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرت أن أبا عبيدة بالشام وجد أبا جندل بن سهيل وضرار ابن الخطاب وأبا الأزور - وهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قد

(هامش)

(1) تاريخ الطبري 4 / 66. (2) الكامل في التاريخ 2 / 535. (*)

ص 331

شربوا الخمر. فقال أبو جندل: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) الآية كلها. فكتب أبو عبيدة إلى عمر: إن أبا جندل خصمني بهذه الآية. فكتب عمر: إن الذي زين لأبي جندل الخطيئة زين الخصومة، فاحددهم. قال أبو الأزور: أتحدوننا؟ قال أبو عبيدة: نعم. قال: فدعونا نلقى العدو غدا، فإن قتلنا فذاك وإن رجعنا إليكم فحدونا. فلقى أبو جندل وضرار وأبو الأزور العدو فاستشهد أبو الأزور وحد الآخران (1). ورواه ابن حجر العسقلاني بترجمة أبي الأزور (2)، وابن الأثير بترجمة أبي جندل (3) والطبري في حوادث سنة 18 (4) والمتقي عن عروة بن الزبير (5). 4 - رأي أبي عبيدة في أهل حمص ينافي الأمانة والديانة وذكر المؤرخون: إن أبا عبيدة صالح أهل حمص على أن لا يخرجهم من ديارهم، ثم ارتأى نقض العهد معهم وإخراجهم، إلا أن أصحابه منعوه من ذلك. فقد جاء في كتاب (فتوح الشام) تحت عنوان جمع الروم للمسلمين بعد أن أخرجهم المسلمون من الشام: فلما جاء أبا عبيدة خبرهم وعددهم وكثرتهم وما أقبلوا به من غيرهم ممن كان على دينهم وطاعتهم من الجنود، رأى ألا يكتم ذلك المسلمين، وأن يستشيرهم فيه لينظر ما يؤول إليه رأي جماعتهم، فدعا رؤس المسلمين وذوي الهيئة والصلاح منهم، ثم قام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه ثم قال:

(هامش)

(1) الإستيعاب 4 / 1622. (2) الإصابة 4 / 5. (3) أسد الغابة 5 / 160. (4) تاريخ الطبري 4 / 97. (5) كنز العمال 5 / 500. (*)

ص 332

أما بعد فإن الله عز وجل وله الحمد قد أبلاكم أيها المؤمنون فأحسن البلاء عندكم، وصدقكم الوعد وأعزكم بالنصر، وأراكم في كل موطن ما تسرون به، وقد سار إليكم عدوكم من المشركين بعدد كثير، ونفروا إليكم فيما حدثني عيون نفير الروم الأعظم، فجاؤكم برا وبحرا حتى خرجوا إلى صاحبهم بأنطاكية، ثم قد وجه إليكم ثلاثة عساكر في كل عسكر منها ما لا يحصيه إلا الله من البشر، وقد أحببت ألا أغركم من أنفسكم وأن لا أطوي عنكم خبر عدوكم، ثم تشيرون علي برأيكم وأشير عليكم برأي، فإنما أنا كأحدكم. فقام يزيد بن أبي سفيان فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه ثم قال له: نعم ما رأيت رحمك الله، إذ لم تكتم عنا ما أتاك من عدونا وأنا مشير عليك، فإن كان صوابا فذاك ما نويت، وإن لم يكن الرأي غير ما أشير به فإني لا اعتمد غير ما يصلح المسلمين. أرى أن تعسكر على باب مدينة حمص بجماعة المسلمين، وتدخل النساء والأبناء والأولاد داخل المدينة ثم تجعل المدينة في ظهورنا، ثم تبعث إلى خالد بن الوليد فيقدم عليك من دمشق، وتبعث إلى عمرو ابن العاص فيقدم عليك من الأردن وأرض فلسطين، فتلقاهم بجماعة من معك من المسلمين. وقام شرحبيل بن حسنة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه ثم قال: أما بعد فإن هذا مقام لا بد فيه من النصيحة للمسلمين، وإن خالف الرجل منا أخاه فإنما على كل امرئ منا أن يجهد نفسه ورأيه للمسلمين في النصيحة، وأنا الآن فقد رأيت غير ما رأى يزيد وهو - والله - عندي من الناصحين لجماعة المسلمين، ولكن لا أجد بدا من أن أشير عليكم بما أظنه خيرا للمسلمين، إني لا أرى أن تدخل ذراري المسلمين مع أهل حمص وهم على دين عدونا هذا الذي أقبل إلينا من المشركين، ولا آمن إن وقع بيننا وبينهم من الحرب ما نتشاغل به أن ينقضوا عهدنا وأن يثبوا على ذرارينا، فيتقربون بهم إلى عدونا. فقال له أبو عبيدة: إن الله قد أذلهم لكم، وسلطانكم أحب إليهم من

ص 333

سلطان عدوكم، وأما إذ ذكرت ما ذكرت وخوفتنا ما خوفتنا، فإني أخرج أهل المدينة منها وأنزلها عيالنا، وأدخل رجالا من المسلمين فيقومون على سورها وأبوابها، ونقيم نحن بمكاننا هذا حتى يقدم علينا إخواننا. فقال له شرحبيل: إنه ليس لك ولا لنا معك أن نخرجهم من ديارهم وقد صالحناهم عليها وعلى أموالهم ألا نخرجهم منها . ومن رواة الخبر أيضا: صاحب كتاب (روضة الصفا) والمحدث الشيرازي في (روضة الأحباب). 5 - ما كان بين أبي عبيدة والروم في قصة التمثال وجوز أبو عبيدة أن يصنع تمثال منه وتفقأ عين التمثال إرضاء للكفار في مقابل أن بعض المسلمين فقأ عين تمثال ملكهم من غير عمد، فقد روى الواقدي: عن ملتمس بن عامر قال: كنا في بعض الغارات إذ نظرت إلى العمود عليه صورة الملك هرقل، فعجبنا منه، وجعلنا نحوم حوله ونحن نلعب بخيولنا ونعلمها الكر والفر، وكان بيد أبي جندلة قناة تامة، فقرب به فرسه من الصورة وهو لا يريد ذلك، وهو غير متعمد، ففقأ عين الصورة. وكان قوم من الروم من غلمان صاحب قنسرين يحفظون المدد، فرجع بعضهم إلى البطريق وحدثه بذلك، فدفع صليبا من الذهب إلى بعض أصحابه، وسلم إليه مائة فارس من أعلام الروم عليهم الديباج، وفي أوساطهم المناطق المزخرفة، وأمر اصطخر أن يصير معهم، وقال له: إرجع إلى أمير العرب وقل له: غدرتم بنا، ولم تفوا بذمتكم، ومن غدر خذل. فأخذ اصطخر الصليب وسار مع المائة، حتى أشرف على أبي عبيدة، فلما نظر المسلمون إلى الصليب وهو مرفوع، أسرعوا إليه ونكسوه، ووثب أبو عبيدة

ص 334

واستقبلهم وقال: من أنتم؟ قال اصطخر: أنا رسول إليك من صاحب قنسرين، وقد غدرتم ونقضتم. قال أبو عبيدة: وما سبب نقضنا لصلحكم؟ ومن نقض؟ قال: نقضه الذي فقأ عين ملكنا. فقال أبو عبيدة: وحق رسول الله ما علمت بذلك، وسوف أسأل عن ذلك. قال: ثم نادى أبو عبيدة في العرب: يا معاشر العرب، من فقأ عين التمثال فليخبرنا عن ذلك! قال أبو جندلة بن سهيل بن عمرو: أنا فعلت ذلك من غير تعمد. فما الذي يرضيك منا؟ قالت الأعلاج: لا نرضى حتى نفقأ عين ملككم - يريدون بذلك لينظروا إلى وفاء ذمة المسلمين - فقال أبو عبيدة: فها أنا، إصنعوا بي مثل ما صنع بصورتكم. قالوا: لا نرضى بذلك، ولا نرضى إلا بملككم الأكبر الذي يلي العرب كلها. قال أبو عبيدة: إن عين ملكنا أمنع من ذلك، قال: وغضب المسلمون إذ ذكروا عين عمر رضي الله عنه وهموا بقتلهم، فنهاهم أبو عبيدة عن ذلك. فقال المسلمون: نحن دون إمامنا، نفديه بأنفسنا، ونفقأ عيوننا دونه. فقال اصطخر عندما نظر إلى المسلمين قد هموا بقتله: لا نفقأ عينه ولا عيونكم، لكن نصور صورة أميركم على عمود، ونصنع به مثل الذي صنعتم بصورة ملكنا. فقال المسلمون: إن صاحبنا ما صنع ذلك إلا من غير تعمد، وأنتم تريدون العمد. فقال أبو عبيدة: مهلا يا قوم، فإذا رضي القوم بصورتي فأنا أجيبهم إلى ذلك، لا نغدر ولا يتحدث القوم، إنا عاهدنا ثم غدرنا، فإن هؤلاء القوم لا عقل لهم. ثم أجابهم أبو عبيدة إلى ذلك. قال: فصورت الروم مثل صورة أبي عبيدة على عمود له عينان من الزجاج، فأقبل رجل منهم حنقا وفقأ عين الصورة برمحه، ثم رجع اصطخر إلى صاحب قنسرين، فأخبره بذلك. فقال لقومه: بهذا الأمر تم لهم ما يريدون (1).

(هامش)

(1) فتوح الشام للواقدي 1 / 65. (*)

ص 335

6 - ظن عمر بأبي عبيدة الظنون وعند ما صالح أبو عبيدة أهل قنسرين ظن عمر به الظنون، وحسب أنه قد داخله جبن وركن إلى العقود عن الجهاد، فكتب إليه كتابا يتوعده فيه ويحذره المعصية.. ومن الواضح أنه لو كان أبو عبيدة أمين الأمة لما كان ذلك من عمر، ولما جاز له أن يظن به الظنون... قال الواقدي: فقام أبو عبيدة على حمص يغار يمينا وشمالا، ينتظر خروج السنة، ثم ينظر ما يفعل بعد ذلك، وأبطأ خبر أبي عبيدة على عمر رضي الله عنه، إذ لم ير له كتابا ولا فتحا، فأنكر ذلك من أمره، وظن به الظنون، وحسب أنه قد داخله جبن وركن إلى القعود عن الجهاد، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى أبي عبيدة بن الجراح: سلام عليكم، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه، وآمرك بتقوى الله وأحذرك معصيته، وأنهاك أن تكون ممن قال الله فيهم في كتابه: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم) الآية. وصلى الله على خاتم النبيين. ونفذ الكتاب إليه. فلما قرأه على المسلمين علموا أنه يحرضهم على الجهاد، ندم أبو عبيدة على ما صالح أهل قنسرين. ولم يبق أحد من المسلمين إلا بكى من كتاب عمر رضي الله عنه . 7 - اعتراف أبي عبيدة بمخالفة النبي وقلقه من لقائه وقد خالف أبو عبيدة أمر النبي صلى الله عليه وآله في التقليل من الخيل والخدم، فملأ بيته رقيقا ومربطة خيلا، حتى كان يبكي ويقول: كيف ألقى رسول الله..؟!

ص 336

قال أحمد: ثنا أبو المغيرة، ثنا صفوان بن عمرو، ثنا أبو حسبه مسلم بن أكيس مولى عبد الله بن عامر عن أبي عبيدة بن الجراح قال: ذكر من دخل عليه فوجده يبكي. فقال: ما يبكيك يا أبا عبيدة؟ فقال: يبكيني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوما ما يفتح الله على المسلمين ويفئ عليهم، حتى ذكر الشام فقال: إن ينسأ في أجلك يا أبا عبيدة فحسبك من الخدم ثلاثة: خادم يخدمك، وخادم يسافر معك، وخادم يخدم أهلك ويرد عليهم. وحسبك من الدواب ثلاثة: دابة لرجلك، ودابة لثقلك، ودابة لغلامك. ثم ها أنا ذا أنظر إلى بيتي قد امتلأ رقيقا، وأنظر إلى مربطي قد امتلأ دواب وخيلا، فكيف ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا! وقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أحبكم إلي وأقربكم مني من لقيني على مثل الحال الذي [التي. ظ] فارقني عليها (1). وأخرجه محب الدين الطبري عن أحمد (2). والملا علي المتقي عن ابن عساكر (3). حديث مفتعل في زهد أبي عبيدة ومع هذا، فقد اختلق أهل السنة حديثا في زهد أبي عبيدة، لكن آثار الاختلاق والافتعال لائحة عليه، ففي كتاب (الرياض النضرة): ذكر زهده: عن عروة بن الزبير قال: لما قدم عمر بن الخطاب الشام تلقاه أمراء الأجناد وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: من؟ قال: أبو عبيدة. قالوا: يأتيك الآن فلما أتاه نزل فاعتنقه. ثم دخل عليه بيته فلم ير في

(هامش)

(1) المسند 1 / 196. (2) الرياض النضرة 4 / 353. (3) كنز العمال 13 / 217. (*)

ص 337

بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر: ألا اتخذت ما اتخذ أصحابك! فقال: يا أمير المؤمنين: هذا يبلغني المقيل. أخرجه في الصفوة والفضائل، وزاد بعد قوله يأتيك الآن: فجاء على ناقة مخطومة بحبل. وفي رواية: إن عمر قال له: إذهب بنا إلى منزلك. قال: وما تصنع! ما تريد إلا أن ينغص عيشك علي. قال: فدخل منزله فلم ير شيئا. قال: أين متاعك فإني لا أرى إلا لبدا وصحفة وسيفا وأنت أمير!! أعندك طعام؟ فقام أبو عبيدة إلى جونة فأخذ منها كسرات. فبكى عمر. فقال له أبو عبيدة: قد قلت لك سينغص عيشك علي يا أمير المؤمنين، يكفيك ما يبلغك المقيل. فقال عمر: غرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة (1). (الوجه الرابع) لو سلمنا هذا الحديث فلا يتم للعاصمي مقصوده، لأنه إن أراد من اختصاص أبي عبيدة بالأمانة عدم اتصاف أحد غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الأمانة، فإن بطلانه في غاية الوضوح والظهور. وإن أراد من ذلك أن اتصاف أبي عبيدة بتلك الصفة أكثر وأشد من اتصاف غيره من الصحابة بها، فهذا أيضا في غاية البطلان، إذ لا يصدق عاقل من المسلمين أن يكون اتصافه أكثر من اتصاف نفس رسول الله أمير المؤمنين عليه السلام، وسائر الأصحاب الأطياب أمثال سلمان وأبي ذر والمقداد وعمار بتلك الصفة. وأيضا، فإن من البعيد التزام أهل السنة بكون أبي عبيدة أكثر أمانة من الشيخين، وإن احتملنا التزامهم بذلك بالنسبة إلى الثالث لاشتهاره بالخيانة في مال الله وحقوق المسلمين. وعلى كل حال فلا مزية لأبي عبيدة على سائر الأصحاب في صفة الأمانة، وحينئذ كيف يجوز جعله باب النبي صلى الله عليه وآله في الأمانة، وأحد أبواب مدينة العلم؟!

(هامش)

(1) الرياض النضرة 4 / 352. (*)

ص 338

(الوجه الخامس) قول العاصمي: والأمانة لا تؤدى إلا بالعلم ممنوع، فأي ملازمة بين العلم والأمانة؟ إن الأمانة منفكة عن العلم بالقطع والوجدان، وعلى هذا، فلو سلمنا كون أبي عبيدة أمينا فلا دليل على كون أدائه للأمانة بالعلم.. (الوجه السادس) إنه مع غض النظر عن جميع ما ذكرنا: إذا كان أبو عبيدة باب مدينة العلم في الأمانة، كان من المناسب وصول أخبار الأمانة وأحكامها عن مدينة العلم عن طريق أبي عبيدة، ولا أقل من وصول جلها عن طريقه، ولكن لم يؤثر عن أبي عبيدة شيء في هذا الباب بتلك المثابة، ولم يدع أحد من أهل السنة ذلك أبدا، فكيف يجوز أن يكون باب مدينة العلم في الأمانة؟ (الوجه السابع) إن مع التنزل عما سبق كله نقول: إذا كان أبو عبيدة باب مدينة العلم في الأمانة أليس كان من اللازم أن تكون آثار الأمانة وعلائمها لائحة في سيرته وأعماله، فيكون بابا للمدينة في الأمانة بحسب سيرته وأفعاله، ويكون حاكيا لأمانة رسول الله صلى الله عليه وآله في أعماله وأقواله؟! (الوجه الثامن) لو تنزلنا عن ذلك فلا أقل من نزاهة هذا الرجل وبراءته عن كل ما يتنافى والأمانة.. إن هذا أقل ما يرجى ممن يتصف بالأمانة، ويريد أن يكون بابا لمدينة العلم في هذه الصفة.. لكن التأمل في سيرة أبي عبيدة والتدبر في أخباره وأحواله يظهر لنا بعد هذا الرجل عن هذه الصفة، وعدم لياقته لتلك المنزلة.. وقد تقدمت عما قريب نماذج تغنينا في هذا المقام. وبالله التوفيق. 11 - بطلان دعوى كون أبي ذر من أبواب مدينة العلم قال العاصمي في نهاية كلامه: ثم قال لأبي ذر رضي الله عنه في غير هذا الحديث: من أراد أن ينظر إلى بعض زهد عيسى فلينظر إليه. فينبغي أن يكون

ص 339

له باب في الزهد من تلك المدينة وجعل له أيضا باب الصدق، قوله صلى الله عليه: ما حملت الأرض ولا أظلت الخضراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر، فجعل له بابين باب الصدق وباب الزهد. والزهد في الدنيا جامع للعلم كله.. . ونقول: في كلامه وجوه من النظر: 1 - عبارة العاصمي حول أبي ذر تختلف عن عبارته حول من سبقه ذكر العاصمي حول أبي ذر أنه ينبغي أن يكون له باب في الزهد من تلك المدينة وهذه العبارة تختلف عن عبارته حول الصحابة الآخرين الذين جعل لهم أبوابا على سبيل الجزم، فإن أراد من ينبغي معناه الحقيقي، فهذا لا ينافي مطلوب الشيعة ومقصودهم، لأنهم يذعنون بجلالة قدر سيدنا أبي ذر رضي الله عنه وبلوغه الذروة العليا في الزهد والورع، وإن أبا ذر عند الشيعة الإمامية ممن أتى مدينة العلم من بابها، وحصل له من الشأن والمقام الرفيع ما لم يحصل إلا لأفراد معدودين من أصحاب سيد المرسلين صلوات عليه وآله أجمعين. وإن أراد من ينبغي معناه المجازي، وقصد إثبات باب لأبي ذر كما زعم ذلك لغيره ففيه: أولا: إنه لا يجوز جعل أحد من الصحابة بابا لتلك المدينة إلا بنص صريح من النبي صلى الله عليه وآله، ولو كان ذاك الصحابي كثير الفضائل وجليل القدر. ثانيا: كون الرجل بابا لهذه المدينة شرف عظيم يستلزم العصمة كما دريت فيما سبق، وأبو ذر الغفاري رضي الله عنه على جلالته وعظمته بين الفريقين غير معصوم إجماعا. ثالثا: إن باب المدينة متحد مع المدينة، وأبو ذر وإن بلغ المقامات الرفيعة والدرجات الشامخة لم يصل إلى مقام الاتحاد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في

ص 340

النفس. رابعا: إنه لم يبلغ أبو ذر تلك الدرجات ولم يحصل تلك الفضائل إلا بولائه لأهل البيت عليهم السلام ومتابعته ومشايعته لهم، بل إن أعلى مناقبه وأفضل محامده هو انقياده لهم واقتفاؤه لآثارهم، فلا يعقل أن يكون مشاركا لهم في مقاماتهم الخاصة بهم، ومن المعلوم أن كونهم باب مدينة العلم من فضائلهم الخاصة كما شهدت بذلك الأحاديث المنقولة سابقا. خامسا: كونه باب مدينة العلم في الزهد يتوقف على تقدمه على جميع الأصحاب في هذه الصفة، لكن بلوغه في ذلك إلى مرتبة سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام غير مقبول فضلا عن كونه أزهد منه، وليس لأحد من المسلمين فضلا عن المؤمنين أن يدعي ذلك، فكيف يكون أبو ذر باب المدينة في الزهد ولا يكون علي عليه السلام بابا لها فيه؟ 2 - أحاديث شبه أبي ذر بعيسى من متفردات أهل السنة إن فضائل أبي ذر ومناقبه على كثرتها مقبولة لدى الفريقين، وكتبهم مشحونة بنقلها، ولا يجوز لأحد نفيها وإنكارها، لكن أحاديث شبه أبي ذر بعيسى بن مريم من متفردات أهل السنة، فإن الشيعة لا يروون تلك الأحاديث ولا يرون صحة مضمونها، لأن تشبيه غير المعصوم بالمعصوم عندهم غير جائز. 3 - شذوذ الحديث الذي ذكره العاصمي في زهد أبي ذر وإن هذا الحديث الذي ذكره العاصمي هنا غير موجود في كتب الحديث المشهورة والأسفار المعتبرة، فالأحاديث التي رواها أهل السنة في تشبيه زهد أبي ذر بزهد عيسى بن مريم هي:

ص 341

ما أخرجه الترمذي بإسناده عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبه عيسى بن مريم عليه السلام. فقال عمر بن الخطاب كالحاسد: يا رسول الله أفتعرف ذلك له؟ قال: نعم فاعرفوه له. هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقد روى بعضهم هذا الحديث فقال: أبو ذر يمشي في الأرض بزهد عيسى بن مريم عليه السلام (1). وما أخرجه ابن عبد البر قال: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أبو ذر في أمتي شبيه عيسى بن مريم في زهده (2). وما أخرجه ابن عبد البر أيضا: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو ذر في أمتي على زهد عيسى بن مريم (3). وما أخرجه المتقي قال: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر. من سره أن ينظر إلى زهد عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر. ابن سعد عن مالك بن دينار مرسلا. ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ثم رجل من بعدي، من سره أن ينظر إلى عيسى بن مريم زهدا وسمتا فلينظر إلى أبي ذر. ابن عساكر عن الهجنع بن قيس مرسلا (4). 4 - النظر في كلام العاصمي حول صدق لهجة أبي ذر وأما قول العاصمي: وجعل له أيضا باب الصدق.. فهو كعبارته

(هامش)

(1) صحيح الترمذي 5 / 628 (2) الإستيعاب، حرف الجيم 1 / 255. (3) المصدر، باب الكنى 4 / 1655. (4) كنز العمال 11 / 667. (*)

ص 342

السابقة حول زهد أبي ذر محتمل للوجهين المذكورين، فإن أراد بيان اتصاف أبي ذر بهذه الصفة الحميدة فلا كلام في ذلك لأحد من المسلمين، وإن كذبه عثمان ابن عفان وأتباعه. وإن أراد كونه باب مدينة العلم في الصدق فهذا باطل بنفس ما تقدم، وإن صدق اللهجة لا يستلزم كونه باب مدينة العلم. وبما ذكرنا يبطل قوله: فجعل له بابين باب الصدق وباب الزهد إن أراد الجعل الحقيقي. 5 - تصرف العاصمي في حديث: ما أظلت.. وقد رأيت تصرف العاصمي في حديث ما أظلت.. لأن اللفظ الذي ذكره يغاير لفظ الحديث المذكور في كتب الفريقين والمشهور على ألسنة المسلمين، ولم يظهر لنا وجه هذا التصرف. 6 - بطلان دعوى أن الزهد جامع للعلم كله وأما قوله: والزهد جامع للعلم كله فكلام باطل، كما هو ظاهر كل الظهور، على أنه إن كان أبو ذر جامعا للعلم كله - بسبب زهده - كان في درجة أمير المؤمنين عليه السلام في العلم، وهذا لا يلتزم به أحد، والأدلة على أعلمية أمير المؤمنين عليه السلام من جميع الأصحاب لا تحصى كثرة. بل يلزم من كلام العاصمي هذا مساواة أبي ذر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في العلم.. وهذا في غاية البطلان. هذا تمام الكلام على كلمات العاصمي في هذا المقام.

ص 343

(3) مع الطيبي في كلامه حول حديث أنا دار الحكمة وللحسين بن عبد الله بن محمد الطيبي شارح المشكاة تأويل الحديث أنا دار الحكمة نرى من الضروري أن نذكره ونكشف عواره.. قال: قوله: وعلي بابها. لعل الشيعة تتمسك بهذا التمثيل أن أخذ الحكمة والعلم مختص به رضي الله عنه لا يتجاوز إلى غيره إلا بواسطته رضي الله عنه، لأن الدار إنما يدخل فيها من بابها، وقد قال تعالى (ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وآتوا البيوت من أبوابها). ولا حجة لهم. إذ ليس دار الجنة بأوسع من دار الحكمة، ولها ثمانية أبواب (1). أقول: هذا كلامه، وهو فاسد بوجوه متكاثرة، يتضح أكثرها مما تقدم، ونشير هنا إلى بعضها: وجوه بطلان كلام الطيبي 1 - سعة الدار لا تستلزم وجود أكثر من باب إن سعة الدار لا تستلزم أبدا أن يكون لها أكثر من باب، وإنما اللازم اتساع باب الدار بما يتناسب وسعتها، ولا ريب في سعة باب دار الحكمة بما يتناسب

(هامش)

(1) الكاشف في شرح المشكاة - مخطوط. (*)

ص 344

وسعة دار الحكمة، ولقد بلغت سعة هذا الباب حدا تقصر عنه عقول الحكماء وعبارات البلغاء.. وسيأتي مزيد بيان لهذا في غضون الكتاب، وبه صرح ابن حجر المكي حيث قال: مما يدل على أن الله سبحانه اختص عليا من العلوم بما تقصر عنه العبارات قوله صلى الله عليه وسلم: أقضاكم علي. وهو حديث صحيح لا نزاع فيه، وقوله: أنا دار الحكمة - وفي رواية: مدينة العلم - وعلي بابها (1). 2 - تعدد أبواب الجنة بحسب أفعال أهل الجنة لا بحسب سعتها وتدل الأخبار الكثيرة الواردة في كتب أهل السنة على أن تعدد أبواب الجنة وتعيينها هو بحسب أفعال الخير الصادرة من أهل الجنة في دار الدنيا، وليس ذلك بحسب سعة الجنة حتى يقال بأن دار الجنة ليست بأوسع من دار الحكمة، ولها ثمانية أبواب، فيلزم أن يكون لدار الحكمة ثمانية أبواب كذلك أو أكثر.. ولا بأس بذكر نصوص من هذه الأخبار: قال السيوطي: باب عدد أبواب الجنة وأسمائها: قال الله تعالى (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها). أخرج الشيخان عن سهد بن سعد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في الجنة ثمانية أبواب، منها: باب الريان، لا يدخله إلا الصائمون، وفي لفظ: إن في الجنة بابا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد. وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة نحوه. وأخرج الشيخان عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(هامش)

(1) المنح المكية: 120. (*)

ص 345

من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله دعي من أبواب الجنة، وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد.. (1). وقال السيوطي بتفسير (حتى إذ جاؤها وفتحت أبوابها): أخرج البخاري ومسلم والطبراني عن سهل بن سعد رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في الجنة ثمانية أبواب، منها: باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون. وأخرج مالك وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله دعي من أبواب الجنة، وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد.. (2). وفيه: وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: للجنة ثمانية أبواب: باب للمصلين، وباب للصائمين، وباب للحاجين، وباب للمعتمرين، وباب للمجاهدين، وباب للذاكرين، وباب للشاكرين. وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل عمل أهل من أبواب الجنة، يدعون منه بذلك العمل (3). وقال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم من باب كذا ومن باب كذا، فذكر الصلاة والصدقة والصيام والجهاد. قال القاضي: وقد جاء ذكر بقية أبواب

(هامش)

(1) البدور السافرة عن أمور الآخرة: 34. (2) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 5 / 342. (3) الدر المنثور 5 / 343. (*)

ص 346

الجنة الثمانية في حديث آخر في باب التوبة، وباب الكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، وباب الراضين. فهذه سبعة أبواب جاءت في الأحاديث. وجاء في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم يدخلون من الباب الأيمن، فلعله الباب الثامن (1). وقال القسطلاني: وفي نوادر الأصول: من أبواب الجنة باب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو باب الرحمة، وهو باب التوبة. وسائر الأبواب مقسومة على أعمال البر: باب الزكاة، باب الحج، باب العمرة. وعند عياض: باب الكاظمين الغيظ، باب الراضين، الباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه. وعند الآجري عن أبي هريرة مرفوعا: إن في الجنة بابا يقال له الضحى، فإذا كان يوم القيامة ينادي مناد: أين الذين كانوا يديمون صلاة الضحى، هذا بابكم فادخلوا منه. وفي الفردوس عن ابن عباس يرفعه: للجنة باب يقال له الفرح، لا يدخل منه إلا مفرح الصبيان وعند الترمذي: باب للذكر. وعند ابن بطال: باب للصابرين. والحاصل: إن كل من أكثر نوعا من العبادة خص بباب يناسبها، ينادى منه جزاء وقدرا. وقل من يجتمع له عمل بجميع أنواع التطوعات، ثم إن من يجتمع له ذلك إنما يدعى من جميع الأبواب على سبيل التكريم، وإلا فالدخول إنما يكون من باب واحد، وهو باب العمل الذي يكون أغلب عليه (2). 3 - تمثيل النبي نفسه ب‍ دار الجنة على أن النبي صلى الله عليه وآله قد ورد عنه تمثيل نفسه الشريفة ب‍

(هامش)

(1) المنهاج في شرح صحيح مسلم 7 / 117. (2) إرشاد الساري إلى صحيح البخاري 3 / 349. (*)

ص 347

دار الجنة ، كما ورد التمثيل ب‍ دار الحكمة ، ولا ريب في أنه كان يعلم بأن للجنة ثمانية أبواب، وأن نفسه الشريفة أوسع من دار الجنة، وهو مع ذلك جعل أمير المؤمنين عليه السلام بمفرده باب دار الجنة. فظهر بطلان كلام الطيبي، ولعله لم يقف على الحديث المذكور. 4 - لو كان لدار الحكمة أبواب فهم الأئمة المعصومون ولو كان لدار الحكمة أبواب عديدة فليس تلك الأبواب إلا الأئمة المعصومون عليهم السلام، لأنهم أبواب العلم، وأنهم الموصوفون ب‍ الباب المبتلى به من أتاهم نجى ومن أباهم هوى وأنهم الذين قال فيهم: مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة من دخله غفر له .. ولم يرد في حق غيرهم شيء من هذا القبيل، بل إن غيرهم لا يليق لهذا المقام، للمفضولية وعدم العصمة وغيرهما من الموانع. 5 - ظاهر الحديث وحدة الباب ثم إن ظاهر حديث أنا دار الحكمة وعلي بابها وحدة الباب، فلو تصور تعدد الباب بوجه من الوجوه، وجب أن يكون لتلك الأبواب نوع من الوحدة والاتحاد، لكن هذه الوحدة لا تتحقق بالنسبة إلى الأصحاب، لكثرة التفرق والاختلاف فيما بينهم، بخلاف الأئمة المعصومين، فإنهم بحكم الباب الواحد وحقيقتهم واحدة ومن هنا ترى وصف جميعهم بالباب في قوله: فهم الباب المبتلى به.. كما صح التعبير عنهم بالأبواب كما في قوله: وهم أبواب العلم في أمتي من تبعهم نجا من النار ومن اقتدى بهم هدي إلى صراط مستقيم . وقد ذكرنا سابقا الخطبة المشتملة على جملة: فهم الباب.. عن كتاب (منقبة المطهرين لأبي نعيم)، ولنورد هنا نص رواية أبي الفتح النطنزي لتلك

ص 348

الخطبة، فإنه قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن أبي نصر شجاع بن أبي بكر الحافظ قراءة عليه وأنا أسمع، قال: أخبرنا أبو الخير محمد بن أحمد بن هارون، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد ابن موسى الحافظ، قال: حدثنا أبو أحمد بن يوسف الجرجاني، قال: حدثنا محمد ابن إبراهيم البزاز، قال: حدثنا محمد بن حميد. قال: حدثنا هارون بن عيسى، قال حدثنا زاهر بن الحكم، قال: حدثنا أبو حكيم الحناط، عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر عن أبيه عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ومعه علي والحسن والحسين، فخطب ثم قال: أيها الناس إن هؤلاء أهل بيت نبيكم، قد شرفهم الله بكرامته، واستحفظهم سره، واستودعهم علمه، عماد الدين، شهداء على أمته، برأهم قبل خلقه، إذ هم أظلة تحت عرشه، نجباء في علمه، اختارهم فارتضاهم واصطفاهم، فجعلهم علماء فقهاء لعباده، فهم الأئمة المهدية، والقادة الباعثة، والأمة الوسطى، والرحمة الموصولة، هم الكهف الحصين للمؤمنين، ونور أبصار المهتدين، وعصمة لمن لجأ إليهم، ونجاة لمن احترز بهم، يغتبط من والاهم، ويهلك من عاداهم، ويفوز من تمسك بهم، الراغب عنهم مارق، والمقصر عنهم زاهق، واللازم بهم لاحق، فهم الباب المبتلى به، من أتاهم نجا، ومن أباهم هوى، هم حطة لمن دخله، وحجة الله على من جهله، إلى الله يدعون، وبأمر الله يعملون، وبآياته يرشدون، فيهم نزلت الرسالة، وعليهم هبطت ملائكة الرحمة، وإليهم بعث الروح الأمين تفضلا من الله ورحمة، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، وعندهم - بحمد الله - ما يلتمس ويحتاج من العلم والهدى في الدين، وهم النور في الضلالة عند دخول الظلمة، وهم الفروع الطيبة من الشجرة المباركة، وهم معدن العلم، وأهل بيت الرحمة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (1).

(هامش)

(1) الخصائص العلوية - مخطوط. (*)

ص 349

ومن هنا أيضا جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا بوحده باب حطة، كما جعل أهل بيته باب حطة في حديث آخر.. وقد مرت طرق هذا الحديث بالتفصيل، كما أن عليا عليه السلام قال: مثلنا ليشير إلى الاتحاد المذكور بينه وبين سائر أهل البيت، فقد روى السيوطي قائلا: أخرج ابن أبي شيبة عن علي ابن أبي طالب قال: إنما مثلنا في هذه الأمة كسفينة نوح وكباب حطة في بني إسرائيل (1). فسواء كان لدار الحكمة باب واحد أو أبواب، فإن الأمر لا يخرج عن علي وأهل البيت إلى غيرهم، فبطل ما توخاه الطيبي. والحمد لله. 6 - الأئمة الاثنا عشر أبواب النبي ومن آيات علو الحق: اعتراف بعض علماء أهل السنة بأن الأئمة الاثني عشر هم أبواب النبي صلى الله عليه وآله، بل ذكر هذا المطلب عن رسالة يوحنا المسيحي، ضمن البراهين التي أقامها لإثبات نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وجعله مصداقا لقوله صلى الله عليه وآله: أنا مدينة العلم وعلي بابها: قال العلامة جواد الساباطي في المقالة الثالثة من التبصرة الثالثة من كتابه (البراهين الساباطية) بعد إيراد البرهان الخامس عن رسالة يوحنا: وترجمته بالعربية: فأخذتني الروح إلى جبل عظيم شامخ، وأرتني المدينة العظيمة أورشليم المقدسة نازلة من السماء من عند الله، وفيها مجد الله، وضؤها كالحجر الكريم كحجر اليشم والبلور، وكان لها سور عظيم عال، واثنا عشر بابا، وعلى الأبواب اثنا عشر ملكا، وكان قد كتب عليها أسماء أسباط إسرائيل الاثني عشر.

(هامش)

(1) الدر المنثور 1 / 71. (*)

ص 350

أقول: لا تأويل لهذا النص، بحيث أن يدل على غير مكة شرفها الله تعالى، والمراد بمجد الله بعثته محمدا صلى الله عليه وسلم فيها، والضوء عبارة عن الحجر الأسود، وتشبيهه باليشم والبلور إشارة إلى صحيح الروايات التي وردت في أنه لما نزل كان أبيض، والمراد بالسور هو رب الجنود صلى الله عليه وسلم. والأبواب الاثني عشر: أولاده الأحد عشر وابن عمه علي، وهم: علي، والحسن، والحسين، وعلي، ومحمد، وجعفر، وموسى، وعلي، ومحمد، وعلي، والحسن، والقائم المهدي محمد رضي الله عنهم. وقوله: وعلى الأبواب الاثني عشر اثنا عشر ملكا. يدل على عظم مرتبته، وعلى عموم نبوته، وقيام دعوته، وعلى انقياد جميع الأسباط له، والأسباط الاثنا عشر عبارة عن أولاد يعقوب عليه السلام، وهم: روبين، وشمعون، ولاوي، ويهودا، واسخر، وزابلون، وبن يامين، ودان، ونفتالي، وياد، وعاشر، ويوسف، عليه السلام. وهذا مصداق لقوله: لولاك لما خلقت الأفلاك . وفي (البراهين الساباطية) أيضا بعد إيراد البرهان السادس عن الرسالة المذكورة: وترجمته بالعربية: ولسور المدينة اثنا عشر أساسا، وعليها أسماء رسل الحمل الاثني عشر. أقول: هذا تأكيد صريح لما قبله، والاثنا عشر الأساس هم: الأئمة الاثنا عشر، ورسل الحمل الاثنا عشر الحواريون الاثنا عشر رضي الله عنهم، وهم: سمعون، بطرس، واندرياس، ويعقوب، ويوحنا، وفيلبوس، وبرتولوماؤس، وتوما، ومتى، ويعقوب، ولباؤس، وسمعون القالي، وبولوص (1) على رأيي أنا، لأن يهودا الأسخريوطي كان قد خنق نفسه وهلك، وأقيم بولوص مقامه. وفيه إشارة إلى انقياد جميع المذاهب العيسوية لشريعة خير البرية . وفي (البراهين الساباطية) أيضا بعد إيراد البرهان السابع عن الرسالة

(هامش)

(1) جاء في هامش عبقات الأنوار: فيه ما فيه، كما لا يخفى على النبيه. (*)

ص 351

المذكورة: وترجمته بالعربية: والأبواب الاثنا عشر اثنا عشر لؤلؤة، كل واحد من الأبواب كان من لؤلؤة واحدة، وساحة المدينة من الذهب الابريز كالزجاج الشفاف. أقول: هذا بيان لما قبله، وصفة الأبواب، وكون كل باب من لؤلؤة واحدة. يه إشارة إلى ما يدعيه الإماميون من عصمة أئمتهم، لأن اللؤلؤة كروية، ولا شك أن الشكل الكروي لا يمكن انثلابه، لأنه لا يباشر الأجسام إلا على ملتقى نقطة واحدة كما صرح به أوقليدس، والأصل في عصمة الإمام، أما عند أهل السنة والجماعة فإن العصمة ليست بشرط، بل العمدة فيه انعقاد الاجماع، وأما عند الإمامية فهي واجبة فيه لأنه لطف، ولأن النفوس الزكية الفاضلة تأبى عن اتباع النفوس الدنية المفضولة، وعدم العصمة علة عدم الفضيلة. ولهما فيها بحث طويل لا يناسب هذا المقام. وقوله: وساحة المدينة من الذهب الابريز كالزجاج الشفاف. يريد بذلك أهل ملته صلى الله عليه وسلم، لأنهم لا ينحرفون عن اعتقادهم، ولا ينصرفون عن مذهبهم في حالة العسرة. وأما الذين أغواهم قسوس الانكتاريين فمن الجهال الذين لا معرفة لهم بأصول دينهم. وهذا هو مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: أنا مدينة العلم وعلي بابها .

 

الصفحة السابقة

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الحادي عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب