نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الثاني عشر

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الثاني عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص 5

 (4) مع ابن تيمية الحراني في كلامه حول حديث أنا مدينة العلم

 ومن المواضع التي يتبين فيها بوضوح نصب ابن تيمية وعناده للحق وأهله هو: مبحث حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فقد بالغ في هذا المقام في الكذب والافتراء، في سبيل رد هذا الحديث الشريف وتكذيبه، ونحن نذكر أولا عبارته، ثم نتكلم حولها، فهذا نص عبارته: وحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها أضعف وأوهى، ولهذا إنما يعد في الموضوعات، وإن رواه الترمذي، وذكره ابن الجوزي وبين أن سائر طرقه موضوعة. والكذب يعرف من نفس متنه، فإن النبي صلى الله عليه وآله إذا كان مدينة العلم، ولم يكن لها إلا باب واحد، ولم يبلغ عنه العلم إلا واحد فسد أمر الإسلام، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم إلا واحدا، بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر، الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب، وخبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن، وتلك قد تكون منتفية أو خفية

ص 6

عن أكثر الناس، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة. وإذا قالوا: ذلك الواحد معصوم يحصل العلم بخبره. قيل لهم: فلا بد من العلم بعصمة أولا، وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن تعلم عصمته فإنه دور، ولا تثبت بالإجماع فإنه لا إجماع فيها، وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة لأنه فيهم الإمام المعصوم، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه، فعلم أن عصمته لو كانت حقا لا بد أن تعلم بطريق آخر غير خبره، فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين. فعلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنه مدحا، وهو يطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام، إذ لم يبلغه إلا واحد. ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر، فإن جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير علي: أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما [فيهم] ظاهر، وكذلك الشام والبصرة، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن علي إلا شيئا قليلا، وإنما كان غالب علمه في الكوفة، ومع هذا فأهل الكوفة كانوا تعلموا القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان فضلا عن علي. وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر، وتعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من علي، ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ بن جبل أكثر مما رووا عن علي، وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ ابن جبل، ولما قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضيا، وهو وعبيدة السلماني تفقها على غيره، فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي الكوفة (1).

 1 - بطلان دعوى ضعف الحديث

 نقول: دعوى أن حديث مدينة العلم أضعف وأوهى، ولهذا إنما يعد في

(هامش)

(1) منهاج السنة 4 / 138. (*)

ص 7

الموضوعات، إفك فضيح، لما عرفت سابقا من صحة هذا الحديث واستفاضته وشهرته، بل وتواتره، حتى تجلى ذلك كالشمس المنجلي عنها الغمام على رغم آناف المنكرين الطغام، فمن العجيب تعامي ابن تيمية عن جميع تلك النصوص والتصريحات من كبار المحققين، ومشاهير نقدة الأخبار والحديث المعتمدين!! ثناء ابن تيمية على ابن معين وأحمد أليس فيمن صحح حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها يحيى بن معين هذا الرجل الذي أذعن ابن تيمية نفسه - فيمن أذعن - بجلالة قدره وسمو منزلته في علم الحديث ونقده؟ بل لقد عده ابن تيمية فيمن يرجع إليه في التمييز بين الصدق والكذب حيث قال: المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب، والمرجع في التمييز بين هذا وهذا إلى أهل العلم بالحديث، كما يرجع إلى النحاة في الفرق بين لحن العرب ونحو العرب، ويرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة، وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك، فلكل علم رجال يعرفون به. والعلماء بالحديث أجل هؤلاء، وأعظم قدرا، وأعظمهم صدقا، وأعلاهم منزلة، وأكثرهم دينا، فإنهم من أعظم الناس صدقا ودينا وأمانة وعلما وخبرة بما يذكرونه من الجرح والتعديل، مثل: مالك، وشعبة، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، ويحيى ابن معين، وعلي بن المديني، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي، والعجلي، وأبي أحمد ابن عدي، وأبي حاتم البستي، وأبي الحسن الدارقطني. وأمثال هؤلاء خلق كثير لا يحصى عددهم، من أهل العلم بالرجال والجرح والتعديل، وإن كان بعضهم أعلم من بعض، وبعضهم أعدل من بعض في وزن

ص 8

كلامه، كما أن الناس في سائر العلوم كذلك (1). فإذا كان يحيى بن معين في هذه المرتبة من الجلالة والعظمة عند ابن تيمية، فلماذا لا ينظر ابن تيمية إلى تنصيص يحيى بن معين على صحة حديث مدينة العلم بعين الاعتبار؟ ولماذا يقول ما لا يفعل؟ والله تعالى يقول: (لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون). وذكر ابن تيمية يحيى بن معين في موضع آخر من كتابه في جماعة من أئمة أهل السنة، وصفهم ب‍ أئمة الحديث ونقاده وحكامه وحفاظه، الذين لهم خبرة ومعرفة تامة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأحوال من نقل العلم والحديث عن النبي من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومن بعد هؤلاء من نقلة العلم وإليك نص عبارته كاملة لما فيها من الفوائد في هذا المقام: فإن قيل: فهذا الحديث قد ذكره طائفة من المفسرين والمصنفين في الفضائل، كالثعلبي والبغوي وأمثالهما، والمغازلي وأمثاله. قيل له: مجرد رواية هؤلاء لا توجب ثبوت الحديث باتفاق أهل العلم بالحديث، فإن في كتب هؤلاء من الأكاذيب الموضوعة ما اتفق أهل العلم على أنه كذب، والثعلبي وأمثاله لا يتعمدون الكذب، بل فيهم من الصلاح والدين ما منعهم من ذلك، لكن ينقلون ما وجدوه في الكتب، ويدونون ما سمعوه، وليس لأحدهم من الخبرة بالأسانيد ما لأئمة الحديث، كشعبة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن يحيى الذهلي، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين، وأبي عبد الله بن مندة، والدارقطني، وعبد الغني بن سعيد، وأمثال هؤلاء من أئمة الحديث ونقاده... وقد صنفوا الكتب الكثيرة في معرفة الرجال الذين نقلوا الآثار وأسمائهم،

(هامش)

(1) منهاج السنة 4 / 10. (*)

ص 9

وذكروا أخبارهم وأخبار من أخذوا عنه، ومن أخذ عنهم، مثل: كتاب العلل وأسماء الرجال عن يحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والبخاري، ومسلم، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي، والترمذي، وأبي أحمد ابن عدي، وأبي حاتم ابن حبان، وأبي الفتح الأزدي، والدارقطني، وغيرهم (1). فلماذا يعد حديث مدينة العلم في الموضوعات مع تصحيح يحيى بن معين إياه، وهو كالبخاري ومسلم ومشايخهما وأضرابهما من نقدة الحديث وحفاظه، والمرجع إليهم في تمييز صدقه من كذبه؟ وفي موضع ثالث يزيد في المبالغة والاغراق في مدح يحيى بن معين فيقول في كلام له: ومن أراد أن يعرف فضائلهم ومنازلهم عند النبي صلى الله عليه وسلم، فليتدبر الأحاديث الصحيحة التي صححها أهل العلم بالحديث، الذين كملت خبرتهم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ومحبتهم له وصدقهم في التبليغ عنه، وصار هواهم تبعا لما جاء به، فليس لهم غرض إلا معرفة ما قاله، وتمييزه عما يخلط بذلك من كذب الكاذبين وغلط الغالطين، كأصحاب الحديث مثل: البخاري، ومسلم، والإسماعيلي، والبرقاني، وأبي نعيم، والدارقطني، ثم مثل صحيح (2) ابن خزيمة، وابن مندة، وأبي حاتم البستي، ثم الحاكم، وما صححه أئمة أهل الحديث الذين هم أجل من هؤلاء، أو مثلهم من المتقدمين والمتأخرين، مثل: مالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين، وخلائق لا يحصى عددهم إلا الله.

(هامش)

(1) منهاج السنة 4 / 84. (2) لفظة الصحيح لا تناسب المقام، فلعلها من هفوات القلم. (*)

ص 10

فإذا تدبر العاقل للأحاديث الصحيحة الثابتة عند هؤلاء وأمثالهم، عرف الصدق من الكذب، فإن هؤلاء من أكمل الناس معرفة بذلك، وأشدهم رغبة في التمييز بين الصدق والكذب، وأعظمهم ذبا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم المهاجرون إلى سنته وحديثه والأنصار له في الدين، يقصدون ضبط ما قاله وتبليغه للناس، وينفون عنه ما كذبه الكاذبون، وغلط فيه الغالطون، ومن شركهم في عملهم علم ما قالوه، وعلم بعض قدرهم، وإلا فليسلم القوس إلى باريها، كما يسلم إلى الأطباء طبهم، وإلى النحاة نحوهم، وإلى الفقهاء فقههم، وإلى الحساب حسابهم، وإلى أهل العلم بالأوقات علمهم (1). فهذا الكلام صريح في أن يحيى بن معين ممن كملت خبرته، وكبرت معرفته، بحال النبي صلى الله عليه وآله وحديثه، وأن ما صححه صدق، وأنه لا بد من تسليم أمر التمييز بين الصدق والكذب إليه... فلماذا يقف هذا الموقف تجاه حديث مدينة العلم الذي ثبت تصحيح يحيى ابن معين إياه؟ وهل هذا إلا تهافت؟ وأيضا، فإن من رواة حديث مدينة العلم هو أحمد بن حنبل ، وقد عرفت من كلمات ابن تيمية ثنائه على أحمد أيضا، إذ قد ذكره في عداد أئمة الحديث ونقدته وحفاظه... لقد روى أحمد بن حنبل حديث مدينة العلم في فضائل ومناقب سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام بطرق متعددة، أفهل يعقل أن يروي أحمد حديثا موضوعا بطرق عديدة، ويعده من فضائل علي عليه السلام، وهو ومصنفاته على تلك الجلالة والعظمة التي وصفه بها ابن تيمية؟ ولو كان حديث أنا مدينة العلم من الموضوعات لجعل ابن تيمية مصنفات

(هامش)

(1) منهاج السنة 4 / 252. (*)

ص 11

أحمد كمصنفات الثعلبي والبغوي وأمثالهما الموصوفة عنده بالاشتمال على الصدق والكذب، لكنه جعل مصنفات أحمد وأمثاله في مقابل مصنفات أولئك... كما رأيت في عبارته السابقة، فإن هذا يدل على أن أحمد ما كان يدون في كتبه كل ما سمعه، فضلا عن تعمد الكذب ونقل الأحاديث الموضوعة. فثبت بطلان زعم ابن تيمية بكلام نفسه حول أحمد بن حنبل ومصنفاته. بل لقد نص ابن تيمية على أن أحمد بن حنبل كان من العلماء الذين لا يروون عن شخص ليس بثقة عندهم، ولا يروون حديث يعلمون أنه عن كذاب، وهذا نص كلامه حيث قال: والناس في مصنفاتهم منهم من لا يروي عمن يعلم أنه يكذب مثل: مالك، وشعبة، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل. فإن هؤلاء لا يروون عن شخص ليس بثقة عندهم، ولا يروون حديثا يعلمون أنه عن كذاب، ولا يروون أحاديث الكذابين الذين يعرفون بتعمد الكذب . (1) فإذا كان هذا حال أحمد بن حنبل في اعتقاد ابن تيمية، وقد عرفت أن أحمد يروي حديث مدينة العلم بطرق عديدة، فإن هذا الحديث ليس بموضوع، وليس رواته غير ثقاة، وإلا لما رواه أحمد. فظهر خزي ابن تيمية حسب ما اعترف به في حق أحمد بن حنبل، والحمد لله رب العالمين. اعتراف ابن تيمية برواية الترمذي واعترف ابن تيمية في كلامه في رد حديث مدينة العلم برواية الترمذي إياه، والترمذي من أرباب الصحاح الستة عند أهل السنة، وقد وصفوا جامعه الصحيح بأعلى أوصاف المدح، وبعجائب المآثر العالية، وبجلوه غاية التبجيل، حتى لو أن

(هامش)

(1) منهاج السنة 4 / 15. (*)

ص 12

أحدا حلف على صحة أحاديثه بالطلاق لم يحنث، بل زعموا اتفاق أهل الشرق والغرب على صحة أحاديث الكتب الستة ومنها كتاب الترمذي... وقد ذكرنا ذلك مفصلا في مجلد حديث الطير. فحديث مدينة العلم - المخرج عند الترمذي باعتراف ابن تيمية - لا يحنث من حلف على صحته بالطلاق، ويكون من الأحاديث المجمع على صحتها بين أهل الشرق والغرب، فمن طعن فيه فهو خارج عن دائرة الإجماع كما قرروا، وتكون عاقبته النار وبئس المصير. ثناء ابن تيمية على الترمذي واعتماده عليه هذا كله من جهة، ومن جهة أخرى فإن من يلاحظ كلمات ابن تيمية نفسه في حق الترمذي، واعتماده على رواياته في مواضع عديدة من بحوثه، يتضح له شناعة رده لحديث مدينة العلم مع اعترافه برواية الترمذي له، فمن ذلك: عده الترمذي في نقده الحديث وحكامه وحفاظه... وأنه ليس كالثعلبي وأمثاله، الذين يروون الأحاديث الموضوعة، ويدونون كل ما سمعوه في كتبهم... وقد تقدم نص كلامه في ذلك قريبا. وإذا كان هذا شأن الترمذي فإن العاقل لا يجوز الطعن في حديث مدينة العلم - الذي اعترف ابن تيمية رواية الترمذي له -، إذ لو صح الطعن فيه لزم اشتمال كتاب الترمذي على الموضوعات كذلك، فلا يبقى فرق بينه وبين الثعلبي وغيره، وهذا مما لا يرتضيه ابن تيمية، فلا مناص لابن تيمية من التسليم بصحة حديث مدينة العلم شاء أو أبى. ومن ذلك قوله: قال الرافضي: الثاني ما رووه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر. والجواب: المنع من الرواية، ومن دلالته على الإمامة، فإن الاقتداء بالفقهاء لا يستلزم كونهم أئمة. وأيضا: فإن أبا بكر

ص 13

وعمر قد اختلفا في كثير من الأحكام، فلا يمكن الاقتداء بهما. وأيضا: فإنه معارض بما رووه من قوله: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، مع إجماعهم على انتفاء إمامتهم. والجواب من وجوه أحدها: أن يقال: هذا الحديث أقوى من النص الذي يروونه في إمامة علي، فإن هذا معروف في كتب أهل الحديث المعتمدة، رواه أبو داود في سننه، والإمام أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه. وأما النص على علي فليس في شيء من كتب أهل الحديث (1). فكتاب الجامع الصحيح للترمذي من كتب أهل الحديث المعتمدة عند ابن تيمية، ومن هنا يحتج به في مقابلة الشيعة، ويجعل ما أخرج فيه أقوى من النص على أمير المؤمنين عليه السلام، والعياذ بالله. وهل يجوز أن يكون هذا الكتاب معتمدا في مورد حديث الاقتداء المزعوم - بالرغم من ثبوت وضعه بوجوه عديدة، وقد طعن الترمذي في بعض طرقه - ولا يكون معتمدا في مورد حديث مدينة العلم؟ لكن ابن تيمية باحتجاجه بكتاب الترمذي قد أفحم نفسه في مورد حديث مدينة العلم الذي اعترف برواية الترمذي له، وأوضح للملأ أن طعنه في هذا الحديث ليس إلا للعناد والتعصب، نستجير بالله. ومن ذلك قوله: ومع هذا، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حق عمر من العلم والدين والإلهام بما لم يخبر بمثله، لا في حق عثمان ولا علي لا طلحة ولا الزبير، ففي الترمذي عن ابن عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه. قال: وقال ابن عمر: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر. وفي سنن أبي داود عن

(هامش)

(1) منهاج السنة 4 / 238. (*)

ص 14

أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به. وفي الترمذي عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب (1). فأي إنصاف هذا؟! يجعل حديث الترمذي حجة على الشيعة، ومستندا في إثبات فضيلة لعمر بن الخطاب يدعي أنها لم تكن لغيره، ويسقط عن الاعتبار والاعتماد في باب فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، وحديث مدينة العلم الصحيح الثابت؟! غلو ابن تيمية في ابن جرير الطبري ومن رواة حديث مدينة العلم ومصححيه هو: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، إذ أخرج هذا الحديث في كتابه (تهذيب الآثار) وأثبته وحكم بصحته، كما عرفت سابقا من عبارة (جمع الجوامع) لجلال الدين السيوطي. وقد ذكر ابن تيمية ابن جرير الطبري بما لا يجوز لنا الاذعان به، بل لا يجوز نقله والتفوه به، ولكن ضرورة البحث تلجأ إلى إيراد نص عبارته هنا، حتى يتضح مدى فظاعة رده للحديث الذي رواه الطبري... لقد قال ابن تيمية ما نصه: وأما قوله: ولم يلتفتوا إلى القول بالرأي والاجتهاد، وحرموا الأخذ بالقياس والاستحسان، فالكلام على هذا من وجوه: أحدها: إن الشيعة في هذا مثل غيرهم، ففي أهل السنة النزاع في الرأي والاجتهاد والقياس والاستحسان، كما في الشيعة النزاع في ذلك، فالزيدية تقول بذلك وتروي فيه الروايات عن الأئمة. الثاني: إن كثيرا من أهل السنة العامة والخاصة لا تقول بالقياس، فليس كل من قال بإمامة الخلفاء الثلاثة قال بالقياس، بل المعتزلة البغداديون لا يقولون

(هامش)

(1) منهاج السنة 4 / 161. (*)

ص 15

بالقياس، وحينئذ، فإن كان القياس باطلا أمكن الدخول في أهل السنة وترك القياس، وإن كان حقا أمكن الدخول في أهل السنة والأخذ بالقياس. الثالث: أن يقال: القول بالرأي والاجتهاد والقياس والاستحسان، خير من الأخذ بما ينقله من يعرف بكثرة الكذب عمن يصيب ويخطي، نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم. ولا يشك عاقل أن رجوع مثل مالك، وابن أبي ذئب، وابن الماجشون، والليث بن سعد، والأوزاعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وشريك، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وزفر، وحسن بن زياد اللؤلؤي، والشافعي، والبويطي، والمزني، وأحمد بن حنبل، وأبي داود السجستاني، والأثرم، وإبراهيم الحربي، والبخاري، وعثمان بن سعيد الدارمي، وأبي بكر بن خزيمة، ومحمد بن جرير الطبري، محمد بن نصر المروزي، وغير هؤلاء إلى اجتهادهم واعتبارهم، مثل أن يعلموا سنة النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه ويجتهدوا في تحقيق مناط الأحكام، وتنقيحها وتخريجها، خير لهم من أن يتمسكوا بنقل الروافض عن العسكريين وأمثالهما!! فإن الواحد من هؤلاء أعلم بدين الله ورسوله من العسكرين أنفسهما!! فلو أفتاه أحدهما بفتيا كان رجوعه إلى إجتهاده أولى من رجوعه إلى فتيا أحدهما، بل هو الواجب عليه!! فكيف إذا كان ذلك نقلا عنهما من مثل الرافضة. والواجب على مثل العسكريين وأمثالهما أن يتعلموا من الواحد من هؤلاء!! (1). إن صريح هذا الكلام أعلمية محمد بن جرير الطبري من الإمامين المعصومين العسكرين، وهما الإمام علي بن محمد الهادي، والإمام حسن بن علي

(هامش)

(1) منهاج السنة 4 / 231. (*)

ص 16

عليهما الصلاة والسلام، وأنه يجب عليهما أن يتعلما منه ومن أمثاله، نعوذ بالله من الضلالة والكفر. فهذا صريح كلامه في الطبري، وهو في نفس الوقت لا ينظر إلى تصحيحه لحديث مدينة العلم بنظر الاعتبار، بل يتجاسر فيعده في الأحاديث الموضوعة، وما هذا إلا من شدة العناد وكثرة التعصب... فالله حسيبه وحسيب أمثاله، وهو المنتصر من أعدائه بمخزيات عقابه ونكاله. ثناء ابن تيمية على الحاكم وممن أخرج حديث مدينة العلم وصححه هو الحاكم النيسابوري، لكن ابن تيمية لا يعتني برواية الحاكم وتصحيحه ومساعيه الجميلة في سبيل إثبات هذا الحديث وتحقيقه على شرط البخاري ومسلم، بالرغم من علو مرتبته في علوم الحديث عند أهل السنة قاطبة، وأن ابن تيمية ذكره في أهل العلم بالحديث، الذين كانوا أكمل الناس خبرة بحال رسول الله صلى الله عليه وآله، وكانوا أشدهم رغبة في التمييز بين الصدق والكذب، فهم المهاجرون إلى سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحديثه، يقصدون ضبط ما قاله وتبليغه للناس، وينفون ما كذبه الكاذبون، وغلط فيه الغالطون، إلى آخر ما قال. فمن الغريب أمره العاقل بالتدبر للأحاديث الصحيحة الثابتة عند هؤلاء وأمثالهم، لغرض معرفة الصدق من الكذب، ثم لا يفعل هو بما أمر به، وكأنه ليس من العقلاء! وعلى الجملة، فإن دعواه أن هذا الحديث الشريف أضعف وأوهى، ولهذا إنما يعد في الموضوعات من الأكاذيب الصريحة الواضحة، والأباطيل الفضيحة اللائحة، ووجوه بطلانها لا تعد ولا تحصى كثرة، وقد أشبعنا الكلام في إثبات هذا الحديث وتحقيقه بما لا مزيد عليه، والحمد لله على التوفيق.

ص 17

2 - سقوط التمسك بقدح ابن الجوزي

 وأما تمسك ابن تيمية بقدح ابن الجوزي في حديث مدينة العلم، فقد تقدم الجواب عنه في ضمن رد كلام (الدهلوي)، بحيث يذعن كل منصف بصحة ما ذكرناه إذا وقف عليه، ولو تظاهر عظماء العلماء لما تمكنوا من إنكاره وجحده، وكيف لا؟ وقد نص المحققون من أهل السنة على تجاسر ابن الجوزي وتهوره في الحكم على الأحاديث مطلقا، وأن جماعة منهم ردوا كلامه في خصوص حديث مدينة العلم. إذن، لا يجوز الاعتماد على كلام من اشتهر بين علماء أهل السنة وحفاظهم بهذه الصفة، وعلى هذا الأساس أعرضوا عن كلماته في الأحاديث، أو توقفوا عن قبولها، وقد بلغ سقوط تقولاته في خصوص هذا الحديث إلى حد انبرى جماعة من أعلام المحققين للرد عليه وبيان فساده وبطلانه، إلا أن ابن تيمية لا يستحي من التمسك بكلام ابن الجوزي الباطل، و إذا لم تستح فاصنع ما شئت . ونحن كما فندنا كلام ابن تيمية بالنسبة إلى حديث مدينة العلم بكلام نفسه، نثبت بطلان كلام ابن الجوزي الذي تمسك به ابن تيمية في رد هذا الحديث مزيدا للإفحام والإلزام، وذلك أن ابن الجوزي يقول في كتابه (الموضوعات): فمتى رأيت حديثا خارجا عن دواوين الإسلام، كالموطأ، ومسند أحمد، والصحيحين، وسنن أبي داود، والترمذي، ونحوها، فانظر فيه، فإن كان له نظير في الصحاح والحسان فرتب أمره، وإن ارتبت به فرأيته يباين الأصول فتأمل رجال إسناده، واعتبر أحوالهم من كتابنا المسمى بالضعفاء والمتروكين، فإنك تعرف وجه القدح فيه (1). ففي هذا الكلام اعتراف بكون (كتاب الترمذي) من دواوين الإسلام،

(هامش)

(1) الموضوعات 1 / 99. (*)

ص 18

وأن كل حديث مخرج فيه مقبول ومعتبر بلا نظر وتردد فيه، بل فيه تصريح بأن ما كان خارجا عنه وعن غيره من دواوين الإسلام، وكان له نظير في الصحاح والحسان المخرجة في هذا الدواوين يرتب أمره بلا ارتياب... وهذا مقام جليل، وشأن عظيم لكتاب الترمذي وأمثاله... وإذا كان كذلك فلماذا يرمي ابن الجوزي حديث مدينة العلم المخرج في صحيح الترمذي مع الحكم بالحسن - كما مضى بيانه - بالوضع؟ هذا من موارد تسرع ابن الجوزي، ومن مصاديق التهور كما وصفه بذلك كبار المحققين المتأخرين عنه. فاللازم من كلام ابن الجوزي نفسه أن يتوب عما قال في حديث مدينة العلم، وبذلك يزيد سقوط تمسك ابن تيمية بكلامه وضوحا وظهورا، ولله الحمد على ما أبان دحوض حجة هذا الناصب العنيد. ثم إن قوله: وذكره ابن الجوزي وبين أن سائر طرقه موضوعة كذب آخر، فإن ابن الجوزي لم يذكر جميع طرق حديث مدينة العلم، وإنما ذكر بعض طرقه التي كان يمكنه الخدشة في أسانيدها بزعمه، مع أن ما قاله بالنسبة إلى تلك الطرق غير مقبول لدى المحققين، ومن هنا تعقبوا كلماته فيها. وأما سائر طرقه الصحيحة المخرجة في كتب علماء الحديث المعتمدة فلم يذكرها ابن الجوزي أصلا، فقول ابن تيمية أنه بين أن سائر طرقه موضوعة إفك صريح، وكذب فضيح.

 3 - قوله: والكذب يعرف من نفسه متنه

 فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم، ولم يكن لها إلا باب واحد، ولم يبلغ عنه العلم إلا واحد، فسد أمر الإسلام من الخرافات الواضحة البطلان. ومن يلاحظ ردود ابن تيمية على الإمامية، يرى أن كلماته في الغالب تنتهي إلى هدم مباني دين الإسلام، وتشييد أفكار المنكرين لنبوة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أنه لفرط نفاقه وشدة شقاقه يسعى في سبيل الرد على

ص 19

الإمامية غير مبال بما يترتب على أباطيله. إن هذا الذي ذكره ابن تيمية في جحد حديث مدينة العلم يمهد الطريق للكفار لأن يقولوا: إنه إذا كان الله عالما بشرائع الدين والأحكام التكليفية للعباد، ولم يبلغها من جانبه في كل عصر إلا واحد، لفسد أمر الدين وبطلت الشرائع، لأن التبليغ عن الله في كل عصر يلزم أن يكون بواسطة عدد كثير من الأنبياء يبلغون إلى حد التواتر. وهذا النقض كاف للرد على ما ذكره ابن تيمية، لأن كلما أجيب به عنه فهو جوابنا على كلامه الباطل. وأيضا: كما أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بوحده كاف للإبلاغ عن الله عز وجل، وأنه لثبوت حقيته غير محتاج إلى أن يشاركه في الأخبار عن الله غيره، كذلك يكفي في الابلاغ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجود سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام، ولا حاجة إلى أن يشاركه أحد في الابلاغ كائنا من كان، للقطع بحقية ما يبلغه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإن حديث مدينة العلم - بالإضافة إلى غيره من الأدلة - شاهد صدق على ذلك. ومن هنا جعل أهل العلم واليقين حديث مدينة العلم من أدلة عصمة أمير المؤمنين، وقد مر التصريح بذلك من نصوص أعاظم المخالفين. والحاصل: كما لا يضر توحد النبي صلى الله عليه وآله في إبلاغه، بعد ثبوت حقيته، كذلك لا يضر توحد الإمام في تبليغه عن النبي، بعد ثبوت حقيته بالأدلة الكثيرة ومنها حديث مدينة العلم.

 4 - بطلان دعوى وجوب أن يكون المبلغون أهل التواتر

 وأما قول ابن تيمية: ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدا، بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر، الذين يحصل العلم بخبرهم فظاهر السقوط جدا، لمنافاته لتصريحات أئمة علم أصول الفقه وعلوم

ص 20

الحديث، كما لا يخفى على المتتبع لها، فإن قاطبة أهل السنة يوجبون العمل بخبر الواحد، ولم يخالف في هذا الحكم إلا شاذ لا يعبأ به، وإليك نص عبارة أبي الحسن البزدوي في هذا المطلب، ليتضح بطلان دعوى ابن تيمية بوجوه عديدة: قال البزدوي: باب خبر الواحد (1)، وهو الفصل الثالث من القسم الأول، وهو كل خبر يرويه الواحد أو الاثنان فصاعدا، لا عبرة للعدد فيه، بعد أن يكون دون المشهور والمتواتر، وهذا يوجب العمل ولا يوجب العلم يقينا عندنا، وقال بعض الناس: لا يوجب العمل، لأنه لا يوجب العلم، ولا عمل إلا عن علم. قال الله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) وهذا لأن صاحب الشرع موصوف بكمال القدرة، فلا ضرورة له في التجاوز عن دليل يوجب علم اليقين، بخلاف المعاملات لأنها من ضروراتنا، وكذلك الرأي من ضروراتنا، فاستقام أن يثبت غير موجب على اليقين. وقال بعض أهل الحديث: يوجب علم اليقين، لما ذكرنا أنه أوجب العمل، ولا عمل من غير علم، وقد ورد الآحاد في أحكام الآخرة مثل: عذاب القبر، ورؤية الله تعالى بالأبصار، ولاحظ لذلك إلا العلم. قالوا: وهذا العلم يحصل كرامة من الله تعالى، فثبت على الخصوص للبعض دون البعض، كالوطئ تعلق من بعض دون بعض، ودليلنا في أن خبر الواحد يوجب العمل واضح، من الكتاب والسنة والإجماع والدليل المعقول. أما الكتاب: قال الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس) وكل واحد إنما يخاطب بما في وسعه، ولو لم يكن خبره حجة لما أمر ببيان العلم. وقال جل ذكره: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) وهذا في كتاب الله أكثر من أن يحصى. وأما السنة: فقد صح عن النبي عليه السلام قبوله خبر الواحد، مثل خبر بريرة في الهدية، وخبر سلمان في الهدية والصدقة، وذلك لا يحصى عدده، ومشهور

(هامش)

(1) في هذه العبارة وأمثالها شيء كثير من الأدلة والوقائع التي لا يصححها الإمامية، فليتنبه. (*)

ص 21

عنه أنه بعث الأفراد إلى الآفاق، مثل علي ومعاذ وعتاب بن أسيد ودحية وغيرهم رضي الله عنهم، وهذا أكثر من أن يحصى وأشهر من أن يخفى. وكذلك أصحابه رضي الله عنهم عملوا بالآحاد وحاجوا بها، قد ذكر محمد رحمه الله في هذا غير حديث في كتاب الاستحسان، واقتصرنا على هذه الجملة لوضوحها واستفاضتها. وأجمعت الأمة على قبول أخبار الآحاد من الوكلاء والرسل والمضاربين وغيرهم. وأما المعقول فلأن الخبر يصير حجة بصفة الصدق، والخبر يحتمل الصدق والكذب، وبالعدالة بعد أهلية الأخبار يترجح الصدق، وبالفسق الكذب، فوجب العمل برجحان الصدق ليصير حجة للعمل، ويعتبر احتمال السهو والكذب لسقوط اليقين، وهذا لأن العمل صحيح من غير علم اليقين، ألا ترى أن العمل بالقياس صحيح بغالب الرأي، وعمل الحكام بالبينات صحيح بلا يقين، فكذلك هذا الخبر من العدل يفيد علما بغالب الرأي، وذلك كاف للعمل، وهذا ضرب علم فيه اضطراب، فكان دون علم الطمأنينة (1). ولقد أكد هذا المعنى وأوضح دلالة الأدلة عليه من الكتاب والسنة والإجماع والعقل: عبد العزيز بن أحمد البخاري في (كشف الأسرار - شرح أصول البزدوي)، وهذا نص عبارته بطولها: قوله: وهذا أي خبر الواحد يوجب العمل ولا يوجب العلم يقينا، أي لا يوجب عمل يقين ولا علم طمأنينة وهو مذهب أكثر أهل العلم وجملة الفقهاء، وذهب بعض الناس إلى أن العمل بخبر الواحد لا يجوز أصلا وهو المراد من قوله: لا يوجب العمل. ثم منهم من أبى جواز العمل به عقلا مثل الجبائي وجماعة من المتكلمين، ومنهم من منعه سمعا مثل القاساني وأبي داود والرافضة. واحتج من منع عنه سمعا بقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) أي لا تتبع ما لا

(هامش)

(1) الأصول - بشرح البخاري 2 / 678 - 694. (*)

ص 22

علم لك به وخبر الواحد لا يوجب العلم، فلا يجوز اتباعه والعمل به بظاهر هذا النص. قالوا: ولا معنى لقول من قال: إن العلم ذكر نكرة في موضع النفي فيقتضي انتفاءه أصلا، وخبر الواحد يوجب نوع علم وهو علم غالب الظن الذي سماه الله تعالى علما في قوله تعالى (فإن علمتموهن مؤمنات) فلا يتناوله النهي. لأنا إن سلمنا أنه يفيد الظن فهو محرم الاتباع أيضا بقوله تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا). ثم أشار الشيخ إلى شبهة من منع عنه عقلا بقوله: وهذا أي عدم جواز العمل به لأن صاحب الشرع أي من يتولى وضع الشرايع - وهو الله تعالى إذ الرسول مبلغ عنه - موصوف بكمال القدرة، فكان قادرا على إثبات ما شرعه بأوضح دليل، فأي ضرورة له في التجاوز عن الدليل القطعي إلى ما لا يفيد إلا الظن؟ كيف وإنه يؤدي إلى مفسدة عظيمة، وهي أن الواحد لو روى خبرا في سفك دم أو استحلال بضع وربما يكذب فنظر أن السفك والإباحة بأمر الله تعالى ولا يكونان بأمره فكيف يجوز الهجوم بالجهل؟ ومن شككنا في إباحة بضعة وسفك دمه لا يجوز الهجوم بالشك، فيقبح من الشارع حوالة الخلق على الجهل واقتحام الباطل بالتوهم، بل إذا أمر الله تعالى بأمر فليعرفنا أمره لنكون على بصيرة إما ممتثلون أو مخالفون، بخلاف المعاملات فإن خبر الواحد يقبل فيها بلا خلاف، لأنها من ضروراتنا أي قبوله فيها من باب الضرورة لأنا نعجز عن إظهار كل حق لنا بطريق لا يبقى فيه شبهة، فلهذا جوزنا الاعتماد فيها على خبر الواحد. وقوله: وكذلك الرأي من ضروراتنا جواب عن تمسكهم بالقياس في الأحكام، مع أنه لا يفيد إلا الظن فقال: هو من باب الضرورة أيضا، لأن الحادثة إذا وقعت ولم يكن فيها نص يعمل به يحتاج إلى القياس ضرورة، ولأن القياس ليس بمثبت بل هو مظهر، وخبر الواحد مثبت، والاظهار دون الاثبات، وهذا على قول من جوز التمسك بالقياس منهم، فأما على قول من لم يجعل القياس

ص 23

حجة مثل النظام وأهل الظاهر فلا حاجة إلى الفرق. قوله: وقال بعض أصحاب الحديث، كذا ذهب أكثر الحديث إلى أن الأخبار التي حكم أهل الصنعة بصحتها توجب علم اليقين بطريق الضرورة، وهو مذهب أحمد بن حنبل، وذهب داود الظاهري إلى أنها توجب علما استدلاليا. وأشار الشيخ إلى شبهة الفريقين، فمن قال بأنه يوجب العلم الاستدلالي تمسك بأن خبر الواحد لو لم يفد العلم لما جاز اتباعه لنهيه تعالى عن اتباع الظن بقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) وذمه على اتباعه في قوله جل جلاله: (إن يتبعون إلا الظن) (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون). وقد انعقد الإجماع على وجوب الاتباع على ما تبين، فيستلزم إفادة العلم لا محالة. ومن قال إنه يوجب علما ضروريا قال: إنا نجد في أنفسنا في خبر الواحد الذي وجد شرائط صحته العلم بالمخبر به ضرورة من غير استدلال ونظر بمنزلة العلم الحاصل بالمتواتر. ويرد عليهم: أنه لو كان ضروريا لما وقع الاختلاف فيه، ولا استوى الكل فيه. فقالوا هذا العلم يحصل كرامة من الله تعالى فيجوز أن يختص به البعض، ووقوع الاختلاف لا يمنع من كونه ضروريا كالعلم الحاصل بالمتواتر فإنه ضروري وقد وقع الاختلاف فيه. قوله: قال الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) الآية، أخبر الله تعالى أنه أخذ الميثاق والعهد من الذين أوتوا الكتاب ليبينوه للناس ولا يكتموه منهم، فكان هذا أمرا بالبيان لكل واحد منهم ونهيا له عن الكتمان، لأنهم إنما يكلفون بما في وسعهم، وليس في وسعهم أن يجتمعوا ذاهبين إلى كل واحد من الخلق شرقا وغربا للبيان، فيتعين أن الواجب على كل واحد منهم أداء ما عنده من الأمانة والوفاء بالعهد، ولأن الحكم في الجمع المضاف إلى الجماعة أنه يتناول كل واحد منهم، ولأن أخذ الميثاق من أصل الدين والخطاب للجماعة بما هو أصل الدين يتناول كل واحد من الأفراد، ثم ضرورة توجه الأمر بالاظهار إلى كل واحد أمر السامع بالقبول منه والعمل به، إذ أمر الشرع لا يخلو عن فائدة حميدة، ولا

ص 24

فائدة في الأمر بالبيان والنهي عن الكتمان سوى هذا. واعترض عليه: بأن انحصار الفائدة على القبول غير مسلم، بل الفائدة هي الابتلاء فيستحق الثواب إن امتثلوا والعقاب إن لم يمتثلوا. ألا ترى أن الفاسق منهم داخل في هذا الخطاب مأمور بالبيان بحيث لو امتنع عنه يأثم ثم لا يقبل ذلك منه، وكذا الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين مأمورون بالتبليغ، وإن علم قطعا بالوحي أنه لا يقبل منهم. وأجيب عنه: بأن للبيان والتبليغ طرفين، طرف المبلغ وطرف السامع، ولا بد من أن يتعلق بكل طرف فائدة، ثم ما ذكرتم من الفائدة مختص بجانب المبلغ وليس في طرف السامع فائدة سوى وجوب القبول والعمل به. ولا يقال: بل فيه فائدة أخرى وهي جواز العمل به. لأنا نقول: جواز العمل مستلزم لوجوبه، لأن من قال بالجواز قال بالوجوب، ومن أنكر الوجوب أنكر الجواز. وأما الفاسق فلا نسلم وجوب البيان عليه قبل التوبة، بل الواجب عليه التوبة ثم ترتيب البيان عليه، فعلى هذا بيانه يفيد وجوب القبول عليه والعمل به كذا قال شمس الأئمة. قوله: وقال: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) الآية، وجه التمسك به: إنه تعالى أوجب على كل طائفة خرجت من فرقة الانذار - وهو الإخبار المخوف - عند الرجوع إليهم، وإنما أوجب الانذار طلبا للحذر لقوله: (لعلهم يحذرون) والترجي من الله تعالى محال، فيحمل على الطلب اللازم وهو من الله تعالى أمر فيقتضي وجوب الحذر، والثلاثة فرقة والطائفة منها إما واحد أو اثنان، فإذا روى الراوي ما يقتضي المنع من فعل وجب تركه لوجوب الحذر على السامع، وإذا وجب العمل بخبر الواحد والاثنين ههنا وجب مطلقا، إذ لا قائل بالفرق. ولا يقال: الطائفة اسم للجماعة، بدليل لحوق هاء التأنيث بها فلا يصح حملها على الواحد والاثنين. لأنا نقول: إختلف المتقدمون في تفسيرها، فقيل: هي اسم لعشرة، وقيل: لثلاثة، وقيل: لاثنين، وقيل: لواحد وهو الأصح، فإن

ص 25

المراد من قوله تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) الواحد فصاعدا. كذا قال قتادة، وكذا نقل في سبب نزول قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) إنهما كانا رجلين أنصاريين بينهما مدافعة في حق فجاء أحدهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون الآخر. وقيل: كان أحدهما من أصحاب النبي عليه السلام والآخر من أتباع عبد الله بن أبي المنافق على ما عرف. على أنا لو حملناها على أكثر ما قيل وهو العشرة لا ينتفي توهم الكذب عن خبرهم، ولا يخرج خبرهم عن الآحاد إلى التواتر. ولا يقال: سلمنا أن الراجع مأمور بالانذار بما سمعه، ولكن لا نسلم أن السامع مأمور بالقبول، كالشاهد الواحد مأمور بأداء الشهادة ولا يجب القبول ما لم يتم نصاب الشهادة وتظهر العدالة بالتزكية. لأنا نقول: وجوب الانذار مستلزم لوجوب القبول على السامع كما بينا، كيف وقوله تعالى: (لعلهم يحذرون) يشير إلى وجوب القبول والعمل. فأما الشاهد الواحد فلا نسلم أن عليه وجوب أداء الشهادة، لأن ذلك لا ينفع المدعي وربما يضر بالشاهد بأن يحد حد القذف إذا كان المشهود به زنا ولم يتم نصاب الشهادة. وهذا أي الدليل على قبول خبر الواحد في كتاب الله أكثر من أن يحصى. منه: قوله تعالى: (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) أمر بسؤال أهل الذكر ولم يفرق بين المجتهد وغيره، وسؤال المجتهد لغيره منحصر في طلب الإخبار بما سمع دون الفتوى، ولو لم يكن القبول واجبا لما كان السؤال واجبا. ومنه: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء) أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله. ومن أخبر عن الرسول بما سمع فقد قام بالقسط وشهد لله وكان ذلك واجبا عليه بالأمر، وإنما يكون واجبا لو كان القبول واجبا وإلا كان وجوب الشهادة كعدمها وهو ممتنع. ومنه: قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى)

ص 26

الآية. أوعد على كتمان الهدى فيجب على من سمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا إظهاره، فلو لم يجب علينا قبوله لكان الاظهار كعدمه. ومنه: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) أمر؟ التبين والتثبت، وعلل بمجئ الفاسق بالخبر، إذ ترتيب الحكم على الوصف المناسب يشعر بالعلية، ولو كان كون الخبر من أخبار الآحاد مانعا من القبول لم يكن لهذا التعليل فائدة، إذ علية الوصف اللازم تمنع من علية الوصف العارض، بإن من قال: الميت لا يكتب لعدم الدواة والقلم عنده يستقبح ويسفه، لأن الموت لما كان وصفا لازما صالحا لعلية امتناع صدور الكتابة عن الميت استحال تعليل امتناع الكتابة بالوصف العارض وهو عدم الدواة والقلم. وفي كل من هذا التمسكات اعتراضات مع أجوبتها تركناها احترازا عن الاطناب. قوله: مثل خبر بريرة في الهدية. فإنه روي أنه عليه السلام قبل قولها في الهدية. وخبر سلمان في الهدية والصدقة، فإنه روي أن سلمان رضي الله عنه كان من قوم يعبدون الخيل البلق، فوقع عنده أنه ليس على شيء، وجعل ينتقل من دين إلى دين طالبا للحق حتى قال له بعض أصحاب الصوامع: لعلك تطلب الحنيفية وقد قرب أوانها فعليك بيثرب، ومن علامات النبي المبعوث أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة. فتوجه نحو المدينة فأسره بعض العرب وباعه من اليهود بالمدينة، وكان يعمل في نخيل مولاه بإذنه، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلما سمع بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام أتاه بطبق فيه رطب ووضعه بين يديه فقال: ما هذا؟ فقال: صدقة. فقال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل. فقال سلمان في نفسه: هذه واحدة. ثم أتاه من الغد بطبق فيه رطب فقال: ما هذا يا سلمان؟ فقال: هدية. فجعل يأكل ويقول لأصحابه: كلوا. فقال سلمان: هذه أخرى. ثم تحول خلفه فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مرادة فألقى الرداء من كتفيه حتى نظر سلمان إلى خاتم النبوة

ص 27

بين كتفيه فأسلم. فقبل النبي صلى الله عليه وسلم قوله في الصدقة والهدية، مع أنه كان عبدا حينئذ. وذلك أي قبول خبر الواحد منه كثير، فإنه قبل خبر أم سلمى في الهدايا أيضا. وكانت الملوك يهدون إليه على أيدي الرسل وكان يقبل قولهم، ولا شك أن الاهداء منهم لم يكن على أيدي قوم لا يتصور تواطؤهم على الكذب. وكان يجيب دعوة المملوك ويعتمد على خبره أني مأذون. وقبل شهادة الأعرابي في الهلال، وقبل خبر الوليد بن عقبة حين بعثه ساعيا إلى قوم فأخبر أنهم ارتدوا حتى أجمع النبي صلى الله عليه وسلم على غزوهم فنزل قوله تعالى: (إن جاءكم فاسق) الآية. وكان يقبل أخبار الجواسيس والعيون المبعوثة إلى أرض العدو. ومشهور عنه أي قد اشتهر واستفاض بطريق التواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث الأفراد إلى الآفاق لتبليغ الرسالة وتعليم الأحكام، فإنه بعث عليا رضي الله عنه إلى اليمن أميرا، وبعده بعث معاذا أيضا إلى اليمن أميرا لتعليم الأحكام والشرائع، وبعث دحية بن خليفة الكلبي بكتابه إلى قيصر وهرقل بالروم، وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة أميرا معلما للشرائع، وبعث عبد الله بن حذافة السهمي بكتابه إلى كسرى، وعمرو بن أمية الضمري إلى الحبشة، وعثمان ابن أبي العاص إلى الطائف وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الاسكندرية، وشجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني بدمشق، وسليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن خليفة باليمامة، وأنفذ عثمان بن عفان إلى أهل مكة عام الحديبية، وولى على الصدقات عمر، وقيس بن عاصم، ومالك بن نويرة، والزبرقان بن بدر، وزيد بن حارثة، وعمرو بن العاص، وعمرو ابن حزم، وأسامة بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبا عبيدة بن الجراح، وغيرهم ممن يطول ذكرهم. وإنما بعث هؤلاء ليدعوا إلى دينه وليقيموا الحجة، ولم يذكر في موضع ما أنه بعث في وجه واحد عددا يبلغون حد التواتر وقد ثبت باتفاق أهل السير أنه كان يلزمهم قبول قول رسله وسعاته وحكامه، وإن احتاج في كل رسالة

ص 28

إلى إنفاذ عدد التواتر لم يف بذلك جميع أصحابه وخلت دار هجرته عن أصحابه وأنصاره، وتمكن منه أعداؤه وفسد النظام والتدبير، وذلك وهم باطل قطعا. فتبين بهذا أن خبر الواحد موجب للعمل مثل التواتر، وهذا دليل قطعي لا يبقى معه عذر في المخالفة. كذا ذكر الغزالي وصاحب القواطع. قوله: وكذلك الصحابة عملوا بالآحاد وحاجوا بها في وقائع خارجة عن العد والحصر من غير نكير منكر ولا مدافعة دافع، فكان ذلك منهم إجماعا على قبولها وصحة الاحتجاج بها. فمنها: ما تواتر أن يوم السقيفة لما احتج أبو بكر رضي الله عنه على الأنصار بقوله عليه الصلاة والسلام: الأئمة من قريش، قبلوه من غير إنكار عليه. ومنها: رجوعهم إلى خبر أبي بكر رضي الله عنه في قوله عليه الصلاة والسلام: الأنبياء يدفنون حيث يموتون. وقوله عليه الصلاة والسلام: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة. ومنها: رجوعه إلى توريث الجدة بخبر المغيرة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، ونقضه حكمه في القضية التي أخبر بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم فيها بخلاف ما حكم هو فيها. ورجوع عمر رضي الله عنه عن تفصيل الأصابع في الدية - حيث كان يجعل في الخنصر ستة من الإبل وفي البنصر تسعة وفي الوسطى والسبابة عشرة عشرة وفي الابهام خمسة عشر - إلى خبر عمرو بن حزم أن في كل إصبع عشرة. وعن عدم توريث المرأة من دية زوجها إلى توريثها منها بقول الضحاك بن مزاحم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، وعمله بخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس وهو قوله عليه الصلاة والسلام: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، وعمله بخبر عمل بن مالك وهو قوله: كنت بين جارتين لي يعني ضرتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة. فقال عمر رضي الله عنه: لو لم

ص 29

نسمع هذا لقضينا فيه برأينا. ومنها: إن عثمان رضي الله عنه أخذ برواية فريعة بنت مالك حين قالت: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنه بعد وفاة زوجي في موضع العدة فقال: امكثي حتى تنقضي عدتك، ولم ينكر الخروج للاستفتاء في أن المتوفى عنها زوجها تعتد في منزل الزوج ولا تخرج ليلا ولا نهارا إذا وجدت من يقوم بأمرها. ومنها: ما اشتهر من عمل علي رضي الله عنه برواية المقداد في حكم المذي، ومن قبوله خبر الواحد واستظهاره باليمين حتى قال في الخبر المشهور: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني غيره حلفته فإذا حلف صدقته. والتحليف إنما كان للاحتياط في سياق الحديث على وجهه، ولئلا يقدم على الرواية بالظن، لا لتهمة الكذب. ومنها: رجوع الجمهور إلى خبر عائشة رضي الله عنها في وجوب الغسل بإلتقاء الختانين. ومنها: عمل ابن عباس بخبر أبي سعيد الخدري في الربا في النقد بعد أن كان لا يحكم بالربا في غير النسيئة. ومنها: عمل زيد بن ثابت رضي الله عنه بخبر امرأة من الأنصار أن الحائض تنفر بلا وداع، بعد أن كان لا يرى ذلك. ومنها: ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا إذ أتانا آت وقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهر ليس لنا فضربتها إلى أسفله حتى تكسرت. ومنها: ما اشتهر من عمل أهل قبا في التحول عن القبلة إلى الكعبة حيث أخبرهم واحد أن القبلة نسخت. ومنها: ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: كنا نخابر أربعين سنة ولا نرى به بأسا، حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة فانتهينا. وعلى ذلك جرت سنة التابعين كعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وسعيد ابن جبير، ونافع بن جبير، وخارجة بن زيد، وأبي سليمان بن عبد الرحمن، وسليمان

ص 30

ابن بشار، وعطاء بن بشار، وطاوس، وسعيد بن المسيب، وفقهاء الحرمين. وفقهاء البصرة، كالحسن، وابن سيرين. وفقهاء الكوفة وتابعيهم، كعلقمة والأسود والشعبي، ومسروق. وعليه جرى من بعدهم من الفقهاء من غير إنكار عليهم من أحد في عصر. واعلم أن هذه الأخبار وإن كانت أخبار آحاد لكنها متواترة من جهة المعنى، كالأخبار الواردة بسخاء حاتم وشجاعة علي رضي الله عنه. فلا يكون لقائل أن يقول: ما ذكر تموه في إثبات كون خبر الواحد حجة هي أخبار آحاد، وذلك يتوقف على كونها حجة فيدور. ولئن قال الخصوم: لا نسلم أنهم عملوا بها بل لعلهم عملوا بغيرها من نصوص متواترة أو أخبار آحاد مع ما اقترن بها من المقائيس وقرائن الأحوال. فلا وجه له، لأنه عرف من سياق تلك الأخبار أنهم إنما عملوا بها على ما قال عمر رضي الله عنه: لو لم نسمع بهذا لقضينا برأينا، وحيث قال ابنه: حتى روى رافع بن خديج إلى آخره. فإن قيل: ما ذكرتم من قبولهم خبر الواحد معارض بإنكارهم إياه في وقائع كثيرة، فإن أبا بكر رضي الله عنه أنكر خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى انضم إليه رواية محمد بن مسلمة، وأنكر عمر رضي الله عنه خبر فاطمة بنت قيس في السكنى، وأنكرت عائشة رضي الله عنها خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، ورد علي رضي الله عنه خبر معقل بن سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق. قلنا: إنهم إنما أنكروا لأسباب عارضة، من وجود معارض أو فوات شرط، لا لعدم الاحتجاج بها في جنسها. فلا يدل على بطلان الأصل، كما أن ردهم بعض ظواهر الكتاب وتركهم بعض أنواع القياس، ورد القاضي بعض الشهادات لا يدل على بطلان الأصل. قوله: وقد ذكر محمد في هذا أي قبول خبر الواحد غير حديث أي أحاديث كثيرة، وقد ذكرنا أكثرها فيما أوردناه واختصرنا هذه الجملة، أي اكتفينا بإيراد ما ذكرنا من خبر بريرة وسلمان وتبليغ معاذ وغيرها ولوضوحها. أو معناه: لم نذكر ما

ص 31

أورده محمد لشهرتها. ولفظ التقويم: ونحن سكتنا عنها اختصارا واكتفاء بما فعل الناس. قوله: وأجمعت الأمة على كذا. أي الإجماع منهم في هذه الصور على القبول يدل على ثبوت الحكم في المتنازع فيه. وبيانه: إن الإجماع قد انعقد منهم على قبول خبر الواحد في المعاملات، فإن العقود كلها بنيت على أخبار الآحاد، مع أنه قد يترتب على خبر الواحد في المعاملات ما هو حق الله تعالى كما في الإخبار بطهارة الماء ونجاسته، والإخبار بأن هذا الشيء أو هذه الجارية أهدى إليك فلان، وأن فلانا وكلني ببيع هذه الجارية، أو بيع هذا الشيء. وأجمعوا أيضا على قبول شهادة من لا يقع العلم بقوله، مع أنها قد يكون في إباحة دم وإقامة حد واستباحة فرج، وعلى قبول قول المفتي للمستفتي مع أنه قد يجيب بما بلغه عن الرسول عليه التحية والسلام بطريق الآحاد، فإذا جاز القبول فيما ذكرنا من أمر الدين والدنيا جاز في سائر المواضع. فإن قيل: الفرق بين المحلين ثابت، فإن في بعض المعاملات قد يقبل خبر من يسكن القلب إلى صدقه من صبي وفاسق بل كافر، ولا يقبل خبر هؤلاء في أخبار الدين، فكيف يحتج بهذا الفصل مع وقوع الفرق بينهما؟ قلنا: محل الاستدلال هو استعمال قول من لا يؤمن الغلط عليه ووقوع الكذب منه وهو موجود في الأمرين، وإن كان أحدهما يتساهل فيه ما لا يتساهل في الآخر، وإنما يراعى في الجمع والفرق الوصف الذي يتعلق به الحكم دون ما عداه. وما ذكروا من الفرق بين المعاملات وأخبار الدين ليس بصحيح، لأن الضرورة متحققة في الأخبار كتحققها في المعاملات، لأن المتواتر لا يوجد في كل حادثة ولو رد خبر الواحد بشبهة في النقل لتعطلت الأحكام، فأسقطنا اعتبارها في حق العمل كما في القياس والشهادة. وأما الجواب عن تمسكهم بالآيتين فنقول: لا نسلم أن المراد منهما المنع عن اتباع الظن مطلقا، بل المراد المنع من اتباعه فيما المطلوب منه العلم اليقين من

ص 32

أصول الدين وفروعه. وقيل: المراد من الآية أعني قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) منع الشاهد من جزم الشهادة إلا بما يتحقق. على أنا ما اتبعنا الظن فيه وإنما اتبعنا الدليل القاطع الذي يوجب العمل بخبر الواحد من السنة المتواترة والإجماع (1). وقال الفخر الرازي ما نصه: المسلك الرابع: الإجماع. العمل بالخبر الذي لا يقطع مجمع عليه بين الصحابة، فيكون العمل به حقا. إنما قلنا: إنه مجمع عليه بين الصحابة، لأن بعض الصحابة عمل بالخبر الذي لا يقطع على صحته، ولم يبد من أحدهم إنكار على فاعله، وذلك يقتضي حصول الإجماع. وإنما قلنا إن بعض الصحابة عمل به لوجهين: الأول: وهو أنه روي بالتواتر أن يوم السقيفة لما احتج أبو بكر رضي الله عنه على الأنصار بقوله عليه السلام: الأئمة من قريش، مع كونه مخصصا لعموم قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) قبلوه ولم ينكر عليه أحد، ولم يقل أحد: كيف تحتج علينا بخبر لا نقطع بصحته، فلما لم يقل أحد منهم ذلك علمنا أن ذلك كالأصل المقرر عندهم. الثاني: الاستدلال بأمور لا ندعي التواتر في كل واحد منها بل في مجموعها، وتقريره: إن الصحابة عملوا على وفق خبر الواحد، ثم نبين أنهم عملوا به لا بغيره. وأما المقام الأول فبيانه بصور: (أ) رجوع الصحابة إلى خبر الصديق رضي الله عنهم في قوله عليه السلام: الأنبياء يدفنون حيث يموتون. وفي قوله: الأئمة من قريش. وفي قوله عليه السلام: نحن معاشر الأنبياء لا نورث. (ب) روي أن أبا بكر رضي الله عنه رجع في توريت الجدة إلى خبر المغيرة ابن شعبة ومحمد بن مسلمة، ونقل عنه أيضا أنه قضى بقضية بين اثنين فأخبره

(هامش)

(1) كشف الأسرار 2 / 678 - 694. (*)

ص 33

بلال أنه عليه السلام قضى بخلاف قضائه فنقضه. (ج) روي أن عمر رضي الله عنه كان يجعل في الأصابع نصف الدية ويفصل بينهما، فيجعل في الخنصر ستة وفي البنصر تسعة وفي الوسطى والسبابة عشرة عشرة، وفي الابهام خمسة عشر، فلما روي له في كتاب عمرو بن حزم أن في كل إصبع عشرة رجع من رأيه. وقال في الجنين: رحم الله أمرأ سمع من رسول الله عليه السلام شيئا. فقام إليه حمل بن مالك فأخبره بأن الرسول عليه الصلاة والسلام قضى بغرة. فقال عمر رضي الله عنه: لولا سمعنا هذا لقضينا فيه بغيره. (د) وإنه كان لا يرى توريث المرأة من دية زوجها، فأخبره الضحاك أنه عليه السلام كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. فرجع إليه. (ه‍) تظاهرت الرواية أن عمر رضي الله تعالى عنه قال في المجوس: ما أدري ما الذي أصنع بهم، فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، فأخذ منهم الجزية وأقرهم على دينهم. (و) أنه ترك رأيه في بلاد الطاعون بخبر عبد الرحمن. (ز) روي عن عثمان أنه رجع إلى قول فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري حين قالت: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأذنه بعد وفاة زوجي في موضع العدة فقال عليه السلام: امكثي في بيتك حتى تنقضي عدتك، ولم ينكر عليها الاستفتاء، فأخذ عمر روايتها في الحال في أن المتوفى عنها زوجها تعتد في منزل الزوج، ولا تخرج ليلا وتخرج نهارا إن لم يكن لها من يقوم بأحوالها. (ح) إشتهر عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كان يحلف الراوي، وقبل رواية أبي بكر رضي الله عنه من غير حلف. وأيضا: قبل رواية المقداد في حكم المذي. (ط) رجوع الجماهير إلى قول عائشة رضي الله عنها في وجوب الغسل من التقاء الختانين. (ي) رجوع الصحابة في الربا إلى خبر أبي سعيد.

ص 34

(يا) قال ابن عمر رضي الله عنهما: كنا نخابر أربعين سنة ولا نرى بها بأسا حتى روى لنا رافع بن خديج نهيه عليه السلام عن المخابرة. (يب) قال أنس: كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا أتانا آت فقال: حرمت الخمر. فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت فكسرتها. (يج) اشتهر عمل أهل قبا في التحول عن القبلة بخبر الواحد. (يد) قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن فلانا يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل فقال ابن عباس: كذب عدو الله، أخبرني أبي بن كعب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل. (يه) عن أبي الدرداء أنه لما باع معاوية شيئا من أواني الذهب والفضة بأكثر من وزنها قال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه. فقال معاوية: لا أرى به بأسا. فقال أبو الدرداء: من معذري من معاوية! أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أبدا. فهذه الأخبار قطرة من بحار هذا الباب، ومن نظر في كتب الأخبار وجد فيها من هذا الجنس ما لا حد له ولا حصر، وكل واحد منها وإن لم يكن متواترا لكن القدر المشترك بين الكل وهو العمل على وفق الخبر الذي لا يعلم صحته معلوم، فصار ذلك متواترا في المعنى. أما المقام الثاني، وهو أنهم إنما عملوا على وفق هذه الأخبار لأجلها، فبيانه من وجهين: الأول: لو لم يعملوا لأجلها بل لأمر آخر، إما لاجتهاد تجدد لهم، أو ذكروا شيئا سمعوه من الرسول عليه السلام، لوجب من جهة الدين والعادة أن ينقلوا ذلك. أما العادة: فلأن الجمع العظيم إذا اشتد اهتمامهم بأمر قد التبس عليهم، ثم زال اللبس عنهم فيه بدليل سمعوه أو لرأي حدث لهم فإنه لا بد لهم

ص 35

من إظهار ذلك الدليل والاستبشار بسبب الظفر والعجب من ذهاب ذلك عليهم، فإن جاز في الواحد أن لا يظهر له ذلك لم يجز ذلك في الكل. وأما الدين: فلأن سكوتهم عن ذكر ذلك الدليل وعملهم عند الخبر بموجبه يوهم أنهم عملوا لأجله كما يدل عملهم بموجب آية سمعوها على أنهم عملوا لأجلها. وإيهام الباطل غير جائز (1). وقال عضد الدين الإيجي بشرح مختصر ابن الحاجب: قد ثبت جواز التعبد بخبر الواحد وهو واقع، بمعنى أنه يجب العمل بخبر الواحد، وقد أنكره القاشاني والرافضة وابن داود. والقائلون بالوقوع قد اختلفوا في طريق إثباته، والجمهور على أنه يجب بدليل السمع، وقال أحمد والقفال وابن سريج وأبو الحسين البصري بدليل العقل. لنا: إجماع الصحابة والتابعين، بدليل ما نقل عنهم من الاستدلال بخبر الواحد وعملهم به في الوقائع المختلفة التي لا تكاد تحصى، وقد تكرر ذلك مرة بعد أخرى وشاع وذاع بينهم، ولم ينكر عليهم أحد وإلا نقل، وذلك يوجب العلم العادي باتفاقهم كالقول الصريح، وإن كان احتمال غيره قائما في واحد. فمن ذلك: عمل أبو بكر بخبر المغيرة في ميراث الجدة، وعمل عمر بخبر عبد الرحمن في جزية المجوس، وبخبر حمل بن مالك في وجوب الغرة بالجنين، وبخبر الضحاك في ميراث الزوجة من دية الزوج، وبخبر عمرو بن حزم في دية الأصابع. وعمل عثمان وعلي بخبر فريعة في أن عدة الوفاة في منزل الزوج، وعمل ابن عباس بخبر أبي سعيد بالربا في النقد، وعمل الصحابة بخبر أبي بكر: الأئمة من قريش، والأنبياء يدفنون حيث يموتون، ونحن معاشر الأنبياء لا نورث. إلى غير ذلك مما لا يجدي استيعاب النظر فيه إلا التطويل، وموضعه كتب السير. وقد اعترض عليه بوجوه، الأول: قولهم: لا نسلم أن العمل في هذه

(هامش)

(1) المحصول في علم الأصول 2 / 180 - 184. (*)

ص 36

الوقائع كان بهذه الأخبار، إذ لعله بغيرها، ولا يلزم من موافقة العمل الخبر أن يكون به على أنه السبب للعمل. والجواب: إنه قد علم من سياقها أن العمل بها، والعادة تحيل كون العمل بغيرها. الثاني: قولهم: هذا معارض بأنه أنكر أبو بكر خبر المغيرة حتى رواه محمد ابن مسلمة، وأنكر عمر خبر أبي موسى في الاستيذان حتى رواه أبو سعيد، وأنكر خبر فاطمة بنت قيس وقال: كيف نترك كتاب الله بقول امرأة لا نعلم أصدقت أم كذبت، ورد علي خبر أبي سنان وكان يحلف غير أبي بكر، وأنكرت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه. والجواب: إنهم إنما أنكروه مع الارتياب وقصروه في إفادة الظن، وذلك مما لا نزاع فيه. وأيضا: فلا يخرج بانضمام ما ذكرتم من كونه خبر واحد وقد قبل مع ذلك فهو دليل عليكم لا لكم. الثالث: إنهم إنما قالوا لعلها أخبار مخصوصة تلقوها بالقبول، فلا يلزم في كل خبر. الجواب: إنا نعلم أنهم عملوا بها لظهورها وإفادتها الظن لا بخصوصياتها كظواهر الكتاب المتواتر، وهو اتفاق على وجوب العمل بما أفاد الظن. ولنا أيضا: تواتر أنه كان صلى الله عليه وسلم ينفذ الآحاد إلى النواحي لتبليغ الأحكام، مع العلم بأن المبعوث إليهم كانوا مكلفين بالعمل بمقتضاه . وقال التفتازاني في شرح التوضيح: واستدل على كون الخبر الواحد موجبا للعمل بالكتاب والسنة. أما الكتاب: فقوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة) الآية. وذلك أن لعل هنا للطلب أي الايجاب لامتناع الترجي على الله تعالى، والطائفة بعض من الفرقة واحد واثنان، إذ الفرقة هي الثلاثة فصاعدا. وبالجملة لا يلزم أن يبلغ حد التواتر، فدل على أن قول الآحاد يوجب الحذر. وقد يجاب: بأن المراد الفتوى في الفروع بقرينة التفقه، ويلزم تخصيص القوم بغير المجتهدين بقرينة أن المجتهد لا يلزمه وجوب الحذر بخبر الواحد، لأنه ظني وللمجتهد فيه مساغ ومجال. على أن كون لعل للإيجاب والطلب محل نظر. ثم قوله تعالى: (كل

ص 37

فرقة) وإن كان عاما إلا أنه قد خص بالإجماع على عدم خروج واحد من كل ثلاثة. وأما السنة فلأنه عليه السلام قبل خبر بريرة في الهدية، وخبر سلمان في الهدية والصدقة حين أتى بطبق رطب فقال: هذا صدقة فلم يأكل منه، وأمر أصحابه بالأكل، ثم أتى بطبق رطب وقال: هذا هدية، فأكل وأمر أصحابه بالأكل. ولأنه عليه السلام كان يرسل الأفراد من أصحابه إلى الآفاق لتبليغ الأحكام وإيجاب قبولها على الأنام. وهذا أولى من الأول لجواز أن يحصل للنبي عليه السلام علم بصدقهما، على أنه إنما يدل على القبول دون وجوبه. فإن قيل: هذه أخبار آحاد فكيف يثبت به كون خبر الواحد حجة وهو مصادرة على المطلوب؟ قلنا: تفاصيل ذلك وإن كانت آحاد إلا أن جملتها بلغت حد التواتر، كشجاعة علي رضي الله عنه وجود حاتم، وإن لم يلزم التواتر فلا أقل من الشهرة. وربما يستدل بالإجماع، وهو أنه نقل من الصحابة وغيرهم الاستدلال بخبر الواحد وعملهم به في الوقائع المختلفة التي لا تكاد تحصى، وتكرر ذلك وشاع من غير نكير، وذلك يوجب العلم عادة بإجماعهم كالقول الصريح، وقد دل سياق الأخبار على أن العمل في تلك الوقائع كان بنفس خبر الواحد، وما نقل من إنكارهم بعض أخبار الآحاد إنما كان عن قصور في إفادة الظن ووقوع ريبة في الصدق (1). ولقد أكثر العلماء من الأدلة المختلفة في هذه المسألة، وبلغ القول بحجية خبر الواحد حدا من الخطورة، حتى ألف الكثيرون من علماء أهل السنة في هذه المسألة مصنفات مستقلات، نص على ذلك الحافظ النووي حيث قال: وقد تظاهرت دلائل النصوص الشرعية والحجج العقلية، على وجوب العمل بخبر

(هامش)

(1) التلويح في شرح التوضيح - مبحث خبر الواحد. (*)

ص 38

الواحد، وقد قرر العلماء في كتب الفقه والأصول ذلك بدلائله، وأوضحوه أوضح [أبلغ] إيضاح، وصنف جماعات من أهل الحديث وغيرهم مصنفات مستكثرات مستقلات في خبر الواحد ووجوب العمل به. والله أعلم (1). 5 - قوله: خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة والكلام عليه في وجوه: 1) قال أحمد: خبر الواحد يفيد العلم مطلقا إن هذا الكلام رد على أحمد بن حنبل، القائل بإفادة خبر الواحد العلم حتى مع عدم القرينة، فقد ذكر القاضي عضد الدين الإيجي ما نصه: قد اختلف في خبر الواحد العدل هل يفيد العلم أو لا؟ والمختار: إنه يفيد العلم لانضمام القرائن، وعنى به الزائدة على ما لا ينفك التعريف عنه عادة. وقال قوم: يحصل العلم به بغير قرينة أيضا. ثم اختلفوا فقال أحمد في قول: يحصل العلم به بلا قرينة ويطرد، أي كلما حصل خبر الواحد حصل العلم. وقال قوم: لا يطرد، أي قد يحصل العلم به، لكن ليس كلما حصل حصل العلم به. وقال الأكثرون: لا يحصل العلم به، لا بقرينة ولا بغير قرينة (2). وقال جلال الدين المحلي في (شرح جمع الجوامع): [مسألة: خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرينة] كما في إخبار الرجل بموت ولده المشرف على الموت، مع قرينة البكاء، وإحضار الكفن والنعش. [وقال الأكثر لا يفيد مطلقا] وما ذكره من القرينة يوجد مع الاغماء. [وقال] الإمام [أحمد] يفيد [مطلقا] بشرط العدالة... . وقد رد عليه العالم الحنفي عبد العلي الملقب ببحر العلوم حيث قال:

(هامش)

(1) المنهاج في شرح صحيح مسلم 1 / 85 هامش القسطاني. (2) شرح المختصر 2 / 55 - 56. (*)

ص 39

وقيل: خبر الواحد العدل يفيد العلم مطلقا، محفوفا بالقرائن أو لا. فعن الإمام أحمد: هذا الحكم مطرد، فيكون كلما أخبر العدل حصل العلم. وهذا بعيد عن مثله، فإنه مكابرة ظاهرة، قال الإمام فخر الإسلام: وأما دعوى علم اليقين فباطل بلا شبهة، لأن العيان يرده من قبل، وإنا قد بينا أن المشهور لا يوجب علم اليقين، فهذا أولى، وهذا لأن خبر الواحد محتمل لا محالة، ولا يقين مع الاحتمال، ومن أنكر هذا فقد أسفه نفسه، وأضل عقله. وقيل: لا يطرد هذا الحاكم بل قد يفيد في بعض الصور، كرامة من الله تعالى. وهو فاسد أيضا، لأنه تحكم صريح (1). بل قد علمت من عبارة شرح العضد على مختصر ابن الحاجب أن القول بإفادة خبر الواحد للعلم مطلقا هو قول جماعة. 2) قال الأكثر: لا يفيد العلم مطلقا ومن ناحية أخرى: قد عرفت من عبارة القاضي العضد والجلال المحلي: أن القول بعدم إفادة خبر الواحد للعلم مطلقا هو مذهب أكثر الأصوليين من أهل السنة. 3) لا حاجة إلى القرينة بعد النص ثم إن الحق الحقيق بالقبول هو: أنه لا بد للمنصوب من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأجل الإخبار والتبليغ عنه إلى الأمة، من حجة - من نص أو دليل - تثبت حقيته، كي تقبل منه الأمة ما يبلغه إليها، ومع وجود النص أو الدليل لا حاجة إلى احتفاف خبره بقرينة، حتى يقال بأنها: قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة ، بل إن خبره يكون - بسبب النص عليه - مفيدا للعلم. وهذا المعنى ثابت فيما نحن فيه، لإفادة حديث مدينة العلم نصب علي عليه السلام لهذا المنصب، فخبره عليه

(هامش)

(1) فواتح الرحموت - شرح مسلم الثبوت 2 / 121 هامش المستصفى. (*)

ص 40

السلام مفيد للعلم واليقين. ومن هنا يظهر أن قياس خبره عليه الصلاة والسلام على خبر غيره من آحاد المخبرين كقياس الماء على السراب، وهو يخالف الحق والصواب. 4) لماذا التخصيص بالقرآن والسنة المتواترة؟ ثم إن التخصيص بالقرآن والسنة لا وجه له، لأنه بناء على ما توهمه ابن تيمية لا يثبت بخبر هذا المخبر علم مطلقا، سواء كان قرآنا أو سنة متواترة، أو سنة غير متواترة، فقصر نفي العلم على القرآن والسنة المتواترة لا وجه له، بل كان مقتضى القاعدة أن يقول: بالقرآن والسنة غير المتواترة، بل السنة المتواترة كما لا يخفى على البصير بأساليب الكلام.

 6 - الإشارة إلى أدلة عصمة علي عليه السلام

 وأما قوله: وإذا قالوا: ذلك الواحد معصوم يحصل العلم بخبره. قيل لهم: فلا بد من العلم بعصمته أولا فالكلام عليه بوجوه: الأول: كأن ابن تيمية لا يعلم بأن مقتضى مذهب الإمامية هو القول بعصمة هذا المبلغ المنصوب للتبليغ!!. الثاني: إن عصمة هذا المبلغ الواحد ثابتة من حديث مدينة العلم كما عرفت ذلك سابقا، وقد اعترف به بعض المنصفين من أهل السنة، فيكون حديث مدينة العلم دالا على مبلغية أمير المؤمنين عليه السلام وعصمته معا. فبطل قوله: فلا بد من العلم بعصمته أولا . الثالث: إن عصمة أمير المؤمنين عليه السلام ثابتة من آيات من الكتاب، وأحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله، وتفصيل هذا المطلب موكول إلى محله. الرابع: إن نصب هذا المبلغ من قبل النبي صلى الله عليه وآله هو - عند التأمل - عين النصب للإمامة والخلافة، وقد ثبت في محله ضرورة كون

ص 41

الإمام معصوما، فيكون مجرد النصب دليل العصمة. الخامس: لقد دلت الآية المباركة: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، على أن جملة أفعال النبي صلى الله عليه وآله هي من جانب الله عز وجل، وعلى هذا يمكن أن يقال بكون الناصب للتبليغ هو الله عز وجل نفسه، ولما كان هذا النصب عين النصب للإمامة والخلافة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي لا تثبت إلا للمعصوم، فالنصب الإلهي للتبليغ كاشف عن اتصاف المنصوب له بالعصمة. وبما ذكرتا يظهر الجواب عن قوله: وعصمته لا تثبت بمجرد خبره، قبل أن يعلم عصمته، فإنه دور إذ لا توقف لثبوت عصمته على خبره، لكن يمكن إثبات عصمته بخبره أيضا، لأن خبره ليس مجردا بل مقرون بالمعجزات الباهرة المتواترة الموجبة للعلم بالعصمة، فلا دور كذلك. وأما قوله: ولا تثبت بالإجماع، فإنه لا إجماع فيها عند الإمامية، وإنما يكون الإجماع حجة لأن فيهم الإمام المعصوم، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه فجوابه: أنه إن أراد نفي الإجماع من أصحاب الضلال فهذا لا يضرنا أبدا، إذ لا حجية لإجماع هؤلاء أصلا، وإن أراد نفي إجماع الإمامية فهذا إنكار للبداهة، لأن الإمامية أجمعين أكتعين قائلون بعصمة هذا الواحد المبلغ عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. ثم إن المراد من هذا المبلغ هو أمير المؤمنين عليه السلام، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم داخل في الإجماع المتحقق على عصمته - وعصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يرتاب فيها مؤمن، وإن كان لأهل السنة فيها كلام -. وأيضا: فإن الحسنين عليهما السلام داخلان في الجمعين، وعصمتهما ثابتة بالدلائل القطعية الأخرى غير الإجماع. وأيضا: في المجمعين سائر أئمة أهل البيت، المعصومون بالأدلة من الكتاب والسنة.

ص 42

فظهر بطلان دعواه بعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه، وظهر جواز الاستدلال بالإجماع لإثبات عصمة كل واحد من الأئمة الأطهار، لأنه ليس من قبيل إثبات عصمة ذاك الإمام بقول نفسه ليلزم الدور، وأما عصمة كلهم فقد ثبتت بالأدلة القطعية الأخرى غير الإجماع، كما ثبت عصمة كل واحد واحد منهم بها كما أشرنا، وظهر أيضا بطلان قوله بعد ذلك: فعلم أن عصمته لو كانت حقا، لا بد أن تعلم بطريق آخر غير خبره . لما عرفت من إمكان ثبوت عصمته بخبره، لاقترانه بما يوجب العلم واليقين، فضلا عن ثبوتها بالأدلة والطرق الأخرى. وإذ ظهر بطلان كلماته، فقد ظهر بطلان ما قاله كنتيجة لتلك الكلمات، وهو قوله: فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو، لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين . وتحصل: أن أمير المؤمنين عليه السلام هو الباب لمدينة العلم، وهو المبلغ الوحيد عن النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم. وإذا ثبت ذلك ثبتت عصمته وغير ذلك من أمور الدين، والحمد لله رب العالمين.

 7 - لازم قوله: هذا الحديث إنما افتراه زنديق

 وأما ما تفوه به ابن تيمية لشدة عناده وحقده: فعلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل، ظنه مدحا وهو يطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام، إذ لم يبلغه إلا واحد فمن الكفريات الشنيعة، والله سبحانه وتعالى حسيبه والمنتقم منه يوم القيامة. لقد علمت أن حديث مدينة العلم حديث رواه أكابر العلماء الثقات من أهل السنة، طبقة بعد طبقة، وجيلا بعد جيل، وفيهم من حكم بصحته، وجعله جماعة من أجلى فضائل ومناقب النبي والوصي عليهما وآلهما الصلاة والسلام...

ص 43

وقد وقفت على عبارات هؤلاء الكبار، وإفادات أولئك الأحبار، فيلزم من تقول ابن تيمية هذا أن يكون كل أولئك الأئمة الكبار والمشايخ العظام: عبد الله بن عثمان القارئ، وسفيان بن سعيد الثوري، وعبد الرزاق الصنعاني، ويحيى بن معين، وسويد بن سعيد الحدثاني شيخ مسلم، وأحمد بن حنبل، وعباد بن يعقوب الرواجني شيخ البخاري، وأبو عيسى الترمذي، والحسين بن فهم البغدادي، وأبو بكر البزار، ومحمد بن جرير الطبري، وأبو بكر الباغندي، وأبو العباس الأصم، وأبو الحسن القنطري، وأبو بكر الجعابي، وأبو القاسم الطبراني، وأبو بكر القفال، وأبو الشيخ الإصبهاني، وابن السقاء الواسطي، وأبو الليث السمرقندي، ومحمد بن المظفر البغدادي، وابن شاهين البغدادي، وأبو الحسن السكري الحربي، وابن بطة العكبري. والحاكم النيسابوري، وابن مردويه الإصبهاني، وأبو نعيم الإصبهاني، وأبو الحسن العطار، وأبو الحسن الماوردي، وأبو بكر البيهقي، وابن بشران، والخطيب البغدادي، وابن عبد البر، وأبو محمد الغندجاني، وابن المغازلي، وأبو المظفر السمعاني، وأبو علي البيهقي، وشيرويه الديلمي، وعبد الكريم السمعاني، وأخطب خوارزم، وابن عساكر، وأبو الحجاج الأندلسي، ومجد الدين ابن الأثير، وعز الدين ابن الأثير، و... أن يكون كل واحد من هؤلاء زنديقا جاهلا!!، وإذا كان هؤلاء زنادقة جهالا فهل تبقى لمذهب أهل السنة من باقية؟!. وإن ما ذكره ابن تيمية ينطبق على من روى حديث مدينة العلم، من علماء أهل السنة المتأخرين عن ابن تيمية، وهم جماعات غير محصورة، أمثال: جمال الدين الزرندي، وصلاح الدين العلائي، وعلي الهمداني، ونور الدين البدخشاني، وبدر الدين الزركشي، وكمال الدين الدميري، ومجد الدين الفيروز آبادي، وإمام الدين الهجروي، وشمس الدين الجزري، وزين الدين الخوافي، وشهاب الدين الدولت آبادي، وابن حجر العسقلاني، وشهاب الدين

ص 44

أحمد، وابن الصباغ المالكي، وعبد الرحمن البسطامي، وشمس الدين الجيلاني، وشمس الدين السخاوي، وحسين الواعظ الكاشفي، وجلال الدين السيوطي، ونور الدين السمهودي، وفضل الله ابن روزبهان، وعز الدين بن فهد الهاشمي المكي، وشهاب الدين القسطلاني، وجلال الدين الدواني، وكمال الدين الميبدي، وغياث الدين بن همام الدين، وجلال الدين البخاري، وشمس الدين الشامي، وابن عراق الكناني. وابن حجر المكي، وعلي المتقي الهندي، وإبراهيم الوصابي، ومحمد طاهر الفتني، وعباس بن معين الدين الجرجاني، وكمال الدين الجهرمي، والعيدروس اليمني، وجمال الدين المحدث الشيرازي، وعلي القاري الهروي، وعبد الرؤف المناوي، ويعقوب اللاهوري، وأبي العباس المقري، وأحمد بن الفضل المكي، ومحمود القادري، وتاج الدين السنبهلي، وعبد الحق الدهلوي، والسيد محمد البخاري، وعبد الرحمن الجشتي، وعلي بن محمد الجشتي، وعلي بن محمد الجفري، وعلي العزيزي، ونور الدين الشبراملسي، وإبراهيم الكردي، وإسماعيل الكردي، والزرقاني المالكي، وسالم بن عبد الله البصري، ومحمد بن عبد الرسول البرزنجي، والميرزا محمد البدخشاني، ومحمد صدر العالم، وولي الله الدهلوي، ومحمد معين السندي، والشيخ محمد الحنفي، ومحمد بن إسماعيل اليماني، والصبان المصري، وسليمان جمل، وقمر الدين الأورنق آبادي، وشهاب الدين العجيلي، ومحمد مبين اللكهنوي، وثناء الله باني بتي. وعبد العزيز الدهلوي، وجواد ساباط، وعمر الخربوتي، والقاضي الشوكاني، ورشيد الدين الدهلوي، وجمال الدين القرشي، ونور الدين السليماني، وولي الله اللكهنوي، وشهاب الدين الآلوسي، والقندوزي البلخي، والبدايوني، والمولوي حسن زمان، وعلي الدمنتي، وعبد الغني الغنيمي، وغيرهم. بل عرفت أن هذا الحديث الشريف قد رواه التابعون العظام، عن صحابة النبي عليه وآله السلام، فاعترفوا به وجعلوه فضيلة لمولانا أمير المؤمنين، لا سيما

ص 45

أصحاب الشورى، الذين تلقوه بالتسليم، وقد صرح بثبوته عبد الرحمن بن عوف منهم تصريحا تاما. ولقد عرفت سابقا أن النبي صلى الله عليه وآله لم يكتف بمجرد قوله أنا مدينة العلم وعلي بابها، بل إنه بذل غاية الاهتمام في إبلاغ ذلك إلى الأمة، إذ قاله في يوم الحديبية، مادا صوته، وآخذا بعضد أمير المؤمنين... إلى غير ذلك من الأمور الدالة على اهتمامه بإبلاغ هذا المعنى إلى الأمة. وبما ذكرنا يظهر أن ما قاله ابن تيمية لا يقول به إلا زنديق جاهل، وهو يطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام . من الأحاديث الدالة على أن عليا مبلغ علوم النبي ولا يخفى على ذوي النهى أن هذا الذي ذكره ابن تيمية ليس إنكارا لحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها فقط، بل يستلزم إنكار أحاديث كثيرة رواها أعلام الحفاظ من السابقين واللاحقين في حق مولانا أمير المؤمنين، لابتناء كلامه على أن حديث مدينة العلم يدل على أن عليا هو المبلغ الوحيد عن النبي، لكن المبلغ لا يكون واحدا وإلا فسد أمر الإسلام، فهذا الحديث باطل. إلا أنه لا ريب لأهل الحق والايقان في أنه عليه السلام هو الباب الوحيد لمدينة العلم، ولا مبلغ عن النبي سواه، وقد دلت على ذلك الأحاديث الأخرى بالإضافة إلى حديث مدينة العلم، مثل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: علي باب علمي، ومبين لأمتي ما أرسلت به من بعدي... . وقوله في حديث طويل: ... وأنت باب علمي... . وقوله في حديث في حق علي: عيبة علمي، وبابي الذي أوتى منه . وقوله: هذا أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة... وهو بابي الذي أوتى منه .

ص 46

وقوله: علي باب حطة، من دخل منه كان مؤمنا، ومن خرج منه كان كافرا . وقوله: علي بن أبي طالب باب الدين، من دخل فيه كان مؤمنا، ومن خرج منه كان كافرا . وقوله عليه وآله الصلاة والسلام: يا علي! أنت حجة الله، وأنت باب الله . وقوله صلى الله عليه وآله: علي مني وأنا منه، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي . وقد وقفت على طرف من طرق هذه الأحاديث وغيرها من مؤيدات حديث مدينة العلم، وسنذكر طائفة أخرى من الأحاديث في مبحث الأعلمية إن شاء الله تعالى. ولقد تسالم الأصحاب على أن عليا عليه السلام هو الأعلم من بينهم - ولذا كانوا يرجعون إليه فيما أشكل عليهم، ويسألون عما جهلوه أو أبهم عليهم - وأنه المبلغ الوحيد عن رسول الله صلى الله عليه وآله، حتى ورد عن ابن عباس وصفه بهذه الصفة في كلام له في أهل البيت: فروع طيبة، وأصول مباركة، معدن الرحمة، وورثة الأنبياء، بقية النقباء، وأوصياء الأوصياء، منهم الطيب ذكره، المبارك اسمه، أحمد الرضي ورسوله الأمي، من الشجرة المباركة، صحيح الأديم، واضح البرهان. والمبلغ بعده ببيان التأويل وبحكم التفسير علي بن أبي طالب، عليه من الله الصلاة الرضية والزكاة السنية، لا يحبه إلا مؤمن تقي، ولا يبغضه إلا منافق شقي (1). فقد تسالم الأصحاب على هذه الحقيقة، واقتفى أثرهم من بعدهم، لثبوته عندهم بكل وضوح، حتى اعترف به جماعة من مشاهير علماء أهل السنة، وأذعن

(هامش)

(1) زين الفتى في تفسير سورة هل أتى - مخطوط. (*)

ص 47

بعض متعصبيهم كابن روز بهان الشيرازي، حيث نص على أن الإمام عليه السلام هو وصي النبي صلى الله عليه وسلم في إبلاغ العلم بلا نزاع، وهذه عبارته في جواب العلامة الحلي رحمه الله: وما ذكره من علم أمير المؤمنين فلا شك في أنه من علماء الأمة، والناس محتاجون إليه فيه، وكيف لا؟ وهو وصي النبي صلى الله عليه وسلم في إبلاغ العلم وبدائع حقائق المعارف، فلا نزاع فيه لأحد .

 8 - انتشار العلم عن علي

 ثم قال ابن تيمية: ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر، فإن جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير علي . وهذا كلام متعصب سفيه لأنه: أولا: دعوى باطلة ظاهرة الكذب. وثانيا: دعوى تواتره كذب آخر. وثالثا: يخالف إفادات أكابر علماء أهل السنة، كما ستسمع، وفيها التصريح بانتشار العلوم عن أمير المؤمنين عليه السلام، في البلاد المختلفة. ورابعا: لو سلمنا بلوغ العلم إلى جميع المدائن الإسلامية من غير علي، فمن أين يثبت أن ما بلغها كان العلم عن الرسول ، ومن الواضح أن مجرد النسبة إليه صلى الله عليه وآله لا يثبت كونه منه، وإلا لزم تصديق كل من يدعي الابلاغ عن النبي صلى الله عليه وآله، وفيه من الفساد ما لا يخفى، كيف وقد كثرت الكذابة عليه على عهده صلى الله عليه وآله حتى قال: من كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار . وخامسا: سلمنا كونه علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن هذا لا يضرنا، بل يضر الآخذين لذلك العلم العاملين به، لأنهم أخذوه من غير باب مدينة العلم، وكل ما أخذ عن غير باب مدينة العلم فلا يجوز العمل به، بل إنه من قبيل السرقة ويستتبع الحد الشرعي ارتكابه، ومن هنا قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب، ولا تؤتى

ص 48

البيوت إلا من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقا . أقول: وهذا القدر كاف في رد ما ادعاه ابن تيمية، وجميع ما بناه على هذا الكلام، ولكن لما كانت عبارته مشتملة على أكاذيب أخرى، فنحن مضطرون إلى التنبيه على مواضع كذبه بالتفصيل. قال ابن تيمية: أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما [فيهم] ظاهر. وكذلك الشام والبصرة، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن علي إلا شيئا قليلا . قلت: هذه دعوى بلا دليل، على أنه من الممكن بلوغ علم الرسول إليهم عن علي عليه السلام ولكنهم لم يرووه عن لعداوتهم له، أو رووا ولكن سلاطين الجور وأمراء الفسق - الذين كانوا يمنعون من ذكر مجرد اسمه - حالوا دون انتشار تلك الروايات، على أن قلة الرواية - لو سلمنا كونها كاشفة عن قلة الأخذ - لا تنافي كون الإمام عليه السلام باب مدينة العلم، وإنما تكشف عن إعراض هؤلاء عن باب مدينة العلم. وذلك عليك وعليهم، لو كانت تعقل ويعقلون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون المدينة المنورة ثم نقول: أما المدينة المنورة فقد قضى عليه الصلاة والسلام فيها الشطر الأعظم من حياته المباركة، وكان الرجوع إليه فيها في جميع المشكلات، لمن تصدى أمر الخلافة وغيرهم من الأصحاب، وهذا مما لا ريب فيه لأحد ولا نزاع، بل اعترف وأقر به جمع من العلماء الأعيان: قال النووي: وسؤال كبار الصحابة له، ورجوعهم إلى فتاواه وأقواله في المواطن الكثيرة والمسائل المعضلات، مشهور (1). وقال ابن روز بهان: رجوع الصحابة إليه في الفتوى غير بعيد، لأنه كان

(هامش)

(1) تهذيب الأسماء واللغات 1 / 346. (*)

ص 49

من مفتي الصحابة، والرجوع إلى المفتي من شأن المستفتين، وإن رجوع عمر إليه كرجوع الأئمة وولاة العدل إلى علماء الأمة (1). وقال العجيلي: ولم يكن يسأل منهم واحدا، وكلهم يسأله مسترشدا، وما ذاك إلا لخمود نار السؤال تحت نور الاطلاع (2). إلى غير ذلك من كلماتهم الآتية في مبحث الأعلمية إن شاء الله تعالى. مكة المكرمة وأما مكة المكرمة فقد عاش فيها عليه الصلاة والسلام منذ الولادة حتى الهجرة، وقد أتاها بعد الاستيطان في المدينة المنورة مرات عديدة، فكيف يقال بعدم بلوغ العلم عنه إلى أهل مكة؟ على أن تلميذه الخاص به عبد الله بن عباس أقام في مكة زمنا طويلا يعلمهم القرآن وينشر العلم، قال الذهبي بترجمة ابن عباس: الأعمش، عن أبي وائل قال: استعمل علي ابن عباس على الحج، فخطب يومئذ خطبة لو سمعها الترك والروم لأسلموا. ثم قرأ عليهم سورة النور، فجعل يفسرها (3). وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر حدثني واقد بن أبي ياسر عن طلحة ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه عن عائشة: إنها نظرت إلى ابن عباس - ومعه الخلق ليالي الحج، وهو يسئل عن المناسك - فقالت: هو أعلم من بقي بالمناسك (4). وقال أبو عمر ابن عبد البر: روينا: أن عبد الله بن صفوان مر يوما بدار عبد الله بن عباس بمكة، فرأى فيها جماعة من طالبي الفقه، ومر بدار عبيد الله بن

(هامش)

(1) إبطال الباطل لابن روزبهان الشيرازي - مخطوط. (2) ذخيرة المال - مخطوط. (3) تذكرة الحفاظ 1 / 38. (4) الطبقات الكبرى لابن سعد 2 / 369. وفيه الحلق بدل الخلق . (*)

ص 50

عباس، فرأى فيها جمعا يتناولونها للطعام، فدخل على ابن الزبير فقال له: أصبحت والله كما قال الشاعر: فإن تصبك من الأيام قارعة * لم تبك منك على دنيا ولا دين قال: وما ذاك يا أعرج؟ قال: هذان ابنا عباس، أحدهما يفقه الناس، والآخر يطعم الناس، فما أبقيا لك مكرمة. فدعا عبد الله بن مطيع فقال: انطلق إلى ابني عباس، فقل لهما: يقول لكما أمير المؤمنين أخرجا عني أنتما ومن أصغى إليكما من أهل العراق، وإلا فعلت وفعلت. فقال عبد الله بن عباس: قل لابن الزبير والله ما يأتينا من الناس إلا رجلين، رجل يطلب فقها، ورجل يطلب فضلا، فأي هذين تمنع!. وكان يحضر أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني، فجعل يقول: لا در در الليالي كيف يضحكنا * منها خطوب أعاجيب وتبكينا ومثل ما يحدث الأيام من غير * في ابن الزبير من الدنيا تسلينا كنا نجئ ابن عباس فيفتينا * فقها ويكسبنا أجرا ويهدينا ولا يزال عبيد الله مترعة * جفانة مطعما ضيفا ومسكينا فالبر والدين والدنيا بدارهما * ننال منها الذي نبغي إذا شينا إلى آخر الأبيات (1). ولقد ثبت نشر ابن عباس - تلميذ أمير المؤمنين - تفسير القرآن في أهل مكة وتحقق، حتى اعترف بذلك ابن تيمية نفسه، ومن هنا وصف أهل مكة بأنهم أعلم الناس بالتفسير، ففي (الإتقان): قال ابن تيمية: أعلم الناس بالتفسير أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما، كمجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وسعيد بن جبير، وطاوس، وغيرهم (2).

(هامش)

(1) الإستيعاب 3 / 937. (2) الإتقان في علوم القرآن 2 / 190. (*)

ص 51

الشام

 وأما أهل الشام فأعلمهم وأفقههم أبو الدرداء، وهو أخذ من عبد الله بن مسعود، وابن مسعود من تلامذة أمير المؤمنين عليه السلام، قال الذهبي بترجمة أبي الدرداء: وكان عالم أهل الشام، ومقرئ أهل دمشق، وفقيههم وقاضيهم (1). وقال الموفق بن أحمد المكي: عن أبي الدرداء رضي الله عنه: العلماء ثلاثة، رجل بالشام - يعني نفسه -، ورجل بالكوفة - يعني عبد الله بن مسعود -، ورجل بالمدينة - يعني عليا. فالذي بالشام يسأل الذي بالكوفة، والذي بالكوفة يسأل الذين بالمدينة، والذي بالمدينة لا يسأل أحدا (2). وقال محب الدين الطبري: عن أبي الزعراء عن عبد الله قال: علماء الأرض ثلاثة، عالم بالشام، وعالم بالحجاز، وعالم بالعراق، فأما عالم أهل الشام فهو أبو الدرداء، وأما عالم أهل الحجاز فعلي بن أبي طالب، وأما عالم أهل العراق فأخ لكم، وعالم أهل الشام وعالم أهل العراق يحتاجان إلى عالم أهل الحجاز، وعالم أهل الحجاز لا يحتاج لا يحتاج إليهما. أخرجه الحضرمي (3). هذا، بالإضافة إلى رجوع معاوية - وهو حاكم أهل الشام - إلى أمير المؤمنين في المعضلات بكثرة، كما ستطلع على تفاصيل ذلك فيما بعد، إن شاء الله، في مبحث الأعلمية. البصرة وأما البصرة فورود الإمام عليه السلام إليها بنفسه، وكثرة خطبه وإرشاداته ومواعظه فيها غير مخفي على أحد، وإن شئت تفاصيل ذلك فارجع إلى التواريخ،

(هامش)

(1) تذكرة الحفاظ 1 / 24. (2) مناقب أمير المؤمنين: 55. (3) الرياض النضرة 2 / 199. (*)

ص 52

كتاريخ ابن جرير الطبري وغيره. كما لا يخفى على أحد ولاية ابن عباس على البصرة من قبله، وأخذ أهلها منه الفقه والتفسير مدة إقامته فيها، فلا يبقى أي ريب في بلوغ العلم من الإمام عليه السلام إلى أهل البصرة، وإليك بعض الكلمات الصريحة في أخذ أهل البصرة من ابن عباس تلميذ الإمام عليه السلام، والوالي عليها من قبله: المدائني عن نعيم بن حفص قال أبو بكرة: قدم ابن عباس علينا البصرة، وما في العرب مثله جسما وعلما وبيانا وجمالا وكمالا (1). وقال ابن سعد: أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي نا معتمر بن سليمان عن أبيه عن الحسن قال: أول من عرف بالبصرة عبد الله بن عباس، قال: وكان مثجة كثير العلم. قال: فقرأ سورة البقرة ففسرها آية آية (2). وقال ابن حجر: وأخرج الزبير بسند له أن ابن عباس كان يعشي الناس في رمضان، وهو أمير البصرة، فما ينقضي الشهر حتى يفقههم (3). فظهر أن الإمام عليه السلام قد انتشر علمه في جميع البلدان الإسلامية، من مكة والمدينة والشام والبصرة وغيرها، إلا أن ذلك لا يلزم أن يكون كل من أخذ منه أو بلغه علمه عليه السلام من التابعين له والقائلين بإمامته، كما هو واضح. الكوفة وأما قول ابن تيمية: وإنما كان غالب علمه بالكوفة ففيه: أن علم الإمام عليه السلام - وهو بعينه علم النبي بصلى الله عليه وآله - كان في الكثرة

(هامش)

(1) تذكرة الحفاظ 1 / 38. الإصابة 2 / 322. وفيه حشما بدل جسما و ثيابا بدل بيانا . (2) الطبقات 2 / 367. (3) الإصابة 2 / 325. وفيه يغشى بدل يعشي . (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الثاني عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب