نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الثاني عشر

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الثاني عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 53

والغزارة بحيث لو أخذ منه أهل العالم كلهم أجمعون لوسعهم من غير أن تنفد علومه، وأنى كان للكوفة وأهلها أن يسعوا غالب علمه عليه السلام وهو القائل على منبر الكوفة: سلوني قبل أن تفقدوني، فإنما بين الجوانح مني علم جم، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا ما زقني رسول الله صلى الله عليه وآله زقا من غير وحي أوحى الله إلي، فوالله لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت لأهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم، حتى ينطق الله التوراة والإنجيل، فيقول: صدق علي، أفتاكم بما أنزل في، وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون . وكان يقول عليه السلام مشيرا إلى صدره الشريف: كم من علوم ههنا لو وجدت لها حاملا . وقال أيضا: لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير سورة الفاتحة . وإن أراد ابن تيمية أن غالب ما ظهر من علومه كان بالكوفة، ففيه: إن غالب علمه كان بالمدينة لا بالكوفة، فإن رجوع الشيوخ الثلاثة وغيرهم من الأصحاب إليه في المعضلات والمشكلات كان بالمدينة، وأما في الكوفة فلم يتفرغ للتعليم والارشاد، لاشتغاله عليه السلام فيها غالبا بما يتعلق بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين. قال: ومع هذا فأهل الكوفة قد تعلموا القرآن والسنة من قبل أن يتولى عثمان فضلا عن علي . أقول: يريد ابن تيمية تعلم أهل الكوفة القرآن والسنة على عهد عمر بن الخطاب، ولكن هذا توهم باطل وخيال فاسد، وذلك لوجوه: الأول: إن الكوفة إنما اختطت للمسلمين في السنة السابعة عشرة، وقد كان موت عمر بن الخطاب في السنة الثالثة والعشرين من الهجرة، فكيف تعلم أهل الكوفة القرآن والسنة - أو أكثرهما - في مدة ستة سنوات، مع أن عمر بن

ص 54

الخطاب قد تعلم سورة البقرة وحدها في اثني عشرة سنة كما في (الدر المنثور) (1) وغيره؟. الثاني: كيف يدعي ابن تيمية تعلم أهل الكوفة القرآن والسنة عن عمر بن الخطاب، مع ما ثبت واشتهر من جهل عمر بألفاظ القرآن ومعانيه، ومجانبته للسنة الشريفة ومعالمها؟ فإن أراد تعلمهم القرآن والسنة من أتباعه وأشياعه فهم أدنى مرتبة وأقل شأنا من إمامهم. الثالث: إن الذي ورد الكوفة من قبل عمر بن الخطاب هو عمار بن ياسر يصحبه عبد الله بن مسعود، فإن أراد ابن تيمية تعلم أهل الكوفة من هذين الرجلين فذاك يضره ولا ينفعه، فإن هذين الصحابيين الجليلين - وإن كان المرسل لهما إلى الكوفة هو عمر بن الخطاب - من أشهر وأفضل تلامذة أمير المؤمنين عليه السلام والآخذين عنه، فثبت أن أهل الكوفة قد تعلموا القرآن والسنة وأخذوهما عن باب مدينة العلم وهو علي، والحمد لله على ظهور الحق. وإليك بعض الشواهد على ما ذكرناه: قال ابن سعد: أخبرنا عفان بن مسلم وموسى بن إسماعيل قالا: نا وهيب عن داود عن عامر: إن مهاجر عبد الله بن مسعود كان بحمص، فحدره عمر إلى الكوفة وكتب إليهم: إني - والله الذي لا إله إلا هو - آثرتكم به على نفسي فخذوا منه (2). وقال ابن سعد: أخبرنا وكيع بن الجراح عن سفيان عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب قال: قرئ علينا كتاب عمر بن الخطاب أما بعد: فإني بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرا وابن مسعود معلما ووزيرا، وقد جعلت ابن مسعود على بيت مالكم، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، من أهل بدر، فاسمعوا لهما وأطيعوا واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بابن أم عبد على نفسي،

(هامش)

(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 1 / 21. (2) طبقات ابن سعد 3 / 157. (*)

ص 55

وبعثت عثمان بن حنيف على السواد، ورزقتهم كل يوم شاة فاجعلوا شطرها وبطنها لعمار، والشطر الباقي بين هؤلاء الثلاثة (1). وقال ابن عبد البر: وبعثه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الكوفة، مع عمار بن ياسر، وكتب إليهم: إني بعثت عليكم بعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر، فاقتدوا بهما واسمعوا من قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي (2). وقال: وروى شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن المضرب قال: قرأت كتاب عمر إلى أهل الكوفة أما بعد: فإني بعثت إليكم عمارا أميرا وعبد الله بن مسعود وزيرا ومعلما، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فاسمعوا لهما واقتدوا بهما، فإني قد آثرتكم بعبد الله على نفسي أثرة (3). وقال ابن الأثير: واستعمله عمر بن الخطاب على الكوفة، وكتب إلى أهلها: أما بعد فإني قد بعثت إليكم عمارا أميرا، وعبد الله بن مسعود وزيرا ومعلما، وهما من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فاقتدوا بهما (4). وقال الذهبي: الثوري، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب قال: قرئ علينا كتاب عمر: إني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرا، وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أهل بدر، فاقتدوا بهما واسمعوا، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي (5). وقال ابن حجر: وسيره عمر إلى الكوفة، ليعلمهم أمور دينهم، وبعث عمارا

(هامش)

(1) المصدر نفسه 3 / 255. (2) الإستيعاب 3 / 992. (3) المصدر نفسه 3 / 1140. (4) أسد الغابة 3 / 258. (5) تذكرة الحفاظ 1 / 14. (*)

ص 56

أميرا وقال: إنهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله، فاقتدوا بهما (1). وقال بترجمة عمار: ثم استعمله عمر على الكوفة، وكتب إليهم أنه من النجباء من أصحاب محمد (2). ومن جميع ما ذكرنا يظهر بطلان قوله الآخر: وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر . بالإضافة إلى ما ثبت واشتهر من رجوع عمر بنفسه إلى الإمام عليه السلام في المعضلات بكثرة، فلو أن أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر فلا بد وأنهم قد تعلموه من أمير المؤمنين، باب مدينة علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا من عمر الذي اشتهر عنه قوله: لولا علي لهلك عمر وقوله: كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في الحجال وقوله: ألا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت، ناضلت إمامكم فنضلته . اليمن وأما قوله: وتعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من علي، ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ بن جبل أكثر مما رووا عن علي . فيشتمل على دعاوى عديدة باطلة: 1 - تعليم معاذ بن جنبل لأهل اليمن. 2 - مقام معاذ بن جبل في أهل اليمن. 3 - إن تعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن أكثر من تعليم علي عليه السلام. 4 - إن مقام معاذ فيهم أكثر من مقام علي عليه السلام. 5 - رواية أهل اليمن عن معاذ. 6 - إن ما رووه عن معاذ أكثر مما رووا عن علي عليه السلام.

(هامش)

(1) الإصابة 2 / 361. (2) الإصابة 2 / 506. (*)

ص 57

وليس لابن تيمية أي دليل أو شاهد لشيء من هذه الدعاوى، فذكر هذه الأمور في مقابلة الإمامية ليس إلا سفاهة ورقاعة، بل إن كثيرا منها لا يقبل الإثبات على ضوء كلمات أهل السنة ورواياتهم أيضا، وتفصيل ذلك هو: أن الأصل في هذا المطلب بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليه السلام ومعاذ بن جبل إلى اليمن، لكن بعث الإمام متفق عليه بين الفريقين. أما بعث معاذ فمما رواه أهل السنة خاصة، ولا يجوز لهم إلزام الشيعة به، ولو سلمنا ذلك لم يكن فيه نفع لابن تيمية، لعدم الريب في أن بعث الإمام عليه السلام كان للتعليم والارشاد، وأن بعث معاذ بن جبل كان لأجل جبر حالته الدنيوية كما دريت مما ذكرناه سابقا في جواب كلام العاصمي. وأما ما ذكره بعض أهل السنة من أنه صلى الله عليه وآله بعث معاذا إلى اليمن للقضاء فباطل محض، وافتعال صرف، لم يرد به حديث صحيح، بل الأصل في ذلك الحديث الذي رواه الترمذي، وقدح فيه هو وغيره من أكابر علمائهم، وإن شئت تفصيل الكلام في إثبات وضع هذا الحديث حسب كلمات مشاهير أهل السنة، فراجع كتاب (استقصاء الافحام في الرد على منتهى الكلام). وإذا كان بعث معاذ بن جبل إلى اليمن لأمر دنيوي خاص به، لم يجز القول بأنه راح إليها للتعليم، فضلا عن القول بأن تعلم أهل اليمن منه كان أكثر من تعلمهم من علي، ولو فرض قيام معاذ ببعض التعليم مع ذلك، فلا ريب في فساد ما ألقاه إليهم، لما تقدم سابقا من جهل معاذ بمسائل الحلال والحرام، ومن شاء فليرجع إليه، وحينئذ فلو كان معاذ قد عمر عمر نوح وأقام في أهل اليمن كل تلك المدة لما أفادهم مثل نقير، فضلا عن أن يفوق على باب مدينة العلم في تعليمهم. ومع تسليم أنه بعث إلى اليمين للتعليم كما يدعي المخترصون من أهل السنة، فإن ترجيح تعليمه على تعليم الإمام عليه السلام غير جائز، لعدم الخلاف بين المسلمين في أنه عليه السلام أفضل من معاذ بن جبل، وعلى هذا فلو

ص 58

بقي معاذ في أهل اليمن عمر نوح، ولم يلبث فيهم الإمام إلا يسيرا لرجح تعليم الإمام على تعليم معاذ وكان أفضل وأشد تأثيرا وأكثر فائدة، وستعلم فيما بعد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث خالد بن الوليد إليهم أولا، ولبث فيهم خالد ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجبه أحد، ثم بعث الإمام عليه السلام فأسلم على يده همدان في أول يوم، وهذا أصدق شاهد على أن كلام الفاضل أشد تأثيرا من كلام المفضول، وإن كانت إقامته أطول ودعوته أكثر... من هنا يظهر بطلان قياس تعليم الإمام عليه السلام بتعليم غيره، فضلا عن تعليم معاذ على تعليمه، ولنعم ما قال عليه السلام: لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه وآله من هذه الأمة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمته عليهم أبدا . وأما ما ادعاه ابن تيمية في قوله: وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ بن جبل فكذب شنيع، لا يمكن لأحد من أولياء ابن تيمية تصحيحه على أصول السنية، فضلا عن طريق الإمامية، فإن تعلم شريح من معاذ لم يذكره إلا علي بن المديني غير جازم به، بل حكاه عن قائل مجهول، ففي (الإصابة) بترجمة شريح: وقال ابن المديني: ولي قضاء الكوفة ثلاثا وخمسين سنة، ونزل البصرة سبع سنين، ويقال: إنه تعلم من معاذ، إذ كان باليمن (1)، ومن الواضح أن هكذا أمر لا يثبت بمجرد قول من مجهول. بل إن التتبع لكتب الرجال والتراجم يفيد بعض القرائن على النفي، منها: عدم ذكر معاذ فيمن روى عنه شريح، ولو كان متفقها عليه لذكر اسمه فيمن روي عنه قبل غيره قطعا، ولا أقل من ذكره فيما بينهم. وإليك نص ترجمة ابن حبان لشريح: شريح بن الحارث القاضي الكندي حليف لهم... كنيته أبو أمية، وقد قيل: أبو عبد الرحمن، كان قائفا، وكان شاعرا، وكان قاضيا، يروي عن عمر بن الخطاب، روى عنه الشعبي، مات سنة ثمان وسبعين أو سبع

(هامش)

(1) الإصابة 2 / 144. (*)

ص 59

وثمانين، وهو ابن مائة وعشر سنين، وقد قيل: ابن مائة وعشرين سنة، وكان قد بقي على القضاء خمسا وسبعين سنة، ما تعطل فيه إلا ثلاث سنين في فتنة ابن الزبير (1). وقال النووي: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، وقيل: لقيه، والمشهور الأول، قال يحيى بن معين: كان في زمن النبي ولم يسمع منه. روى عن: عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعروة البارقي رضي الله عنهم (2). وقال ابن حجر: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وعن عمر وعلي وابن مسعود وعروة البارقي وعبد الرحمن بن أبي بكر (3). وقال الخزرجي: كان من أجلة العلماء وأذكى العالم، عن: علي وابن مسعود. وعنه: الشعبي وأبو وائل (4). وعدم ذكرهم معاذا فيمن روى عنه شريح قرينة جلية على عدم روايته عنه، لأنه لو روى عنه ولو قليلا لذكر، لأن ابن تيمية يرى أن قلة الرواية دليل على قلة الأخذ، فإذ لم يذكر أصلا فإنه لم يأخذ عنه أبدا. هذا كله بالنسبة إلى دعوى تفقه شريح على معاذ. وأما دعوى تفقه غيره من أكابر التابعين على معاذ بن جبل، فهي دعوى عارية عن الدليل، ولم يقل بها قائل معروف ولا مجهول. وأما قوله: ولما قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضيا فكلام لا نفع له فيه أبدا، فأي دليل على صحة قضاءه في الكوفة قبل ورود الإمام عليه السلام، وما أكثر الذين نصبوا للقضاء وهم جهال؟ سلمنا لكنه ممن روى عن أمير المؤمنين

(هامش)

(1) الثقات لابن حبان 4 / 352. (2) تهذيب الأسماء واللغات 1 / 243. (3) تهذيب التهذيب 4 / 326. (4) خلاصة تذهيب التهذيب: 165. (*)

ص 60

عليه السلام كما عرفت. هذا مع أنه كان يرجع في المعضلات الواردة عليه إلى الإمام عليه السلام وعبيدة السلماني وهو من تلامذة الإمام... كما ستعرف عن قريب، فلم يكن مستغنيا عن الأخذ من الإمام عليه السلام، كما لم يستغن عنه الثلاثة وأكابر الصحابة. فقوله: وهو وعبيدة السلماني تفقها على غيره مردود، لأن تفقه شريح على غير الإمام عليه السلام دعوى بلا دليل، أما تفقهه على معاذ بن جبل - كما زعم - فقد عرفت عدم الدليل عليه، بل الدليل على عدمه، وأما تفقهه على غير معاذ فمن هو ذلك الغير؟ وأما دعوى تفقه عبيدة السلماني على غير الإمام عليه السلام فمن أعاجيب الأكاذيب، لإجماع علماء الرجال على تفقه عبيدة السلماني على الإمام وعبد الله بن مسعود، قال السمعاني: هو من أصحاب علي وابن مسعود، حديثه مخرج في الصحيحين... وقال أحمد بن عبد الله العجلي: عبيدة السلماني كان أعور، وكان أحد أصحاب عبد الله الذين يقرؤن ويفتون. وكان شريح إذا أشكل عليه الشيء قال: إن ههنا رجلا في بني سلمة فيه خبرة، فيرسلهم إلى عبيدة، وكان ابن سيرين من أروى الناس عنه، وكل شيء روى ابن سيرين عن عبيدة سوى رأيه فهو عن علي. ومات سنة اثنتين وسبعين أو ثلاث من الهجرة (1). وقال النووي: هو مشهور بصحبة علي. روى عنه: الشعبي والنخعي وأبو حصين وابن سيرين وآخرون، نزل الكوفة، وورد المدينة، وحضر مع علي قتال الخوارج، وكان أحد أصحاب ابن مسعود الذين يقرؤن ويفتون، وكان شريح إذا أشكل عليه شيء أرسل إلى عبيدة... (2). وقال المزي: قال العجلي: كوفي تابعي ثقة، أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، ولم ير النبي، وكان من أصحاب علي وابن مسعود، وكان

(هامش)

(1) الأنساب - السلماني. (2) تهذيب الأسماء واللغات 1 / 317. وفيه: أرسلهم بدل أرسل . (*)

ص 61

أعور، وكان شريح إذا أشكل عليه الشيء بعث إليه، وكل شيء روى ابن سيرين عن عبيدة فهو عن علي سوى رأيه (1). وقال ابن حجر: وكان من أصحاب علي وعبد الله (2). وقال أيضا: وعده علي بن المديني في الفقهاء من أصحاب ابن مسعود (3). فظهر أن ما ذكره من تفقه عبيدة السلماني على غير الإمام عليه السلام إفك محض وبهت بحت، لأن تفقهه ليس إلا عليه إما مباشرة وإما بواسطة تلميذه عبد الله بن مسعود، لكن التفقه على الإمام عليه السلام والأخذ عنه لا يلازم التشيع والمتابعة، كما ذكرنا، ومن هنا نرى أن هذين الرجلين لم يكونا على مذهب الإمام عليه السلام، بل كان بعض فتاويهما في الكوفة على خلاف رأيه، إلا أن الإمام تركهما على ذلك خشية الفتنة والاختلاف، ففي البخاري: حدثنا علي بن الجعد، نا شعبة بن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة عن علي قال: أقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف، حتى يكون الناس جماعة، أو أموت كما مات أصحابي (4). وقد أوضح ذلك شراح البخاري، قال ابن حجر: قوله: عن علي قال: أقضوا كما في رواية الكشميهني على ما كنتم تقضون. قيل: وفي رواية حماد بن زيد عن أيوب: أن ذلك بسبب قول علي بن بيع أم الولد، وأنه كان يرى هو وعمر أنهن لا يبعن، وأنه رجع عن ذلك فرأى أن يبعن. قال عبيدة: فقلت له: رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة، فقال علي ما قال. قلت: وقد وقفت على رواية حماد بن زيد، أخرجها ابن المنذر عن علي بن عبد العزيز عن أبي نعيم عنه، وعنده قال لي عبيدة: بعث إلي علي وإلى شريح فقال: إني أبغض

(هامش)

(1) تهذيب الكمال 19 / 266. (2) تهذيب التهذيب 7 / 84. (3) المصدر نفسه 7 / 85. (4) صحيح البخاري 5 / 81 - فضائل أصحاب النبي مناقب علي. (*)

ص 62

الاختلاف، فاقضوا كما كنتم تقضون، فذكره إلى قوله أصحابي، قال: فقتل علي قبل أن يكون جماعة. قوله: فإني أكره الاختلاف، أي الذي يؤدي إلى النزاع، قال ابن التين: يعني مخالفة أبي بكر وعمر. وقال غيره: المراد المخالفة التي تؤدي إلى النزاع والفتنة، ويؤيده قوله بعد ذلك: حتى يكون الناس جماعة... (1). فاندفع ما توخاه بقوله: فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي الكوفة لما عرفت من أن علم الإسلام انتشر في المدائن عن طريق باب مدينة العلم فقط دون غيره، وأنه لا سبيل إلى علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا من هذا الباب، فمن أتاه فقد امتثل أمر النبي، ومن لم يأته هلك وخسر، وكل ما خرج من هذا الباب فهو علم ونور وهداية، وكل ما كان من غيره فهو جهل وظلمة وضلالة. ولقد دمرنا بفضل الله على تزويقات ابن تيمية تدميرا، وتبرنا قاطبة تلفيقاته تتبيرا، ولم نترك من كلماته الزائغة نقيرا ولا قطميرا، ولله الحمد على ذلك حمدا كثيرا كثيرا.

(هامش)

(1) فتح الباري 7 / 59. وانظر: عمدة القاري 16 / 218. وإرشاد الساري 6 / 118. (*)

ص 63

(5) مع يوسف الأعور في كلامه حول الحديث

 وأجاب يوسف الأعور الواسطي في (رسالته) في الرد على الشيعة، عن حديث مدينة العلم بقوله: الثاني من حجج الرافضة بالعلم: حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها. والجواب عنه أيضا من وجوه: أحدها: إن هذا الحديث يتضمن ثبوت العلم لعلي رضي الله عنه، ولا شك أنه بحر علم زاخر لا يدرك قعره، إلا أنه لا يتضمن ثبوت الرجحان على غيره، بدليل ثبوت العلم لغيره على وجه المساواة، بقول النبي صلى الله عليه وسلم عن مجموع الأصحاب: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. فثبت العلم لكلهم. ثانيها: إن بعض أهل السنة ينقل زيادة على هذا القدر، وذلك قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها، وأبو بكر وعمر وعثمان حيطانها وأركانها. والباب فضاء فارغ، والحيطان والأركان طرف محيط، فرجحانهن على الباب ظاهر. ثالثها: دفع في تأويل علي بابها. أي مرتفع. وعلى هذا يبطل الاحتجاج به للرافضة . أقول: أما الوجه الأول فالجواب عنه من وجوه: دلالة الحديث على رجحان علم الإمام أحدها: إن حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها يتضمن رجحان علم الإمام عليه السلام على علم غيره، لا على ثبوت العلم له عليه السلام كما زعم الأعور، لأن من بلغ في العلم مرتبة جعله النبي صلى الله عليه وآله بابا إلى نفسه

ص 64

- وهو مدينة العلم - يكون أعلى مرتبة وأرجح علما من غيره، وهذا ظاهر كل الظهور. دلالته على الإحاطة بعلوم النبي وثانيها: إن هذا الحديث يدل على إحاطة أمير المؤمنين عليه السلام وعلمه بجميع علوم النبي صلى الله عليه وآله، ورجحان علم النبي لا يشك فيه أحد، فمن كان عالما بجميع علومه يكون علمه راجحا على غيره بالضرورة. دلالته على الأعلمية وثالثها: إن هذا الحديث يدل على أعلمية الإمام عليه السلام، كما اعترف به جماعة من أهل السنة الأعلام، أمثال أبي بكر محمد بن علي الخوافي، وشهاب الدين أحمد، وابن روز بهان الشيرازي، وعبد الرؤف المناوي، وابن حجر المكي، وغيرهم، وعليك بمراجعة كلمات هؤلاء وغيرهم لئلا تغتر بأقاويل الأعور. بطلان دعوى المساواة بين الأصحاب في العلم ورابعها: ما ذكره بقوله: بدليل ثبوت العلم لغيره على وجه المساواة، من الأباطيل الواضحة، فإن اختلاف مراتب الصحابة في العلم من الأمور الضرورية عند كل ذي فهم فضلا عن العلماء الأعلام. حديث أصحابي كالنجوم موضوع وخامسها: احتجاجه بحديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم من غرائب الأمور، فإن هذا الحديث كذب، وقد حكم بوضعه أكابر المحققين من أهل السنة، كما دريت ذلك بالتفصيل في قسم حديث الثقلين، ونشير هنا إلى بعض كلمات القوم:

ص 65

1 - قال حافظ المغرب أبو عمر ابن عبد البر القرطبي ما نصه: قال المزني رحمه الله في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم قال: إن صح هذا الخبر فمعناه فيما نقلوا عنه وشهدوا به عليه، فكلهم ثقة مؤتمن على ما جاء به، لا يجوز عندي غير هذا. وأما ما قالوا فيه برأيهم فلو كان عند أنفسهم كذلك ما خطأ بعضهم بعضا ولا أنكر بعضهم على بعض، ولا رجع منهم أحد إلى قول صاحبه. فتدبر. وعن محمد بن أيوب الرقي قال قال لنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار: سألتم عما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم مما في أيدي العامة، يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: مثل أصحابي كمثل النجوم وأصحابي كالنجوم فبأيهما اقتدوا اهتدوا. قال: وهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وربما رواه عبد الرحيم عن أبيه عن ابن عمر. وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم بن زيد، لأن أهل العلم قد سكتوا عن الرواية لحديثه. والكلام أيضا منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي فعضوا عليها بالنواجذ. وهذا الكلام يعارض حديث عبد الرحيم لو ثبت فكيف ولم يثبت، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه. والله أعلم. هذا آخر كلام البزار. قال أبو عمر: قد روى أبو شهاب الخياط عن حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أصحابي مثل النجوم فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم. وهذا لا يصح ولا يرويه عن نافع من يحتج به. وليس كلام البزار بصحيح على كل حال. لأن الاقتداء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منفردين إنما هو لمن جهل ما يسأل عنه، ومن كانت هذه حاله فالتقليد لازم له،

ص 66

ولم يأمر أصحابه أن يقتدي بعضهم ببعض، إذا تأولوا تأويلا سائغا جائزا ممكنا في الأصول، وإنما كل واحد منهم جائز أن يقتدي به العامي الجاهل بمعنى ما يحتاج إليه من دينه، وكذلك سائر العلماء من العامة، والله أعلم. وقد روى في هذا الحديث إسناد غير ما ذكر البزار، عن سلام بن سليم قال: حدثنا الحارث بن غصين من الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. قال أبو عمر: هذا إسناد لا تقوم به حجة، لأن الحارث بن غصين مجهول (1). وفي هذا الكلام دلالة على بطلان حديث النجوم من وجوه عديدة لا تخفى على النبيه.

 2 - وقال ابن تيمية الحراني: أما قوله: أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم، فهذا الحديث ضعيف، ضعفه أئمة الحديث. قال البزار: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هو في كتب الحديث المعتمدة (2).

 3 - وقال أبو حيان محمد بن يوسف الغرناطي: قال الزمخشري: فإن قلت: كيف كان القرآن تبيانا لكل شيء؟ قلت: المعنى أنه بين كل شيء من أمور الدين، حيث كان نصا على بعضها، وإحالة على السنة حيث أمر فيه باتباع رسول الله وطاعته وقيل: (وما ينطق عن الهوى) وحثا على الإجماع في قوله: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته اتباع أصحابه والاقتداء بآثارهم في قوله: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. وقد اجتهدوا وقاسوا ووطأوا طرق القياس والاجتهاد، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد مستندة إلى تبيين الكتاب، فمن ثم كان تبيانا لكل شيء. إنتهى. وقوله: وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله اهتديم. لم يقل

(هامش)

(1) جامع بيان العلم 2 / 89 - 90. (2) منهاج السنة 4 / 239. (*)

ص 67

ذلك رسول صلى الله عليه وسلم، وهو حديث موضوع لا يصح بوجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن حزم في رسالته في إبطال الرأي والقياس والاستحسان والتعليل والتقليد ما نصه: وهذا خبر مكذوب موضوع باطل لم يصح قط. وذكر إسنادا إلى البزار صاحب المسند قال: سألتم عما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما في أيدي العامة ترويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ربما مثل أصحابي كمثل النجوم أو كالنجوم بأيها اقتدوا اهتدوا، وهذا كلام لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم، لأن أهل العلم سكتوا عن الرواية لحديثه. والكلام أيضا منكر ولم يثبت، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه. هذا نص كلام البزار. وقال ابن معين: عبد الرحيم بن زيد كذاب خبيث ليس بشيء. وقال البخاري: وهو متروك. ورواه أيضا حمزة، وحمزة هذا ساقط متروك (1).

 4 - وقال أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي: حديث: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. رواه الدار قطني في الفضائل وابن عبد البر في العلم من طريقه من حديث جابر وقال: هذا إسناد لا يقوم حجة، لأن الحارث ابن غصين مجهول، ورواه عبد بن حميد في مسنده من رواية عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن ابن المسيب عن ابن عمر. قال البزار: منكر لا يصح. ورواه ابن عدي في الكامل من رواية حمزة بن أبي حمزة النصيبي بلفظ: فأيهم أخذتم بقول بدل اقتديتم. وإسناده ضعيف من أجل حمزة، فقد اتهم بالكذب. ورواه البيهقي في المدخل من حديث عمر، ومن حديث ابن عباس بنحوه، من وجه آخر

(هامش)

(1) البحر المحيط 5 / 527 - 528. (*)

ص 68

مرسلا وقال: متنه مشهور وأسانيده ضعيفة لم يثبت في هذا إسناد. وقال ابن حزم: مكذوب موضوع باطل. قال البيهقي: يروي بعض معناه (1).

 5 - وقال الحافظ ابن حجر: (حديث) أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. عبد بن حميد في مسنده من طريق حمزة النصيبي عن نافع ابن عمر، وحمزة ضعيف جدا. ورواه الدارقطني في غرائب مالك من طريق جميل بن زيد عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر، وجميل لا يعرف، ولا أصل له في حديث مالك ولا من فوقه، وذكره البزار من رواية عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر، وعبد الرحيم كذاب. ومن حديث أنس أيضا وإسناده واه. ورواه القضاعي في مسند الشهاب له من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وفي إسناده جعفر بن عبد الواحد الهاشمي وهو كذاب، ورواه أبو ذر الهروي في كتاب السنة من حديث مندل عن جويبر عن الضحاك بن مزاحم منقطعا، وهو في غاية الضعف. قال أبو بكر البزار: هذا الكلام لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن حزم: هذا خبر مكذوب موضوع باطل. وقال البيهقي في الاعتقاد عقب حديث أبي موسى الأشعري الذي أخرجه مسلم بلفظ: النجوم أمنة أهل السماء فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون. قال البيهقي: روي في حديث موصول بإسناد غير قوي، يعني حديث عبد الرحيم العمي، وفي حديث منقطع، يعني حديث الضحاك بن مزاحم: مثل أصحابي كمثل النجوم في السماء من أخذ بنجم منها اهتدى. قال: والذي رويناه ههنا من الحديث الصحيح يؤدي بعض معناه. قلت: صدق البيهقي، هو يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم خاصة، أما في الاقتداء فلا يظهر في حديث أبي موسى. نعم يمكن أن يتلمح ذلك من

(هامش)

(1) تخريج أحاديث المنهاج - مخطوط. (*)

ص 69

معنى الاهتداء بالنجوم. وظاهر الحديث إنما هو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة من طمس السنن وظهور البدع وفشو الفجو في أقطار الأرض. فالله المستعان (1). عدم دلالة حديث النجوم على المساواة وسادسها: إن حديث أصحابي كالنجوم لا يثبت العلم للصحابة على وجه المساواة كما يزعم الأعور، بل هو ظاهر في اختلاف مراتب الأصحاب في العلم، كما ذكر الشيخ علي القاري في كلامه الآتي نصه فيما بعد إن شاء الله. وقال إبراهيم بن الحسن الكردي الكوراني في كتابه (النبراس): إن الله تعالى ما أمرنا في كتابه إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) وقال: (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) وقال: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقال: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). فكان اتباع النبي هو عين اتباع ما يوحى إليه من ربه. ولذا قال: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) فاتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله وإطاعته هو المأمور به. فرجعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى ننظر ماذا يأمرنا به وماذا ينهانا عنه، حتى نأخذ بالأول وننتهي عن الثاني، فرأيناه يقول: مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم

(هامش)

(1) التلخيص الحبير 4 / 190 - 191. (*)

ص 70

به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة. فعلمنا أن ما يوجد منصوصا عليه في كتاب الله لا بد من الأخذ به، والمخالف التارك للعمل به لا عذر له فهو زائغ، ثم ما لم يوجد منصوصا عليه في الكتاب ووجد منصوصا عليه في السنة وجب الأخذ به والمخالف مخطئ آثم، ثم إن لم يوجد منصوصا عليه فيهما رأيناه قد أحالنا على الأخذ بقول المجتهدين من الصحابة رضي الله عنهم، وصوب الجميع حيث نص على أن الآخذ بقول أيهم كان مهتديا، ولا يكون التابع مهتديا إلا إذا كان المتبوع مهتديا بلا شبهة. وأشار بتشبيههم بالنجوم إلى تفاوت مراتبهم في العلم، فإن النجوم وإن كانت مشتركة في أصل النور الذي يهتدي به في ظلمات البر والبحر، لكنه لا خفاء في تفاوت مراتبها في النور والإشراق والإضاءة. وأشار بذلك أيضا إلى أن تفاوت مراتبهم في نور العلم لا يوجب خللا في الاهتداء بهم، ولا أن الآخذ بقول أقلهم علما غير مهتد، كما لا يوجب تفاوت مراتب النجوم في النور أن يكون الآخذ بالأقل نورا غير مهتد. يوضحه ما أخرجه السجزي في الإبانة وابن عساكر عن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سألت ربي تبارك وتعالى فيما يختلف فيه أصحابي من بعدي، فأوحى إلي يا محمد: إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء بعضها أضوء من بعض، فمن أخذ شيئا مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى. إنتهى. وما أحسن قول القائل: من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم * مثل النجوم التي يسري بها الساري وسيدنا الإمام علي وابناه رضي الله تعالى عنهم داخلون في الصحابة كما لا يخفى. فعلمنا أن جميع الصحابة مشتركون في أصل الاهتداء بهم مع تفاوت درجاتهم . إثبات العلم لكل الصحابة محال وسابعها: كيف يتمكن الأعور من إثبات العلم لكل الصحابة، على وجه

ص 71

المساواة أو التفاوت؟ وأي دلالة في حديث النجوم الموضوع على ذلك؟ ومن هنا ترى الكردي ينزل الحديث على المجتهدين من الصحابة فيقول: ثم إن لم يوجد منصوصا عليه فيهم، رأيناه قد أحالنا على الأخذ بقول المجتهدين من الصحابة رضي الله عنهم، وصوب الجميع حتى نص على أن الآخذ بقول أيهم كان مهتديا . ويقول نصر الله الكابلي في (الصواقع) عند ذكر حديث النجوم: والمراد من الأصحاب من لازمه عليه السلام، من المهاجرة والأنصار وغيرهم، غدوة وعشية، وصحبه في السفر والحضر، وتلقى الوحي منه طريا، وأخذ عنه الشريعة والأحكام وآداب الإسلام، وعرف الناسخ والمنسوخ، كالخلفاء الراشدين وغيرهم، لا كل من رآه مرة أو أكثر . وأما الوجه الثاني فالجواب عنه أيضا من وجوه: حديث مدينة العلم ثابت عن طرق الفريقين أحدها: إن حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها ثابت من طرق الفريقين، فليثبت الأعور تلك الزيادة المزعومة من طرق الفريقين كذلك، وليس له إلى آخر الدهر من سبيل. ليس للزيادة المزعومة طريق واحد موثوق به وثانيها: وهل بوسع الأعور أن يذكر لهذه الزيادة المزعومة في الحديث طريقا واحدا عن أهل مذهبه؟ لا سبيل له إلى ذلك كذلك، فإن أحدا من علماء أهل السنة الاثبات لم يثبت هذه الزيادة، ومن ادعى فعليه البيان. ومن الذي رواها؟ وثالثهما: إنه لا أقل من أن يذكر الأعور أسماء بعض رواة هذه الزيادة،

ص 72

والناقلين لها في كتبهم، لننظر في أحوالهم، ونراجع ألفاظهم وأقوالهم. لو ثبتت لم تكن حجة على الإمامية ورابعها: إنه لو فرض ذكر الأعور أسماء نقلة هذه الزيادة، وزعمه أنهم من أكابر أهل السنة، فإن من المعلوم أن حديث الخصم من طرقه لا يكون حجة الطرف الآخر في مقام الاحتجاج، ولا يجوز له إلزامه به، فكيف بزيادة بعض الوضاعين الأفاكين في حديث مروي عن سيد المرسلين، بطرق معتبرة لدى جميع المسلمين؟ الأصل في الزيادة والكلمات فيه وفي واضعها فمن هو الأصل في هذه الزيادة؟ وما هي آراء أئمة الحديث فيها وفي واضعها؟. قال السيوطي: وقال ابن عساكر في تاريخه، أنا أبو الحسن بن قبيس ثنا عبد العزيز بن أحمد، ثنا أبو نصر عبد الوهاب بن عبد الله بن عمر المري، ثنا أبو القاسم عمر بن محمد بن الحسين الكرخي، ثنا علي بن محمد بن يعقوب البرذعي، ثنا أحمد بن محمد بن سليمان قاضي القضاة حدثني أبي، ثنا الحسن بن تميم بن تمام عن أنس مرفوعا: أنا مدينة العلم وأبو بكر وعمر وعثمان سورها وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب. قال ابن عساكر: منكر جدا إسنادا ومتنا. وقال ابن عساكر: أنبأنا أبو الفرج غيث بن علي الخطيب، حدثني أبو الفرج الاسفرائني قال: كان أبو سعد إسماعيل بن المثنى الاسترآبادي يعظ بدمشق، فقام إليه رجل فقال: إيها الشيخ ما تقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا مدينة العلم وعلي بابها؟ قال: فأطرق لحظة ثم رفع رأسه وقال: نعم، لا يعرف هذا الحديث على التمام إلا من كان صدرا في الإسلام، إنما قال النبي صلى الله عليه

ص 73

وسلم: أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها. قال: فاستحسن الحاضرون ذلك وهو يردده. ثم سألوه أن يخرج لهم إسناده فأنعم ولم يخرجه لهم. ثم قال شيخي أبو الفرج الاسفرائني: ثم وجدت هذا الحديث بعد مدة في جزء على ما ذكره ابن المثنى. إنتهى (1). يفيد هذا الكلام أن واضع هذه الزيادة في حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها هو إسماعيل الاسترآبادي ، ولا ينافي ذلك قول أبي الفرج أنه قد وجد هذا الحديث بعد مدة في جزء على ما ذكره إسماعيل بن المثنى الاسترآبادي، لاحتمال كون صاحب الجزء قد سمع الحديث من الاسترآبادي المذكور، ومن هنا ذكر ابن حجر هذا الحديث شاهدا على اتهام إسماعيل الاسترآبادي حيث قال: إسماعيل بن علي بن المثنى الاسترآبادي الواعظ. كتب عنه أبو بكر الخطيب وقال: ليس بثقة. وقال ابن طاهر: مزقوا حديثه بين يديه ببيت المقدس. وفي تاريخ الخطيب عنه: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق الرملي، حدثنا هشام بن عمار، أنا إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعد، عن خالد عن شداد ابن أوس مرفوعا قال: بكى شعيب من حب الله حتى عمي. فذكر الحديث وفيه: فلذا أخدمتك موسى كليمي. قلت: هذا حديث باطل لا أصل له. إنتهى. وقد رواه الواحدي في تفسيره عن أبي الفتح محمد بن علي المكفوف عن علي بن الحسن بن بندار والد إسماعيل، فبرئ إسماعيل من عهدته، والتصقت الجناية بأبيه وسيأتي. وإسماعيل مع ذلك متهم، قال غيث بن علي الصوري: حدثني سهل بن بشير بلفظ غير مرة قال: كان إسماعيل يعظ بدمشق فقام إليه رجل فسأله عن حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها. فقال: هذا مختصر وإنما هو: أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها. قال: فسألوه أن يخرج

(هامش)

(1) اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1: 335. (*)

ص 74

لهم إسناده فوعدهم به. قال الخطيب: سألته عن مولده فقال: ولدت بإسفرائن سنة 375 قال ومات في المحرم سنة 448. وقال أبو سعد ابن السمعاني في الأنساب: كان يقال له كذاب ابن كذاب، ثم نقل عن عبد العزيز النخشبي قال: وحدث عن شافع بن أبي عوانه وأبي سعد ابن أبي بكر الإسماعيلي والحاكم والسلمي وأبي الفضل الخزاعي وغيرهم، وكان يقص ويكذب، ولم يكن على وجهه سيما المتقين. قال النخشبي: دخلت على أبي نصر عبيد الله بن سعيد السجزي بمكة فسألته عنه فقال: هذا كذاب ابن كذاب لا يكتب عنه ولا كرامة. قال: وتبينت ذلك في حديثه وحديث أبيه، يركب المتون الموضوعة على الأسانيد الصحيحة، ولم يكن موثوقا به في الرواية (1). وهذا هو النص الكامل لعبارة السمعاني بترجمة الرجل: وأبو سعد إسماعيل بن علي بن الحسين بن بندار بن مثنى التميمي الاسترآبادي العنبري، من أهل استراباد: قيل: هو كذاب ابن كذاب يروي عن أبيه وأبوه أبو الحسن من الكذابين أيضا. رحل إلى الشام والعراق والحجاز يروي عن شيوخ كثيرة مثل: أبي عبد الله محمد بن إسحاق الرملي وابن كرمون الأنطاكي. روى عنه ابنه أبو سعد وأبو محمد بن إسماعيل بن كثير الاسترآبادي، وهو آخر من روي عنه فيما أظن. قال أبو محمد عبد العزيز بن محمد النخشبي: أبو سعد الاسترآبادي التميمي كذاب وأبوه كذاب أيضا، يروي عن أبي بكر الجارودي، وكان هذا الجارودي يروي عن يونس بن عبد الأعلى وطبقته الذين ماتوا بعد الستين ومائتين، فروى أبو الحسن بن المثنى عنه عن هشام بن عمار فكذب عليه ما لم يكن يجتري أن يكذب هو بنفسه، لا يحل الرواية عنه إلا على وجه التعجب. قال أبو سعد: ولد والدي بآمل وأصله من البصرة عاش أظنه مائة وإحدى

(هامش)

(1) لسان الميزان 1 / 422. (*)

ص 75

عشر سنة كما سمعت، قرأ الفقه على أبي إسحاق المروزي، وشاهد أبا بكر بن مجاهد المقري، وأبا الحسن الأشعري، ونفطويه، وغلام ثعلب، وأبا بكر الشبلي وغيرهم من أئمة العلماء، وتوفي باستراباد في رجب سنة أربعمائة. وابنه أبو سعد التميمي حدث عن أبيه، وشافع بن محمد بن أبي عوانة الاسفرائني، وأبي العباس الضرير الرازي، وأبي سعد بن أبي بكر الإسماعيلي، وأبي عبد الله بن البيع الحافظ، وأبي عبد الرحمن السلمي، وأبي الفضل محمد بن جعفر الخزاعي وغيرهم. روى عنه عبد العزيز بن محمد النخشبي، وأحمد بن علي بن ثابت الخطيب الحافظان قال الخطيب: قدم علينا بغداد حاجا سمعت منه حديثا واحدا مسندا منكرا. وذكره النخشبي في معجم شيوخه فقال: أبو سعد ابن المثنى التميمي، وفي التميمي نظر، شيخ كذاب ابن كذاب، يقص ويكذب على الله وعلى رسوله، ويجمع الذهب والفضة، لم يكن على وجهه سيما الإسلام. دخلت على الشيخ أبي نصر عبيد الله بن سعيد السجزي العالم بمكة فسألته عنه فقال: هو كذاب ابن كذاب، لا يكتب عنه ولا كرامة، تبينت ذلك في حديثه وحديث أبيه، يركب المتون الموضوعة على الأسانيد الصحاح ونعوذ بالله من الخذلان. قال أبو بكر الخطيب بعد أن روى حديثا وبيتين من الشعر عنه عن طاهر الخثعمي عن الشبلي ثم قال: هذا جميع ما سمعت من أبي سعد ببغداد. ولم يكن موثوقا به في الرواية ثم لقيته ببيت المقدس عند عودي من الحج سنة 446، فحدثني عن جماعة وسألته عن مولده فقال: ولدت باسفراين في سنة 375 ومات ببيت المقدس في المحرم سنة 448 (1). فهذا هو الذي وضع هذه الزيادة، وهذه هي حاله، والأعور ذكر هذه الزيادة باختلاف في لفظها، إما من نفسه وإما من بعض الكذابين الآخرين، إلا

(هامش)

(1) الأنساب - التميمي. (*)

ص 76

أن أبا شكور السلمي يذكرها بلفظ آخر حيث يقول: القول الخامس في تفضيل الصحابة بعضهم على بعض رضي الله عنهم. قال أهل السنة والجماعة: إن أفضل الخلق بعد الأنبياء والرسل والملائكة عليهم السلام كان أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم. وروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال: من السنة أن تفضل الشيخين وتحب الختنين. وروي عنه رضي الله عنه أنه قال: عليك أن تفضل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. وتحب عثمان وعليا رضي الله عنهما. وفي رواية وتحب عليا وعثمان رضي الله عنهما. ولم يرد بهذا أفضلية علي رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه، لأن الترتيب في الذكر لا يوجب الترتيب في الحكم. وروي عن جماعة من الفقهاء قالوا: ما رأينا أحدا أحسن قولا في الصحابة رضي الله عنهم من أبي حنيفة رضي الله عنه. ولما روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه كان على المنبر بالكوفة فقال ابنه محمد ابن الحنفية رضي الله عنه: من خير هذه الأمة بعد نبينا عليه السلام؟ فقال: أبو بكر رضي الله عنه. فقال: ثم من؟ فقال: عمر رضي الله عنه. فقال: ثم من؟ فقال عثمان رضي الله عنه. فقال: ثم من؟ فسكت علي رضي الله عنه، ثم قال: لو شئت لأنبأتكم بالرابع وسكت فقال محمد رضي الله عنه: أنت؟ فقال: أبوك أمرؤ من المسلمين. وروي عن النبي عليه السلام: أنا مدينة العلم وأساسها أبو بكر وجدرانها عمر وسقفها عثمان وبابها علي (1). وسيجئ إن شاء الله تعالى شطر من الكلام في هذا الباب، في رد هفوات ابن حجر. دلالة الزيادة على خلاف مرامهم. وخامسها: إن هذه الزيادة الموضوعة تدل على خلاف مرام واضعها ومن

(هامش)

(1) التمهيد في بيان التوحيد - القول الخامس من مباحث النبوة. (*)

ص 77

يحتج بها، لأن كون الثلاثة حيطان المدينة وأركانها معناه كونهم الحائل والمانع عن الدخول إلى المدينة ومن حال دون وصول الأمة إلى مدينة العلم فليس بأهل للإمامة. لكن الأعور قد أعمي قلبه فلم يتفطن إلى ما يؤول إليه معنى هذه الزيادة المزعومة. وقد أشار إلى ما ذكرنا بعض علماء أهل السنة في شرح حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها، عند ذكر أسماء الإمام علي عليه السلام، فقال: ومنها: باب مدينة عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وبارك وسلم: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأته من بابها. رواه الطبري من تخريج أبي عمر. وأورده الإمام الفقيه المذكور وقال كما في الحديث. واعلم أن الباب سبب لزوال الحائل والمانع عن الدخول إلى البيت، فمن أراد الدخول وأتى البيوت من غير أبوابها شق وعسر عليه دخول البيت، فهكذا من طلب العلم ولم يطلب ذلك من علي رضي الله عنه وبيانه، فإنه لا يدرك المقصود، فإنه رضي الله عنه كان صاحب علم وعقل وبيان، ورب من كان عالما ولا يقدر على البيان والافصاح، وكان علي رضي الله عنه مشهورا من بين الصحابة بذلك، فباب العلم وروايته واستنباطه من علي رضي الله عنه، وهو كان بإجماع الصحابة مرجوعا إليه في علمه، موثوقا بفتواه، وحكمه، والصحابة كلهم يراجعونه مهما أشكل عليهم ولا يسبقونه، ومن هذا المعنى قال عمر: لولا علي لهلك عمر. رضي الله تعالى عنهم (1). ثم إن قول الأعور: والباب فضاء فارغ، والحيطان والأركان طرف محيط، فرجحانهن على الباب ظاهر كلام سفيه لا يعقل ما يقول، لأن كون الباب فضاء فارغا ممنوع أولا. وثانيا: لو سلمنا ذلك، فإن كونه كذلك كمال له وليس نقصا، لأن الوصول إلى المدينة موقوف على أن يكون للباب فضاء، بخلاف الحيطان

(هامش)

(1) توضيح الدلائل بتصحيح الفضائل - مخطوط. (*)

ص 78

والأركان فإنها مانعة عن الوصول، وحائلة دون الدخول، وبطلان ترجيح المانع عن الدخول على سبب الدخول من أوضح الواضحات. وأما الوجه الثالث فالجواب عنه أيضا من وجوه: تأويل لفظ علي من صنع الخوارج أحدها: إن تأويل علي في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا مدينة العلم وعلى بابها من أقبح وجوه التحريف والتضليل، ومن جملة صنائع الخوارج والنواصب، لا يرتضيه من كان في قلبه أقل مراتب حب أهل البيت عليهم السلام، فقد نص أبو محمد أحمد بن على العاصمي في (زين الفتى) على أن الغرض من هذا التأويل هو الوقيعة في المرتضى رضوان الله عليه والحط عن رتبته وقد تقدمت عبارته سابقا. إنه خلاف ما فهمه الناس والثاني: إن هذا التأويل تخطئة لفهم الناس أجمعين من هذا الحديث الشريف، كما صرح بذلك العلامة محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير في عبارته الآتية. يبطله ذكرهم الحديث في مناقب الإمام والثالث: إن هذا التأويل تسفيه وتجهيل للجماعات الكثيرة من أكابر العلماء وأئمة المحدثين، الذين ذكروا حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها ضمن مناقب أمير المؤمنين عليه السلام وفضائله، فهل يرضى عاقل من أهل السنة بتجهيل وتضليل هؤلاء الأئمة والمهرة في الحديث؟

ص 79

وضع الزيادة فيه دليل بطلان تأويله والرابع: إنه إذا كان المراد من علي في الحديث هو المرتفع لا سيدنا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام فلماذا صدرت تلك التمحلات والتكلفات في رد الحديث؟ ولماذا وضع بعضهم زيادة كون المشايخ حيطان المدينة وأركانها؟ إن هذا الحديث من فضائل الإمام عليه السلام، ولهذا أقحموا فيه أسماء المشايخ الثلاثة، حتى لا يكون فضيلة خاصة به، فجعلوهم الحيطان والأركان كما جعله النبي صلى الله عليه وسلم وسلم الباب. ومن العجيب جمع الأعور بين الأمرين، حيث احتج بتلك الزيادة الموضوعة المزعومة في الوجه الثاني، وتمسك بهذا التأويل الباطل في الوجه الثالث. طعن بعضهم في سنده دليل بطلان تأويله والخامس: إن هذا الحديث من فضائل مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، ولو كان علي فيه بمعنى مرتفع لما كان فيه أي ضرر على الثلاثة وخلافتهم، لكن طعن بعض متعصبيهم في سند هذا الحديث دليل آخر على أن علي فيه اسم الإمام، وأن تأويله بمعنى مرتفع باطل حتى عند هؤلاء الطاعنين في سنده بالرغم من رواية الأئمة الاثبات إياه وإثباته. قول الإمام: أنا باب المدينة والسادس: قول الإمام علي عليه السلام - في خطبة رواها أبو سالم كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي -: أنا باب المدينة ، وإليك نص الخطبة: وقد ثبت عند علماء الطريقة ومشايخ الحقيقة بالنقل الصحيح والكشف الصريح أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قام على المنبر بالكوفة وهو يخطب فقال:

ص 80

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله بديع السماوات والأرض وفاطرها وساطح المدحيات ووازرها، ومطود الجبال وقافرها، ومفجر العيون ونافرها، ومرسل الرياح وزاجرها، وناهي القواصف وآمرها، ومزين السماء وزاهرها، ومدبر الأفلاك ومسيرها، ومقسم المنازل ومقدرها، ومنشئ؟ السحاب ومسخرها، ومولج الحنادس ومنورها ومحدث الأجسام ومقررها، ومكور الدهور ومكررها، ومورد الأمور ومصدرها، وضامن الأرزاق ومدبرها، ومحي الرفات وناشرها. أحمده على آلائه وتوافرها وأشكره على نعمائه وتواترها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تؤدي إلى السلامة ذاكرها، وتؤمن من العذاب ذاخرها، وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وآله الخاتم لما سبق من الرسل وفاخرها، ورسوله الفاتح لما استقبل من الدعوة وناشرها، أرسله إلى أمة قد شعر بعبادة الأوثان شاعرها، فأبلغ صلى الله عليه وآله في النصحية وافرها، وأنار منار أعلام الهداية ومنابرها، ومحا بمعجز القرآن دعوة الشيطان ومكائرها، وأرغم معاطيس غواة العرب وكافرها، حتى أصبحت دعوته الحق بأول زائرها، وشريعته المطهرة إلى المعاد يفخر فاخرها، صلى الله عليه وآله الدوحة العليا وطيب عناصرها. أيها الناس سار المثل وحقق العمل، وتسلمت الخصيان وحكمت النسوان، واختلفت الأهواء وعظمت البلوى، واشتدت الشكوى واستمرت الدعوى، وزلزلت الأرض وضيع الفرض، وكتمت الأمانة وبدت الخيانة، وقام الأدعياء ونال الأشقياء، وتقدمت السفهاء وتأخر الصلحاء وأزور القرآن واحمر الدبران، وكملت الفترة ودرست الهجرة، وظهرت الأفاطس فحسمت الملابس، يملكون السرائر ويهتكون الحرائر، ويجيئون كيسان ويخربون خراسان، فيهدمون الحصون ويظهرون المصون، ويفتحون العراق بدم يراق، فآه آه ثم آه لعريض الأفواه وذبول الشفاه، ثم التفت يمينا وشمالا وتنفس الصعداء، لا ملالا، وتأوه خضوعا وتغير خصوعا.

ص 81

فقام إليه سويد بن نوفل الهلالي فقال: يا أمير المؤمنين، أنت حاضر بما ذكرت وعلم به؟ فالتفت إليه بعين الغضب وقال له: ثكلتك الثواكل ونزلت بك النوازل، يا ابن الجبان الخبيث والمكذب الناكث، سيقصر بك الطول ويغلبك الغول. أنا سر الأسرار، أنا شجرة الأنوار، أنا دليل السماوات أنا أنيس المسبحات، أنا خليل جبرائيل، أنا صفي ميكائيل، أنا قائد الأملاك، أنا سمندل الأفلاك، أنا سرير الصراح أنا حفيظ الألواح، أنا قطب الديجور، أنا البيت المعمور، أنا مزن السحائب أنا نور الغياهب أنا فلك اللجج أنا حجة الحجج، أنا مسدد الخلائق أنا محقق الحقائق، أنا مأول التأويل أنا مفسر الإنجيل، أنا خامس الكساء أنا تبيان النساء، أنا ألفة الايلاف أنا رجال الأعراف، أنا سر إبراهيم أنا ثعبان الكليم، أنا ولي الأولياء أنا وارث الأنبياء، أنا أوريا الزبور أنا حجاب الغفور، أنا صفوة الجليل أنا إيلياء الإنجيل، أنا شديد القوى أنا حامل اللواء، أنا إمام المحشر أنا ساقي الكوثر، أنا قسيم الجنان أنا مشاطر النيران، أنا يعسوب الدين أنا إمام المتقين، أنا وارث المختار أنا طهر الأطهار، أنا مبيد الكفرة أنا أبو الأئمة البررة، أنا قالع الباب أنا مفرق الأحزاب، أنا الجوهرة الثمينة أنا باب المدينة الخ (1). وقال شهاب الدين أحمد في ذكر أسماء الإمام عليه السلام: ومنها الفاروق، وقد تقدم حديثه قبل ذلك. وإني قد وجدت بخط بعض سادة العلماء والأكابر ما هذه صورته بتحبير المحابر: مما قال أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه، على المنبر: أنا النون والقلم وأنا النور ومصباح الظلم، أنا الطريق الأقوم أنا الفاروق الأعظم، أنا عيبة العلم أنا أوبة الحكم، أنا النبأ العظيم أنا الصراط المستقيم،

(هامش)

(1) ينابيع المودة: 486 - 488. (*)

ص 82

أنا وارث العلوم أنا هيولي النجوم، أنا عمود الإسلام أنا مكسر الأصنام، أنا ليث الزحام، أنا أنيس الهوام، أنا الفخار الأفخر أنا الصديق الأكبر، أنا إمام المحشر أنا ساقي الكوثر، أنا صاحب الرايات أنا سريرة الخفيات، أنا جامع الآيات أنا مؤلف الشتات، أنا مفرج الكربات، أنا دافع الشقاة أنا حافظ الكلمات، أنا مخاطب الأموات أنا حلال المشكلات، أنا مزيل الشبهات أنا صنيعة الغزوات، أنا صاحب المعجزات، أنا الزمام الأطول أنا محكم المفصل، أنا حافظ القرآن، أنا تبيان الإيمان، أنا قسيم الجنان أنا مشاطر النيران، أنا مكلم الثعبان أنا حاطم الأوثان، أنا حقيقة الأديان أنا عين الأعيان، أنا قرن الأقران، أنا مذل الشجعان أنا فارس الفرسان، أنا سؤال متى أنا الممدوح بهل أتى أنا شديد القوى، أنا حامل اللواء أنا كاشف الردى أنا بعيد المدى أنا عصمة الورى أنا ذكي الوغى أنا قاتل من بغى، أنا موهوب الشذى أنا إثمد القذى أنا صفوة الصفا أنا كفو الوفا، أنا موضح القضايا أنا مستودع الوصايا، أنا معدن الإنصاف أنا محض العفاف أنا صواب الخلاف أنا رجال الأعراف، أنا سور المعارف أنا معارف العوارف، أنا صاحب الإذن أنا قاتل الجن، أنا يعسوب الدين وصالح المؤمنين وإمام المتقين، أنا أول الصديقين أنا الحبل المتين أنا دعامة الدين، أنا صحيفة المؤمن أنا ذخيرة المهيمن، أنا الإمام الأمين أنا الدرع الحصين، أنا الضارب بالسيفين أنا الطاعن بالرمحين أنا صاحب بدر وحنين، أنا شقيق الرسول أنا بعل البتول أنا سيف الله المسلول، أنا أوام الغليل أنا شفاء العليل، أنا سؤال المسائل أنا نجعة الوسائل، أنا قالع الباب أنا مفرق الأحزاب، أنا سيد العرب أنا كاشف الكرب، أنا ساقي العطاش أنا النائم على الفراش، أنا الجوهرة الثمينة أنا باب المدينة الخ (1). وفي (توضيح الدلائل) أيضا: قال سلطان العلماء في عصره، وبرهان العرفاء في دهره: الشيخ القدوة الإمام في الأجلة الأعلام، مفتي الأنام عز الدين

(هامش)

(1) توضيح الدلائل - مخطوط. (*)

ص 83

عبد العزيز بن عبد السلام، عن لسان حال أول الأصحاب بلا مقال، وأفضل الأتراب لدى عد الخصال، علي ولي الله في الأرض والسماء رضي الله تعالى عنه ونفعنا به في كل حال: يا قوم نحن أهل البيت عجنت طينتنا بيد العناية في معجن الحماية بعد أن رش عليها فيض الهداية، ثم خمرت بخميرة النبوة وسقيت بالوحي ونفخ فيها روح الأمر، فلا أقدامنا تزل ولا أبصارنا تضل ولا أنوارنا تقل. وإذا نحن ضللنا فمن بالقوم يدل الناس؟ من أشجار شتى وشجرة النبوة واحدة، محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وبارك وسلم أصلها وأنا فرعها وفاطمة الزهراء ثمرها والحسن والحسين أغصانها، أصلها نور وفرعها نور وثمرها نور وغصنها نور، يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسه نار نور على نور، يا قوم، لما كانت الفروع تبنى على الأصول بنيت فصل فضلي على أطيب أصلي، فورثت علمي عن ابن عمي وكشفت به غمي، تابعت رسولا أمينا وما رضيت غير الإسلام دينا، فلو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ولقد توجني بتاج: من كنت مولاه فعلي مولاه، ومنطقني بمنطقة: أنا مدينة العلم وعلي بابها. وقلدني بتقليد: أقضاكم علي. وكساني حلة: أنا من علي وعلي مني. عجبت منك أشغلتني بك عني * أدنيتني منك حتى ظننت أنك أني وكما أنه لا نبي بعده كذلك لا وصي بعدي، فهو خاتم الأنبياء وأنا خاتم الخلفاء الخ . إحتجاج الإمام بالحديث يوم الشورى والسابع من وجوه بطلان هذا التأويل هو: إحتجاج الإمام عليه السلام بحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها في يوم الشورى، ضمن الفضائل الأخرى التي احتج بها على أصحاب الشورى في ذلك اليوم، وإذعان القوم بجميع ما

ص 84

احتج وناشدهم به. فلو كان المراد من علي في الحديث هو مرتفع لا اسم الإمام عليه السلام لما احتج به ألبتة كما هو واضح، ولو احتج لرد عليه القوم بأن المراد هو المرتفع . وقد روى تلك المناشدة جمال الدين عطاء الله المحدث الشيرازي في كتابه (روضة الأحباب) عن بعض كتب التواريخ. استدلال ابن عباس بالحديث والثامن: ما رواه جمال الدين المحدث الشيرازي المذكور أيضا من أن ابن عباس احتج بحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها في مكالمة له مع عائشة، وأن عائشة قابلت استدلاله بالسكوت. احتجاج عمرو بن العاص به على معاوية والتاسع: إنه قد ورد حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها في جملة من مناقب الإمام، احتج بها عمرو بن العاص في كتاب له إلى معاوية، حيث قال فيه: وأما ما نسبت أبا الحسن أخا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصيه إلى الحسد والبغي على عثمان، وسميت الصحابة فسقة وزعمت أنه أشلاهم على قتله، فهذا غواية. ويحك يا معاوية، أما علمت أن أبا حسن بذل نفسه بين يدي الله صلى الله عليه وسلم، وبات على فراشه، وهو صاحب السبق إلى الإسلام والهجرة، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو مني وأنا منه وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم: ألا من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله. وهو الذي قال فيه عليه السلام يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحب

ص 85

الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. وهو الذي قال فيه عليه السلام يوم الطير: اللهم اثنتي بأحب خلقك إليك، فلما دخل إليه قال: وإلي وإلي. وقد قال فيه يوم النضير: علي إمام البررة وقاتل الفجرة، منصور من نصره مخذول من خذله. وقد قال في: علي وليكم من بعدي. وأكد القول عليكم وعلي وعلى جميع المسلمين وقال: إني مخلف فيك الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي. وقد قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها. وقد علمت - يا معاوية - ما أنزل الله تعالى من الآيات المتلوات في فضائله التي لا يشرك فيها أحد كقوله تعالى: (يوفون بالنذر) و(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) وقال الله تعالى لرسوله عليه السلام (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى). وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن يكون سلمك سلمي وحربك حربي، وتكون أخي ووليي في الدنيا والآخرة. يا أبا الحسن من أحبك فقد أحبني ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن أحبك أدخله الله الجنة ومن أبغضك أدخله الله النار. وكتابك يا معاوية الذي كتبت هذا جوابه، ليس مما ينخدع به من له عقل أو دين والسلام (1). قوله صلى الله عليه وآله في آخر الحديث: فليأت عليا العاشر: لقد جاء في بعض ألفاظ الحديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها

(هامش)

(1) مناقب أمير المؤمنين: 129. (*)

ص 86

فمن أراد بابها فليأت عليا قال الزرندي: فضيلة أخرى اعترف بها الأصحاب وابتهجوا، وسلكوا طريق الوفاق وانتهجوا: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا مدينة العلم على بابها فمن أراد بابها فليأت عليا (1). وأورده شهاب الدين أحمد عن الزرندي (2). وأخرج ابن عساكر فقال: وأخبرناه أبو علي الحسن بن المظفر، وأبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الوهاب، وأم أبيها فاطمة بنت علي بن الحسين، قالوا: أنبأنا أبو الغنائم محمد بن علي بن علي الدجاجي، أنبأنا أبو الحسن علي بن عمر ابن محمد الحربي، أنبأنا الهيثم بن خلف الدوري، أنبأنا عمر بن إسماعيل بن مجالد، أنبأنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد الباب فليأت عليا (3). ورواه صدر الدين الحموئي بسنده عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس كذلك (4). وعبارة الزرندي صريحة في اتفاق جميع الأصحاب واعترافهم بهذه الفضيلة لأمير المؤمنين عليه السلام، فالتأويل المذكور مخالف لفهم الصحابة وإجماعهم على هذا المعنى، وقد تقرر عند أهل السنة أن المخالف لإجماع الصحابة مصداق لقوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).

(هامش)

(1) نظم درر السمطين: 113. (2) توضيح الدلائل - مخطوط. (3) ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ دمشق 2: 469. (4) فرائد السمطين 1: 98. (*)

ص 87

القرائن في بعض الألفاظ والحادي عشر: إن في بعض ألفاظ حديث المدينة قرائن تبطل هذا التأويل بكل وضوح، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وهو آخذ بيد علي: هذا أمير البررة، منصور من نصره مخذول من خذله، فمد بها صوته وقال: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب . رواه الخطيب (1) وغيره. وفيه دلالة على إمامة الإمام وخلافته من وجوه. وقال الكنجي الشافعي: الباب الثامن والخمسون في تخصيص علي عليه السلام بقوله: أنا مدينة العلم وعلي بابها، أخبرنا العلامة قاضي القضاة صدر الشام أبو المفضل محمد بن قاضي القضاة شيخ المذاهب أبي المعالي محمد بن علي القرشي، أخبرنا حجة العرب زيد بن الحسن الكندي، أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا زين الحفاظ وشيخ أهل الحديث على الاطلاق أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله، حدثنا محمد بن المظفر، حدثنا أبو جعفر الحسين بن حفص الخثعمي، حدثنا عباد بن يعقوب، حدثنا يحيى بن بشير الكندي، عن إسماعيل بن إبراهيم الهمداني، عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وعن عاصم بن ضمرة عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله خلقني وعليا من شجرة أنا أصلها وعلى فرعها والحسن والحسين ثمرها، والشيعة ورقها، فهل يخرج من الطيب إلا الطيب؟. أنا مدينة العلم وعلي بابها من أراد المدينة فليأت الباب. قلت: هكذا روى الخطيب في تاريخه وطرقه (2). وقال أبو الحسن علي بن عمر السكري الحربي في (كتاب الأمالي): ثنا

(هامش)

(1) تاريخ بغداد 2: 377، 4 / 219. (2) كفاية الطالب: 220. (*)

ص 88

إسحاق بن مروان، ثنا أبي، ثنا عامر بن كثير السراج، عن أبي خالد عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباته، عن علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا مدينة العلم وأنت بابها، يا علي كذب من زعم أنه يدخلها من غير بابها . وقال أبو الحسن الجلابي المعروف بابن المغازلي: أخبرنا أبو غالب محمد بن أحمد بن سهل النحوي رحمه الله تعالى - فيما أذن لي في روايته - أن أبا طاهر إبراهيم ابن عمر بن يحيى حدثهم: نا محمد بن عبيد الله بن محمد بن عبيد الله بن المطلب، نا أحمد بن محمد بن عيسى سنة 310، نا محمد بن عبد الله بن عمر بن مسلم اللاحقي الصفار بالبصرة 244، نا أبو الحسن علي بن موسى الرضا قال: حدثني أبي عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين عن أبيه الحسين عن أبيه علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي أنا مدينة العلم وأنت الباب، كذب من زعم أنه يصل إلى المدينة إلا من قبل الباب (1) شواهد الحديث تكذب التأويل والثاني عشر: إن لحديث مدينة العلم شواهد ومؤيدات من الأحاديث الأخرى، وهي الأخرى تبطل هذا التأويل وتكذبه، ومن ذلك: ما رواه ابن المغازلي بإسناده عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني جبرئيل بدرنوك من الجنة، فجلست عليه، فلما صرت بين يدي ربي كلمني وناجاني، فما علمت شيئا إلا علمه علي، فهو باب مدينة علمي. ثم دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إليه فقال له: يا علي سلمك سلمي وحربك حربي، وأنت العلم بيني وبين أمتي من بعدي (2).

(هامش)

(1) المناقب لابن المغازلي: 85. (2) المناقب لابن المغازلي: 50. (*)

ص 89

وما رواه العاصمي بإسناده: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك، وأعلمك لتعي، وأنزلت علي هذه الآية: (وتعيها أذن واعية) فأنت الأذن الواعية لعلمي يا علي، وأنا المدينة وأنت الباب، ولا يؤتى المدينة إلا من بابها (1). وما رواه السيد علي الهمداني عن أبي نعيم بإسناده: عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: علي باب علمي ومبين لأمتي ما أرسلت به من بعدي، حبه إيمان وبغضه نفاق، والنظر إليه رأفة ومودة عبادة (2). وما رواه الخوارزمي بإسناده قائلا: حدثنا سيد الحفاظ أبو منصور شهر دار ابن شيرويه بن شهردار الديلمي - فيما كتب إلي من همدان - حدثنا أبو الفتح عبدوس بن عبد الله بن عبدوس الهمداني كتابة، أخبرنا الشيخ أبو طاهر الحسين ابن علي مسلمة رضي الله عنه - من مسند زيد بن علي رضي الله عنه - حدثنا الفضل ابن العباس، حدثنا أبو عبد الله محمد بن سهل، حدثنا محمد بن عبد الله البلدي، حدثني إبراهيم بن عبيد الله بن العلا، حدثني أبي عن زيد بن علي رضي الله عنه عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتحت خيبر: لولا أن يقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت اليوم فيك مقالا لا تمر على ملأ من المسلمين إلا أخذوا من تراب رجليك وفضل طهورك، يستشفون به، ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك، ترثني وأرثك. وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وأنت تؤدي ديني وتقاتل عن سنتي، وأنت في الآخرة أقرب الناس مني، وأنك غدا على الحوض خليفتي تذود عنه المنافقين، وأنت أول من يرد علي الحوض، وأنت أول داخل

(هامش)

(1) زين الفتي بتفسير سورة هل أتى - مخطوط. (2) المودة في القربى، ينابيع المودة: 302. (*)

ص 90

الجنة من أمتي، وأن شيعتك على منابر من نور رواء مرويين مبيضة وجوههم حولي، أشفع لهم فيكونون غدا في الجنة جيراني، وإن عدوك ظماء مضمئون مسودة وجوهم مقمحون حربك حربي وسلمك سلمي وسرك سري وعلانيتك علانيتي، وسريرة صدرك كسريرة صدري، وأنت باب علمي، وأن ولدك ولدي ولحمك لحمي ودمك دمي، وأن الحق معك والحق على لسانك وفي قلبك وبين عينيك، والإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي، وأن الله عز وجل أمرني أن أبشرك أنك وعترتك في الجنة، وأن عدوك في النار، لا يرد الحوض علي مبغض لك ولا يغيب عنه محب لك. قال علي: فخررت له سبحانه وتعالى ساجدا، وحمدته على ما أنعم به علي من الإسلام والقرآن، وحببني إلى خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وآله (1). وما رواه الخوارزمي أيضا بسنده: عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا علي بن أبي طالب لحمه من لحمي ودمه من دمي، وهو مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي. وقال: يا أم سلمة اشهدي واسمعي، هذا علي أمير المؤمنين وسيد المسلمين وغيبة علمي وبابي الذي أوتى منه، أخي في الدنيا وخدني في الآخرة، ومعي في السنام الأعلى (2). وما رواه الكنجي بسنده: عن ابن عباس قال: ستكون فتنة فمن أدركها منكم فعليكم بخصلتين: كتاب الله وعلي بن أبي طالب، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد علي، وهو يقول: هذا أول من آمن بي وأول من يصافحني، وهو فاروق هذه الأمة، يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب

(هامش)

(1) مناقب الخوارزمي: 75. (2) المناقب للخوارزمي: 86. (*)

ص 91

الظالمين، وهو الصديق الأكبر، وهو بابي الذي أوتى منه، وهو خليفتي من بعدي (1). وما رواه الهمداني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي بن أبي طالب باب الدين، من دخل فيه كان مؤمنا ومن خرج منه كان كافرا. رواه صاحب الفردوس (2). وما رواه القندوزي: عن ياسر الخادم عن علي الرضا عن أبيه عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا علي أنت حجة الله وأنت باب الله، وأنت الطريق إلى الله، وأنت النبأ العظيم، وأنت الصراط المستقيم، وأنت المثل الأعلى، وأنت إمام المسلمين وأمير المؤمنين وخير الوصيين وسيد الصديقين. يا علي، أنت الفاروق الأعظم، وأنت الصديق الأكبر، وإن حزبك حزبي وحزبي حزب الله، وإن حزب أعدائك حزب الشيطان (3). وما رواه السيوطي: عن ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: علي بن أبي طالب باب حطة من دخل منه كان مؤمنا، ومن خرج منه كان كافرا. أخرجه الدارقطني في الإفراد (4). وقد عرفت سابقا - من كلام الحافظ السخاوي - كون حديث باب حطة من مؤيدات حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها . وما روي بطرق متكاثرة عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: علي

(هامش)

(1) كفاية الطالب: 187. (2) السبعين في مناقب أمير المؤمنين، ينابيع المودة: 281. (3) ينابيع المودة. (4) القول الجلي في مناقب علي. رقم الحديث: 39. (*)

ص 92

مني وأنا منه ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي أخرجه أحمد (1) وغيره. رد أعلام القوم التأويل المذكور والثالث عشر: وقد بلغ هذا التأويل من السخافة والهوان حدا، دعا طائفة من أعلام القوم - وفيهم بعض المتعصبين - إلى الرد عليه، والتنصيص على بطلانه وهوانه، وإليك نصوص عبارات هؤلاء: العاصمي: وإنما أرادوا بذلك الوقيعة في المرتضى رضوان الله عليه، والحط عن رتبته، وهيهات لا يخفى على البصير النهار (2). ابن حجر المكي: واحتج بعض من لا تحقيق عنده على الشيعة بأن علي اسم فاعل من العلو، أي عال بابها ، فلا ينال لكل أحد. وهو بالسفساف أشبه، لا سيما وفي رواية رواها ابن عبد البر في استيعابه: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأته من بابه، إذ مع تحديق النظر في هذه الرواية لا يبقى تردد في بطلان ذلك الرأي، فاستفده بهذا (3). المناوي: ومن زعم أن المراد بقوله وعلي بابها إنه مرتفع من العلو، فقد تمحل لغرضه الفاسد بما لا يجديه ولا يسمنه ولا يغنيه (4). محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير في (الروضة الندية): وأما ما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: وعلي بابها إن عليا هنا صفة مشبهة بالفعل، أي مرتفع بابها على متناوله، وعال عن أيدي متعاطيه، فكلام من جنس كلام الباطنية لا تقبله الأسماع. أما أولا: فلأنه خلاف ما فهمه الناس أجمعون من الحديث. وأما ثانيا: فلأنه ينافي ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم: بعثت بالحنيفية

(هامش)

(1) مسند أحمد بن حنبل 4 / 164 - 165. (2) زين الفتى - مخطوط. (3) المنح المكية في شرح القصيدة الهمزية. (4) فيض القدير 3 / 46. وانظر التيسير 1: 377.

ص 93

السمحة السهلة، فإن علومه صلى الله عليه وسلم علوم واضحة الألفاظ ظاهرة الدلالات فهمها أهل الحضر البوادي. وأما ثالثا: فلأنه لا طائل تحت الإخبار بأن باب علومه صلى الله عليه وسلم عال مرتفع، إلا تبعيد العلم وتوعير مسلكه وسد بابه، وقد علم أنه صلى الله عليه وسلم ما شدد في ذلك، ولا كان من هديه صلى الله عليه وسلم توعير مسالك العلم، سيما العلوم النبوية، وكيف يوعر مسالك علم الشريعة؟ وقد بعث مبينا للناس ما نزل إليهم، وبالجملة: لولا عمى البصائر والعصبية التي تكنها الضمائر لما كان مثل هذا الكلام يكتب، ولا يفتقر إلى الجواب . * * *

ص 94

(6) مع السخاوي في كلامه حول الحديث

 وقد أغرب السخاوي إذ قال بعد ذكر حديث مدينة العلم وتحقيقه: وليس في هذا كله ما يقدح في إجماع أهل السنة، من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، على أن أفضل الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم على الاطلاق أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر وعثمان، فيسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينكره. بل ثبت عن علي نفسه أنه قال: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم رجل آخر، فقال له ابنه محمد بن الحنفية: ثم أنت يا أبت؟ فكان يقول: ما أبوك إلا رجل من المسلمين. رضي الله عنهم وعن سائر الصحابة أجمعين (1). نقول: لا يخفى على المتتبع الخبير أن السخاوي قد ذكر في هذا المقام حديث ابن عمر بسياق يخالف سياق البخاري، وفيه زيادات عديدة منكرة مكذوبة قطعا، لا سيما قوله: فيسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينكره فإنه أنكر شيء في هذا الخبر، ولم توجد هذه الزيادة، إلا في طريق مقدوح جدا، وليس في جامع البخاري وأمثاله منه عين ولا أثر، وبالجملة فليت السخاوي إذ ذكر هذا الإفك ذكره بلفظ إمامه البخاري، الذي أورده في صحيحه الذي يعدونه أصح الكتب بعد كتاب الباري، مع أن لفظ البخاري أيضا محرف غير صحيح كما ستراه عن قريب، إن شاء الله تعالى، فيما سيأتي. وأيضا: فإن الذي ذكره السخاوي منسوبا إلى الإمام علي عليه السلام،

(هامش)

(1) المقاصد الحسنة: 47. (*)

ص 95

وإن كان كذبا بجميع سياقاته، ولكن السياق الذي أورده ههنا أردى وأخبث وأظهر كذبا من الجميع، وهو أيضا مخالف لسياق البخاري، كما ستعرف أيضا، وفيه زيادات باطلة لا يخفى بطلانها على متأمل، منها: وقال: ثم رجل آخر. فإنها زيادة أقحمت لإظهار فضل عثمان، والمقصود منها أن يظن الناظر أن أمير المؤمنين عليه السلام - والعياذ بالله - بعد ما اعترف بفضل الشيخين أبان فضل عثمان أيضا بقوله: ثم رجل آخر. ولعمري إن واضع هذه الزيادة أجرأ من واضح أصل الخبر، لأن واضع أصل الخبر - كما ستعرف عن سياق البخاري - اقتصر على تفضيل الشيخين، ولم يجترء على عزو تفضيل عثمان إلى أمير المؤمنين عليه السلام، نعم وضع على محمد ابن الحنفية أنه بعد ما سمع من أبيه تفضيل الشيخين قال: وخشيت أن يقول عثمان، فقلت: ثم أنت؟ وهذا المتجاسر الذي زاد هذه الزيادة قد نسب تفضيل عثمان أيضا إلى علي عليه السلام ولو بالابهام، حتى يتم له تفضيل الثلاثة. ثم لا أدري أي داع دعا هذا الواضع إلى اختلاق هذه الزيادة بهذا الابهام؟ ولعله استحيى أن يعزو تفضيل عثمان إلى علي عليه السلام صراحة، فلهذا أتى بقوله: ثم رجل آخر. وعلى الجملة: فسياق البخاري يشهد ببطلان هذه الزيادة. وأما بطلان أصل الخبرين وما ذكره السخاوي في هذا الكلام فيظهر بالوجوه الآتية: دعوى إجماع والتابعين على أفضلية الشيخين فاسدة أحدها: إن دعوى إجماع الصحابة والتابعين فمن بعدهم على أن أفضل الصحابة أبو بكر ثم عمر، كذب محض، ولنا على بطلانها وجوه عديدة وبراهين سديدة، ذكرناها في قسم (حديث الطير).

ص 96

لو سلمنا انعقاده فحديث مدينة العلم وغيره يبطله والثاني: وعلى فرض انعقاد هذا الإجماع، فإن حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها وغيره من أحاديث مناقب أمير المؤمنين عليه السلام، الدالة على أفضليته تبطل هذا الإجماع، وتسقطه عن الاعتبار، لأن الإجماع القائم على خلاف النص لا اعتبار به ولا يصغى إليه. عدم صحة معنى حديث ابن عمر في المفاضلة والثالث: إن الاستدلال بحديث ابن عمر من قبيل استشهاد ابن آوى بذنبه، فمن هو ابن عمر وأي وزن لكلامه في مثل هذه الأمور؟ على أنه رجل مقدوح مطعون فيه، كما لا يخفى على من يراجع كتاب (إستقصاء الافحام في رد منتهى الكلام). ومع ذلك كله فقد نص الحافظ ابن عبد البر على أنه لا يصح معناه حيث قال ما نصه: قال أبو عمر: من قال بحديث ابن عمر: كنا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت. يعني فلا نفاضل. وهو الذي أنكر ابن معين، وتكلم فيه بكلام غليظ، لأن القائل بذلك قد قال خلاف ما اجتمع عليه السنة من السلف والخلف، من أهل الفقه والآثار، أن عليا كرم الله وجهه أفضل الناس بعد عثمان، هذا مما لا يختلفوا فيه، وإنما اختلفوا في تفضيل علي وعثمان. واختلف السلف أيضا في تفضيل علي رضي الله عنه وأبي بكر رضي الله عنه. وفي إجماع الجميع الذين وصفناه دليل على أن حديث ابن عمر وهم وغلط، وأنه لا يصح معناه وإن كان إسناده صحيحا، ويلزم من قال به أن يقول بحديث جابر وحديث أبي سعيد: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يقولون بذلك، فقد ناقضوا. وبالله التوفيق (1).

(هامش)

(1) الإستيعاب 3 / 1116. (*)

ص 97

عدم صحة سند حديث ابن عمر والرابع: إنه وإن نص ابن عبد البر على بطلان حديث ابن عمر معنى، فإنه لم ينصف في وصف هذا الحديث بالصحة سندا، وشرح ذلك: أن لهذا الحديث طريقين فقط في البخاري، وكلاهما مقدوح ومجروح. ونحن نذكر أولا كلا طريقي الحديث ثم نتكلم في سنديهما: قال البخاري في مناقب أبي بكر: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، ثنا سليمان عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر قال: كنا نخير بين الناس في زمان [زمن] رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان (1). وقال في مناقب عثمان: حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع، ثنا شاذان، ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدا ثم عمر ثم عثمان. ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم. تابعه عبد الله بن صالح عن عبد العزيز (2). النظر في الطريق الأول أما الطريق الأول - ففيه: عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ضعفه أبو داود، قال ابن حجر: وفي سؤالات أبي عبيد الآجري عن أبي داود قال: عبد العزيز الأويسي ضعيف (3). وفيه: سليمان بن بلال وهو أيضا مجروح، قال ابن حجر: وقال ابن

(هامش)

(1) صحيح البخاري 5 / 63. (2) صحيح البخاري 5 / 76. (3) تهذيب التهذيب 6 / 208. (*)

ص 98

الجنيد عن ابن معين إنما وضعه عند أهل المدينة أنه كان على السوق، وكان أروى الناس عن يحيى بن سعيد (1). قال: قال ابن شاهين في كتاب الثقات: قال عثمان بن أبي شيبة: لا بأس به وليس ممن يعتمد على حديثه (2). وفيه: نافع وهو أيضا مجروح، قال ابن عبد البر: وقد روي عن أبي حنيفة أنه قيل له: ما لك لا تروي عن عطا؟ قال: لأني رأيته يفتي بالمتعة. وقيل له: ما لك لا تروي عن نافع؟ قال: رأيته يفتي بإتيان النساء في أعجازهن فتركته (3) وفي (تفسير الرازي): ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد من الآية: أن الرجل مخير بين أن يأتيها من قبلها في قبلها، وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها. فقوله: (أنى شئتم) محمول على ذلك. ونقل نافع عن ابن عمر أنه كان يقول: المراد من الآية تجويز إتيان النساء في أدبار هن، وسائر الناس كذبوا نافعا في هذه الرواية (4). أقول: وقد كان على أهل الإنصاف تكذيب نافع في هذه الرواية أيضا. أضف إلى ذلك إنكاره أن يكون على عمر بن الخطاب دين، وهذا الانكار يدل على تمادي الرجل في الكذب وجرأته على الافتراء، لأن دين عمر أمر محقق ثابت لا يقبل الانكار من أي شخص. أخرج البخاري عن عمر أنه قال: يا عبد الله بن عمر، أنظر ما علي من الدين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوه. قال: إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدعني هذا المال (5).

(هامش)

(1) تهذيب التهذيب 4 / 154. (2) تهذيب التهذيب 4 / 145. (3) جامع بيان العلم 2 / 153. (4) تفسير الرازي 6 / 71. (5) صحيح البخاري 5 / 78. (*)

ص 99

وقد ذكر ابن حجر إنكار نافع هذا الدين، في شرح الحديث بقوله: وقد أنكر نافع مولى ابن عمر أن يكون على عمر دين، فروى عمر بن شبة في كتاب المدينة بإسناد صحيح أن نافعا قال: من أين يكون على عمر دين؟ وقد باع رجل من ورثته ميراثه بمائة ألف. إنتهى ثم قال ابن حجر: وهذا لا ينفي أن يكون عند موته عليه دين، فقد يكون الشخص كثير المال، ولا يستلزم نفي الدين عنه، فلعل نافعا أنكر أن يكون دينه لم يقض (1). ولا يخفى عليك أن الاحتمال الذي ذكره ابن حجر لا يساعده لفظ الرواية عن نافع: من أين يكون على عمر دين فإنه ينكر أصل الدين، ولا تعرض له لقضائه وعدم قضائه. هذا أولا. وثانيا: إنما استشهد نافع ببيع أحد ورثة عمر ميراثه بمائة ألف لأجل إنكار الدين من أصله، لا لأجل إنكار أن يكون دينه لم يقض. على أن ابن حجر نفسه قال: وقد أنكر نافع مولى ابن عمر أن يكون على عمر دين، فالحمل الذي ذكره ابن حجر لا ينفع نافعا، ولعله من هنا ذكر العيني إنكار نافع ولم يذكر ما ذكره ابن حجر العسقلاني (2). النظر في الطريق الثاني وأما الطرق الثاني - فمداره على نافع وقد عرفته. وفيه: عبيد الله بن عمر العمري وهو من أولاد عمر، ولذلك فهو متهم في هذا الحديث وأمثاله. حديث ابن عمر بلفظ صريح في أفضلية الإمام والخامس: وعلى فرض التسليم بأن يكون لحديث ابن عمر أصل من جهة

(هامش)

(1) فتح الباري 7: 53. (2) عمدة القاري في شرح البخاري 16 / 210. (*)

ص 100

السند، فإن أصله من جهة المتن لا يدل على مطلوب أهل السنة، بل يدل على عكسه، وهذا نصه عن أبي وائل عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كنا إذا عددنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: أبو بكر وعمر وعثمان. فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن فعلي؟! قال: علي من أهل البيت لا يقاس به أحد، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي درجته، إن الله يقول: (الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم) ففاطمة مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في درجته وعلي معها (1). فابن عمر يصرح في هذا الحديث بأفضلية الإمام عليه السلام من الصحابة قاطبة، وأنه كان يفضل الثلاثة على الترتيب المذكور في خصوص الصحابة، وأما علي عليه السلام فلا يقاس به، مع النبي صلى الله عليه وسلم في درجته بحكم الآية المباركة.. وبعد هذا التصريح من ابن عمر ليس لأحد أن ينسب إليه تفضيل أبي بكر على الإمام عليه الصلاة والسلام، ويستند إليه في مقابلة الإمامية. ومن هنا يظهر لك تحريف البخاري وتصرفه في هذا الحديث، وهذه من عظائم مكائده في كتابه. تصريح ابن عمر بأفضلية الإمام في أحاديث أخرى أضف إلى ذلك الأحاديث الأخرى، التي صرح ابن عمر فيها بأفضلية الإمام عليه السلام مطلقا، ونهى عن المقايسة بينه وبين سائر الأصحاب، مستشهدا ببعض فضائله الثابتة، قال ابن حجر: وعن ابن عمر قال:: كنا نقول زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم: رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس، ثم أبو بكر ثم عمر. ولقد أعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم: زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته

(هامش)

(1) المودة في القربى، ينابيع المودة: 301. (*)

ص 101

وولدت له، وسد الأبواب إلا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر. أخرجه أحمد، وإسناده حسن. وأخرج النسائي من طريق العلاء بن عراء - بمهملات - قال: فقلت لابن عمر: أخبرني عن علي وعثمان. فذكر الحديث وفيه: وأما علي فلا تسأل عنه أحدا، وانظر إلى منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد سد أبوابنا في المسجد وأقر بابه. ورجاله الصحيح، إلا العلاء وقد وثقه يحيى بن معين وغيره. وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، وكل طريق منها صالح للاحتجاج فضلا عن مجموعها (1). وقال ابن حجر: وقد اعترف ابن عمر بتقديم علي على غيره. كما تقدم في حديثه الذي أوردته في الباب الذي قبله (2). وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في (اللمعات في شرح المشكاة) بشرح حديث ابن عمر في المفاضلة: قوله: لا نفاضل بينهم. قالوا: أراد الشيوخ وذوي الأسنان، الذين إذا حزن النبي صلى الله عليه وسلم أمر شاورهم. وعلي رضي الله عنه كان في زمنه صلى الله عليه وسلم حديث السن. وإلا فأفضليته من ورائهم لا ينكرها أحد. وأيضا: التفاضل ثابت بين الصحابة بلا شبهة، كأهل بدر وأهل بيعة الرضوان وعلماء الصحابة. وأخرج أحمد عن ابن عمر أنه قال: كنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى خير الناس بعد رسول الله أبا بكر ثم عمر. وقال: وأما علي بن أبي طالب فقد أوتي ثلاث خصال لو كان لي واحد منها كان خيرا من الدنيا وما فيها، زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنته فكان له منه ولد، وسد أبواب الناس إلا بابه، وأعطاه رايته يوم خيبر. وروى النسائي أنه سئل ابن عمر: ما تقول في عثمان وعلي؟ فحدث بهذا

(هامش)

(1) فتح الباري 7 / 12. (2) نفس المصدر 7 / 13. (*)

ص 102

الحديث ثم قال: لا تسألوا عن علي ولا تقيسوا أحدا عليه، سد أبوابنا إلا بابه . ويؤيد ما أخرجه النسائي ما رواه أبو الحسن ابن المغازلي بسنده عن نافع قال: قلت لابن عمر: من خير الناس بعد رسول الله؟ قال: ما أنت وذاك لا أم لك. ثم قال: استغفر الله، خيرهم بعده من كان يحل له ما كان يحل له، ويحرم عليه ما كان يحرم عليه. قلت: من هو؟ قال: علي سد أبواب المسجد وترك باب علي وقال له: لك في هذا المسجد ما لي وعليك فيه ما علي، وأنت وارثي ووصي، تقضي ديني وتنجز عداتي وتقتل على سنتي، كذب من زعم أنه يبغضك ويحبني (1). وهذه الأحاديث وغيرها ألجأت الملا علي القاري إلى أن يبذل بعض الإنصاف، فيقول في شرح حديث ابن عمر الذي تمسك به السخاوي: ولعل هذا التفاضل بين الأصحاب، وأما أهل البيت فهم أخص منهم، وحكمهم يغايرهم، فلا يرد عدم ذكر علي والحسنين والعمين رضي الله عنهم أجمعين (2). تأملات القوم في حديث ابن عمر ثم إن حديث ابن عمر في المفاضلة - وإن ذكره بعض أسلاف أهل السنة في فضل المشايخ - غير واضح لدى المحققين المنقدين منهم في الحديث، فقد احتملوا فيه وجوها مختلفة، ولم يتحقق عندهم كونه واردا في مسألة التفضيل والتقديم فحسب. قال ابن عبد البر: روى يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر وعبد العزيز ابن أبي سلمة عن نافع عن ابن عمر أنه قال: كنا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت. فقيل: هذا في الفضل، وقيل: في الخلافة (3). وقال ابن الأثير: قال: وحدثنا محمد بن عيسى حدثنا أحمد بن إبراهيم

(هامش)

(1) المناقب لابن المغازلي 261. (2) المرقاة في شرح المشكاة 5 / 527. (3) الإستيعاب 3 / 1039. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الثاني عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب