ص 103
الدورقي، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن العطار، حدثنا الحارث بن عمير عن عبيد الله بن
عمر عن نافع عن ابن عمر قال: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر
وعمر وعثمان. فقيل: في التفضيل. وقيل: في الخلافة (1). وقال ابن حجر العسقلاني:
وقد جاء في بعض الطرق في حديث ابن عمر تقييد الخيرية المذكورة والأفضلية بما يتعلق
بالخلافة، وذلك فيما أخرجه ابن عساكر عن عبد الله بن يسار عن سالم عن ابن عمر قال:
إنكم لتعلمون إنا كنا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر وعمر
وعثمان - يعني في الخلافة - كذا في أصل الحديث. ومن طريق عبيد الله عن نافع عن ابن
عمر كنا نقول في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يكون أولى الناس بهذا الأمر.
فنقول: أبو بكر ثم عمر (2). ومن الوجوه المذكورة فيه هو: أن الله قد رضي عن
الثلاثة، فلا علاقة للحديث بالتفضيل ولا بالخلافة، قال شمس الدين الخلخالي: قوله:
[أبو بكر وعمر وعثمان] مقول لقوله: [نقول] و[رسول الله حي] جملة حالية معترضة، أبو
بكر وما عطف عليه مبتدأ، وخبره: [رضي الله عنهم] (3). وقال القاري: عن ابن عمر
رضي الله عنهما قال: [كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي] جملة حالية
معترضة بين القول ومقوله [أبو بكر وعمر وعثمان] أي على هذا الترتيب عند ذكرهم وبيان
أمرهم [رضي الله عنهم] وقال شارحه: أبو بكر وما عطف عليه مبتدأ، خبره رضي الله
عنهم، والجملة مقول القول، ورسول الله حي جملة معترضة، أي: كنا نذكر هؤلاء الثلاثة
بأن الله تعالى رضي عنهم (4).
(هامش)
(1) أسد الغابة 3 / 379. (2) فتح الباري 7 / 13. (3) المفاتيح في شرح المصابيح -
مخطوط. (4) المرقاة في المشكاة 5 / 562. (*)
ص 104
وقال عبد الحق الدهلوي في (اللمعات): قوله: أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
أي: كنا هؤلاء الثلاثة بأن الله تعالى رضي عنهم. ويحتمل أن يكون [رضي الله عنهم]
دعاء من الرواة... . أقول: فانظر يرحمك الله وانصف... أفهل يجوز التمسك لمسألة
التفضيل البالغة الأهمية بمثل حديث هذا حاله عند أهل السنة أنفسهم؟ رأي علي في
الشيخين والسادس: قوله السخاوي بل ثبت عن علي نفسه أنه قال: خير الناس بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم رجل آخر، فقال له ابنه محمد بن الحنفية:
ثم أنت يا أبت؟ فكان يقول: ما أبوك إلا رجل من المسلمين فرية واضحة، وكذبة لائحة،
فإن الحديث المذكور واحد من الأخبار المتعددة التي وضعها القوم واختلقوها في هذا
الباب، وهذا لفظه في البخاري: حدثنا محمد بن كثير أنا سفيان، ثنا جامع بن أبي
راشد، ثنا أبو يعلى عن محمد ابن الحنفية قال قلت لأبي: أي الناس خير بعد النبي صلى
الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر. قال قلت: ثم من؟ قال: عمر. وخشيت أن يقول: عثمان
قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين (1). إن هذا الحديث تكذبه الأدلة
القطعية من الكتاب والسنة المتواترة والآثار الثابتة، الدالة على أفضلية الإمام
أمير المؤمنين بعد النبي صلى الله عليهما وآلهما وسلم، وهذه الأدلة كثيرة لا تعد
ولا تحصى. وأيضا تكذبه المطاعن الثابتة بالأدلة القطعية للشيخين والثلاثة، وهي أيضا
تفوق حد الحصر والعد... ومن أبين الدلائل على بطلان هذا الحديث الموضوع هو: أنه لا
ريب في أن الإمام عليه السلام كان يقول - في مسألة منع أبي بكر الزهراء عليها
السلام من الميراث - بكذب أبي بكر وعمر وظلمهما وخيانتهما، وكان يظهر هذا الأمر
للناس
(هامش)
(1) صحيح البخاري 5 / 67. (*)
ص 105
كما اعترف به عمر بن الخطاب نفسه، ونعوذ بالله من أن ننسب إلى الإمام عليه السلام
القول بتفضيل من يراه كاذبا آثما غادرا خائنا... أما أنه كان يرى أبا بكر وعمر كذلك
فذاك أمر لا يخفى على أدنى المتتبعين والمسلمين بالأخبار والأحاديث، إلا أنا نذكر
هنا طرفا من الشواهد على ذلك، فقد أخرج مسلم في (الصحيح) في كتاب الجهاد عن مالك بن
أوس في حديث طويل أنه قال عمر بن الخطاب لعلي والعباس ما هذا نصه: فلما توفي رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نورث ما تركنا صدقة. فرأيتماه كاذبا آثما
غادرا خائنا، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق. ثم توفي أبو بكر فكنت أنا
ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أبي بكر، فرأيتماني كاذبا غادرا خائنا،
والله يعلم أني لصادق بار راشد تابع للحق (1).
تحريف من البخاري
والجدير بالذكر
هنا أن البخاري قد أخرج هذا الحديث في مواضع من كتابه، مع التصرف في متنه بأشكال
مختلفة من التصرف، كالتحريف والاسقاط والتقطيع، كما هي عادته بالنسبة إلى أحاديث
كثيرة، فأخرجه في باب فرض الخمس باللفظ التالي: قال عمر: ثم توفى الله نبيه صلى
الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يعلم
أنه فيها لصادق بار راشد تابع للحق. ثم توفى الله أبا بكر فكنت أنا ولي أبي بكر
فقبضتها سنتين من أمارتي، أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما
عمل فيها
(هامش)
(1) صحيح مسلم - كتاب الجهاد 5 / 152. (*)
ص 106
أبو بكر، والله يعلم أني فيها لصادق بار راشد تابع للحق (1). وأخرجه في كتاب
المغازي باب حديث بني النضير: ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر:
فأنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضه أبو بكر فعمل فيه بما عمل به رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأنتم حينئذ، - فأقبل على علي وعباس وقال -: تذكران أن أبا
بكر فيه كما تقولان، والله يعلم إنه فيه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفى الله
أبا بكر فقلت: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فقبضته سنتين من
أمارتي أعمل فيه بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، والله يعلم أني
فيه صادق بار راشد تابع للحق (2). وأخرجه في كتاب النفقات باب حبس نفقة الرجل قوت
سنته: ثم توفي الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقبضها أبو بكر يعمل فيها بما عمل به فيها رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وأنتما حينئذ - وأقبل على علي وعباس - تزعمان أن أبا بكر كذا وكذا، والله
يعلم أنه فيها صادق بار راشد تابع للحق. ثم توفى الله أبا بكر فقلت: أنا ولي رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فقبضتها سنتين أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأبو بكر (3). وأخرجه في كتاب الفرائض باب قول النبي صلى الله
عليه وسلم: لا نورث ما تركناه صدقة: فتوفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم. فقال
أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضها فعمل بما عمل به رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ثم توفى الله أبا بكر فقلت: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقبضتها سنتين أعمل فيها ما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر (4).
(هامش)
(1) صحيح البخاري 4 / 503. (2) صحيح البخاري 5 / 188. (3) صحيح البخاري 7 / 120.
(4) صحيح البخاري 8 / 551. (*)
ص 107
وأخرجه في كتاب الاعتصام باب ما يكره من التعمق والتنازع: ثم توفى الله نبيه صلى
الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها أبو
بكر، فعمل فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأنتما حينئذ، وأقبل
على علي وعباس فقال -: تزعمان أن أبا بكر فيها كذا. والله يعلم أنا فيها صادق بار
راشد تابع للحق. ثم توفى الله أبا بكر فقلت: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر، فقبضتها سنتين أعمل فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو
بكر (1). وإن كل سعي البخاري ينصب على ستر معائب الشيخين التي لا تخفى على كل ذي
عينين، لكن شراح صحيح البخاري لم يهتدوا إلى الغرض الذي دعا البخاري إلى ما صنع،
فباحوا بالحقيقة التي أراد البخاري كتمها، مع نسبة هذه الصنيعة الشنيعة إلى الزهري،
قال ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث في باب الخمس: قوله: ثم توفى الله نبيه صلى
الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها أبو
بكر فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم. زاد في رواية عقيل: وأنتما
حينئذ وأقبل على علي وعباس: تزعمان أن أبا بكر كذا وكذا. وفي رواية شعيب: كما
تقولان، وفي رواية مسلم من الزيادة: فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا
ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نورث
ما تركناه صدقة، فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا. وكأن الزهري كان يحدث به تارة
فيصرح، وتارة فيكني، وكذلك مالك . وقال ابن حجر بشرح الحديث في باب ما يكره من
التعمق والتنازع: وقوله: تزعمان أن أبا بكر فيها كذا. هكذا هنا وقع بالابهام، وقد
بينت في شرح الرواية الماضية في فرض الخمس أن تفسير ذلك وقع في رواية مسلم، وخلت
(هامش)
(1) صحيح البخاري 9 / 754. (*)
ص 108
الرواية المذكورة عن ذلك إبهاما .
تحريف من أبي بكر الجوهري
وكذلك فعل أبو بكر
أحمد بن عبد العزيز الجوهري، صاحب كتاب (السقيفة)، حيث ذكر حديث كاذبا آثما غادرا
خائنا بألفاظ أخرى، فقد أورد في كتابه المذكور حديث مالك بن أوس باللفظ الآتي:
ثم توفي فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضه الله وقد عمل
فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتما حينئذ، والتفت إلى علي
والعباس: تزعمان أن أبا بكر فيها ظالم فاجر، والله يعلم أنه فيها لصادق بار راشد
تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر فقلت: أنا أولى الناس بأبي بكر وبرسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقبضتها سنتين - أو قال: سنين - من أمارتي أعمل فيها مثل ما عمل
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، ثم قال - وأقبل على العباس وعلي - تزعمان
أني فيها ظالم فاجر، والله يعلم أني لصادق بار راشد تابع للحق . ورواه مرة أخرى
بطريق آخر أن عمر قال: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضها أبو بكر،
فجئت يا عباس تطلب ميراثك من ابن أخيك، وجئت يا علي تطلب ميراث زوجتك من أبيها،
وزعمتها أن أبا بكر كان فيها خائنا فاجرا، والله لقد كان أمرء مطيعا تابعا للحق، ثم
توفى أبو بكر فقبضتها فجئتماني تطلبان ميراثكما، أما أنت يا عباس فتطلب ميراثك من
ابن أخيك، وأما علي فيطلب ميراث زوجته من أبيها، وزعمتها أني فيها خائن فاجر، والله
يعلم أني فيها مطيع تابع للحق . ورواه مرة ثالثة عن أبي البختري: فكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يتصدق به ويقسم فضله، ثم توفي فوليه أبو بكر سنتين، يصنع فيها
ما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتما تقولان أنه كان بذلك خاطئا وكان
بذلك ظالما، وما كان بذلك إلا راشدا، ثم وليته بعد أبي بكر فقلت لكما: إن شئتما
ص 109
قبلتكماه على عمل رسول الله وعهده الذي عهد فيه، فقلتما: نعم، وجئتماني الآن
تختصمان يقول هذا: أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول هذا: أريد نصيبي من امرأتي، والله
لا أقضي بينكما إلا بذلك . نظرة في سند حديث مختلق وإن ما ذكرناه يكفي في الدلالة
على فساد الحديث المزعوم الذي تمسك به السخاوي، هذا مع أنه مخدوش سندا، فقد عرفت أن
البخاري يرويه عن محمد ابن كثير وهو العبدي وهذا مجروح كما ذكر الذهبي بترجمته، حيث
قال: وروى أحمد ابن أبي خيثمة قال لنا: ابن معين لا تكتبوا عنه لم يكن بالثقة
(1). وقال العسقلاني: قال ابن معين: لم يكن بالثقة . قال: وقال ابن الجنيد عن
ابن معين: كان في حديثه ألفاظ كامنة ضعيفة، ثم سألت عنه فقال: لم يكن بأهل أن يكتب
عنه (2). وفي طريقه سفيان الثوري وقد كان يدلس عن الضعفاء كما ذكره الذهبي وابن
حجر العسقلاني (3) وغيرهما. بل لقد اشتهر بتدليس التسوية، الذي قالوا بأنه أفحش
أنواع التدليس مطلقا وشرها (4)، قال السيوطي: قال العراقي: وهو قادح فيمن تعمد
فعله، وقال شيخ الإسلام: لا شك أنه جرح وإن وصف به الثوري والأعمش، فلا اعتذار
أنهما لا يفعلانه إلا في حق من يكون ثقة عندهما ضعيفا عند غيرهما (5). وقال
القاري: وهذا القسم من التدليس مكروه جدا، وفاعله مذموم عند أكثر
(هامش)
(1) ميزان الاعتدال 4 / 18. (2) تهذيب التهذيب 9 / 371. (3) ميزان الاعتدال 2 /
169، تقريب التهذيب 1 / 311. (4) أنظر تدريب الراوي 1 / 186 وغيره. (5) تدريب
الراوي 1 / 186. (*)
ص 110
العلماء، ومن عرف به فهو مجروح عند جماعة، لا يقبل روايته بين السماع أو لم يبينه
(1). وقال ابن الجوزي في ذم التدليس: هذا خيانة منهم على الشرع (2). وقال أيضا:
هو من أعظم الجنايات على الشريعة (3). وقال النووي: التدليس قسمان: أحدهما:
أن يروي عمن عاصره ما لم يسمع منه، موهما سماعه، قائلا: فلان أو عن فلان أو نحوه،
وربما لم يسقط شيخه وأسقط غيره، ضعيفا أو صغيرا، تحسينا لصورة الحديث. وهذا القسم
مكروه جدا، ذمه أكثر العلماء، وكان شعبة من أشدهم ذما له، وظاهر كلامه أنه حرام،
وتحريمه ظاهر، فإنه يوهم الاحتجاج بما لا يجوز الاحتجاج به، ويسبب أيضا إلى إسقاط
العمل بروايات نفسه، مع ما فيه من الغرور، ثم إن مفسدته دائمة، وبعض هذا يكفي في
التحريم، فكيف باجتماع هذه الأمور (4). هذا، ولسفيان الثوري قوادح أخرى، منها:
القول بمذهب الخوارج، ومنها: الحسد لأبي حنيفة والعداوة له والطعن فيه... ذكرها أبو
المؤيد محمود بن محمد الخوارزمي (5)، وهذا القوادح تسقط الثوري عن درجة الاعتبار
لدى أهل السنة، لا سيما الحنفية منهم كما لا يخفى. ومن أعظم قوادح سفيان الثوري
اعتراضه على الإمام الصادق عليه السلام، قال الشعراني: ودخل عليه الثوري رضي الله
عنه، فرأى عليه جبة من خز، فقال له: إنكم من بيت نبوة تلبسون هذا!! فقال: ما تدري،
أدخل يدك، فإذا تحته مسح من شعر خشن، ثم قال: يا ثوري أرني تحت جبتك، فوجد تحتها
(هامش)
(1) شرح شرح نخبة الفكر 112. (2) تلبيس إبليس 34. (3) الموضوعات 1 / 52. (4)
المنهاج في شرح صحيح مسلم 1 / 33. (5) جامع مسانيد أبي حنيفة 2 / 468. (*)
ص 111
قميصا أرق من بياض البيض، فخجل سفيان، ثم قال: يا ثوري لا تكثر الدخول علينا، تضرنا
ونضرك (1). فظهر أن الحديث الذي أخرجه البخاري عن محمد بن الحنفية، حديث مختلق
مكذوب. حديث مختلق آخر ومثله في الاختلاق والبطلان الحديث الآخر، الذي رواه المتقي:
عن زيد ابن علي بن الحسيني قال: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين
ابن علي يقول: قلت لأبي بكر: يا أبا بكر من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ فقال لي: أبوك. فسألت أبي عليا فقلت: من خير الناس بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ فقال: أبو بكر - الدغولي، كر (2). فإن آثار الكذب والافتراء لائحة
عليه وبادية فيه، كما لا يخفى على كل منصف نبيه، على أنه حديث لم نقف له على سند،
وقد صرح (الدهلوي) بأن كل حديث لا سند صحيح له فهو ساقط عن درجة الاعتبار. حديث
مختلق آخر ولما رأى بعض الوضاعين من أهل السنة وضوح فظاعة ما وضع عن لسان الإمام
عليه السلام في تفضيل الشيخين مطلقا، عمد إلى وضع حديث عن لسانه ينص على أفضليتهما
من جميع الأصحاب سوى أهل البيت، فقد روى المتقي: عن أبي البختري قال: خطب علي
فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر. فقال رجل: وأنت يا أمير
المؤمنين؟ فقال: نحن أهل البيت لا يوازينا
(هامش)
(1) لواقح الأنوار 1 / 32. (2) كنز العمال 12 / 489. (*)
ص 112
أحد. حل (1). وهذا أيضا حديث مختلق، فإن من يرى الشيخين كاذبين آثمين غادرين
خائنين كيف يفضلهما على سلمان وأبي ذر والمقداد وعمار بن ياسر ونظرائهم؟! إن هذا
إلا إفك مبين. على أن راويه أبو البختري لم يسمع من الإمام عليه السلام شيئا،
وإنما كان يرسل عنه كثيرا، قال ابن حجر: سعيد بن فيروز، وهو ابن أبي عمران، أبو
البختري الطائي مولاهم الكوفي، روى عن: أبيه، وابن عباس، وابن عمر، وأبي سعيد، وأبي
كبشة وأبي برزة، ويعلى بن مرة، وأبي عبد الرحمن السلمي، والحارث الأعور. وأرسل عن:
عمر، وعلي وحذيفة، وسلمان، وابن مسعود. وعنه: عمرو بن مرة، وعبد الأعلى بن عامر،
وعطاء بن السائب، وسلمة بن كهيل ويونس بن حبان، وحبيب بن أبي ثابت، ويزيد بن أبي
زياد، وغيرهم. قال عبد الله بن شعيب عن ابن معين: أبو البختري الطائي اسمه سعيد،
وهو ثبت، ولم يسمع من علي شيئا (2). ولكثرة روايته عن الأصحاب مع عدم سماعه منهم
حكم بعض نقدة الحديث بضعف مراسيله قال ابن سعد: ... كان كثير الحديث، يرسل حديثه
ويروي عن الصحابة، ولم يسمع من كثير أحد، فما كان من حديثه سماعا فهو حسن، وما كان
عن إرسال فهو ضعيف (3). وقال بن حجر أيضا: قال أبو أحمد الحاكم في الكنى: ليس
بالقوي عندهم ثم قال ابن حجر: كذا قال وهو سهو (4) قلت: وهو تحكم محض.
(هامش)
(1) كنز العمال 13 / 7. (2) تهذيب التهذيب 4 / 65. (3) تهذيب التهذيب 4 / 65. (4)
تهذيب التهذيب 4 / 65. (*)
ص 113
(7) مع السيوطي في كلامه حول الحديث
وممن تنطع وتعنت في باب حديث مدينة العلم: جلال
الدين السيوطي، إذ قال بشرح حديث: أنا دار الحكمة: قال الطيبي: تمسك الشيعة بهذا
الحديث في أن أخذ العلم والحكمة مختص به، لا يتجاوزه إلى غيره إلا بواسطته، لأن
الدار إنما يدخل إليها من بابها. ولا حجة لهم فيه، إذ ليس دار الجنة بأوسع من دار
الحكمة، ولها ثمانية أبواب (1). وهذا نفس كلام الطيبي الذي تقدم الكلام عليه
بالتفصيل، وأوضحنا بطلانه بما لا مزيد عليه، والله ولي التوفيق. * * *
(هامش)
(1) قوت المغتذي في شرح الترمذي. كتاب المناقب، باب مناقب علي. (*)
ص 114
(8) مع السمهودي في كلامه حول الحديث
وحاول علي بن عبد الله السمهودي صرف حديث أنا
مدينة العلم عن مفاده الصريح فيه، بما يحير الأفهام، فقال بعد أن أورد بعض ما يدل
على أعلمية الإمام عليه السلام: قلت: وهذا وأشباهه مما جاء في فضيلة علي في هذا
الباب شاهد لحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها، رواه الإمام أحمد في الفضائل عن علي
رضي الله عنه، والحاكم في المناقب من مستدركه، والطبراني في معجمه الكبير، وأبو
الشيخ ابن حيان في السنة له، وغيرهم كلهم عن ابن عباس مرفوعا به بزيادة: فمن أتى
العلم فليأت الباب. ورواه الترمذي من حديث علي مرفوعا: أنا مدينة العلم وعلي بابها،
وقال الترمذي عقب هذا: إنه منكر. وكذا قال شيخه البخاري، وقال الحاكم عقب الأول:
إنه صحيح الإسناد، أورده ابن الجوزي من الثاني في الموضوعات. وقال الحافظ أبو سعيد
العلائي: الصواب أنه حسن باعتبار طرقه، لا صحيح ولا ضعيف، فضلا عن أن يكون موضوعا.
وكذا قال الحافظ ابن حجر في فتوى له. ولا ينافيه تفضيل أبي بكر رضي الله عنه مطلقا،
بشهادة علي وغيره بذلك له، وشهد له بالعلم أيضا، فقد قال علي: أبو بكر أعلمهم
وأفضلهم وما اختلفوا في شيء إلا كان الحق معه. وعدم اشتهار علمه لعدم طول مدته بعد
الاحتياج إليه بموت النبي صلى الله عليه وسلم (1). وفي هذا الكلام نظر من وجوه: 1
- نسبة الطعن إلى البخاري والترمذي كذب إن السمهودي - وإن لم ينكر أصل الحديث، بل
حققه وأثبته عن جماعة من
(هامش)
(1) جواهر العقدين - مخطوط. (*)
ص 115
أئمة مذهبه - نسب إلى الترمذي أنه قال عقب الحديث: هذا منكر . وقد أثبتنا سابقا
عدم صحة هذه النسبة، وأن الترمذي لم يقل هذا بعد هذا الحديث أبدا، بل صريح الشيخ
عبد الحق الدهلوي في (اللمعات في شرح المشكاة) أن الترمذي قال: إنه حسن. ويؤيد هذا
أن الترمذي قد حسن حديث أنا دار الحكمة - المؤيد لحديث: أنا مدينة العلم -
كما صرح به المحب الطبري في (ذخائر العقبى) وفي (الرياض النضرة). وكما نسب بعض
المفسرين إلى الترمذي القدح في حديث أنا مدينة العلم فقد نسب إليه ذلك بالنسبة
إلى حديث أنا دار الحكمة أيضا، كما فصلناه فيما مضى في رد كلام النووي. على أن
كثيرا من محققي أهل السنة ينقلون الحديثين معا عن الترمذي، وظاهر عباراتهم أنه قد
أخرجهما في (الصحيح) من دون أي غمز فيهما، كما لا يخفى على من راجع ما ذكرناه سابقا
في إثبات إخراج الترمذي لحديث مدينة العلم، وفي إثبات إخراجه لحديث دار الحكمة، من
عبارات أئمة القوم الدالة على ذلك، وعليك بالتأمل فيما ذكره ابن حجر المكي في
(الصواعق) وما قاله العيدروس اليمني في (العقد النبوي) وما أورده الصبان المصري في
(إسعاف الراغبين). فإن عبارات هؤلاء الأعلام أصرح في المقصود والمطلوب. وعلى
الجملة، فإن نسبة السمهودي القدح في حديث أنا مدينة العلم إلى الترمذي كذب
واضح، ولعله ذكر ذلك من غير أن يراجع جامع الترمذي، فلو كان راجع النسخة الصحيحة
منه لما نسب إلى الترمذي ذلك، بل النسخة المحرفة من الترمذي كذلك، لأن الذي فعله
المحرفون هو إسقاط حديث أنا مدينة العلم وإبقاء حديث أنا دار الحكمة مع
إضافة كلمة منكر إليه، ولم نجد نسخة صحيحة ولا محرفة ذكر فيها حديث أنا مدينة
العلم مع لفظة منكر ، ومن ادعى فعليه البيان. وأما نسبة القول بأنه منكر إلى
البخاري فباطلة كذلك، ففي (اللآلي
ص 116
المنثورة) و(المقاصد الحسنة) أن البخاري قاله بالنسبة إلى حديث أنا دار الحكمة .
فذكر هذا بالنسبة إلى حديث أنا مدينة العلم باطل. 2 - دعوى عدم المنافاة بين
الحديث وتفضيل أبي بكر باطلة ثم إن حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها يدل من
وجوه كثيرة وبدلالة واضحة على إمامة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ولا يشك
عاقل في دلالته على أفضلية الإمام وأعلميته المطلقة، فإما ينكر هذا الحديث ويحكم
بوضعه - كما صنع بعض النواصب - وإما ترفع اليد عن الاعتقاد بتفضيل أبي بكر على
الإمام عليه السلام. فظهر بطلان قول السمهودي - بعد إثبات الحديث وتحقيقه -: ولا
ينافيه تفضيل أبي بكر مطلقا ، إذ لا مناص من القول بأفضلية الإمام عليه السلام
مطلقا، بعد القول بثبوت الحديث الشريف. 3 - دعوى شهادة الإمام بتفضيل أبي بكر باطلة
ومثله في البطلان دعواه شهادة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بتفضيل أبي بكر،
فقد عرفت في جواب السخاوي: أن لا أصل للروايات المتضمنة لهذا المعنى عن أمير
المؤمنين عليه السلام، فإنها روايات مختلقة مكذوبة، باطلة سندا ومتنا، ولا سيما ما
أخرجه البخاري وهو العمدة فيها، كما لا يخفى. 4 - دعوى شهادة غير الإمام بذلك باطلة
ومن الذي شهد بذلك غير الإمام عليه السلام حتى يقول السمهودي: بشهادة علي وغيره
بذلك له ؟ لم نجد أحدا شهد بذلك من الصحابة العدول، ومن ادعى فعليه البيان، وعلينا
إبطاله بأوضح الدليل والبرهان... وعلى فرض صدور شيء في حق أبي بكر من أحدهم فلا ريب
في عدم صلاحيته لأن يقال به الوجوه الكثيرة على أفضلية أمير المؤمنين المطلقة. 5 -
دعوى شهادة الإمام له بالعلم كاذبة ومن الدعاوى الكاذبة للسمهودي في هذا الكلام
قوله: وشهد له بالعلم أيضا، فقد قال علي: أبو بكر أعلمهم وأفضلهم . فمن الذي روى
ذلك؟ وليت
ص 117
السمهودي ذكر له مصدرا ولو من موضوعات أسلافه؟! فالعجب منه كيف يستدل بما لا عين له
ولا أثر في الموضوعات فضلا عن الكتب الموصوفة بالصحاح!! مع أنه لو كان قد أخرج في
الصحاح عندهم فضلا عن الموضوعات لم يكن حجة على الإمامية، وما كان يجوز الاحتجاج به
في مقابلتهم... 6 - دعوى كون الحق مع أبي بكر في موارد الاختلاف كاذبة ومن الدعاوى
الكاذبة قول السمهودي: وما اختلفوا في شيء إلا كان الحق معه ، وهي دعوى بلا
برهان، بل الأدلة والبراهين على بطلانها لا تعد ولا تحصى، ولو لم يمكن إلا واقعة
السقيفة وقضية فدك ومسألة الخمس لكفى دليلا وبرهانا على كون أبي بكر على الخطأ
والباطل، فإنها أمور وقع فيها الاختلاف بين علي وأبي بكر، ولا يصدق عاقل بكون الحق
فيها مع أبي بكر، لثبوت عصمة أمير المؤمنين والصديقة الزهراء بالكتاب والسنة، أما
أبو بكر فيعرف نفسه بقوله: إن لي شيطانا يعتريني . 7 - الاعتذار بقصر مدة أبي
بكر غير مسموع وكأن السمهودي ملتفت إلى ورود الإشكال عليه بأنه: لو كان أبو بكر
أعلم الأصحاب مطلقا، فأين أقواله وآراؤه في القضايا المختلفة؟ ولماذا لم يشتهر
بالعلم؟ فالتجأ إلى الاعتذار عن أبي بكر بقوله: وعدم اشتهار علمه لعدم طول مدته
بعد الاحتياج إليه بموت النبي صلى الله عليه وسلم . إلا أن هذا الاعتذار غير مسموع
لدى ذوي الألباب والأبصار، لوجوه: أحدها: إن توقف اشتهار العلم على طول المدة
ممنوع، بل إن ملاك اشتهار العلم هو الكمال العلمي للشخص، فكلما كان العلم أكثر كان
الاشتهار به أكثر، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله - على قلة مكثه في أمته -
اشتهر علمه بحيث لم يبلغ اشتهار الأنبياء السابقين عليه معشار اشتهار علمه، مع وجود
مثل نوح فيهم الذي اشتهر بطول العمر حتى ضرب به المثل فيه. فالحق هو أن أبا بكر لم
يشتهر علمه لانتفاء الموضوع - وهو العلم - لا لوجود
ص 118
المانع وهو قصر مدته. والثاني: سلمنا التوقف المذكور، لكن مدة أبي بكر منذ إسلامه
حتى موته كانت طويلة، فلو كان أعلم الصحابة لظهرت آثار أعلميته في هذه المدة،
ولاشتهر علمه، وأما التعلل بعدم الاحتياج إليه في حياة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، وعند الاحتياج إليه بعد موت النبي صلى الله عليه وآله لم تطل مدته، فليس
بنافع، لأن أعلم الصحابة محتاج إليه على كل حال، ولذا نرى احتياج الناس إلى أمير
المؤمنين عليه السلام - وهو الأعلم في الواقع والحقيقة - على حياة النبي وبعد وفاته
صلى الله عليه وآله، ومن هنا نرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدل الأمة
ويرشدهم نحو الإمام بقوله: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت
الباب . وأيضا: قد اشتهرت قضايا الإمام عليه السلام وفتاواه على عهد النبي صلى
الله عليه وآله سواء في سفره إلى اليمن أو في المدينة المنورة. أما أبو بكر فلم
ينقل عنه ما يدل على علمه فضلا عن أعلميته في مدة خلافته مع احتياج الأمة إليه بعد
النبي، فضلا عن زمان حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثم إن ما ذكره السمهودي
من أن زمان خلافة أبي بكر كان وقت اشتهار علمه، لكن منع من ذلك عدم طول مدته.
ينافيه ما سيأتي عن البنباني من أن عصر خلافة الثلاثة لم يكن زمان ظهور علومهم، بل
إن اشتغالهم بأمور الخلافة حال دون إفادة الأمة وتعليمهم، وأن ذلك هو السبب في
رجوعهم إلى أمير المؤمنين عليه السلام. فإن بين هذين الزعمين من التضاد ما لا يخفى
على أهل السداد والرشاد. والثالث: سلمنا أن السبب في عدم اشتهار علمه عدم طول مدته
بعد الاحتياج إليه، إلا أن هذا لا يحقق غرض السمهودي، لأنه إن لم يشتهر علمه فلا
أقل من عدم اشتهار جهله وضلاله، ولكن المتتبع للأخبار والآثار يعلم جيدا بكثرة
الموارد التي ظهر فيها جهل أبي بكر وعدم علمه بالأحكام الشرعية، وقد
ص 119
تضمن كتاب (تشييد المطاعن) طرفا من تلك الأخبار، وحينئذ لا مساغ لدعوى العلم لأبي
بكر فضلا عن دعوى الأعلمية المطلقة!! 8 - اعتراف الشيخين بأعلمية علي ورجوعهما إليه
وبعد، فالعجب من السمهودي، كيف يدعي الأعلمية لأبي بكر، وهو نفسه يروي - فيمن يروي
- قسما من أخبار رجوع أبي بكر وعمر إلى أمير المؤمنين واعترافهما بما يفيد أعلميته
منهما؟! لقد ذكر السمهودي في كتابه (جواهر العقدين) في قضية حكم عمر برجم المرأة
المجنونة، ونقض الإمام عليه السلام ذلك الحكم: وفي رواية: فقال عمر: لولا علي
لهلك عمر. وروى بعضهم: إنه اتفق لعلي مع أبي بكر رضي الله عنهما نحو ذلك . وقال
فيه أيضا: وقد أخرج ابن السمان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع عمر يقول
لعلي رضي الله عنهما - وقد سأله عن شيء فأجابه ففرج عنه -: لا أبقاني الله بعدك يا
علي ، وهذا دليل واضح على أعلمية الإمام عليه السلام. وقد اعترف السمهودي نفسه
بكونه من شواهد حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها حديث قال: قلت: هذا وأشباهه
مما جاء في فضيلة علي في هذا الباب شاهد لحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها . وقال
السمهودي في (جواهر العقدين): قال الزين العراقي في شرح التقريب في ترجمة علي رضي
الله عنه، قال عمر: أقضانا علي، وكان يتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن . قال:
وهذا التعوذ رواه الدارقطني وغيره، ولفظه: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن .
قال: وفي رواية له عن أبي سعيد الخدري قال: قدمنا مع عمر مكة ومعه علي بن أبي
طالب، فذكر له علي شيئا، فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم أبا حسن .
ص 120
وقال: أخرج الحافظ الذهبي عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: ذكر لعطاء أكان أحد من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أفقه من علي؟ قال: لا والله ما علمته . وقال:
وقول عمر رضي الله عنه: علي أقضانا. رواه البخاري في صحيحه، ونحوه عن جماعة من
الصحابة . وقال: والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود قال: كنا نتحدث أن أقضى أهل
المدينة علي. وقال: إنه صحيح ولم يخرجاه . وقال: وأصل ذلك: قصة بعثه صلى الله
عليه وسلم لعلي رضي الله عنه إلى اليمن قاضيا، فقال: يا رسول الله بعثتني أقضي
بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء؟ فضرب صلى الله عليه وسلم في صدري وقال: اللهم
اهده وثبت لسانه. قال: فوالذي فلق الحبة وبرئ النسمة ما شككت في قضاء بين اثنين.
رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح الإسناد . وقال: روى أحمد والطبراني برجال
وثقوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنهما: أما ترضين أن زوجتك
أقدم أمتي سلما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما . * * *
ص 121
(9) مع ابن روزبهان في كلامه حول الحديث
وقال الفضل بن روزبهان الشيرازي - وهو من
مشاهير المتكلمين من أهل السنة، والمتأخرون عنه عيال عليه - في جواب احتجاج العلامة
الحلي بقول الإمام عليه السلام سلوني قبل أن تفقدوني وقول النبي صلى الله عليه
وآله: أنا مدينة العلم وعلي بابها قال ما نصه: أقول: هذا يدل على وفور علمه
واستحضاره أجوبة الوقائع واطلاعه على أشتات العلوم والمعارف. وكل هذه الأمور مسلمة،
ولا دليل على النص، حيث أنه لا يجب أن يكون الأعلم خليفة، بل الأحفظ للحوزة والأصلح
للأمة، ولو لم يكن أبو بكر أصلح للإمامة لما اختاروه . أقول: لم يجد ابن روزبهان
مناصا من الاعتراف بدلالة حديث أنا مدينة العلم على الأعلمية المطلقة لأمير
المؤمنين عليه السلام، غير أنه ينكر اشتراط الأعلمية في الخليفة، ومن هنا يقول بأن
هذا الحديث لا يكون نصا على خلافة الإمام عليه السلام، ويستدل باختيار الأمة أبا
بكر للإمامة مع كونه غير أعلم، وما ذكره مردود من وجوه: أحدها: إن حديث أنا مدينة
العلم وعلي بابها من الأدلة الواضحة على خلافة سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام،
وقد بينا ذلك بوجوه عديدة فيما سبق من الكتاب. والثاني: لقد دل الكتاب والسنة
المتأيدة بأقوال المفسرين من أهل السنة، على تعين الأعلم للإمامة والخلافة، وقد
تقدم بيان ذلك بالدلائل الكثيرة المفيدة للقطع واليقين، ولو لم يكن فيها سوى ما
ذكره الله سبحانه في قصة آدم، وقصة طالوت، لكفى في ذلك دليلا وبرهانا.
ص 122
والثالث: إنه لا ريب في كون الأعلم هو الأحفظ للحوزة والأصلح للأمة، ومن هنا يظهر
بطلان دعوى كون أبي بكر الأحفظ للحوزة والأصلح للأمة، مع الاعتراف بكونه غير أعلم،
متى كان أبو بكر أحفظ للحوزة؟ أفي ميادين القتال والجهاد مع الكفار؟ أو في حل
المشكلات والمعضلات؟ والرابع: إن الاستدلال باختيار الناس أبا بكر للخلافة واضح
الفساد، إذ لو سلمنا وقوع الاختيار من الناس، فإن الإشكال يرد أولا على الذين
اختاروه، ثم على الذين يستدلون بهذا الاختيار على صحة إمامة أبي بكر... كلام آخر
لابن روزبهان ولابن روزبهان في باب حديث مدينة العلم وحديث أنا دار الحكمة، كلام
آخر هو أعجب وأغرب من كلامه الذي ذكرناه، وبيان ذلك: أن العلامة الحلي رحمه الله
يقول: المطلب الثاني - العلم. والناس كلهم بلا خلاف عيال علي عليه السلام، في
المعارف الحقيقية والعلوم اليقينية والأحكام الشرعية والقضايا النقلية، لأنه عليه
السلام كان في غاية الذكاء والحرص على التعلم، وملازمته لرسول الله صلى الله عليه
وآله الذي هو أشفق الناس عليه عظيمة جدا، لا ينفك عنه ليلا ولا نهارا، فيكون
بالضرورة أعلم من غيره. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله في حقه: أقضاكم علي.
والقضاء يستلزم العلم والدين. وروى الترمذي في صحيحه: إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها. وروي البغوي في الصحاح: إن رسول الله صلى
الله عليه وآله قال: أنا دار الحكمة وعلي بابها . فقال ابن روزبهان في جواب هذا
الكلام: ما ذكره المصنف من علم أمير المؤمنين فلا شك في أنه من علماء الأمة،
والناس محتاجون إليه فيه، وكيف لا وهو وصي النبي صلى الله عليه وآله في إبلاغ العلم
وبدائع حقائق المعارف، فلا نزاع فيه لأحد. وأما ما ذكره من صحيح الترمذي فصحيح. وما
ذكره من صحاح
ص 123
البغوي فإنه قال: الحديث غريب لا يعرف هذا عن أحد من الثقات غير شريك، وإسناده
مضطرب، فكان ينبغي أن يذكر ما ذكره من معائب الحديث، ليكون أمينا في النقل . وهذا
الكلام غريب من وجوه: 1 - علي أعلم الأمة لا أنه من علماء الأمة فقط إن قول ابن روز
بهان: ما ذكره المصنف من علم أمير المؤمنين فلا شك أنه من علماء الأمة تفريط في
حق الإمام عليه السلام، لأن الإمام عليه السلام أعلم الأمة بعد رسول الله صلى الله
عليه وآله كما أثبتناه سالفا. هذا بالإضافة إلى اعتراف ابن روز بهان في كلامه
السابق بأعلمية الإمام عليه الصلاة والسلام. 2 - الناس محتاجون إليه كاحتياجهم إلى
النبي وليس احتياج الناس إلى أمير المؤمنين عليه السلام كاحتياجهم إلى واحد من
علماء الأمة، بل إن الناس كلهم عيال عليه في جميع العلوم والأحكام - كما ذكر
العلامة الحلي - لأنه أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وأكثرهم ملازمة له،
فهم كانوا يحتاجون إليه في العلم لكونه أعلمهم، فإن أراد ابن روزبهان من قوله:
والناس محتاجون إليه فيه هذا المعنى فمرحبا بالوفاق، لأن هذا المعنى يثبت خلافة
الإمام بعد النبي بلا فصل، لقبح تأمير المحتاج البين الاحتياج العظيم الاحواج، على
من هو غني ملي بعلم صاحب المعراج صلى الله عليه وآله وسلم. وإن أراد ابن روز بهان
معنى آخر فقد كابر مكابرة بينة، وأغلب الظن أنه يريد المعنى الأول، لأنه اعترف
بأعلميته عليه السلام في الكلام السابق. 3 - اعتراف ابن روزبهان بكون الإمام وصي
النبي في إبلاغ العلم وقول ابن روزبهان في هذا الكلام: كيف لا، وهو وصي النبي صلى
الله عليه وآله وسلم في إبلاغ العلم وبدائع حقائق المعارف صريح في أنه الإمام بعد
النبي صلى الله عليه وآله، إذ لا يعقل أن يكون وصي النبي في إبلاغ العلم وبدائع
حقائق المعارف غير الأعلم وغير الإمام من بعده صلى الله عليه وآله وسلم،
ص 124
لعدم انفكاك الأعلمية عن مثل هذا العلم المنصوب، المخصوص بالعلم المصبوب، ولقبح
ترجيح المرجوح وبطلان تفضيل المفضول. ثم إن قوله: فلا نزاع فيه لأحد كلمة حق
جرت على لسانه، لكن ما استشهد به العلامة الحلي يدل على أعلمية الإمام عليه السلام،
وهذا هو المطلوب من الاستشهاد والاستدلال، والأعلمية تلازم الإمامة والخلافة كما مر
غير مرة. فإذا كان علي ابن روزبهان التسليم بإمامة الإمام، وترك النزاع في إمامته
أيضا. 4 - اعترافه برواية الترمذي وقول ابن روزبهان: وأما ما ذكره من صحيح
الترمذي فصحيح اعتراف بصحة حديث أنا مدينة العلم سندا، وقد اعترف ابن روزبهان
بدلالة هذا الحديث على أعلمية الإمام عليه السلام بالرغم من قيام البراهين المحكمة
على تعين الأعلم للخلافة عن النبي صلى الله عليه وآله. وأيضا، فإن حديث مدينة العلم
يدل بالوجوه العديدة المذكورة سابقا على إمامة الإمام عليه السلام، فكان علي ابن
روزبهان الاعتراف بالنتيجة كما اعترف بالمقدمة. 5 - دفع إيراد ابن روزبهان على
العلامة الحلي وأما ما ذكره ابن روزبهان للطعن على العلامة الحلي بقوله: وما ذكره
من صحاح البغوي فإنه قال: الحديث غريب لا يعرف هذا من أحد من الثقات غير شريك،
وإسناده مضطرب. فكان ينبغي أن يذكر ما ذكره من معائب الحديث، ليكون أمينا في النقل
فمردود بوجوه عديدة: إسقاطهم حديث أنا مدينة العلم من صحيح الترمذي أحدها: - ما
الدليل على وجود الجملة التي ذكرها ابن روزبهان في نسخة العلامة الحلي؟ إن اختلاف
النسخ في كتب الحديث غير عزيز، بل إن الكتب الموصوفة بالصحاح عند أهل السنة مختلفة
زيادة ونقيصة وتغييرا وتبديلا، كما لا يخفى على
ص 125
من راجع (جامع الأصول لابن كثير) و(مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي) و(المرقاة لعلي
القاري)... ومن الشواهد على ذلك حديث أنا مدينة العلم و(صحيح الترمذي)، فقد
عرفت أن العلامة الحلي رحمه الله ينقل هذا الحديث عن (صحيح الترمذي)، ويعترف ابن
روزبهان بصحة ذلك قائلا: وأما ما ذكره من صحيح الترمذي فصحيح ، وقد نقله عن
الترمذي قبل العلامة: ابن الأثير الجزري في (جامع الأصول) ومحمد بن طلحة الشافعي في
(مطالب السؤول). واعترف ابن تيمية الحراني - هو معاصر العلامة - في (منهاج السنة)
برواية الترمذي حديث مدينة العلم. ونقله عن الترمذي جماعة من علماء السنة المتأخرين
عن العلامة الحلي رحمه الله أمثال: السيد شهاب الدين أحمد في كتابه (توضيح الدلائل
على ترجيح الفضائل). وجلال الدين السيوطي في (تاريخ الخلفاء). وحسين بن معين الدين
الميبدي في (الفواتح - شرح ديوان علي). ومحمد بن يوسف الشامي في سيرته (سبل الهدى
والرشاد). وابن حجر المكي في (الصواعق المحرقة). والميرزا مخدوم في كتابه (نواقض
الروافض). وشيخ بن عبد الله العيدروس في (العقد النبوي). ومحمود الشيخاني القادري
في (الصراط السوي). والشيخ عبد الحق الدهلوي في (أسماء رجال المشكاة). ونور الدين
الشبراملسي في (تيسير المطالب السنية). وإبراهيم الكردي الكوراني في (النبراس).
ومحمد بن عبد الباقي الزرقاني في (شرح المواهب اللدنية). ومحمد الصبان المصري في
(إسعاف الراغبين).
ص 126
وشهاب الدين العجيلي الشافعي في (ذخيرة المآل). والمولوي عبد العلي المشهور ببحر
العلوم في (شرح المثنوي).... ومع ذلك كله... فإن حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها
غير مذكور في نسخ (الترمذي) الموجودة، والموجود فيها هو حديث أنا دار الحكمة
وعلي بابها . التحريف في المصابيح للبغوي وكذلك الحال في كتاب مصابيح السنة
للبغوي، فكما أخرج فيه حديث أنا دار الحكمة وعلي بابها أخرج حديث أنا مدينة
العلم وعلي بابها ، وقد نقل جماعة من أكابر علماء أهل السنة كالمحب الطبري في
(الرياض النضرة) وفي (ذخائر العقبى) والقاري في (المرقاة) وأحمد بن الفضل المكي في
(وسيلة المآل) وغيرهم... حديث مدينة العلم عن (المصابيح للبغوي)، بل صرح بعضهم
بإخراج البغوي إياه في قسم الحسان من أحاديث الكتاب المذكور... لكن النسخ التي
وقفنا عليها من (المصابيح) خالية عن حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها . فهذا
تحريف في (المصابيح) حذفا وإسقاطا، ولهم فيه تحريف زيادة وإلحاق، ففي الوقت الذي
يلتزم البغوي بعدم إخراج المناكير في كتابه، ويصرح في أول كتابه بأن ما كان فيها
من ضعيف أو غريب أشرت إليه، وأعرضت عن ذكر ما كان منكرا أو موضوعا تجد فيه حديثا
وصف بأنه منكر ، وهذا نصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى
الله عليه وسلم فجاءه رجل أحسبه من قيس، فقال يا رسول الله: ألعن حميرا؟ فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: رحم الله حميرا أفواههم سلام وأيديهم طعام وهم أهل أمن وإيمان
- منكر (1)
(هامش)
(1) مصابيح السنة - باب مناقب قريش وذكر القبائل 4 / 141. (*)
ص 127
ومن هنا ترى المحققين من علمائهم يعترفون بأن لفظ منكر إلحاق وإقحام في الكتاب،
من قبل بعض من وصفوه بأهل المعرفة بالحديث، قال شمس الدين محمد بن مظفر الخلخالي:
قوله: منكر. أي هذا الحديث منكر. يحتمل أن إلحاق لفظ المنكر ههنا من غير المؤلف، من
بعض أهل المعرفة بالحديث، لأنه لو كان يعلم أنه منكر لم يتعرض له، لأنه قد التزم
الإعراض عن ذكر المنكر في عنوان الكتاب . وفي (المرقاة): قال شارح المصابيح:
قوله منكر. هذا إلحاق من بعض أهل المعرفة بالحديث، لأن المؤلف رحمه الله - يعني
محيي السنة - لو كان يعلم أنه منكر لم يتعرض له، لأنه قد التزم الإعراض عن ذكر
المنكر في عنوان الكتاب، والله أعلم بالصواب . وبعد... فإنا لا نستبعد أن تكون
العبارة التي ذكرها ابن روزبهان من المقحمات في كتاب (المصابيح) من قبل بعض
المتعصبين، وإن وصفوا بأهل المعرفة بالحديث... وأنها لم تكن في نسخة العلامة الحلي
رحمه الله ولذا لم يذكرها، فإشكال ابن روزبهان على العلامة في غير محله. والثاني:
لو فرضنا كون العبارة من كلام البغوي، وأنها كانت موجودة في نسخة العلامة الحلي
رحمه الله، فإن الذي تفوه به ابن روز بهان غير وارد كذلك، لأنا نقول حينئذ: بأن
إعراض العلامة الحلي عن ذكر العبارة مبني على ما تقرر من أن إقرار العقلاء على
أنفسهم مقبول وعلى غيرهم مردود ، وأن الانكار بعد الاقرار غير مسموع . وتوضيح
ذلك هو: أن البغوي قال في صدر كتابه المعروف بالمصابيح: أما بعد: فهذه ألفاظ صدرت
عن صدر النبوة، وسنن سارت عن معدن الرسالة، وأحاديث جاءت عن سيد المرسلين وخاتم
النبيين، هن مصابيح الدجى خرجت عن مشكاة التقوى، مما أورده الأئمة في كتبهم، جمعتها
للمنقطعين إلى العبادة، لتكون لهم بعد كتاب الله حظا من السنن، وعونا على ما هم فيه
الطاعة، وتركت ذكر
ص 128
أسانيدها حذرا من الإطالة عليهم، واعتمادا على نقل الأئمة . فهذا ما وصف به أحاديث
كتابه، فالأوصاف هذه منطبقة على حديث أنا دار الحكمة وعلي بابها باعترافه، فلو
كان ادعى البغوي بعد ذلك كون الحديث منكرا فقد أنكر بعد أن أقر، والانكار بعد
الاقرار غير مسموع، ولذا أعرض العلامة عن ذكر إنكاره. الثالث: سلمنا، لكن إعراض
العلامة عن ذكر الكلام المزبور ستر لمعائب البغوي، لا ستر لمعائب الحديث كما زعم
ابن روز بهان. وبيان ذلك هو: أن قوله: الحديث غريب لا يعرف هذا عن أحد من الثقات
غير شريك، وإسناده مضطرب يشتمل على دعويين: أحداهما: إن الحديث غريب لا يعرف عن
أحد من الثقات غير شريك. وهذه الدعوى تدل على قصر باعه وقلة اطلاعه، لأن الأمر ليس
كذلك كما لا يخفى على المتتبع الخبير، بل إنه حديث مشهور رواه غير شريك من الثقات،
كما دريت سابقا بالتفصيل. على أنه لو كان كذلك فهو مما تفرد به شريك، وهذا لا يمنع
صحته أو حسنه، ومن هنا حسنه الترمذي كما صرح به المحب الطبري في (الرياض النضرة)
و(ذخائر العقبى)، مع أن رواية الترمذي مقتصرة على طريق شريك، وصححه ابن جرير الطبري
في (تهذيب الآثار) كما نقله السيوطي في (جمع الجوامع) وهو أيضا لم يروه إلا عن
شريك، وصححه الحاكم أيضا كما صرح به الشامي في (سبل الهدى والرشاد) والشبراملسي في
(تيسير المطالب السنية) والزرقاني في (شرح المواهب اللدنية). وحسنه الحافظ العلائي
والمجد الفيروز آبادي، فقد قال العلائي - كما في (اللآلي المصنوعة) نقلا عن أجوبة
عن اعتراضات السراج القزويني على أحاديث المصابيح للبغوي -: وشريك هو ابن عبد
الله النخعي القاضي، إحتج به مسلم، وعلق له البخاري، ووثقه يحيى بن معين، وقال
العجلي: ثقة حسن الحديث، وقال عيسى بن يونس: ما رأيت أحدا قط أورع في
ص 129
علمه من شريك. فعلى هذا يكون تفرده حسنا . وكذا قال الفيروز آبادي في كتابه (نقد
الصحيح) بعد حديث: أنا دار الحكمة. فعلى هذا لا يكون تفرد شريك بمانع عن صحة الحديث
أو حسنه، ولا يوجب وهنا فيه أبدا، فكيف مع اشتراك غير شريك من الثقات في رواية هذا
الحديث الشريف!! والثانية: إن إسناده مضطرب. وهذا باطل بحت، فإن من نظر في أسانيد
هذا الحديث وجدها متعددة، وكلها ثابتة بلا تزلزل واضطراب، وأغلب الظن في سبب هذه
الدعوى الباطلة هو الغلط في فهم كلام الترمذي في هذا المقام. وبيان ذلك هو: أن
الترمذي أخرج حديث أنا دار الحكمة بإسناده عن: شريك عن سلمة بن كهيل عن سويد بن
غفلة عن الصنابحي عن أمير المؤمنين عليه السلام، ثم قال: روى بعضهم هذا الحديث عن
شريك، ولم يذكروا فيه عن الصنابحي وهذا الكلام مفاده رواية بعض المحدثين هذا
الحديث عن: شريك عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أمير المؤمنين عليه السلام،
فلما رأى البغوي وجود الصنابحي في رواية بعضهم، وعدم وجوده في رواية البعض
الآخر، توهم كون إسناده مضطربا، ولم يتفطن إلى أن كلا السندين صحيح، لأن سويد بن
غفلة من التابعين الرواة عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بلا واسطة، فهو
يروي الحديث عنه عليه السلام بلا واسطة تارة، وبواسطة الصنابحي تارة أخرى، فكلا
الروايتين صحيح متصل، وذكر الصنابحي في أحدهما من باب المزيد في متصل الأسانيد.
وبما ذكرنا صرح بعض المحققين من أعلام السنة، فقد قال الحافظ صلاح الدين العلائي:
ولا يرد عليه رواية من أسقط منه الصنابحي، لأن سويد بن غفلة تابعي مخضرم، أدرك
الخلفاء الأربعة وسمع منهم، فذكر الصنابحي فيه من المزيد في متصل الأسانيد .
ص 130
وقال الفيروز آبادي: ولا يرد عليه رواية من أسقط الصنابحي منه، لأن سويد بن غفلة
تابعي مخضرم، روى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وسمع منهم، فيكون ذكر
الصنابحي من باب المزيد في متصل الأسانيد . وعلى تقدير تسليم الغلط في إسقاط
الصنابحي من الإسناد، وأن سويد بن غفلة لم يسمع هذا الحديث من الإمام عليه السلام
بل سمعه من الصنابحي، فإن هذا لا يوجب الاضطراب في الإسناد، فإن من أسقط الصنابحي
من الإسناد فقد أخطأ، والصحيح رواية البعض الآخر المذكور فيها الصنابحي، وخطأ
الراوي في إسناد لا يوجب العيب في إسناد آخر صحيح، ولا يضر بأصل سند الحديث...
فالتعلل بمثل هذه الأمور للقدح في الأحاديث المسندة الصحيحة من كثرة التعنت وقلة
الحياء، كما نص عليه ابن حزم في (المحلى). وقد سبق كلامه حيث ذكرنا مؤيدات حديث
أنا مدينة العلم ، وأثبتنا حديث أنا مدينة الحكمة وعلي بابها ، وتكلمنا على
كلام الدارقطني في هذا الحديث، فراجعه إن شئت، فهو أحرى بالرجوع لمثل هذا التحقيق،
والله ولي التوفيق. فظهر أن دعوى اضطراب إسناد حديث أنا دار الحكمة ليست إلا
توهما وسوء فهم، فلو أن العلامة الحلي رحمه الله أعرض عن ذكرها، فقد ستر معائب
البغوي وليس في الحديث عيب أبدا... وإن هذا الذي زعمه ابن روزبهان لم يثمر إلا
الكشف عن توهم البغوي وقلة فهمه للدقائق العلمية، قال الله تعالى: (يخربون بيوتهم
بأيديهم وأيدي المؤمنين). وإن تشدق القوم وتعنتوا قطعنا ألسنتهم بنقل كمال الدين
ابن طلحة الشافعي - وهو أقدم زمانا من العلامة الحلي رحمه الله، وقد ترجم له بكل
تبجيل في (مرآة الجنان) و(طبقات الشافعية) للسبكي والاسنوي وغيرها - حديث أنا دار
الحكمة وعلي بابها - عن (المصابيح للبغوي) كما نقل العلامة الحلي، وهذا عين
عبارته في بيان أدلة علم الإمام عليه السلام:
ص 131
ومن ذلك: ما رواه الإمام الترمذي في صحيحه بسنده، وقد تقدم ذكره في الاستشهاد في
صفة أمير المؤمنين بالأنزع البطين: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أنا
مدينة العلم وعلي بابها. ونقل الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود القاضي البغوي في
كتابه الموسوم بالمصابيح: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا دار الحكمة
وعلي بابها. لكنه صلى الله عليه وسلم خص العلم بالمدينة والدار بالحكمة، لما كان
العلم أوسع أنواعا وأبسط فنونا وأكثر شعبا وأغزر فائدة وأعم نفعا من الحكمة، خصص
الأعم بالأكبر والأخص بالأصغر (1). فهذا نقل هذا الفقيه المحدث الشافعي، المتقدم
زمانا على العلامة الحلي، وهو يطابق نقل العلامة الحلي، وليس فيه العبارة التي
زعمها ابن روزبهان، فالعلامة أمين في النقل، ولكن نسخ المصابيح حرفتها الأيدي
الأثيمة، والله ولي التوفيق، وهو المستعان.
(هامش)
(1) مطالب السؤول: 62. (*)
ص 132
(10) مع ابن حجر المكي في كلامه حول الحديث
وقال ابن حجر المكي في مبحث أعلمية أبي
بكر بزعمه: لا يقال: بل علي أعلم منه للخبر الآتي في فضائله: أنا مدينة العلم
وعلي بابها. لأنا نقول: سيأتي أن ذلك الحديث مطعون فيه، وعلى تسليم صحته أو حسنه
فأبو بكر محرابها، ورواية: فمن أراد العلم فليأت الباب لا تقتضي الأعلمية، فقد يكون
غير الأعلم يقصد لما عنده من زيادة الايضاح والبيان والتفرغ للناس، بخلاف الأعلم.
على أن تلك الرواية معارضة بخبر الفردوس: أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر
حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها. فهذه صريحة في أن أبا بكر أعملهم، وحينئذ فالأمر
بقصد الباب إنما هو لنحو ما قلناه، لا لزيادة شرفه على ما قبله، لما هو معلوم ضرورة
أن كلا من الأساس والحيطان والسقف أعلى من الباب. وشذ بعضهم فأجاب بأن معنى: وعلي
بابها. أي من العلو، على حد قراءة: هذا صراط علي مستقيم، برفع علي وتنويه، كما قرأ
به يعقوب (1). علي الأعلم لحديث مدينة العلم أقول: إن حديث مدينة العلم يدل على
أعلمية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كما سبق تقريره منا، فهو أعلم الخلائق بعد
النبي صلى الله عليه وآله، حتى الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين، فهذه دلالة
حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها ، وقد شهدت بذلك كلمات كثير من أعلام أهل
السنة، وكان منها عبارات ابن حجر المكي نفسه في كتابه (المنح المكية)، فمن الغريب
بعدئذ دعواه في
(هامش)
(1) الصواعق المحرقة: 20. (*)
ص 133
(الصواعق) أعلمية من جهل حتى معنى الأب والكلالة ، استنادا إلى دعاوى فارغة
وأكاذيب واضحة كما سيأتي، فإذن، من الحق أن يقال: علي أعلم. دعوى أن الحديث مطعون
باطلة وأما قوله: لأنا نقول: سيأتي أن ذلك الحديث مطعون فمن فظائع المناقشات،
لما عرفت من صحة هذا الحديث وثبوته بل تواتره وقطعية صدوره، حسب إفادات أكابر
الأعلام والمحققين من أهل السنة، بحيث لا يبقى مجال لأي قيل وقال... ثم إن كلام ابن
حجر في الموضع الذي أحال إليه بقوله سيأتي يتضمن وجوها عديدة على فساد زعمه
أن ذلك الحديث مطعون ... وشرح ذلك هو: أن ابن حجر قال في الفصل الثاني من الباب
التاسع من (الصواعق): ثم اعلم أنه سيأتي في فضائل أهل البيت أحاديث مستكثرة من
فضائل علي رضي الله عنه، فلتكن منك على ذكر، وأنه مر في كثير من الأحاديث السابقة
في فضائل أبي بكر جمل من فضائل علي، واقتصرت هنا على أربعين حديثا، لأنها من غرر
فضائله ثم قال: الحديث التاسع - أخرج البزار والطبراني في الأوسط عن جابر ابن
عبد الله، والطبراني والحاكم والعقيلي في الضعفاء، وابن عدي عن ابن عمر، والترمذي
والحاكم عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا مدينة العلم وعلي بابها.
وفي رواية: فمن أراد العلم فليأت الباب. وفي أخرى عند الترمذي عن علي: أنا دار
الحكمة وعلي بابها، وفي أخرى عند ابن عدي: علي باب علمي. وقد اضطرب الناس في هذا
الحديث، فجماعة على أنه موضوع، منهم ابن الجوزي والنووي، وناهيك بهما معرفة بالحديث
وطرقه، حتى قال بعض محققي المحدثين: لم يأت بعد النووي من يدانيه في علم الحديث
فضلا عن أن يساويه. وبالغ الحاكم على عادته فقال: إن الحديث صحيح، وصوب بعض محققي
ص 134
المتأخرين المطلعين على الحديث: أنه حديث حسن. ومر الكلام عليه (1). وهذا الكلام
- الذي أوردناه في مبحث الرد على قدح النووي - أعدناه هنا بنصه ليعلم أن ابن حجر
يعد حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها من فضائل الإمام عليه السلام، و غرر
فضائله ومن الأربعين حديثا التي رجحها في الذكر على سائر فضائله عليه السلام.
ثم ينص على إخراج البزار و الطبراني و العقيلي و ابن عدي و الترمذي
و الحاكم له عن عدة من الصحابة، و العقيلي وإن كان قد أخرجه في الضعفاء، إلا
أن ابن حجر يرى روايته صالحة للتأييد، وكذا رواية ابن عدي... وهؤلاء الحفاظ كما
تعلم من مشاهير أئمة الحديث عند أهل السنة، ومن بينهم الترمذي وكتابه يعد من الصحاح
الستة عندهم. ثم إن ابن حجر يقول: وفي رواية: فمن أراد العلم فليأت الباب وهذا
ظاهر في ثبوت هذا اللفظ عن رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم يقول: وفي أخرى عند
الترمذي عن علي: أنا دار الحكمة وهذا من مؤيدات حديث أنا مدينة العلم وعلي
بابها ومن هنا ذكره ابن حجر في هذا المقام، وكذا حديث علي باب علمي . ثم إنه
ينص على تصحيح الحاكم حديث أنا مدينة العلم وعلى أنه قد صوب بعض محققي
المتأخرين المطلعين على الحديث أنه حديث حسن . فإذن الحديث من غرر فضائل الإمام،
وقد أخرجه جماعة من الأئمة الحفاظ عن جماعة من الصحابة، وله مؤيدات أخرجها جماعة
منهم كذلك، وهو صحيح عند الحاكم، وصوب بعض المحققين أنه حديث حسن، هذه أمور اعترف
بها ابن حجر المكي في كلامه الذي أحال إليه بقوله سيأتي وهذه الأمور تكفينا في
مقام الاحتجاج وإلزام الخصم، ولإبطال قوله مطعون .. والحمد لله رب العالمين.
(هامش)
(1) الصواعق: 72. (*)
ص 135
وأما قوله: وقد اضطراب الناس ففيه: إن المنصفين لم يضطربوا في هذا الحديث. وأما
المتعصبون فلا يلتفت إليهم ألبتة. آراء العلماء في ابن الجوزي وأما قوله: فجماعة
على أنه موضوع منهم ابن الجوزي والنووي ففيه أولا: إن ما ذكراه حول الحديث باطل
مردود، كما تقدم في الكتاب بالتفصيل. وثانيا: إن المحققين من أهل السنة لا يعبأون
بقدح ابن الجوزي وطعنه في الأحاديث، وقد نص جماعة منهم على معائب لابن الجوزي،
وصدرت منهم كلمات مختلفة في ذمه والطعن عليه... ومن هؤلاء: ابن الأثير في الكامل في
التأريخ. وأبي الفداء الأيوبي في المختصر في أحوال البشر. وعبد الله بن أسعد
اليافعي في مرآة الجنان. وخواجه بارسا في الفصول الستة. وشمس الدين الذهبي في ميزان
الاعتدال في نقد الرجال، وفي تذكرة الحفاظ. وابن حجر العسقلاني في لسان الميزان.
وجلال الدين السيوطي في طبقات الحفاظ. وشمس الدين الداودي في طبقات المفسرين.
والشيخ عبد الحق الدهلوي في أسماء رجال المشكاة. كما نص جماعة منهم على تسرع ابن
الجوزي في الطعن في الأحاديث الصحيحة في كتابه (الموضوعات). ومن هؤلاء: ابن الصلاح
في علوم الحديث، وابن جماعة في المنهل الروي، والطيبي في الكاشف، وابن كثير في
الباعث الحثيث، والزين العراقي في ألفية الحديث وشرحها، وابن حجر العسقلاني في فتح
الباري والقول المسدد، والسخاوي في
ص 136
فتح المغيث، والسيوطي في اللآلي المصنوعة والنكت البديعات وتدريب الراوي، ومحمد بن
يوسف الشامي في سبل الهدى والرشاد، ورحمة الله السندي في مختصر تنزيه الشريعة،
ومحمد طاهر الفتني في تذكرة الموضوعات، والشيخ عبد الحق في أسماء رجال المشكاة،
والجلبي في كشف الظنون، وإبراهيم الكردي في المسلك الوسط الداني، والزرقاني في شرح
المواهب، والسندي في دراسات اللبيب، ومحمد ابن إسماعيل الأمير في الروضة الندية،
والشوكاني في الفوائد المجموعة وفي نيل الأوطار، والمولوي حسن الزمان في القول
المستحسن، والمولوي القنوجي في إتحاف النبلاء المتقين. رد العلماء على طعن ابن
الجوزي في حديث مدينة العلم فهذه آراؤهم في ابن الجوزي وآرائه في الأحاديث بصورة
عامة، وقد رد عليه في خصوص طعنه في حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها جماعة من
مشاهير علماء أهل السنة النحارير، ونقدة الحديث والمطلعين على الأخبار، منهم:
الحافظ صلاح الدين العلائي في أجوبة سؤالات السراج القزويني. والمحقق بدر الدين
الزركشي في اللآلي المنثورة. والعلامة مجد الدين الفيروز آبادي في نقد الصحيح. وشيخ
الإسلام الحافظ ابن حجر في فتوى له. والعلامة شمس الدين السخاوي في المقاصد الحسنة.
والحافظ جلال الدين السيوطي في تاريخ الخلفاء، والنكت البديعات، واللآلي المصنوعة،
وقوت المغتذي، وجمع الجوامع. والعلامة نور الدين السمهودي في جواهر العقدين.
والعلامة ابن عراق في تنزيه الشريعة. وعلي بن حسان الدين المتقي في كنز العمال.
ومحمد طاهر الفتني في تذكرة الموضوعات.
ص 137
وعلي القاري الهروي في المرقاة. والعلامة الزرقاني في شرح المواهب اللدنية.
والميرزا محمد البدخشاني في نزل الأبرار، ومفتاح النجاة، وتحفة المحبين. ومحمد صدر
العلم في معارج العلى. ومحمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير في الروضة الندية. ومحمد
الصبان المصري في إسعاف الراغبين. والقاضي ثناء الله باني بتي في السيف المسلول.
وقاضي القضاة الشوكاني في الفوائد المجموعة. والميرزا حسن على المحدث في تفريح
الأحباب. وولي الله اللكهنوي في مرآة المؤمنين. والمولوي حسن الزمان في القول
المستحسن. وأما النووي فلا يجوز الاستناد إلى كلامه في المقام، لما عرفت سابقا
من أن النووي يقدح في حديث أنا دار الحكمة وقد بينا بطلان قدحه، وأوردنا كلمات
كبار الحفاظ في رد كلامه... وأما قدحه في حديث أنا مدينة العلم المستفاد من لحن
كلامه، فقد بلغ في السخافة حدا حمل جماعة من الأعلام على الرد عليه بصراحة:
كالسيوطي في تاريخ الخلفاء، والشيخ عبد الحق في أسماء رجال المشكاة، والصبان المصري
في إسعاف الراغبين، والقاضي ثناء الله في السيف المسلول، وحسن على المحدث في تفريح
الأحباب. وبما ذكرنا يظهر سقوط قول ابن حجر المكي في تعظيم الرجلين: وناهيك بهما
معرفة بالحديث وطرقه... فإن هذا المدح لهما ليس بنافع في المقام، بعد الكلمات
التي قالها الأعلام في ابن الجوزي، وفي الرد على طعن ابن الجوزي والنووي في خصوص
حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها بل إن ما ذكره ابن حجر كذب صريح، وتعصب مقيت،
إذ من المستبعد جدا أن تخفى هذه الكلمات في القدح في ابن الجوزي ونسبته إلى كثرة
الغلط والوهم وشدة الغفلة والاشتباه...
ص 138
على مثل ابن حجر المكي... وكذا الكلام في مدحه للنوي، فإن ما ذكرناه سابقا في رد
كلامه يكشف عن تعصبه، ويعلن للملأ العلمي قصر باعه وعدم معرفته بالحديث وطرقه. وأما
قول ابن حجر: وبالغ الحاكم على عادته فقال: إن الحديث صحيح ففيه: أنه قد سبقه
يحيى بن معين، ومحمد بن جرير الطبري، إلى الحكم بصحة هذا الحديث الشريف، كما سبق
بالتفصيل... إذن لم يكن الحاكم مبالغا في هذا القول، على أن الحاكم - بالإضافة إلى
تصحيح الحديث - يذكر الدلائل السديدة والبراهين العديدة على صحته كما لا يخفى على
من راجع كلماته. ومن هنا يظهر وجه آخر من وجوه تعصب ابن حجر، فهو يذكر أن بعض
المحققين صوب حسن الحديث، ولا يذكر الذين نصوا على صحته كيحيى بن معين والطبري،
وأما الحاكم فيصفه بالمبالغة.. فاعترافه بتحسين بعض المحققين - وإن كان يرد على طعن
الطاعنين كابن الجوزي - لكن في نفس الوقت محاولة لستر حقيقة راهنة لا تقبل الستر
بنحو من الانحاء، والله العاصم عن بغي كل معاند لدود. تحسين ابن حجر في المنح
المكية ويرد كلام ابن حجر ما ذكره هو في كتاب (المنح المكية - شرح القصيدة الهمزية)
من تحسين حديث أنا مدينة العلم بكل صراحة، والاستدلال به على أن الإمام عليه
السلام ورث علوم القرآن عن النبي عليه وآله الصلاة والسلام، فقد قال بشرح قول
البوصيري: كم أبانت آياته من علوم * عن حروف أبان عنها الهجاء قال ابن حجر بعد
أن ذكر أقوالا عن الشافعي: وتبعه - يعني الشافعي - العلماء على ذلك فقال واحد: ما
قال صلى الله عليه وسلم شيئا أو قضى أو حكم
ص 139
بشيء إلا وهو أو أصله في القرآن قرب أو بعد. وقال آخر: ما من شيء في العالم إلا وهو
فيه، فقيل له: أين ذكر الخانات فيه؟ فقال: في قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن
تدخلوا بيوتا غير مسكونة) فهي الخانات. وقال آخر: ما من شيء إلا ويمكن استخراجه من
القرآن لمن فهمه الله تعالى حتى أن عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة
استنبط من آخر سورة المنافقين، لأنها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها بالتغابن لظهوره
بفقده صلى الله عليه وسلم. قال آخر: لم يحط بالقرآن إلا المتكلم به، ثم نبيه صلى
الله عليه وسلم، فيما عدا ما استأثر الله تعالى بعلمه. ثم ورث عنه معظم ذلك أعلام
الصحابة مع تفاوتهم فيه بحسب تفاوت علومهم، كأبي بكر، فإنه أعلمهم بنص ابن عمر
وغيره، وكعلي كرم الله وجهه لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن خلافا لمن
زعم وضعه: أنا مدينة العلم وعلي بابها. ومن ثم قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
جميع ما أبرزته لكم من التفسير فإنما هو عن علي كرم الله وجهه. وكابن عباس حتى أنه
قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى. ثم ورث عنه التابعون معظم
ذلك، ثم تقاصرت الهمم عن حمل ما حمله أولئك من علومه وفنونه، فنوعوا علومه أنواعا
ليضبط كل طائفة علما وفنا ويتوسعوا فيه بحسب مقدرتهم، ثم أفرد غالب تلك العلوم وتلك
الفنون التي كادت أن تخرج عن الحصر وقد بين هذا القائل وجه استنباط غالبها منه
بتأليف لا تحصى . فبطل قوله: إن الحديث مطعون بكلام نفسه. وأما دعواه أن أبا
بكر أعلمهم بنص ابن عمر وغيره، فمن غرائب الكلام، إذ كيف يدعي أعلمية من جهل
الكلالة و الأب ؟ ونص ابن عمر - إن صح - لا ينفع في مثل المقام، إذ الاستشهاد
به فيه من قبيل استشهاد ابن آوى بذنبه، بل هو أوضح شناعة منه، لكثرة ما اشتهر من
الجهل عن ابن عمر. أما نص غيره على ذلك، فدعوى كاذبة، ومن ادعى فعليه البيان،
وعلينا
ص 140
رده وإبطاله بأمنع دليل وأتم برهان. وأيضا: لا نسلم كون ابن عباس قد ورث عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم على القرآن، لدلالة الأدلة الكثيرة المتقنة مثل حديث: إني
تارك فيكم الثقلين، وحديث باب حطة.. وغيرهما.. على اختصاص علم القرآن وسائر علوم
النبي صلى الله عليه وآله بالأئمة المعصومين من أهل بيته الطاهرين... نعم، لا ريب
في تحصيل ابن عباس طرفا كبيرا من علم التفسير والتأويل ببركة تتلمذه على سيدنا أمير
المؤمنين باب مدينة العلم عليه السلام، كما اعترف بذلك في كلامه الذي أورده ابن
حجر، أعني قوله: جميع ما أبرزته لكم من التفسير فإنما هو من علي ، وقد رويت عنه
كلمات أخرى في هذا المضمار ستسمع جانبا منها فيما بعد إن شاء الله تعالى. وقال ابن
حجر المكي في موضع آخر من (المنح المكية) بشرح قول البوصيري: لم يزده كشف الغطاء
يقينا * بل هو الشمس ما عليه غطاء قال ما نصه: تنبيه: مما يدل على أن الله
سبحانه وتعالى اختص عليا من العلوم بما تقصر عنه العبارات قوله صلى الله عليه وسلم:
أقضاكم علي. وهو حديث صحيح لا نزاع فيه. وقوله: أنا دار الحكمة، ورواية أنا مدينة
العلم وعلي بابها قد كثر اختلاف الحفاظ وتناقضهم فيه بما يطول بسطه وملخصه: إن لهم
فيه أربعة آراء: صحيح، وهو ما ذهب إليه حاكم ويوافقه قوله الحافظ العلائي، وقد ذكر
له طرقا وبين عدالة رجالها، ولم يأت أحد ممن تكلم في هذا الحديث بجواب عن هذه
الروايات الصحيحة عن يحيى بن معين، وبين رد ما طعن فيه في بعض رواته كشريك القاضي،
بأن مسلما احتج به وكفاه بذلك فخرا له واعتمادا عليه، وقد قال النووي في حديث رواه
في البسملة ردا على من طعن فيه: يكفينا أن نحتج
ص 141
بمن احتج به مسلم. ولقد قال فيه بعض معاصريه: ما رأيت أحدا قط أورع منه في علمه.
حسن، وهو التحقيق، ويوافقه قول شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: رجاله رجال الصحيح إلا
عبد السلام الهروي فإنه ضعيف عندهم. إنتهى. وسبقه إلى آخر كلامه الحافظ العلائي
فقال: إن الهروي هذا تكلموا فيه كثيرا. انتهى. ويعارض ذلك تصويب أبي زرعة على
حديثه، ونقل الحاكم عن يحيى بن معين أنه وثقه. فثبت أنه حسن مقارب للصحيح لما علمت
من قول ابن حجر إن رواته كلهم رواة الصحيح إلا الهروي، وإن الهروي وثقه جماعة وضعفه
آخرون. ضعيف، أي بناء على رأي من ضعف الهروي. موضوع، وعليه كثيرون أئمة حفاظ،
كالقزويني وابن الجوزي وجزم ببطلان جميع طرقه، والذهبي في ميزانه وغيره. وهؤلاء وإن
كانوا أئمة أجلاء لكنهم تساهلوا تساهلا كثيرا، كما علم مما قررته. وكيف ساغ الحكم
بالوضع مع ما تقرر أن رجاله كلهم جال الصحيح إلا واحد فمختلف فيه، ويجب تأويل كلام
القائلين بالوضع بأن ذلك لبعض طرقه لا كلها. وما أحسن قول بعض الحفاظ في أبي معاوية
أحد رواته المتكلم فيهم بما لم يسمع: هو ثقة مأمون من كبار المشائخ وحفاظهم، وقد
تفرد به عن الأعمش فكان ماذا؟ وأي استحالة في أن صلى الله عليه وسلم يقول مثل هذا
في حق علي؟ . فالعجب منه كيف يقول في (الصواعق): إن الحديث مطعون ؟ فإن هذا
الكلام - وإن كان لا يخلو بعض مواضعه من كلام - يدل على ثبوت حديث أنا مدينة
العلم وصحة الاحتجاج به، ويبطل ما ذكره في (الصواعق) من وجوه عديدة لا تخفى على
الخبير. 3 - تحسين ابن حجر في تطهير الجنان وأيضا، حكم بحسنه في كتابه الآخر (تطهير
الجنان) حيث قال في ذكر
ص 142
مطاعن معاوية والجواب عنها: السادس: خروجه على علي كرم الله وجهه ومحاربته له، مع
أنه الإمام الحق بإجماع أهل الحل والعقد، والأفضل الأعدل الأعلم بنص الحديث - الحسن
لكثرة طرقه خلافا لمن زعم وضعه، ولمن زعم صحته، ولمن أطلق حسنه -: أنا مدينة العلم
وعلي بابها. قال الأئمة الحفاظ: لم يرد لأحد من الصحابة رضي الله عنهم من الفضائل
والمناقب والمزايا ما ورد لعلي كرم الله وجهه. وسببه أنه رضي الله عنه وكرم وجهه
لما استخلف كثرت أعداؤه وساورت المتقولون عليه، فأظهروا له معائب ومثالب زورا
وبهتانا وإلحادا وعدوانا، وورث ذلك من تبعهم على ضلالتهم، فلما رأى الحفاظ ذلك
نصبوا نفوسهم لبيان الباطل من ذلك وإظهار ما يرده مما ورد عندهم في حقه، فبادر كل
أحد إلى بث جميع ما عنده من فضائله ومناقبه. والجواب: إن ذلك لا يكون قادحا في
معاوية إلا لو فعله من غير تأويل محتمل. وقد تقرر المرة بعد المرة أنه لتأويل محتمل
بنص كلام علي كرم الله وجهه، وأنه من أهل الاجتهاد، وغايته أنه مجتهد مخطئ، وهو
مأجور غير مأزور (1). ومن هذا الكلام يظهر أنه قوله في (الصواعق): هذا الحديث
مطعون ليس إلا عن عناد وعصبية، وإلا لأجاب عن الحديث بالطعن في سنده، قبل أن
يعتذر لمعاوية بالاجتهاد في محاربته لأمام وقته... إلا أن قوله: الحسن لكثرة طرقه
خلافا لمن زعم وضعه ولمن زعم صحته ولمن أطلق حسنه لا يخفى ما فيه، لما عرفت من
صحة هذا الحديث وثبوته فضلا عن إطلاق حسنه، بل إنه حديث متواتر مقطوع صدوره، كما نص
على ذلك الأئمة الكبار، فلتكن منك على ذكر. وقال ابن حجر في (تطهير الجنان) أيضا:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: وهذا - أي كون علي يخبر بالأشياء المغيبة فيقع - لما
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بالمغيبات، فيخبر بها كما أخبره صلى الله
عليه وسلم، ومن استند إخباره
(هامش)
(1) تطهير الجنان - هامش الصواعق: 74. (*)
ص 143
إلى إخبار الصادق صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا صادقا. وفي هذا منقبة علية جدا
لعلي، لما أتحفه صلى الله عليه وسلم به من العلوم المغيبة، ولذا كان باب مدينة
العلم النبوي، وأمين السر العلوي (1). ألا ترى كيف يذكر هذا الحديث جازما به
ويرسله إرسال المسلمات ويستشهد به لكلام ابن عباس في مدح الإمام عليه السلام؟...
إلا أنه حيث يستدل الإمامية بهذا الحديث على الأعلمية فالإمامة تثور عصبيته وتضيق
الدنيا في عينه، فيبادر إلى الطعن في سنده ويقول: هذا الحديث مطعون ، ولعمري إن
أمثال هذه البدائع، وأضراب تلك الشنائع، مما يحير الأفهام والأفكار، ويدهش أصحاب
الأحكام والأبصار!!. 4 - تحسين ابن حجر في بعض فتاويه وصوب ابن حجر حسن هذا الحديث،
بل صحته في بعض فتاويه، فقد جاء في (فتاويه): سئل رضي الله عنه: أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها
وعلي بابها. هل الحديث صحيح أم لا؟ فأجاب بقوله: الحديث رواه صاحب مسند الفردوس،
وتبعه ابنه بلا إسناد، عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا، وهو حديث ضعيف، كحديث:
أنا مدينة العلم وعلي بابها ومعاوية حلقتها، فهو ضعيف أيضا. وأما حديث: أنا مدينة
العلم وعلي بابها، فهو حديث حسن، بل قال الحاكم صحيح - وقول البخاري: ليس له وجه
صحيح، والترمذي: منكر، وابن معين: كذب - معترض، وإن ذكره ابن الجوزي في الموضوعات،
وتبعه الذهبي وغيره على ذلك .
(هامش)
(1) تطهير الجنان - هامش الصواعق: 112. (*)
ص 144
وهو يدل على ثبوت هذا الحديث، وبطلان طعن الطاعنين، وكذا قوله نفسه في (الصواعق):
مطعون من وجوه عديدة لا تخفى. ثم إن ما نسبه إلى البخاري والترمذي وابن معين -
وإن اعترضه - غير ثابت بالنسبة إلى حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها ، لا سيما
على النهج الذي ذكره، وقد فصلنا ذلك في الرد على كلمات (الدهلوي) فراجعه حتى تتضح
لك حقيقة الأمر، والله ولي التوفيق. 5 -... وأبو بكر محرابها؟! ثم قال ابن حجر:
وعلى تسليم صحته أو حسنه فأبو بكر محرابها . أقول: أما حسن الحديث بل صحته فلا
كلام، بل الحق المحقق تواتر هذا الحديث وقطعية صدوره، وقد عرفت ذلك كله والحمد لله،
فلا مجال لقوله: وعلى تسليم . وأما أبو بكر محرابها فالجواب من وجوه. أحدها:
إنه على تسليم صحة هذه الزيادة أو حسنها فالاحتجاج بها في مقابلة الإمامية لا وجه
له، لأن أصل حديث: أنا مدينة العلم متفق عليه بين الفريقين، وهذه الزيادة مما
تفرد به أهل السنة، فكيف وثبوت صحتها أو حسنها غير ممكن على أصول أهل السنة؟! ومن
ادعى فعليه البيان، وليس له إلى ذلك من سبيل إلى آخر الدهر والزمان. الحديث ضعفه
ابن حجر نفسه والثاني: إن هذه الزيادة نص ابن حجر المكي نفسه على ضعفها، حيث قال في
(المنح المكية) بشرح البوصيري: لم يزده كشف الغطاء... ما نصه: وفي حديث عند
الواحدي لكنه ضعيف: وعلي بابها وأبو بكر محرابها !. الثالث: إن هذه الزيادة نص
المولوي ولي الله اللكهنوي على كونها فرية
ص 145
موضوعة، كما لا يخفى على من راجع عبارته التي نقلناها عن كتابه (مرآة المؤمنين) في
رد كلام (الدهلوي). الرابع: إن هذه الزيادة واضحة البطلان من حيث المفاد والمعنى
أيضا، فإن المحراب بمعناه المعروف ليس مما يصح إضافته إلى المدينة ، بل لا
يضاف إلا إلى المسجد ، نعم في (القاموس): والمحراب: الغرفة، وصدر البيت، وأكرم
مواضعه، ومقام الإمام من المسجد، والموضع يتفرد به الملك فيتباعد عن الناس،
والأجمة، وعنق الدابة ومحاريب بني إسرائيل مساجدهم التي كانوا يجلسون فيها (1)،
فمن معانيه: صدر البيت وأكرم مواضعه فهو مخصوص بالبيت ، وكذا المعنى الآخر
من معانيه وهو الموضع يتفرد به الملك فيتباعد عن الناس ، ونسبته إلى المدينة
غلط. إحداث المحاريب بدعة عند أهل السنة ثم لو التجأ بعض أهل العناد إلى القول بأن
المراد من محراب المدينة هو محراب مسجد المدينة فالجواب - مضافا إلى أنه
تعسف وتكلف واضح - هو: إن إحداث المحاريب في المساجد - في رأي أهل السنة - من جملة
البدع المخترعة، فإن مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له محراب في زمان
الخلفاء الأربعة، بل لم يحدث إلا في أوائل القرن الثاني... هذا مع نهي النبي صلى
الله عليه وآله وسلم في أخبار أهل السنة وأحاديثهم، وأنه من أشراط الساعة... فكيف
ينسب وأبو بكر محرابها إلى النبي؟ وكيف يوافق أهل السنة على تشبيه أبي بكر بشيء
ينهى النبي عن إحداثه ويذمه؟ ونحن في هذا المقام نكتفي بإيراد نص الرسالة التي
صنفها الحافظ السيوطي في هذه المسألة، وإليك نسختها:
(هامش)
(1) القاموس المحيط 1 / 53 حرب . (*)
ص 146
بسم الله الرحمن الرحيم قال شيخنا الإمام العالم العلامة حافظ العصر ومجتهد الوقت
وفريد الدهر، إنسان عين الزمان حافظ العصر والأوان، الجلال السيوطي، أعاد الله
تعالى علينا وعلى سائر المسلمين من بركاته وتوجهاته وتهجداته وأوراده في الدنيا
والآخرة. الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى: هذا جزء سميته إعلام الأريب بحدوث
بدعة المحاريب، لأن قوما خفي عليهم كون المحراب في المسجد بدعة، وظنوا أنه كان في
مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في زمنه، ولم يكن في زمانه قط محراب ولا في زمان
الخلفاء الأربعة فمن بعدهم إلى آخر المائة الأولى، وإنما حدث في أول المائة
الثانية، مع ورود الحديث بالنهي عن اتخاذه، وأنه من شأن الكنائس، وأن اتخاذه في
المسجد من أشراط الساعة: قال البيهقي في السنن الكبرى باب في كيفية بناء المساجد:
أخبرنا أبو نصر ابن قتادة، أنا أبو الحسن محمد بن الحسن البراج، نبأ مطين نبأ سهل
بن زنجلة الرازي نبأ أبو زهير عبد الرحمن بن مغرا، عن ابن أبجر عن نعيم بن أبي هند
عن سالم بن أبي الجعد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: إتقوا هذه المذابح يعني المحاريب. هذا حديث ثابت. فإن سالم بن أبي
الجعد من رجال الصحيحين بل الأئمة الستة، ونعيم بن أبي هند من رجال مسلم، وابن أبجر
اسمه عبد الملك بن سعيد من رجال مسلم أيضا، وأبو زهير عبد الرحمن بن مغرا من رجال
الأربعة قال الذهبي في الكاشف: وثقه أبو زرعة الرازي وغيره ولينه ابن عدي. وقال في
الميزان: ما به بأس. وقال في المغني: صدوق. فالحديث على رأي أبي زرعة ومتابعيه
صحيح، وعلى رأي ابن عدي حسن. والحسن إذا ورد من طريق ثان ارتقى إلى درجة الصحيح،
وهذا له طرق أخرى تأتي، فيصير المتن صحيحا من قسم الصحيح لغيره، وهو أحد قسمي
الصحيح. ولهذا احتج به البيهقي في الباب مشيرا إلى كراهة اتخاذ المحاريب. والبيهقي
مع كونه من كبار الحفاظ فهو
ص 147
أيضا من كبار أئمة الشافعية الجامعين للفقه والأصول والحديث، كما ذكره النووي في
شرح المهذب، فهو أهل أن يستنبط ويخرج ويحتج. وأما سهل بن زنجلة ومطين فإمامان
حافظان ثقتان وفوق الثقة. وقال البزار في مسنده نبأ محمد بن مرداس نبأ محبوب بن
الحسن نبأ أبو حمزة عن إبراهيم بن علقمة عن عبد الله بن مسعود: إنه كره الصلاة في
المحراب وقال: إنما الكنائس فلا تشبهوا بأهل الكتاب يعني: إنه كره الصلاة في الطاق.
قال شيخ شيوخنا الحافظ أبو الحسن الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال موثوقون. وقال ابن
أبي شيبة في المصنف: وكيع نبأ إسرائيل عن موسى الجهني قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: لا تزال هذه الأمة أو قال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح
كمذابح النصارى. هذا مرسل صحيح الإسناد، فإن وكيعا أحد الأئمة الأعلام من رجال
الأئمة الستة، وكذا شيخه، وموسى من رجال مسلم، قال في الكاشف: حجة. والموصل عند
الأئمة الثلاثة صحيح مطلقا، وعند الإمام الشافعي رضي الله عنه صحيح إذا اعتضد بواحد
من عدة أمور منها مرسل آخر أو مسند ضعيف أو قول صحابي أو فتوى أكثر أهل العلم
بمقتضاه أو مسند صحيح. وأوردوا على هذا الأخير أنه إذا وجد المسند الصحيح استغنى عن
المرسل، فإن الحجة تقوم به وحده. وأجيب: بأن وجود المسند الصحيح يصير المرسل حديثا
صحيحا ويصير في المسألة حديثان صحيحان. قال العراقي في ألفيته مشيرا إلى ذلك: فإن
يقل فالمسند المعتمد * فقل دليلان به يعتضد وهذا المرسل قد عضده المسند المبتدء
بذكره، وقد تقدم أنه صحيح على رأي من وثق راويه، وحسن على رأي من لينه. ولهذا اقتصر
البيهقي على الاحتجاج به، وعضده قول ابن مسعود السابق، وعضده أحاديث أخر مرفوعة
وموقوفة وفتوى جماعة من الصحابة والتابعين بمقتضاه. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي ذر
قال: إن من أشراط الساعة أن تتخذ
ص 148
المذابح في المسجد. هذا له حكم الرفع، فإن الإخبار عن أشراط الساعة والأمور الآتية
لا مجال للرأي فيه، وإنما يدرك بالتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن
أبي شيبة عن عبيد بن أبي الجعد قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: إن
من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد. يعني الطاقات. هذه بمنزلة عدة أحاديث
مرفوعة، فإن كل واحد من الصحابة المذكورين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم
وأخبر به. وأخرج ابن أبي شيبة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنه كره الصلاة في
الطاق. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إتقوا هذه المحاريب.
وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي: إنه كان يكره الصلاة في الطاق. وأخرج ابن
أبي شيبة عن سالم بن أبي الجعد قال: لا تتخذوا المذابح في المساجد. وأخرج ابن أبي
شيبة عن كعب: إنه كره المذابح في المسجد. وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن كعب قال:
يكون في آخر الزمان قوم يزينون مساجدهم ويتخذون بها مذابح كمذابح النصارى، فإذا
فعلوا ذلك صب عليهم البلاء. وأخرج عبد الرزاق عن الضحاك بن مزاحم قال: أول شرك كان
في هذه الصلاة هذه المحاريب. وقال عبد الرزاق عن الثوري عن منصور والأعمش عن
إبراهيم: إنه كان يكره أن يصلى في طاق الإمام. وقال الثوري: ونحن نكره. وأخرج عبد
الرزاق عن الحسن: إنه صلى واعتزل الطاق أن يصلي فيه.
ص 149
فائدة:
روى الطبراني في الأوسط عن جابر بن أسامة قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم في أصحابه بالسوق فقلت: أين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: يريد أن
يخط لقومك مسجدا فأتيت وقد خط لهم مسجدا وعن غربي قبلته خشبة فأقامها قبلة. تم ذلك.
والحمد لله وله الفضل والمنة على ذلك. من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي
له، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. علق بيده الفانية لنفسه زكريا بن محمد
المحلي الشافعي، لطف الله تعالى به ورحم أبويه. وكان الفراغ من تعليق ذلك في سادس
عشر رمضان سنة إحدى عشرة وتسعمائة . أول من أحدث المحراب عمر بن عبد العزيز هذا،
وقد ذكروا أن أول من أحدث المحراب هو عمر بن عبد العزيز، فقد قال السمهودي:
وليحيى عن عبد المهيمن بن عباس عن أبيه: مات عثمان وليس في المسجد شرفات ولا محراب.
فأول من أحدث المحراب والشرفات عمر بن عبد العزيز (2). وقال القاري: وعن أنس
قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم نخامة بالضم في القبلة. أي جدار المسجد الذي يلي
القبلة، وليس المراد بها المحراب الذي يسميه الناس قبلة، لأن المحاريب من المحدثات
بعده صلى الله عليه وسلم، ومن ثم كره جمع من السلف اتخاذها والصلاة فيها، قال
القضاعي: وأول من أحدث ذلك عمر بن عبد العزيز، وهو يومئذ عامل للوليد بن عبد الملك
على المدينة، لما أسس مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهدمه وزاد فيه (1).
(هامش)
(1) خلاصة الوفا: 129. (2) المرقاة في شرح المشكاة 1 / 473. (*)
ص 150
واقع حال أبي بكر لا يناسب تلك النسبة
الخامس: وعلى فرض تسليم نسبة المحراب إلى
المدينة بأحد معانيه فلا يتم جملة وأبو بكر محرابها في حديث مدينة العلم،
إذ يلزم على تقدير الانتساب أن يكون للمحراب حظ وافر من علوم المدينة، بل يزعم ابن
حجر كون المحراب أعلم من الباب ، ولكن النظر في حال أبي بكر ومراجعة أخباره
وسيرته تكذب هذه النسبة، فقد كان أبو بكر جاهلا حتى بالنسبة إلى أبسط الأمور وأوضح
المفاهيم، وما أكثر ما أعلن بنفسه عن جهله بالأحكام الشرعية وعلم القرآن، وما أكثر
موارد عجزه عن حل المشكلات والمعضلات الواردة عليه... كما ستقف على تفاصيل ذلك فيما
بعد إن شاء الله تعالى... فلا أظن أن يصر أحد من المسلمين - مع هذه الحال - على صحة
هذه الزيادة الموضوعة، بل إن ذلك يمس بكرامة النبي صلى الله عليه وآله ويشين
بمقامه... كما لا يخفى على ذوي الأفهام. الفروق بين الباب و المحراب السادس:
- سلمنا... لكن هذه الزيادة لا تفيد أعلمية أبي بكر من أمير المؤمنين بوجه من
الوجوه... فأي دليل وبرهان على رجحان المحراب على الباب ؟ ومن ادعى فعليه
البيان. بل الأمر على العكس من ذلك، فإن للباب مزايا خاصة هي غير حاصلة للمحراب،
وذلك: أولا: إنه لا بد للمدينة من باب، بخلاف المحراب فلا يلزم وجوده فيها، من هنا
قال المناوي بشرح حديث أنا مدينة العلم : فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم
المدينة الجامعة لمعاني الديانات كلها، ولا بد للمدينة من باب، فأخبر أن بابها هو
علي كرم الله وجهه .