نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الثاني عشر

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الثاني عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 151

وثانيا: إنه لا بد لمن يطلب الوصول إلى المدينة من إتيان الباب على كل حال، ولا يتيسر لأحد الوصول إليها إلا من قبل بابها، بخلاف المحراب فإنه ليس كذلك، إذ من الممكن أن يصل إلى المدينة ولا يمر على محرابها أصلا. وثالثا: إن من عدل عن باب المدينة لا يصل إليها ويبقى في خارجها، بخلاف المحراب إذ من الممكن أن يدخل إلى المدينة ويعدل عن محرابها... ومن هنا ترى المناوي يقول: فمن أخذ طريقه دخل المدينة، ومن أخطأ أخطأ طريق الهدى . ورابعا: إن الباب هو الواسطة لخروج ما في المدينة من العلوم إلى خارجها، وليس للمحراب هذه الصفة... ومن هنا قال صاحب (المعارف في شرح الصحائف): قوله عليه السلام: أنا مدينة العلم وعلي بابها. معناه: إنه يصل علومي إليه ومنه إلى الخلق، كما أن الباب يصل إليه من يخرج من البلد . وقال محمد بن إسماعيل الأمر اليماني في (الروضة الندية): فلما كان الباب للمدينة من شأنه أن تجلب منه إليها منافعها، وتستخرج منه إلى غيرها مصالحها، كان فيه إيهام أنه صلى الله عليه وسلم يستمد من غيره بواسطة الباب الذي هو عليه السلام، دفع صلى الله عليه وسلم هذا الايهام بقوله: فمن أراد العلم فليأت الباب، إخبارا بأن هذا باب يستخرج منه العلوم ويستمد بواسطته، ليس له من شأن الباب إلا هذا، لا كسائر الأبواب في المدن فإنها للجلب إليها والاخراج عنها. فلله قدر شأن الكلام النبوي ما أرفع شأنه وأشرفه وأعظم بنيانه، ويحتمل وجوها من التخريج أخر، إلا أن هذا أنفسها . ثم قال: وإذا عرفت هذا عرفت أنه قد خص الله الوصي عليه السلام بهذه الفضيلة العجيبة، ونوه شأنه، إذ جعله باب أشرف ما في الكون وهو العلم، وأن منه يستمد ذلك من أراده، ثم إنه باب لأشرف العلوم وهي العلوم النبوية، ثم لأجمع خلق الله علما وهو سيد رسله صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الشرف يتضاءل عنه كل شرف، ويطأطئ رأسه تعظيما له كل من سلف وخلف .

ص 152

وخامسا: إن الباب يحفظ جميع ما في المدينة، بخلاف المحراب فلا علاقة له بهذه الجهة أصلا... وبهذا المعنى صرح بعض أعلام السنة، قال ابن طلحة في (مطالب السئول): وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إشارة إلى كون علي عليه السلام نازلا من العلم والحكمة منزلة الباب من المدينة، والباب من الدار، لكون الباب حافظا لما هو داخل المدينة وداخل الدار من تطرق الضياع، واعتداء يد الذهاب عليه، وكان معنى الحديث: إن عليا عليه السلام حافظ العلم والحكمة، فلا يتطرق إليهما ضياع، ولا يخشى عليها ذهاب، فوصف عليا بأنه حافظ العلم والحكمة، ويكفي عليا عليه السلام علوا في مقام العلم والفضيلة أن جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حافظا للعلم والحكمة . وسادسا: إنه لا بد للباب من الاطلاع على جميع ما يدخل في المدينة، بخلاف المحراب إذ لا يلزم أن يكون كذلك، كما لا يخفى على من له حظ من البصر والبصيرة... وبهذا المعنى صرح النبي صلى الله عليه وآله بنفسه في حديث الدرنوك، الذي رواه الفقيه ابن المغازلي بقوله: قوله صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل بدرنوك من درانيك الجنة. أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد ابن موسى الكندر جاني، نا أبو الفتح هلال بن محمد الحفار، نا إسماعيل بن علي ابن رزين، نا أخي دعبل بن علي، نا شعبة بن الحجاج عن أبي التياح عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني جبرئيل عليه السلام بدرنوك من الجنة، فجلست عليه، فلما صرت بين يدي ربي كلمني وناجاني، فما علمني شيئا إلا علمه علي، فهو باب مدينة علمي. ثم دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إليه فقال له: يا علي سلمك سلمي وحربك حربي وأنت العلم بيني وبين أمتي من بعدي (1). وسابعا: إن الباب محيط ومطلع بالضرورة على جميع ما يخرج من المدينة،

(هامش)

(1) المناقب لابن المغازلي: 55. (*)

ص 153

وليس المحراب كذلك... وثامنا: إن الباب هو الواسطة للوصول إلى المدينة لمن هو في خارجها، بخلاف المحراب حيث لا وساطة له من هذه الناحية بنحو من الانحاء... فتحصل: أنا لو سلمنا أن يكون للمدينة محراب، وأن أبا بكر محراب مدينة العلم، فإن كل واحد من هذه الفروق التي ذكرناها بين الباب و المحراب يكفي في الرد على الاستدلال بهذه الزيادة المزعومة على أعلمية أبي بكر. بل الأمر بالعكس، فإن كل واحد منها دليل مستقل على أعلمية أمير المؤمنين عليه السلام من جميع الصحابة، بل من جميع الأنبياء والمرسلين، ما عدا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. والسابع: من الوجوه المبطلة لهذه الزيادة ودلالتها على زعم ابن حجر هو: أنه لو كان لأبي بكر حظ من العلم لما رجع إلى أمير المؤمنين عليه السلام في شيء من الحوادث الواقعة، بداهة أن الأعلم لا يرجع إلى غيره، لكن القضايا التي رجع فيها إلى أمير المؤمنين عليه السلام كثيرة جدا، وقد حوى كتاب (تشييد المطاعن) طرفا منها، كما سيأتي في كتابنا نبذة من تلك القضايا، فانتظر. 6 - قوله: فمن أراد العلم... لا يقتضي الأعلمية وأما قول ابن حجر: ورواية: فمن أراد العلم فليأت الباب، لا تقتضي الأعلمية، فقد يكون غير الأعلم يقصد لما عنده من زيادة الايضاح والبيان والتفرغ للناس، بخلاف الأعلم فمن غرائب المكابرات، ونحن نوضح ذلك في وجوه: قوله: أنا مدينة العلم وعلي بابها بوحده يقتضي الأعلمية أحدها: إن مجرد قوله صلى الله عليه وآله: أنا مدينة العلم وعلي بابها يقتضي الأعلمية ويدل عليها بوجوه عديدة سديدة كما تقدم سابقا، وقد

ص 154

اعترف بذلك كثيرون من كبار علماء أهل السنة كما دريت هناك، بل قد عرفت أن ابن حجر نفسه من المعترفين بذلك في (المنح المكية) وفي (تطهير الجنان). فالمناقشة بعد هذا في دلالة جملة: فمن أراد العلم... على الأعلمية لا مورد لها. هل يجوز الارجاع إلى غير الأعلم؟ الثاني: إن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: فمن أراد العلم فليأت الباب يقتضي أعلمية الإمام عليه السلام، وإلا لزم إرجاعه الناس إلى غير الأعلم مع وجود الأعلم، وهذا غير صحيح شرعا وعقلا... ويخالف سيرة العقلاء والعلماء... وأيضا: هو ينافي مقتضى نصح النبي صلى الله عليه وآله لأمته، مع أنه أنصح الخلائق لها... وأيضا: هو ظلم بالنسبة إلى الأعلم... وأيضا: هو ترجيح للمرجوع، وذلك لا يكون من أدنى المتشرعين فضلا عن شارع دين الإسلام عليه وآله الصلاة والسلام. وأيضا: في قوله: فمن أراد العلم فليأت الباب دلالة ظاهرة على حصر المرجعية بالباب، وذلك يقتضي الأعلمية، وإلا فإن الارجاع إلى غير الأعلم مع وجود الأعلم قبيح كما تقدم، فكيف بحصر المرجعية فيه؟. إبطال توجيه ابن حجر الثالث: قول ابن حجر في توجيه الارجاع إلى غير الأعلم: فقد يكون غير الأعلم يقصد لما عنده من زيادة الايضاح والبيان والتفرغ للناس فيه: أن باب مدينة العلم، والحائز لجميع علوم النبي صلى الله عليه وآله كما هو حق الباب، والمقدم على غيره من حيث الايضاح والبيان هو الأعلم من غيره بالضرورة لا غيره، ودعوى انفكاك الأعلمية عن هكذا شخص مكابرة واضحة...

ص 155

فظهر أن ما ذكره ابن حجر في توجيه دعواه هو في الحقيقة دليل على بطلان مدعاه، وهذا من جلائل آثار علو الحق والصواب. على أنه لا يخفى ما في كلامه من دعوى وجود الايضاح والبيان عند أبي بكر، لكن للأمام عليه السلام زيادة عليه!! وأما التفرغ للناس فما الدليل على أن تفرغ الإمام عليه السلام للناس على عهد النبي صلى الله عليه وآله كان أكثر من تفرغ أبي بكر؟ ومن ادعى فعليه البيان... بل إذا نظرت في تاريخ الرجلين وسيرتهما رأيت الإمام عليه السلام خائضا في الحروب والمغازي والبعوث والسرايا... بخلاف أبي بكر... فقد كان في معزل عن تحمل هذه المكاره لخوره وجبنه، فأيهما كان المتفرغ؟! إذن، ليس الارجاع في العلوم بسبب التفرغ للناس، بل الملاك هو الأعلمية كما هو مقتضى السيرة العقلائية... هذا بالنسبة إلى زمن الحياة النبي صلى الله عليه وآله. وأما بعده صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان أبو بكر خليفة والإمام عليه السلام جليس بيته، أليس من أهم وأجل وظائف الخليفة وأعماله تعليم الأمة ونشر العلوم الدينية بين الناس؟ فهل يعقل أن يسند النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الخلافة عنه إلى شخص ثم يرجع الناس في أهم واجباته ووظائفه - مع كونه أعلم الناس - إلى غيره؟! بل الحق أن إرجاع النبي صلى الله عليه وآله الأمة إلى الإمام عليه السلام في أخذ العلم منه دليل واضح على إمامته، وبرهان لائح على خلافته، وإن ما كان منه عليه السلام من نشر علم الدين على عهد النبي وبعده على عهد حكومة الخلفاء من أقوى الأدلة على ذلك، وإن تغلب القوم على الخلافة... فالخليفة الحقيقي عن النبي صلى الله عليه وآله من حفظ دينه ونشر علومه، وحل المشكلات والمعضلات...

ص 156

7 - حديث: أبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها... ثم إن ابن حجر عارض حديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها بحديث مختلق موضوع فقال: على أن تلك الرواية معارضة بخبر الفردوس: أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها. فهذه صريحة في أن أبا بكر أعلمهم لكنها معارضة باطلة سندا ودلالة، أما سندا فمن وجوه: هو من وضع إسماعيل الاسترآبادي أحدها: إن هذا الحديث من وضع إسماعيل الاسترآبادي كما سبق بيانه في رد كلام الأعور بالتفصيل، وقد كان الاحرى بابن حجر أن لا يفضح نفسه بالتفوه بهذا الإفك المبين. السخاوي وهذا الحديث والثاني: لقد ضعف الحافظ السخاوي هذا الحديث وأمثاله من الموضوعات المختلقة المختلفة في مدح الثلاثة أو الأربعة، فقد قال: وأورده صاحب الفردوس، وتبعه ابنه المذكور بلا إسناد، عن ابن مسعود رفعه: أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها. وعن أنس مرفوعا: أنا مدينة العلم ومعاوية حلقتها. وبالجملة فكلها ضعيفة، وألفاظ أكثرها ركيكة (1). ولا يخفى أن ذكر ابنه هذا الحديث بلا إسناد - مع أن موضوع كتابه (مسند الفردوس) ذكر أسانيد كتاب والده الفردوس - من أقوى الشواهد على كون الحديث موضوعا، فلو وجد الابن سندا لهذا الحديث ولو ضعيفا لأورده مثل كثير من الأسانيد الضعيفة الواردة في مسند الفردوس... وأنى للديلمي ذلك وأين!!

(هامش)

(1) المقاصد الحسنة: 47. (*)

ص 157

وقد عرفت سابقا عن ابن عساكر في تاريخه أن هذا الحديث وضعه إسماعيل الاسترآبادي، ولما سئل عن سنده عجز حتى عن اختلاق سند له... وكيف كان، فما ذكرناه عن السخاوي في شأن هذا الحديث كاف لإبطال احتجاج ابن حجر به في هذا المقام... ومن الغريب أن الشيخ عبد الحق الدهلوي نقل في (اللمعات في شرح المشكاة) عبارة السخاوي هذه مبتورة منقوصة... فلا حظ. ابن حجر نفسه وهذا الحديث والثالث: إن ابن حجر نفسه يضعف هذا الحديث، فقد جاء في كتاب (الفتاوي الحديثية): وسئل رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها. هل الحديث صحيح أم لا؟ فأجاب: الحديث رواه صاحب مسند الفردوس، وتبعه ابنه بلا إسناد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا، وهو حديث ضعيف كحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها ومعاوية حلقتها، فهو ضعيف أيضا . ألا يظن ابن حجر أنه مؤاخذ بهذا التناقض والتهافت؟ البدخشاني وهذا الحديث والرابع: إنه قد أنصف العلامة البدخشاني، حيث صرح بكونه موضوعا، ونص على الغرض الواقعي من وضعه، فقال: أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها لا تقولوا في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلا خيرا. فر بلا إسناد عن ابن مسعود. وهو منكر جدا وأظنه موضوعا، وإنما وضعه من وضعه ليقابل به حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها. وسيأتي (1).

(هامش)

(1) تحفة المحبين بمناقب الخلفاء الراشدين - مخطوط. (*)

ص 158

اللكهنوي وهذا الحديث والخامس: إن ولي الله اللكهنوي نص في (مرآة المؤمنين) بعد ذكر حديث مدينة العلم على: إن ما ألحق بهذا الحديث في بعض ألفاظه في حق الأصحاب موضوع ومفترى على ما في الصواعق . فالحمد الله المتفضل بإفاضة الحقائق، حيث ظهر بنص هذا الفاضل أن ما أتى به ابن حجر المائق في (الصواعق) هو من الموضوعات والمفتريات التي ألحقها الوضاعون في هذا الحديث الرائق... هذا كله بالنسبة إلى سند هذا الحديث.... أبو بكر أساسها...!! وأما بالنظر إلى متن هذا الحديث ومعناه نقول: بأنه باطل من وجوه كذلك: أحدها: جعل من وضع هذا الحديث أبا بكر أساس المدينة ، وجعله واضع الحديث السابق محرابها ، وهذا التناكر الشنيع بين الحديثين دليل قطعي على أن كليهما موضوع، ولا غرابة في وقوع هذا التنافر بين الموضوعات، فأحد الوضاعين يضع لفظا من غير اطلاع منه على ما وضعه الآخر، لكن الغرابة في مناقضة ابن حجر لنفسه في كلام واحد، لأن أبا بكر إذا كان محراب المدينة فليس هو أساسها ، وإذا كان أساسها فليس محرابها ... لكن هذا من آثار خذلان ابن حجر... فالله حسيبه وحسيب أمثاله، وهو المؤاخذ إياه على سوء فعاله. والثاني: إن الواقع والحقيقة يكذب وينفي أن يكون أبو بكر أساس مدينة العلم، وذلك لجهل أبي بكر بالأحكام الشرعية والمعارف الدينية، والأمثلة والشواهد على جهله كثيرة جدا، ومشهورة بين الفريقين، وسيأتي ذكر طرف منها. وأيضا: رجوعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام في المعضلات والمشكلات

ص 159

مشهور كذلك، بل لقد أدى جهله وضلاله إلى أن يقول على رؤوس الأشهاد: إن لي شيطانا يعتريني فإذا استقمت فأعينوني وإذا زغت فقوموني . والثالث: إن كون أبي بكر أساسها يستلزم معنى باطلا لا يلتزم به مسلم، وذلك لأن أساس المدينة مقدم على نفس المدينة، فيكون أبو بكر مقدما على النبي صلى الله عليه وآله، وهذا كفر صريح، لا يطيق أهل السنة إظهاره وأن اعتقدوا به في قلوبهم... هذا بالنسبة إلى فقرة وأبو بكر أساسها .... وعمر حيطانها...!! وأما بالنسبة إلى فقرة وعمر حيطانها فنقول: هو باطل من وجوه: أحدها: إن جعل الحيطان للمدينة غلط... ومن هنا كان اللفظ في الحديث الموضوع الآخر: سورها ، لكن واضعها جعل ثلاثتهم سورها فلفظه: أنا مدينة العلم وأبو بكر وعمر وعثمان سورها وعلي بابها !!... وأمثال هذه الاختلافات في أشباه تلك الاختلاقات مما يهتك أستارها، ويكشف أسرارها، ويبدي عوارها، ويعلن عارها. والثاني: كيف يكون عمر حيطانها وقد كان كل الناس أعلم منه حتى ربات حجالها؟! أليس قال عمر نفسه: كل أحد أفقه من عمر ؟ وقال: كل الناس أفقه من عمر ؟ وقال: كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في الحجال ؟ وقال: كل الناس أفقه من عمر حتى النساء ؟ وقال: كل الناس أعلم من عمر حتى العجائز ؟ بل إن جعل هكذا شخص من مدينة العلم حيطانها يوجب انخرام المدينة، وذلك مما يهدم أساس الدين، ولا يلتزم به أحد من المميزين فضلا عن الراشدين.

ص 160

والثالث: إنه ما أكثر القضايا التي رجع فيها عمر إلى أمير المؤمنين عليه السلام، بل إلى جماعة من تلامذته، مثل ابن عباس، وابن مسعود. بل لقد اتفق رجوعه إلى بعض الأصحاب القاصرين مثل: معاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عوف؟ فكيف يجوز جعل هكذا شخص سورا لمدينة العلم؟ إن هذا إلا جرأة عظيمة من الوضاعين الكذابين، الذين لا يتورعون عن الخدشة في مقام النبي صلى الله عليه وآله في سبيل مدح أئمتهم... هذا بالنسبة إلى: وعمر حيطانها . ... وعثمان سقفها...!! وأما بالنسبة إلى فقرة: وعثمان سقفها فنقول هو باطل من وجوه أيضا: أحدها: إن المدينة لا يكون لها سقف... كما هو واضح، فهل يعقل صدور هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟، فذكر الديلمي الحديث في (الفردوس) واحتجاج ابن حجر به في (الصواعق) في غاية الغرابة. والثاني: إنه مع الغض عن ذلك، فليس عثمان قابلا لأن يكون جزء من أجزاء مدينة العلم، لفرط جهله بالمعارف الدينية والأحكام الشرعية، وستطلع على جانب من ذلك فيما بعد إن شاء الله بالتفصيل... فلا مناسبة بين عثمان وبين مدينة العلم علي أي نهج كان، فضلا عن التعبير عنه بكونه سقفا لها، فإنه من التعبيرات الباطلة السخيفة. والثالث: ما اشتهر عن عثمان من الاعتراف بالجهل. وأيضا: رجوعه إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام في القضايا والحوادث الواقعة... كما ستقف على ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى، مبطل لهذا الحديث. ولنا على بطلان هذا الحديث الموضوع وجوه أخرى كثيرة ذكرناها في جواب كلمات (الدهلوي) والعاصمي والطيبي وابن تيمية والأعور... وكل ذلك يكون

ص 161

جوابنا عن ذكر محمد بن محمد الحافظي المعروف بخواجة بارسا في (فصل الخطاب) وحسين بن محمد الديار بكري في (الخميس في أحوال أنفس نفيس) هذا الحديث الموضوع المصنوع عن كتاب (الفردوس) من غير رد ونكير... وبعد كل هذا الذي ذكرناه يسقط قول ابن حجر بعد ذلك: فهذه صريحة في أن أبا بكر أعلمهم، وحينئذ فالأمر بقصد الباب إنما هو لنحو ما قلناه لا لزيادة شرفه على ما قبله... لما عرفت من سقوط هذا الحديث سندا ودلالة، فكيف بمعارضته مع حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فكيف بالاستدلال به على أعلمية أبي بكر من أمير المؤمنين عليه السلام، فكيف بدعوى صرف دلالة الجملة: فمن أراد العلم فليأت الباب عن مدلولها الصريح في أعلمية الإمام عليه السلام بسبب هذا الحديث الموضوع؟!!... وكذا ما ذكره في نهاية كلامه تعليلا لدعواه السابقة قائلا: لما هو معلوم بالضرورة أن كلا من الأساس والحيطان والسقف أعلى من الباب . لأنه يبتني على الحديث المذكور، وقد عرفت كونه موضوعا وباطلا سندا ودلالة. ثم ما أراد من العلو في هذا الكلام؟ فإن أراد من العلو: العلو الظاهري الحسي فهو باطل لوجهين: أحدهما: أن ذلك يصادم العيان ويخالف الحس والوجدان، فإن كل ذي عينين يرى أن الباب أعلى من الأساس، وإذا كان الأعلى أزيد شرفا - كما زعم - فأمير المؤمنين عليه السلام الأشرف والأعلم. والثاني: إنه إذا كان المدار على العلو الظاهري، فلا ريب في أن الحيطان أعلى من الأساس، والسقف أعلى من الحيطان، فيلزم أن يكون عمر أعلم من أبي بكر، وأن يكون عثمان أعلم من كليهما. وهذا مع كونه خلاف الواقع لا يرضى به أحد منهم. وإن أراد من العلو: العلو المعنوي الحقيقي، فإن الباب أعلى وأشرف من الأساس والحيطان والسقف بلا شبهة وارتياب، وإن هذه الأجزاء من المدينة أو الدار - مجموعة أوكلا على انفراد - ليس لها أدنى مراتب العلو المعنوي، بل الباب

ص 162

أعلى وأرفع منها بمراتب لا تعد ولا تحصى، علوا معنويا حقيقيا، وبالنظر إلى المعاني المقصودة من الباب والآثار المترتبة على وجوده، اعترف أكابر علماء أهل السنة بالأعلمية المطلقة لأمير المؤمنين عليه السلام، بسبب كونه باب مدينة العلم وأثبتوا له فضائل عظيمة وخصائص جليلة كلها مستنبطة من حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها . فظهر أن العلو الحقيقي المعنوي ثابت للباب، لا للأساس المرفوض الموهوم والحيطان والسقف المهدوم المعدوم، فالأعلمية المطلقة ثابتة له عليه السلام على كلا التقديرين المذكورين في العلو ، وإنكار ابن حجر المكي هذا المعنى لا أساس له، وذلك منه عجيب جدا، وقد اعترف هو في (المنح المكية) وفي (تطهير الجنان) بما ذكرناه... وقد تقدمت عبارته في الكتابين. رأي ابن حجر في تأويل علي ثم إن ابن حجر تعرض في (الصواعق) إلى تأويل علي في الحديث الشريف قائلا: وشذ بعضهم فأجاب بأن معنى: وعلي بابها. أي من العلو، على حد قراءة: هذا صراط علي مستقيم، برفع علي وتنوينه كما قرأ به يعقوب، فعبر عن هذا التأويل ب‍ الشذوذ ولم يصرح ببطلانه وسخافته، وقد تقدم منا الجواب على هذا التأويل في جواب كلام الأعور، فراجع. أما في (المنح المكية) فقد رد على هذا التأويل وأجاد بقوله: واحتج بعض من لا تحقيق عنده علي الشيعة، بأن علي اسم فاعل من العلو، أي عال بابها فلا ينال لكل أحد، وهو بالسفساف أشبه، لا سيما في رواية رواها ابن عبد البر في استيعابه: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأته من بابه، إذ مع تحديق النظر في هذه الرواية لا يبقى تردد في بطلان ذلك الرأي، فاستفده بهذا .

ص 163

قوله تعالى: (هذا صراط علي مستقيم) في قراءة أهل البيت وأما الآية الكريمة التي أشار إليه ابن حجر في عبارته فإن لفظ علي فيها هو اسم سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام - كما هو الحال في حديث: أنا مدينة العلم فالصراط مضاف إلى علي، وهذه هي قراءة أهل البيت، الذين هم أدرى بما في البيت، وهم المقرونون بالكتاب في حديث الثقلين... وهي أيضا قراءة الحسن البصري كما عن أبي بكر الشيرازي، ففي كتاب (مناقب آل أبي طالب): أبو بكر الشيرازي في كتابه، بالإسناد عن شعبة عن قتادة، سمعت الحسن البصري يقرأ هذا الحرف: هذا صراط علي مستقيم. قلت: ما معناه؟ قال: هذا طريق علي بن أبي طالب ودينه طريق ودين مستقيم، فاتبعوه وتمسكوا به، فإنه واضح لا عوج فيه (1). وكتاب أبي بكر الشيرازي - الموسوم بكتاب ما نزل من القرآن في علي - يرويه ابن شهر آشوب عن مؤلفه أبي بكر محمد بن مؤمن الشيرازي بالإجازة كما قال رحمه الله في أول كتابه: وحدثني محمود بن عمر الزمخشري بكتاب الكشاف والفائق وربيع الأبرار. وأخبرني الكياشيرويه بن شهردار الديلمي بالفردوس. وأنبأني أبو العلاء العطار الهمداني بزاد المسافر، وكاتبني الموفق بن أحمد المكي خطيب خوارزم بالأربعين، وروى لي القاضي أبو السعادات الفضائل، وناولني أبو عبد الله محمد ابن أحمد النطنزي بالخصائص العلوية، وأجاز لي أبو بكر محمد بن مؤمن الشيرازي رواية كتاب ما نزل من القرآن في علي عليه السلام، وكثيرا ما أسند إلى أبي العزيز كادش العكبري، وأبي الحسن العاصمي الخوارزمي، ويحيى بن سعدون القرطبي، وأشباههم . والكتاب المذكور لأبي بكر الشيرازي من الكتب المعتمدة عند أهل السنة،

(هامش)

(1) مناقب آل أبي طالب: 3 / 107. (*)

ص 164

بل هو من جملة الكتب التي يفتخر (الدهلوي) بتأليف أهل السنة إياها في مناقب أهل البيت كما في حاشية التعصب الثالث عشر، من الباب الحادي عشر، من كتابه (التحفة).... وحلقتها معاوية...!! وزاد بعض الوضاعين في حديث أنا مدينة العلم جملة في فضل معاوية، فقد روى الديلمي في (فردوس الأخبار) هذا الحديث باللفظ التالي: أنا مدينة العلم وعلي بابها وحلقتها معاوية (1)... فهذا إفك شنيع، وقد كفانا مؤنة الرد عليه السخاوي في (المقاصد الحسنة) وابن حجر المكي في (الفتاوى الحديثية)، حيث صرحا بعدم صحته، فمن العجيب نقل المناوي إياه في (كنوز الحقائق) بقوله: أنا مدينة العلم وعلي بابها ومعاوية حلقتها. فر (2). أي أخرجه الديلمي في الفردوس. لا يصح عن النبي في فضل معاوية شيء بل لقد نص كبار الأئمة والحفاظ على أنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فضل معاوية شيء، وهذا من الأمور المسلمة بينهم، ولمزيد الفائدة والبيان نذكر بعض نصوصهم في هذا المقام: قال ابن الجوزي: أنبأنا زاهر بن طاهر، قال: أنبأنا أحمد بن الحسين البيهقي، قال: ثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم، قال: سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب بن يوسف يقول: سمعت أبي يقول: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في فضل معاوية

(هامش)

(1) فردوس الأخبار 1 / 44 رقم 108. (2) كنوز الحقائق هامش الجامع الصغير: 81. (*)

ص 165

ابن أبي سفيان شيء. أنبأنا هبة الله بن أحمد الحريري قال: أنبأنا محمد بن علي بن الفتح، قال أنبأ الدار قطني قال حدثنا أبو الحسين محمد بن إبراهيم بن جعفر بن بيان الرزاز قال: ثنا أبو سعيد الخرقي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي فقلت: ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قال: انشر قولي فيهما: إعلم أن عليا كان كثير الأعداء ففتش له أعداؤه عيبا فلم يجدوا فجاؤا إلى رجل قد حاربه وقاتله فأطروه كيادا منهم له (1). وقال ابن حجر العسقلاني: تنبيه: عبر البخاري في هذه الترجمة بقوله: ذكر ولم يقل فضيلة ولا منقبة لكون الفضيلة لا تؤخذ من حديث الباب، إلا أن ظاهر شهادة ابن عباس له بالفقه والصحبة دالة على الفضل الكثير. وقد صنف ابن أبي عاصم جزءا في مناقبه، وكذلك أبو عمر غلام ثعلب، وأبو بكر النقاش. وأورد ابن الجوزي في الموضوعات بعض الأحاديث التي ذكروها ثم ساق عن إسحاق بن راهويه أنه قال: لم يصح في فضائل معاوية شيء. فهذه النكتة في عدول البخاري عن التصريح بلفظ منقبة اعتمادا على قول شيخه لكن بدقيق نظره استنبط ما يدمغ به رؤس الروافض وقصة النسائي في ذلك مشهورة وكأنه اعتمد أيضا على قول شيخه إسحاق، وكذلك في قصة الحاكم. وأخرج ابن الجوزي أيضا من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل سألت أبي: ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قال: إعلم أن عليا كان كثير الأعداء ففتش أعداؤه له عيبا فلم يجدوا فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطروه كيادا منهم لعلي. فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له. وقد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة لكن ليس فيها ما يصح من طريق الإسناد، وبذلك جزم إسحاق ابن راهويه والنسائي وغيرهما والله أعلم (2).

(هامش)

(1) الموضوعات 2 / 24. (2) فتح الباري 7 / 83. (*)

ص 166

وقال العيني: مطابقته للترجمة من حيث أن فيه ذكر معاوية، ولا يدل هذا على فضيلته. فإن قلت: قد ورد في فضيلته أحاديث كثيرة. قلت: نعم، ولكن ليس فيها حديث يصح من طريق الإسناد، نص عليه إسحاق بن راهويه والنسائي وغيرهما، ولذلك قال: باب ذكر معاوية ولم يقل فضيلة ولا منقبة (1). وقال ابن خلكان بترجمة النسائي: قال محمد بن إسحاق الإصبهاني سمعت مشائخنا بمصر يقولون: إن أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عمره وخرج إلى دمشق، فسئل عن معاوية وما روي من فضائله فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس حتى يفضل! وفي رواية أخرى: ما أعرف له فضيلة إلا لا أشبع الله بطنك (2). وقال أبو الفداء بترجمته: ثم عاد إلى دمشق فامتحن في معاوية وطلب منه أن يروي شيئا من فضائله فامتنع وقال: ما يرضى معاوية أن يكون رأسا برأى حتى يفضل! (3). وقال أبو الحجاج المزي نقلا عن أبي بكر المأموني: وقيل له وأنا حاضر: ألا تخرج فضائل معاوية؟ فقال: أي شيء أخرج! اللهم لا تشبع بطنه! وسكت وسكت السائل . قال قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ: سمعت علي بن عمر يقول: كان أبو عبد الرحمن أفقه مشائخ مصر في عصره وأعرفهم بالصحيح والسقيم من الآثار، وأعلمهم بالرجال. فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه، فخرج إلى الرملة فسئل عن فضائل معاوية، فأمسك عنه، فضربوه في الجامع فقال: أخرجوني إلى مكة، فأخرجوه إلى مكة وهو عليل وتوفي بها مقتولا شهيدا. قال الحاكم أبو عبد الله: ومع ما جمع أبو عبد الرحمن من الفضائل رزق الشهادة في آخر عمره، فحدثني محمد بن إسحاق الإصبهاني قال: سمعت مشائخنا بمصر

(هامش)

(1) عمدة القاري 16 / 248. (2) وفيات الأعيان 1 / 59. (3) المختصر في أخبار البشر حوادث: 303. (*)

ص 167

يذكرون أن أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عمره وخرج إلى دمشق، فسئل بها عن معاوية بن أبي سفيان وما روي من فضائله فقال: ألا يرضى معاوية رأسا برأس حتى يفضل! فما زالوا يدفعون في حضنيه حتى أخرج من المسجد، ثم حمل إلى مكة ومات بها (1). وقال الذهبي نقلا عن المأموني سمعت قوما ينكرون على أبي عبد الرحمن كتاب الخصائص لعلي رضي الله عنه وتركه تصنيف فضائل الشيخين، فذكرت له ذلك فقال: دخلت دمشق والمنحرف عن علي بها كثير، فصنفت كتاب الخصائص رجوت أن يديهم الله. ثم إنه صنف بعد ذلك فضائل الصحابة فقيل له وأنا أسمع: ألا تخرج فضائل معاوية؟ فقال: أي شيء أخرج! حديث اللهم لا تشبع بطنه! فسكت السائل. قلت: لعل هذه منقبة معاوية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم من لعنته أو شتمته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة . قال: قال أبو عبد الله ابن مندة عن حمزة العقبي المصري وغيره: إن النسائي خرج من مصر في آخر عمره إلى دمشق، فسئل بها عما جاء من فضائله فقال: ألا يرضى رأسا برأس حتى يفضل! قال: فما زالوا يدفعون في خصيته حتى أخرج من المسجد، ثم حمل إلى مكة فتوفي بها. كذا في هذه الرواية إلى مكة وصوابه: الرملة (2). وقال ابن الوردي: وعاد إلى دمشق فامتحن في معاوية وطلب منه أن يروي شيئا من فضائله فقال: ما يرضى معاوية أن يكون رأسا برأس حتى يفضل (3). وقال صلاح الدين الصفدي: وأنكر عليه قوم كتاب الخصائص لعلي رضي الله عنه وتركه تصنيفه فضائل الشيخين، فذكر له ذلك فقال: دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، فصنفت الخصائص رجاء أن يهديهم الله تعالى. ثم

(هامش)

(1) تهذيب الكمال 1 / 328. (2) تذكرة الحفاظ 1 / 698. (3) تتمة المختصر حوادث: 303. (*)

ص 168

صنف بعد ذلك فضائل الصحابة فقيل له: ألا تخرج فضائل معاوية! فقال: أي شيء أخرج! اللهم لا تشبع بطنه! فسكت السائل. قال شمس الدين: لعل هذا فضيلة له لقول النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم من لعنته وسببته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة قال ولما خرج من مصر إلى دمشق في آخر عمره سئل عن معاوية رضي الله عنه وما دون من فضائله فقال: لا يرضى رأسا برأس حتى يفضل! فما زالوا يطعنون في خصيتيه حتى أخرج من المسجد، ثم حمل إلى مكة وقيل الرملة، وتوفي بها (1). وقال اليافعي: وخرج إلى دمشق فسئل عن معاوية وما روي من فضائله فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس حتى يفضل! وفي رواية أخرى: ما أعرف له فضيلة إلا لا أشبع الله بطنك (2). وقال الفاسي: قال الدارقطني: وكان أفقه مشائخ مصر في عصره وأعلمهم بالحديث والرجال، فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه، فخرج إلى الرملة فسئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه، فضربوه في الجامع فقال: أخرجوني إلى مكة، فأخرجوه إلى مكة وهو عليل، وتوفي بها مقتولا شهيدا (3). وقال ابن حجر العسقلاني بترجمة النسائي نقلا عن الحاكم: سمعت علي ابن عمر يقول: النسائي أفقه مشايخ مصر في عصره وأعرفهم بالصحيح والسقيم وأعلمهم بالرجال. فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه فخرج إلى الرملة فسئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه، فضربوه في الجامع فقال: أخرجوني إلى مكة فأخرجوه وهو عليل وتوفي مقتولا شهيدا قال وقال أبو بكر المأموني سألته عن تصنيفه كتاب الخصائص فقال: دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، فصنفت كتاب الخصائص رجاء أن يهديهم الله تعالى. ثم صنف بعد ذلك كتاب فضائل

(هامش)

(1) الوافي بالوفيات 6 / 416. (2) مرآة الجنان حوادث: 303. (3) العقد الثمين 3 / 45. (*)

ص 169

الصحابة وقرأها على الناس وقيل له - وأنا حاضر - ألا تخرج فضائل معاوية؟ فقال: أي شيء أخرج! اللهم لا تشبع بطنه! وسكت وسكت السائل (1). وقال المناوي بترجمة النسائي: دخل دمشق فذكر فضائل علي فقيل له فمعاوية؟ قال: ما كفاه أن يذهب رأسا برأس حتى يذكر له فضائل. فدفع في خصيتيه حتى أشرف على الموت فأخرج فمات في الرملة أو فلسطين سنة ثلاث وثلاثمائة. وحمل للمقدس أو مكة فدفن بين الصفا والمروة (2). وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في رجال المشكاة بترجمة النسائي: قال الأمير جمال الدين المحدث عن الشيخ الإمام عبد الله اليافعي أنه ذكر في تأريخه: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي صاحب المصنفات ومقتدى زمانه، سكن مصر ثم جاء بدمشق، فقال له أهل تلك الناحية يوما في المسجد: ما تقول في معاوية وما ورد في فضله؟ فأجاب: أما يرضى معاوية أن يخرج عني رأسا برأس حتى يفضل! وفي رواية: قال: لا أعرف له فضيلة إلا لا أشبع الله بطنه. فقام الناس ووقعوا فيه وأهانوه وضربوه وجروه من المسجد، وأذهبوه برملة فمرض فمات بذلك. وفي رواية: أذهبوه بمكة فمرض ومات بمكة. ودفنوه بين الصفا والمروة . وقال ابن تيمية الحراني: ومعاوية ليس له بخصوصه فضيلة في الصحيح، لكن قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا والطائف وغزوة تبوك، وحج معه حجة الوداع، وكان يكتب الوحي، فهو ممن إيتمنه النبي صلى الله عليه وسلم على كتابة الوحي، كما إيتمن غيره من الصحابة قال: بل قد رووا في فضائل معاوية أحاديث كثيرة، وصنف في ذلك مصنفات، وأهل العلم بالحديث لا يصححون لا هذا ولا هذا (3).

(هامش)

(1) تهذيب التهذيب 1 / 32. (2) فيض القدير - شرح الجامع الصغير 1 / 25. (3) منهاج السنة 2 / 207. (*)

ص 170

بطلان الجملة الموضوعة معنى ثم إن معاوية حلقتها باطل من وجوه: أحدها: المدينة مطلقا لا حاجة لها إلى الحلقة، بل لا ينسبها أحد من العقلاء إليها أصلا، ومن ادعى فعليه البيان، وعلينا دمغ رأسه بمقمعة البرهان. والثاني: مدينة العلم بالخصوص لا حاجة لها إلى الحلقة. والثالث: جعل معاوية كالحلقة لمدينة العلم عيب للمدينة، لا يجرأ على التفوه بذلك إلا من خرج عن الإيمان بل عن العقل والشعور. والرابع: معنى احتياج المدينة إلى الحلقة هو احتياج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معاوية في العلم، وهذا مما يهدم أركان الدين. والخامس: معنى كونه حلقة المدينة أن معاوية له حظ من العلم، لكن جهله بالأحكام الشرعية فضلا عن المعارف العالية والحقائق السامية أظهر من أن يذكر. والسادس: إن لمعاوية مطاعن عظيمة ومعائب كثيرة، تمنعه من أن يكون له أدنى اتصال بالنبي الكريم صلى الله عليه وآله. والسابع: ولو قيل معنى الجملة هو كونه حلقة الباب، أي: أنا مدينة العلم وعلي بابها ومعاوية حلقة بابها، فيبطله أن باب مدينة العلم غير محتاج إلى الحلقة كنفس المدينة. وأيضا: جهل معاوية خير دليل على بطلان كونه حلقة باب مدينة العلم. وأيضا: مطاعنه تمنع من أن يكون له هذا الاتصال بالمدينة. أضف إلى ذلك عدائه لأمير المؤمنين عليه السلام. وهناك وجوه أخرى تبطل هذه الجملة الموضوعة من حيث المعنى، نحيل استنباطها واستخراجها إلى الناظر فيها وفي الوجوه التي ذكرناها.

ص 171

حديث المدينة بلفظ آخر موضوع

 إلى هنا تم الكلام على تصرفات بعض القوم في لفظ حديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها ... واختلق بعضهم لفظا آخر لحديث المدينة يتضح بطلانه سندا ودلالة من البحوث المذكورة في الألفاظ المتقدمة... وذلك ما جاء في كتاب (كنج سعادت) لمعين الدين بن خواجة خاوند محمود الخوارزمي النقشبندي من أنه: قال عليه السلام: أنا مدينة الصدق وأبو بكر بابها، وأنا مدينة العدل وعمر بابها، وأنا مدينة الحياء وعثمان بابها، وأنا مدينة العلم وعلي بابها . لكن العجيب استناد بعضهم إلى هذا الحديث الموضوع في مسألة المفاضلة بين الأصحاب، وهو الشيخ رجب بن أحمد التيري في كتاب (الوسيلة الأحمدية والذريعة السرمدية في شرح الطريقة المحمدية) حيث قال في مبحث التفضيل: ونحن نقول: الأولى في تفضيل الخلفاء الأربعة: أن كل واحد منهم أفضل من الآخر باعتبار الوصف الذي اشتهر به، لأن فضيلة الإنسان ليست من حيث ذاته، بل باعتبار أوصافه، وقد قال عليه السلام: أنا مدينة الصدق وأبو بكر بابها، وأنا مدينة العدل وعمر بابها، وأنا مدينة الحياء وعثمان بابها، وأنا مدينة العلم وعلي بابها. رواه الزاهدي في كتابه عن بعض الأفاضل. وعلى هذا نقول: إن أبا بكر الصديق أفضل الصحابة باعتبار. كثرة صدقه واشتهاره فيما بينهم به، وعمر أفضلهم من جهة العدل، وعثمان أفضلهم من جهة الحياء، وعلي أفضلهم من جهة العلم واشتهاره به، وبهذا يستقيم المرام ويتم الكلام . فإن ما ذكره في التفضيل شيء لم يقل به أحد فهو خرق للإجماع المركب، والحديث موضوع مختلق، وفي كل فقرة من فقره بحث واضح طويل الذيل، يتجلى جانب منه بمراجعة كتاب (تشييد المطاعن) وغيره من كتب الباب. بل الحق الثابت بالأدلة القطعية أن الإمام عليا عليه السلام أفضل القوم من جميع الجهات، بل هو الأفضل من جميع الخلائق بعد النبي صلى الله عليه وآله

ص 172

وسلم من الأولين والآخرين... على أن هذا الحديث الموضوع اشتمل على جملة وعلي بابها ، وقد عرفت أن كونه باب مدينة العلم يوجب الأعلمية الموجبة للأفضلية على الاطلاق، حسب إفادات المحققين من أهل السنة، فيكون هذا الحديث الموضوع أيضا مفيدا للأفضلية المطلقة للإمام، خلافا لمن أراد إثبات الأفضلية له من جهة واحدة... والحمد لله رب العالمين.

ص 173

(11) مع القاري في كلامه حول الحديث

 وقال الملا علي القاري بشرح حديث أنا دار الحكمة ما نصه: وعنه أي عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا دار الحكمة - وفي رواية: أنا مدينة العلم. وفي رواية المصابيح: أنا دار العلم - وعلي بابها. وفي رواية زيادة: فمن أراد العلم فليأته من بابه. والمعنى: علي باب من أبوابها، ولكن التخصيص يفيد نوعا من التعظيم وهو كذلك. لأنه بالنسبة إلى بعض الصحابة أعظمهم وأعلمهم. ومما يدل على أن جميع الأصحاب بمنزلة الأبواب قوله صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، مع الايماء إلى اختلاف مراتب أنوارها في الاهتداء. ومما يحقق ذلك أن التابعين أخذوا أنواع العلوم الشرعية من القراءة والتفسير والحديث والفقه من سائر الصحابة غير علي رضي الله عنه أيضا، فعلم عدم انحصار البابية في حقه. اللهم إلا أن يختص بباب القضاء فإنه ورد في شأنه إنه: أقضاكم. كما أنه جاء في حق أبي: أقرؤكم. وفي حق زيد بن ثابت: إنه أفرضكم. وفي حق معاذ بن جبل: إن أعلمكم بالحلال والحرام. ومما يدل على جزالة علمه ما في الرياض عن معقل بن يسار قال: وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل لك في فاطمة نعودها؟ فقلت: نعم، فقام متوكئا علي فقال: إنه سيحمل ثقلها غيرك ويكون أجرها لك. قال: فكأنه لم يكن علي شيء، حتى دخلنا على فاطمة فقلنا: كيف تجدينك؟ قالت: لقد اشتد حزني واشتد فاقتي وطال سقمي. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: وجدت بخط أبي في هذا الحديث قال: أوما ترضين أن زوجك أقدمهم سلما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما. أخرجه أحمد. وعن ابن عباس وقد سأله الناس فقالوا: أي رجل كان علي؟

ص 174

قال: كان قد ملئ جوفه حكما وعلما وبأسا ونجدة، مع قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه أحمد في المناقب. وعن سعيد بن المسيب قال: كان عمر يتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن. أخرجه أحمد. قال الطيبي: لعل الشيعة تتمسك بهذا التمثيل: أن أخذ العلم والحكمة منه مختص به لا يتجاوزه إلى غيره إلا بواسطته رضي الله عنه، لأن الدار إنما يدخل إليها من بابها وقد قال تعالى: (وأتوا البيوت من أبوابها). ولا حجة لهم فيه، إذ ليس دار الجنة بأوسع من دار الحكمة ولها ثمانية أبواب. رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. أي إسنادا وقال أي الترمذي: روى بعضهم هذا الحديث عن شريك، وهو شريك بن عبد الله قاضي بغداد ذكره الشارح، ولم يذكروا أي ذلك البعض فيه أي في إسناد هذا الحديث عن الصنابحي بضم صاد وكسر موحدة ومهملة، ولا نعرف أي نحن هذا الحديث عن أحد من الثقات غير شريك بالنصب على الاستثناء، وفي نسخة بالجر على أنه بدل من أحد، قيل: وفي بعض نسخ الترمذي: عن شريك بدل غير شريك، والله أعلم. ثم اعلم أن حديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها، رواه الحاكم في المناقب من مستدركه من حديث ابن عباس وقال صحيح. وتعقبه الذهبي فقال: بل هو موضوع. وقال أبو زرعة: كم خلق افتضحوا فيه. وقال يحيى بن معين: لا أصل له. كذا قال أبو حاتم ويحيى بن سعيد وقال الدارقطني ثابت. ورواه الترمذي في المناقب من جامعه وقال: إنه منكر، وكذا قال البخاري: إنه ليس له وجه صحيح. وأورده ابن الجوزي في الموضوعات. وقال ابن دقيق العيد: هذا الحديث لم يثبتوه. وقيل: إنه باطل. لكن قال الحافظ أبو سعيد العلائي: الصواب إنه حسن باعتبار طرقه لا صحيح ولا ضعيف، فضلا عن أن يكون موضوعا. ذكره الزركشي. وسئل الحافظ العسقلاني عنه فقال: إنه حسن لا صحيح كما قال الحاكم ولا موضوع كما قال ابن الجوزي. قال السيوطي: قد بسطت كلام العلائي والعسقلاني في التعقبات التي على الموضوعات. إنتهى. وفي خبر

ص 175

الفردوس: أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها. وشذ بعضهم فأجاب: إن معنى وعلي بابها إنه فعيل من العلو على حد قراءة صراط علي مستقيم برفع علي وتنوينه كما قرأ به يعقوب (1). علي باب المدينة لا سواه أقول: وفي هذا الكلام خلط بين الغث والسمين، ونحن نشير إلى ما فيه بالاجمال: أما أن يكون المعنى: علي باب من أبوابها فأول من قاله هو العاصمي، وقد بينا بطلانه بالتفصيل، وهنا نقول باختصار: إن لفظ الحديث يدل على انحصار البابية في الإمام عليه السلام، وغيره لا يليق لأن يكون بابا لدار الحكمة ومدينة العلم، فلا يجوز دعوى ذلك لأحد إلا بنص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. على أن لهؤلاء الثلاثة قبائح ومطاعن تمنعهم من أن يكونوا أبوابا لمدينة العلم، بل تمنعهم عن أن يكون لهم أقل اتصال به، وقد تكفل كتاب (تشييد المطاعن) بذكر بعضها فراجعه إن شئت. ثم إن كون الشخص بابا لمدينة العلم والحكمة يستلزم العصمة له، وأن يكون محيطا في المدينة من حكمة وعلم... وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام ولم يكن غيره كذلك، ويشهد بذلك استغناؤه عن الكل واحتياج الكل إليه كما هو معروف عند الكل. على أنه جاء في بعض ألفاظ الحديث الأمر بإتيان علي عليه السلام، ففي لفظ: أنا دار الحكمة وعلي بابها فمن أراد الحكمة فليأت الباب، وفي آخر: أنا دار الحكمة وعلي بابها فمن أراد الحكمة فليأت الباب ، والناس بين مطيع وعاص، فمن أتاه عليه السلام وأخذ الحكمة منه فهو محتاج إليه ولا يكون بابا لها

(هامش)

(1) المرقاة - شرح المشكاة 5 / 571. (*)

ص 176

مثله، ومن لم يمتثل أمر الرسول فغير لائق لأن يكون بابا له، فليس للمدينة باب سوى الإمام عليه السلام. وبما ذكرنا يظهر ما في قوله: ولكن التخصيص يفيد نوعا من التعظيم، وهو كذلك، لأنه بالنسبة إلى بعض الصحابة أعظمهم وأعلمهم . لأن التخصيص المذكور في الحديث تخصيص حقيقي لا إضافي، وقد عرفت سابقا دلالة الحديث على أنه عليه السلام من الصحابة كلهم أعظمهم وأعلمهم، لا بالنسبة إلى بعضهم. حديث النجوم موضوع وأما قوله: ومما يدل على أن جميع الأصحاب بمنزلة الأبواب قوله... . ففيه: إن حديث أصحابي كالنجوم مما ثبت وضعه واختلاقه، وقد تكلمنا عليه سابقا في الرد على كلام الأعور، ولو سلمنا صحته فإنه لا يقتضي أن يكون الأصحاب كلهم أبوابا، لما عرفت من أن هذا الشرف العظيم والمنصب الجليل مخصوص بسيدنا علي عليه السلام، وإن دل على شيء فإنما يدل على حصول بعضهم على العلم، وهذا لا يكفي لأن يكونوا أبوابا لمدينة العلم، لأن باب المدينة يجب أن يكون محيطا بجميع علوم المدينة، فبين كون الرجل ذا علم في الجملة، وبين كونه بابا لدار الحكمة ومدينة العلم بون بعيد، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ومن العجيب استدلال القاري بهذا الحديث، وهو يذكر في كتابه (المرقاة) كلمات أعلام طائفته في قدحه، فقد قال بشرحه ما نصه: قال ابن الديبع: إعلم أن حديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. أخرجه ابن ماجة كذا ذكره الجلال السيوطي في تخريج أحاديث الشفاء، ولم أجده في سنن ابن ماجة بعد البحث عنه. وقد ذكره ابن حجر

ص 177

العسقلاني في تخريج أحاديث الرافعي في باب أدب القضاء وأطال الكلام عليه، وذكر أنه ضعيف واه، بل ذكر عن ابن حزم أنه موضوع باطل. لكن ذكر عن البيهقي أنه قال: إن حديث مسلم يؤدي بعض معناه، يعني قوله صلى الله عليه وسلم: النجوم أمنة للسماء. الحديث. قال ابن حجر: صدق البيهقي هو يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم أما في الاقتداء فلا يظهر. نعم يمكن أن يتلمح ذلك من معنى الاهتداء بالنجوم. قلت: الظاهر إن الاهتداء فرع الاقتداء. قال: وظاهر الحديث إنما هو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض الصحابة من طمس السنن وظهور البدع ونشر الجور في أقطار الأرض انتهى. وتكلم على هذا الحديث ابن السبكي في شرح ابن الحاجب الأصلي في الكلام على عدالة الصحابة ولم يعزه لابن ماجة، وذكره في جامع الأصول ولفظه: عن ابن المسبب عن عمر بن الخطاب مرفوعا: سألت ربي. الحديث إلى قوله اهتديتم. وكتب بعده: أخرجه. فهو من الأحاديث التي ذكرها رزين في تجريد الأصول ولم يقف عليها ابن الأثير في الأصول المذكورة، وذكره صاحب المشكاة وقال: أخرجه رزين (1). وما ذكره القاري في تأييد الاستدلال بحديث النجوم بقوله: ومما يحقق ذلك أن التابعين أخذوا أنواع العلوم الشرعية من القراءة والتفسير والحديث والفقه من سائر الصحابة غير علي رضي الله عنه، فعلم عدم انحصار البابية فيه فركيك في الغاية، لأنه استدلال بفعل التابعين في مقابلة النص الصريح من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو غير جائز، فليس هناك إلا أنهم خالفوا أمره صلى الله عليه وآله وسلم. وكيف يقول القاري بعدم انحصار البابية فيه عليه السلام؟ والنبي نفسه ينص على هذا الانحصار ويقول: يا علي كذب من زعم أنه يدخلها من غير

(هامش)

(1) المرقاة - شرح المشكاة 5 / 522. (*)

ص 178

بابها ، ويقول: كذب من زعم أنه يصل إلى المدينة لا من قبل الباب ... وقد كان هذا المعنى هو ما اعترف به الأصحاب وابتهجوا كما ظهر سابقا من إفادة الزرندي في (نظم درر السمطين) ومن حديث الشورى الذي ذكره جمال الدين المحدث الشيرازي. ثم إن التابعين الآخذين من غيره عليه السلام ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما، فالقسم الأول من أخذ عمن أخذ من الإمام عليه السلام كسلمان، والمقداد، وأبي ذر، وعمار، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس وأمثالهم... وهؤلاء التابعون لا يرون أولئك الصحابة أبوابا للعلوم، بل أخذهم في الحقيقة من الإمام عليه السلام... والقسم الثاني من خالف قوله صلى الله عليه وآله وسلم: فمن أراد العلم فليأت الباب ومن أراد الحكمة فليأتها من بابها وأعرض عنه عنادا وانحرافا عن باب مدينة العلم وباب دار الحكمة، ومن الواضح أن هؤلاء لا يعبأ بأقوالهم وأفعالهم أبدا... دعوى تخصيص الحديث باب القضاء وأما ما ذكره القاري: اللهم أن يختص بباب القضاء، فإنه ورد في شأنه أنه أقضاكم، كما أنه جاء في حق أبي أنه أقرؤكم، وفي حق زيد بن ثابت أنه أفرضكم، وفي حق معاذ بن جبل: أنه أعلمكم بالحلال والحرام فقد عرفت الجواب عنه في الرد على كلام العاصمي، وعلى فرض التسليم فإن هذا الاختصاص يفيد الأعلمية المطلقة له عليه السلام، لأن كونه أقضى الأصحاب يستلزم إحاطته بأنواع العلوم الشرعية، مع المزية والأفضلية من غيره في هذا الباب، وسيأتي مزيد توضيح لذلك فيما بعد إن شاء الله. أما قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أقضاكم علي فمما لا ريب فيه ولا كلام، كما ستعرف فيما بعد إن شاء الله تعالى مفصلا، لكن ما ذكره في حق غيره موضوع وباطل سندا ودلالة، كما بيناه بالتفصيل في جواب كلام العاصمي،

ص 179

فراجع إن شئت. وقوله: ومما يدل على جزالة علمه.. وإن اشتمل على بعض فضائل الإمام عليه السلام، فلا يخفى ما فيه، لأن ما ذكره يدل على أعلمية الإمام بصراحة كاملة، - لا أنه يدل على جزالة علمه - أضف إلى ذلك النصوص الصريحة الواردة عن مشاهير الأصحاب - من الموافقين له والمعاندين - في أعلميته، ومن هنا قال المناوي: وقد شهد له بالأعلمية الموافق والمؤالف والمعادي والمخالف (1) بل قال القاري نفسه في (شرح الفقه الأكبر) بشرح قول الماتن: ثم علي بن أبي طالب قال ما نصه: أي ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، القرشي الهاشمي، وهو المرتضى زوج فاطمة الزهراء وابن عم المصطفى، والعالم في الدرجة العليا، والمعضلات التي سأله كبار الصحابة ورجعوا إلى فتواه فيها فضائل كثيرة شهيرة تحقق قوله عليه السلام: أنا مدينة العلم وعلي بابها، وقوله عليه السلام: أقضاكم علي (2). فظهر أن الإمام عليه السلام هو الأعلم من جميع الأصحاب، لا في القضاء بل في جميع الأبواب... الإشارة إلى جواب سائر كلمات القاري وأما كلمات القاري الأخرى فنشير إليها وإلى الجواب عنها: 1 - قوله: قال الطيبي... . وقد تقدم الجواب عن كلام الطيبي هذا في موضعه فلا نعيد. 2 - قوله: رواه الترمذي... . قد عرفت الكلام عليه في جواب كلام النووي.

(هامش)

(1) فيض القدير 3 / 43. (2) شرح الفقه الأكبر: 113. (*)

ص 180

3 - قوله: ثم اعلم أن حديث... . فيه اعتراف بتصحيح الحاكم... وأما أقوال القادحين في الحديث فقد تعرضنا لها في مواضعها. 4 - قوله: وفي خبر الفردوس.. وقد تقدم الكلام على هذا الحديث الموضوع في جواب كلام الأعور وابن حجر المكي.. 5 - قوله: وشذ بعضهم... . هذا كلام ابن حجر المكي في (الصواعق) وقد عرفت ما فيه. وليكن هذا آخر ما نرد به كلام القاري العاري، والحمد لله الفاطر الباري. * * *

ص 181

(12) مع البنباني في كلامه حول الحديث

 وقال الملا محمد يعقوب البنباني في (عقائده) في الجواب على استدلال الشيعة بحديث أنا مدينة العلم وحديث أنا دار الحكمة ما نصه: واستدل الخصم على تفضيل علي رضي الله عنه بأنه أعلم، وهو أولى بالخلافة لأنه تعالى فضل آدم عليه السلام على الملائكة واختاره للخلافة بالعلم. أما أنه كان أعلم فلقوله عليه الصلاة والسلام: أنا مدينة العلم وعلي بابها. وأنا دار الحكمة وعلي بابها. وعلم النبي صلى الله عليه وسلم كما هو أزيد كذلك علم علي، وأنه لا يخرج ما في الدار إلا من الباب. فعلمه صلى الله عليه وسلم إنما وصل بمن وصل من قبل علي رضي الله عنه. والجواب: إن هذا يوجب أنه لم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما أرسل به إلا عليا، ثم هو بلغ غيره. ولا يخفى أنه مما لا يقول به الخصم أيضا. والمراد من الحديث المذكور - والله أعلم - بيان أن عليا باب العلوم بالنسبة إلى جماعة لم يدركوا شرف الصحبة. وهذا مبني على أمر وهو: إن أعلم الصحابة هم الخلفاء الراشدون، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه مقيدا بأمر الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم مدة حياته، ثم عمر رضي الله عنه كذلك، ثم عثمان كذلك رضي الله عنه، وقد كان علي رضي الله عنه في أيام خلافتهم مشغولا بالإفادة والإفاضة، فالذين لم يدركوا شرف الصحبة أتوا إليه وأخذوا منه رضي الله عنه. ثم لا أدري أي لفظ في الحديث يدل على أن ليس لمدينة العلم إلا باب واحد هو علي رضي الله عنه، بل يجوز أن يكون لها أبواب ويكون علي كرم الله وجهه بابا منها . والجواب عنه من وجوه:

ص 182

أحدها: إن أساس استدلال الشيعة بحديث أنا مدينة العلم كما ذكر البنباني أيضا هو بدلالته على أعلمية الإمام أمير المؤمنين، وهي تكشف عن الأفضلية وتستلزم الخلافة والإمامة كما يدل عليه قصة آدم عليه السلام... وقد علمت أن دلالة الحديث على الأعلمية تامة بكل وضوح، حتى اعترف بها جماعة من علماء أهل السنة، وذكر المناوي أنها مما اتفق عليه الموافق والمخالف، ومن هنا ترى البنباني عاجزا عن الجواب على هذا الاستدلال القوي المتين، بل زاد في تقريره جملة: وعلم النبي صلى الله عليه وسلم كما هو أزيد كذلك علم علي . الثاني: قد ذكر البنباني وجه استدلال الشيعة بحديث: أنا دار الحكمة بقوله: وأنه لا يخرج ما في الدار... . لكنه لم يفهم مراد الشيعة من ذلك، وإلا لم يقل في الجواب: والجواب - إن هذا يوجب... إذ ليس مراد هم ذلك أبدا، بل المراد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أودع جميع علوم الشريعة - المعبر عنها بالحكمة - عند علي عليه السلام، وأمر الأمة بالرجوع إليه والأخذ منه، وأنه لم يصل شيء من علومه صلى الله عليه وآله إلى الأمة إلا بواسطة الإمام عليه السلام. على أنه لا يخفى على المتأمل الفرق بين تبليغ النبي ما أرسل به، وتبليغه علم ما أرسل به، ومن هنا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله بلغ ما أرسل به - وهو القرآن - إلى جميع الناس، ولكن لا يمكن القول بأنه بلغ علم القرآن إلى جميع الناس كذلك، نعم علمه أمير المؤمنين عليه السلام وجعله مبلغا لعلوم القرآن إلى الناس قاطبة، ومن هنا ذكروا أن فهم كتاب الله منحصر إلى علمه عليه السلام، قال المناوي: قال الحرالي: قد علم الأولون والآخرون أن فهم كتاب الله منحصر إلى علم علي، ومن جهل ذلك فقد ضل عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن القلوب [الغيوب] الحجاب، حتى يتحقق اليقين الذي لا يتغير بكشف الغطاء. إلى هنا كلامه (1)... فإذا كان هذا حال علم القرآن الذي أمر

(هامش)

(1) فيض القدير 3 / 47. (*)

ص 183

صلى الله عليه وآله بتبليغه إلى جميع الناس، فالعلوم الأخرى منحصرة إلى فهمه عليه السلام بالأولوية القطعية. دعوى تخصيص كونه بابا لغير الصحابة الثالث: دعوى تخصيص كون الإمام عليه السلام باب العلوم إلى جماعة لم يدركوا شرف الصحبة، هذه الدعوى التي ذكرها بقوله: والمراد من الحديث المذكور - والله أعلم - بيان أن عليا باب العلوم الشرعية... تخرص باطل، فإنه تخصيص بلا مخصص، ويبطله اعتراف أصحاب الشورى - فيما رواه المحدث الشيرازي في (روضة الأحباب) بأن حديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها جاء ليعلم الصحابة بأن عليا باب مدينة علم الأولين والآخرين، فكيف تختص بابيته بجماعة لم يدركوا شرف الصحبة؟ بل لو كان معنى الحديث ما ذكره البنباني لما احتج به الإمام عليه السلام - فيما احتج به - على أصحاب الشورى، ولما اعترف القوم بما أراد الإمام من الاحتجاج به. ومما يبطل هذا المعنى الذي ذكره البنباني إقرار الأصحاب بأعلمية الإمام عليه السلام، فهذا ابن عباس يقول - فيما يرويه الشيخاني القادري في (الصراط السوي) -: من أتى العلم فليأت الباب وهو علي رضي الله عنه ، وهذا عمرو ابن العاص يحتج بهذا الحديث على معاوية في كتاب له إليه - فيما رواه الخوارزمي في (المناقب) ويقول: وأكد القول عليك وعلى جميع المسلمين وقال: إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي، وقد قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها . ومن هنا ترى الحافظ الزرندي يقول في عنوان الحديث: فضيلة أخرى اعترف بها الأصحاب وابتهجوا، وسلكوا طريق الوفاق وانتهجوا - عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد بابها فليأت عليا .

ص 184

دعوى أن أعلم الصحابة هم الخلفاء ثم إن الأمر الذي بنى عليه البنباني المعنى الذي ذكره لحديث المدينة، وهو: أن أعلم الصحابة هم الخلفاء الراشدون... باطل من وجوه أيضا. أما أولا: فإن الثلاثة ليسوا من الخلفاء الراشدين عن رسول رب العالمين صلى الله عليه وآله المعصومين. وأما ثانيا: فلأن أحدا من أهل الإنصاف لا يرتضي القول بأعلمية الثلاثة من: سلمان، وأبي ذر، والمقداد، وعمار، وابن عباس، وحذيفة، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وأبي الدرداء، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، وأمثالهم من مشاهير الأصحاب... بل إن هؤلاء، بل ومعاذ بن جبل وأبو هريرة وزيد ابن ثابت وأضرابهم... أعلم من الثلاثة قطعا... بل الحق أن الثلاثة لم يحصلوا على شيء من العلوم، وتلك آثار جهلهم بالأمور الواضحة مشهودة ومشهورة، وستقف على ذلك فيما بعد بالتفصيل إن شاء الله. وأما ثالثا: فلأنهم لو كانوا علماء لأفادوا وأفاضوا، وظهرت الآثار واشتهرت الشواهد على بلوغهم المراتب العلمية في الموارد المختلفة، وانتشرت بواسطتهم أحكام الحلال والحرام، من غير أن يمنعهم عن ذلك الخلافة، بل إنه من أجل وأهم أعمال خليفة النبي صلى الله عليه وآله. ألا ترى أن الإمام عليه السلام - على قصر مدته - لم تشغله الحروب عن نشر العلوم الجليلة والمعارف السامية، ولقد صدق ضرار حيث قال في وصفه عليه السلام: يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه كما رواه ابن عبد البر القرطبي بترجمته عليه السلام في (الإستيعاب). وأما رابعا: سلمنا أن تقيدهم بأمر الخلافة منعهم عن الإفادة، فما الذي منعهم عنها في حياة النبي صلى الله عليه وآله؟ وما الذي منع عمر وعثمان عنها أيام أبي بكر؟ وما الذي منع عثمان عنها أيام عمر؟ نعم إنهم يقولون بأن عمر

ص 185

وعثمان كانا يفتيان في خلافة أبي بكر، وأن عثمان كان يفتي في خلافة عمر...، قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي، نا جارية بن أبي عمران، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: إن أبا بكر الصديق كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي وأهل الفقه، دعا رجالا من المهاجرين والأنصار، دعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت، وكل هؤلاء كان يفتي في خلافة أبي بكر، وإنما تصير فتوى الناس إلى هؤلاء، فمضى أبو بكر على ذلك، ثم ولي عمر فكان يدعو هؤلاء النفر، وكانت الفتوى تصير وهو خليفة إلى عثمان وأبي وزيد (1). لكن ما السبب في عدم ظهور آثار أعلمية عمر وعثمان للمستفيدين والمستفتين بل لغيرهم؟ بل لم تظهر آثار عالميتهم، ولم نعثر على ما يدل على رسوخ قدم لهم في العلم... وقد رووا أيضا: إن عمر كان يشغل منصب القضاء على عهد أبي بكر، روى ابن عبد البر عن إبراهيم النخعي: قال: أول من ولي شيئا من أمور المسلمين عمر بن الخطاب، ولاه أبو بكر القضاء، وكان أول قاض في الإسلام، وقال: إقض بين الناس فإني في شغل (2)، وروى الطبري: واستقضى أبو بكر فيها عمر بن الخطاب، فكان على القضاء أيام خلافته (3). وروى ابن الأثير: وفيها استقضى أبو بكر عمر بن الخطاب، وكان يقضي بين الناس خلافته كلها (4)، والقضاء من أحسن أسباب ظهور الآثار، فأين قضايا عمر الدالة على سعة علمه فضلا عن أعلميته؟ ولماذا لم يذكروا قضية واحدة - ولو مفتعلة - من قضاياه على عهد أبي بكر، تدل على عالميته فضلا عن أعلميته؟

(هامش)

(1) الطبقات الكبرى 2 / 350. (2) الإستيعاب 3 / 1150. (3) تاريخ الطبري حوادث سنة 11. (4) الكامل في التاريخ. حوادث سنة 11. (*)

ص 186

بل إنهم يروون اشتغال الثلاثة بالقضاء أيام خلافتهم... قال السيوطي: وأخرج أبو القاسم البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رؤس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع أمرهم على رأي قضى به. وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان لأبي بكر فيه قضاء، فإن وجد أبا بكر قد قضى فيه بقضاء قضى به وإلا دعا رؤس المسلمين فإذا اجتمعوا على أمر قضى به (1). وقد رواه المتقي في (كنز العمال) والمحب الطبري - قبل السيوطي - في (الرياض النضرة). ولكن أين آثار أعلميتهم؟ بل إن أكثر تلك الأخبار يشتمل على شواهد بينة على جهلهم وبلادتهم... وسنذكر بعضهم فيما بعد إن شاء تعالى فانتظر. وأما خامسا: فرضنا أن تقيدهم بأمر الخلافة منعهم عن الإفادة ونشر العلوم والآثار الدالة على أعلميتهم، لكن التقيد بأمر الخلافة لا يوجب ظهور آثار الجهل والضلال منهم، فإذا كان من المعقول اختفاء أعلمية شخص أو علم عالم بوجه من الوجوه، فإن شيئا لا يكون سببا في ظهور جهله، بل لا يعقل ذلك مع فرض عالميته فضلا عن كونه الأعلم، لأن العلم والجهل ضدان، مع أن آثار الجهل المنقولة عنهم كثيرة جدا بحيث لا تقبل الستر والكتمان.

(هامش)

(1) تاريخ الخلفاء: 42. (*)

ص 187

أخذ الخلفاء وغيرهم من الإمام وأما قول البنباني: وقد كان علي رضي الله عنه في أيام خلافتهم مشغولا بالإفادة والإفاضة، فالذين لم يدركوا شرف الصحبة أتوا إليه وأخذوا منه رضي الله عنه ففيه: إن الإمام عليه السلام كان مشغولا بالإفادة والإفاضة وسائر شؤون الإمامة والخلافة طيلة أيام حياته الكريمة الشريفة، ولم يكن الأخذ منه منحصرا بالذين لم يدركوا شرف الصحبة، بل لقد أخذ منه كبار الصحابة، والخلفاء الثلاثة، وأئمة التابعين... كما عرفت وستعرف إن شاء الله رب العالمين... ولقد اشتهر عن عمر قوله: لولا علي لهلك عمر وقوله: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن حتى صار من الأمثال... واشتهر رجوعهم إليه حتى اعترف بذلك كبار علماء أهل السنة سلفا وخلفا: قال ابن الأثير: وله أخبار كثيرة نقتصر على هذا منها، ولو ذكرنا ما سأله الصحابة مثل عمر وغيره رضي الله عنهم لأطلنا (1). وقال الكنجي: ومع هذا، فقد قال العلماء من الصحابة والتابعين وأهل بيته بتفضيل علي، وزيادة علمه وغزارته وحدة فهمه ووفور حكمته وحسن قضاياه وصحة فتواه، وقد كان أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من علماء الصحابة يشاورونه في الأحكام، ويأخذون بقوله في النقض والابرام، إعترافا منهم بعلمه ووفور فضله ورجاحة عقله وصحة حكمه (2). وقال النووي: وسؤال كبار الصحابة له ورجوعهم إلى فتاويه وأقواله في المواطن الكثيرة والمسائل المعضلات مشهور (3). وقال شهاب الدين أحمد: وهو كان بإجماع الصحابة مرجوعا إليه في

(هامش)

(1) أسد الغابة 4 / 23. (2) كفاية الطالب: 223. (3) تهذيب الأسماء واللغات 1 / 346. (*)

ص 188

علمه، موثوقا بفتواه وحكمه، والصحابة كلهم يراجعونه فيما أشكل عليهم ولا يسبقونه، ومن هذا المعنى قال عمر: لولا علي لهلك عمر. رضي الله تعالى عنهم (1). وقال القاري: والمعضلات التي سأله كبار الصحابة ورجعوا إلى فتواه فيها [فيها] فضائل كثيرة شهيرة، تحقق قوله عليه السلام: أنا مدينة العلم وعلي بابها، وقوله عليه السلام: أقضاكم علي (2). وقال عبد الحق الدهلوي: وسؤال كبار الصحابة ورجوعهم إلى فتاواه وأقواله في المواطن الكثيرة والمسائل المعضلات مشهور، وكان عمر رضي الله عنه يرجع إليه ويسأله ولا يحكم حتى يسأله، وكان يقول: أقضانا علي (3). وقال نصر الله الكابلي - في مبحث حديث السفينة، في ذكر أهل البيت -: ولا شك أن الفلاح منوط بولائهم وهداهم، والهلاك بالتخلف عنهم، ومن ثمة كان الخلفاء والصحابة يرجعون إلى أفضلهم فيما أشكل عليهم من المسائل (4). وقال العجيلي: ولم يكن يسأل منهم واحدا، وكلهم يسأله مسترشدا، وما ذلك إلا لخمود نار السؤال تحت نور الاطلاع (5). وقال الحفني: قوله: عيبة علمي. أي وعاء علمي الحافظ له، فإنه باب مدينة العلم، ولذا كانت الصحابة تحتاج إليه في فك المشكلات (6). وقال البنباني نفسه: وكفاك شاهدا على كونه أعلم: إن سلاسل العلماء من المفسرين وأهل العربية وغيرهم والعرفاء تنتهي إليه، وأن الحكماء كانوا يعظمونه غاية التعظيم، والكبراء من الصحابة كانوا يرجعون إليه فيما كان يشكل

(هامش)

(1) توضيح الدلائل - مخطوط. (2) شرح الفقه الأكبر: 113. (3) أسماء رجال المشكاة - ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام. (4) الصواقع الموبقة - مخطوط. (5) ذخيرة المآل. مخطوط. (6) حاشية الجامع الصغير: 176. (*)

ص 189

عليهم، وهو المجيب عن شبهات اليهود وظلمات النصارى، كما هو المعروف والمشهور (1). فهذه كلمات القوم في رجوع الصحابة والخلفاء إلى الإمام عليه السلام، وهذا كلام البنباني نفسه، وكفى بذلك شاهدا على خزيه وافتضاحه. دلالة الحديث على أن للمدينة بابا واحدا فقط وآخر ما قال البنباني هنا هو قوله: ثم لا أدري أي لفظ في الحديث يدل على أن ليس لمدينة العلم إلا باب واحد هو علي رضي الله عنه، بل يجوز أن يكون لها أبواب، ويكون علي كرم الله وجهه بابا وهو يدل على شدة جهله، إذ لا ريب في وجود لفظ بابها في هذا الحديث، ومن كان له أدنى شعور فهم منه وحدة الباب. وأيضا: يدل على وحدة الباب سياق الحديث بجميع ألفاظه، الدال على أن غرض النبي صلى الله عليه وآله اختصاص شرف البابية بعلي عليه السلام، كما اختص بنفسه الشريفة شرف كونه مدينة العلم... وللحديث ذيل في كثير من طرقه يزيد معنى الحديث وضوحا ويؤكده، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم فمن أراد العلم فليأت الباب وقوله: فمن أراد العلم فليأت باب المدينة وقوله: فمن أراد المدينة فليأت الباب وقوله: فمن أراد المدينة فليأتها من بابها وقوله: فمن أراد العلم فليأته من بابه وقوله: أنا مدينة العلم وأنت بابها يا علي كذب من زعم أنه يدخلها من غير بابها وقوله: أنا مدينة العلم وأنت الباب، كذب من زعم أنه يصل إلى المدينة إلا من قبل الباب ... وهذه الألفاظ وردت في طرق الحاكم، والحدثاني، والطبري، والطبراني، والحربي، وابن المغازلي، كما دريت سابقا فلا تكن من الذاهلين.

(هامش)

(1) شرح تهذيب الكلام - مبحث الإمامة. (*)

ص 190

مضافا: إلى ما سبق عن كتاب (المناقب لابن المغازلي) من أن جابر بن عبد الله الأنصاري روى الحديث قائلا: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم الحديبية - وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب -: هذا أمير البررة وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله، ثم مد بها صوته فقال: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب (1). ومن هنا: رأيت الأصحاب متفقين على هذا المعنى، احتج به الإمام على أصحاب الشورى واعترفوا به، واحتج به ابن عباس في مقابلة عائشة، وعمرو بن العاص في مقابلة معاوية... ولما رأى علماء أهل السنة ذلك: اعترفوا بهذا المعنى ولم يكن لهم مناص من ذلك: قال الكنجي: الباب الثامن والخمسون - في تخصيص علي رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: أنا مدينة العلم وعلي بابها (2). وقال محب الدين الطبري: ذكر اختصاصه بأنه باب دار العلم وباب مدينة العلم - عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا دار العلم وعلي بابها. أخرجه في المصابيح في الحسان، وأخرجه أبو عمر وقال: أنا مدينة العلم، وزاد: فمن أراد العلم فليأته من بابه (3). وقال الحسين بن محمد الفوزي في (نزهة الأرواح) في مدح الإمام: هو الذي لولاه لم يكن لمدينة العلم باب، ومعه لا حاجة لملك الدين إلى باب . وقال نظام الدين محمد بن أحمد البخاري في (ملفوظاته): ... وهو المخصوص من بين جملة الصحابة بكثرة العلم، لقول رسول الله: أنا مدينة العلم وعلي بابها، ولهذا قال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر .

(هامش)

(1) المناقب لابن المغازلي: 84. (2) كفاية الطالب: 220. (3) الرياض النضرة 2 / 159. (*)

ص 191

وقال مغلطاي بن قليج في (التلويح - شرح البخاري) على ما نقله بدر الدين العيني حيث قال: وفي التلويح: ومن خواصه - أي خواص علي رضي الله تعالى عنه - فيما ذكره أبو الثناء: إنه كان أقضى الصحابة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عن أصحابه لأجله، وأنه باب مدينة العلم، وإنه لما أراد كسر الأصنام التي في الكعبة المشرفة أصعده النبي صلى الله تعالى عليه وسلم برجليه على منكبيه، وإنه حاز سهم جبرئيل عليه الصلاة والسلام بتبوك فقيل فيه: علي حوى سهمين من غير أن غزا * غزاة تبوك حبذا سهم مسهم وأن النظر إلى وجهه عبادة، روته عائشة رضي الله تعالى عنها، وأنه أحب الخلق إلى الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أنس في حديث الطائر. وسماه النبي صلى الله عليه وسلم يعسوب الدين، وسماه أيضا زر الأرض. وقد رويت هذه اللفظة مهموزة وملينة... (1). وقال محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير في (الروضة الندية) بعد أن بين معنى حديث أنا مدينة العلم كما مر: وإذا عرفت هذا عرفت أنه قد خص الله الوصي عليه السلام بهذه الفضيلة العجيبة، ونوه شأنه إذ جعله باب أشرف ما في الكون وهو العلم، وأن منه يستمد ذلك من أراده. ثم إنه باب لأشرف العلوم وهي العلوم الدينية، ثم لأجمع خلق الله علما وهو سيد رسله صلى الله عليه وسلم. وأن هذا الشرف يتضاءل عنه كل شرف، ويطاطئ رأسه تعظيما له كل من سلف وخلف. وكما خصه الله بأنه باب مدينة العلم فاض عنه منها ما يأتيك من ذلك قريبا . فتلخص: أن دعوى عدم دلالة الحديث على اختصاص الأمير عليه السلام بالبابية... مندفعة، وأنه لا يدعيها إلا المكابر للحق، والمعاند لأهل

(هامش)

(1) عمدة القاري 16 / 215. (*)

ص 192

البيت الطاهرين، والمخالف لما عليه جميع الأصحاب وأعاظم علماء أهل مذهبه. ومع التنزل عن جميع ما ذكر نقول: من المراد من الأبواب في قول البنباني: بل يجوز أن يكون لها أبواب، ويكون علي كرم الله وجهه بابا منها ؟ وما الدليل على كونهم أبوابا؟ إن أريد من الأبواب المشايخ الثلاثة، فيكون للمدينة أربعة أبواب، فهذا ما ادعاه العاصمي وأجبنا عنه بالتفصيل. وإن أريد منهم الثلاثة وأبي ومعاذ وزيد بن ثابت وأبو عبيدة وأبو ذر... فهذا قد ادعاه العاصمي أيضا، وسبق أن أجبنا عنه في محله. وإن أريد أن جميع الأصحاب هم الأبواب لها، فهذا ما زعمه القاري، وقد أبطلناه. وإن أريد من قوله: يجوز أن يكون لها أبواب جعل أبواب تخييلية للمدينة، فإن أمير المؤمنين عليه السلام هو الباب الحقيقي لمدينة العلم، والبابية الحقيقية منحصرة في وجوده الشريف، ومن هنا قال فخر الدين ابن مكانس المصري في مدحه: يا ابن عم النبي إن أناسا * قد توالوك بالسعادة فازوا أنت للعلم في الحقيقة باب * يا إماما وما سواك مجاز (1) على أن جعل بعض الأصحاب أبوابا للمدينة - مع أنه ثبت بطلانه بوجوه غير محصورة - لا ينفع البنباني وغيره على حال من الأحوال، ومن هنا لم يتفوه به أحد قبل العاصمي، وكيف يتخيل أحد ذلك مع أنه لا مجال له في الحديث أبدا، ومن هنا ترى الوضاعين يتصرفون في الحديث ويضعون له زيادات وألفاظا ركيكة كما رأيت، ولا تجد أحدا منهم يجرأ على افتعال حديث بلفظ: أنا مدينة العلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية أبوابها، فلو جاز ذلك لوضعوه كما وضعوا الألفاظ الأخرى. ثم أنه لولا دلالة الحديث على اختصاص هذا المقام العظيم بالإمام عليه السلام لما كانت تلك المكابرات الفاضحة في مقابلة هذا الحديث المخرج في

(هامش)

(1) خزانة الأدب لابن حجة الحموي: 75. (*)

ص 193

الصحاح والمسانيد والجوامع المعتبرة الأخرى، لكنهم لما رأوا دلالته على الاختصاص المذكور المقتضي للأعلمية المستلزمة للإمامة قدحوا فيه، لأنه يهدم أساس مذهبهم ويبطل كيان خلافتهم، ألا ترى إلى ابن تيمية كيف لا يمكنه المناقشة في دلالة هذا الحديث، وأن الداعي على الطعن فيه هو نفس دلالته على الاختصاص؟! إنه يقول: والكذب يعرف من نفس متنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم ولم يكن لها إلا باب واحد ولم يبلغ عنه عنه العلم إلا واحد فسد أمر الإسلام وحينئذ يقع التنافر والتهافت بين كلام ابن تيمية وكلام يعقوب البنباني، فبكلام ابن تيمية أيضا يسقط كلام البنباني... أما كلام ابن تيمية فقد أبطلناه في موضعه، فراجع ما ذكرناه هناك إن شئت... بل إن كلام البنباني نفسه متناقض متهافت، فإن الناظر فيه لا يشك في دلالة الحديث على أن للمدينة بابا واحدا عند البنباني أيضا، وهو يعترف بأن الباب هو علي، ويعتذر للخلفاء بتقيدهم بأمر الخلافة، غاية ما في الباب إنه يزعم كونه بابا للتابعين فقط لا للصحابة - وهذا أمر آخر بينا بطلانه فيما سبق -... والحمد لله رب العالمين. * * *

ص 194

(13) مع القادري في كلامه حول الحديث

 وانتحل محمود بن محمد بن علي الشيخاني القادري كلام السمهودي في تأويل حديث مدينة العلم فقال: وروى الإمام أحمد في الفضائل والترمذي مرفوعا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها. ولهذا كان ابن عباس يقول: من أتى العلم فليأت الباب. وهو علي رضي الله عنه. وقال الترمذي عقب هذا: إنه منكر. وكذا قال شيخه البخاري. وصححه الحاكم. وأورده ابن الجوزي في الموضوعات. وقال الحافظ أبو سعيد العلائي: الصواب إنه حسن باعتبار طرقه لا صحيح ولا ضعيف، فضلا عن أن يكون موضوعا. وكذا قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في فتوى له. ولا ينافيه تفضيل أبي بكر عنه مطلقا بشهادة علي وغيره بذلك له، وشهد له بالعلم أيضا، فقد قال علي: أبو بكر أعلمهم وأفضلهم. وما اختلفوا في شيء إلا كان الحق معه، وعدم اشتهار علمه لعدم طول مدته بعد الاحتياج بموت النبي صلى الله عليه وسلم (1). وهذا عين ألفاظ السمهودي في (جواهر العقدين) انتحلها الشيخاني من غير أن يشير إلى ذلك، وأما تصرفه الطفيف في أول الكلام فلا يخرجه عن دائرة الانتحال، بل يكشف عن قلة فهمه، كما لا يخفى على من طابق بين الكلامين. وعلى كل حال، يكفي في الجواب عما قاله الشيخاني ما ذكرناه في جواب كلام السمهودي، فراجعه لتظهر لك حقيقة الحال. ثم إنه كما ذكر السمهودي - قبل كلامه المتعلق بحديث مدينة العلم وبعده - بعض الأخبار والآثار المثبتة لأعلمية الإمام عليه السلام، والكاشفة عن

(هامش)

(1) الصراط السوي - مخطوط. (*)

ص 195

جهل الشيخين، كذلك القادري ذكر تلك الآثار والأخبار، وأبطل بها مقالته حول حديث مدينة العلم من حيث لا يشعر، وهذا نص ما ذكره القادري قبل مقالته، بعد ذكر رواية حكم عمر برجم المرأة المجنونة: وفي رواية فقال عمر: لولا علي لهلك عمر. وروى بعضهم: إنه اتفق لعلي مع أبي بكر رضي الله عنهما نحو ذلك، وكان عمر يقول لعلي: لا أبقاني الله بعدك يا علي. كذا أخرجه ابن السمان. وكان عمر يقول: أقضانا علي، وكان يتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن. رواه الدارقطني. ولفظ التعوذ: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن. وكان عمر يقول: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم أبا حسن، وكان عمر لا يبعث عليا لبعوث لأخذ رأيه ومشاورته. وكان عطا يقول: والله ما علمت أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أفقه من علي. كذا أخرجه الحافظ الذهبي (1). وقال بعد مقالته: وقول عمر رضي الله عنه: علي أقضانا. رواه البخاري في صحيحه ونحوه عن جماعة من الصحابة. وللحاكم في المستدرك عن ابن مسعود قال: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي وقال: إنه صحيح، ولم يخرجاه. وأصل ذلك قصة بعثه صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه إلى اليمن قاضيا فقال: يا رسول الله بعثتني أقضي بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء!! فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: اللهم اهده وثبت لسانه. قال: فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما شككت في قضاء بين اثنين. رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح الإسناد . وقال أيضا: وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لفاطمة: أما ترضين أن زوجتك أقدم أمتي سلما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما؟!. رواه أحمد والطبراني برجال وثقوا بهم . والله يحق بكلماته، والحمد لله رب العالمين.

(هامش)

(1) الصراط السوي - مخطوط. (*)

ص 196

(14) مع عبد الحق في كلامه حول الحديث

 وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في تأويل حديث: أنا دار الحكمة ما نصه: قوله: أنا دار الحكمة وعلي بابها. قيل: لا شك أن العلم قد جاء منه صلى الله عليه وسلم من قبل باقي الصحابة، وليس بمنحصر في علي المرتضى رضي الله عنه، فلا بد أن يكونوا أبواب العلم، لكن لا بد للتخصيص من وجه، بأن يكون متميزا من سائر الأبواب بالسعة والفتح والعظمة ونحوها، والله أعلم (1). أقول: وما ذكره مردود من وجوه: أحدها: دعوى مجئ العلم من قبل باقي الصحابة باطلة بالضرورة، فقد كان في الصحابة من لا حظ له من العلم ولا كلمة، وعليك بمراجعة أسامي الصحابة في (الإستيعاب) و(أسد الغابة) و(الإصابة) وأمثالها ليتضح لك واقع الأمر. والثاني: إنه لا يكفي نقل شيء من العلم عن رجل لأن يكون بابا للعلم، لما قررنا بالتفصيل من أن باب مدينة العلم محيط بجميع علم المدينة، وتحقق هذه المرتبة لجميع أفراد الأصحاب من المستحيلات. والثالث: إنه ليس كل ما نقل عن كل صحابي بعلم، فبعض ما يرويه أهل السنة عن الصحابة وأودعوه في أسفارهم وجوامعهم ليس بعلم، فإن كثيرا من الأشياء المنقولة عندهم تكذبها الآيات القرآنية وأحاديث أهل بيت العصمة عليهم السلام بصراحة، ومن الواضح أن نقلة هكذا أشياء لا يعدون علماء ولا

(هامش)

(1) اللمعات في شرح المشكاة - باب مناقب علي. (*)

ص 197

يكونون أبوابا للعلوم. بل كان فيهم أشخاص معروفون بالكذب والاختلاق كأبي هريرة وأمثاله، ومنافاة الكذب والافتراء على رسول الله صلى الله عليه وآله لبابية مدينة العلم، وبعد المتصف بهذه الصفة عن مدينة العلم في غاية الوضوح. والرابع: إن الصحابة كلهم - كما صرح به العجيلي في (ذخيرة المآل) - كانوا يسألون الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ويرجعون إليه في القضايا والأحكام، ولا سيما الثلاثة منهم، فإن رجوعهم إليه في نهاية الشهرة والتواتر، فكيف يكونون أبوابا لمدينة العلم كما هو سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام؟! بل إن بعضهم اشتهر - على العكس من ذلك - بالجهالات الفاضحة حتى ضرب به المثل، فالقول بأن العلم قد جاء منه صلى الله عليه وآله من قبل باقي الصحابة مكابرة واضحة. والخامس: إن كثيرا من الصحابة كانت لهم مطاعن عظيمة ومعائب بادية - كما فصل في (تشييد المطاعن) - خرجوا بها عن العدالة، بل لقد صدرت من بعضهم أعمال شنيعة خرجوا بها عن الإسلام - كما فصل في كتب الأصحاب لا سيما (تشييد المطاعن) - وحينئذ كيف يكون باقي الصحابة كلهم أبواب العلم. السادس: لقد كان في الصحابة أناس كثيرون يعادون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويعاندونه، وكان فيهم جميع كثير يبغضون أمير المؤمنين عليه السلام... فهل يجوز العاقل أن يكونوا أبواب العلم؟! دعوى أن وجه التخصيص تميزه بالسعة فظهر أن غير الإمام عليه السلام ليس بابا لمدينة العلم، فلا وجه لقول عبد الحق بعدئذ: لكن لا بد للتخصيص من وجه بأن يكون متميزا من سائر الأبواب بالسعة والفتح والعظمة ونحوها لكن قائله بعد أن فرض كون باقي الصحابة أبوابا لما لم يجد في الحديث ذكرا لغير الإمام عليه السلام استدرك قائلا ذلك، لكنه

ص 198

غير نافع له أبدا، لأن كلمات أهل السنة الصريحة في اختصاص هذا الشرف العظيم والمقام الجليل بسيدنا أمير المؤمنين عليه السلام ترده وتبطله، بل اعترف بذلك أكابر الأصحاب من الموالين والمخالفين لأمير المؤمنين، بالإضافة إلى احتجاج الإمام نفسه بهذا الاختصاص. ولو سلمنا كلام القائل هذا، فإن التميز الذي ذكره هو دليل الأعلمية، والأعلمية دليل الخلافة، فبطلت خلافة المتقدمين عليه. فظهر من ههنا أن صاحب القيل في هذا التوجيه والتأويل لا يحصل إلا على ما يورث له التعبير والتخجيل، ويجعل كيده في تضليل. فهذا جواب ما ذكره عبد الحق الدهلوي عن قائل لم يصرح باسمه. ثم قال عبد الحق الدهلوي بعد كلام له: ولكن لا يقتضي ذلك الحصر في هذا الباب، وهذا باب خاص ومخصوص بدخول العلم، فقد جاء أقضاكم علي، ولكل من الخيرات والمبرات والأنوار والأسماء التي أشرقت وظهرت من شمس النبوة لها مظاهر ومجالي متعددة، بل لا تعد ولا تحصى: فإنه شمس فضل هم كواكبها * يظهرن أنوارها للناس في الظلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. وفي الحقيقة لمسألة الفضيلة وجوه وحيثيات، وهذا هو المخلص والمسلك في هذا الباب، والله أعلم بالحق والصواب، وإليه المرجع والمآب . وهو أيضا مردود من وجوه: أحدها: قد عرفت مرارا أن حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها يقتضي ذلك الحصر، وأن بعض رواياته صريح في ذلك، مع اعتراف الصحابة به سواء كانوا من الموالين المؤالفين أو من المعاندين المخالفين. والثاني: قوله: وهذا باب خاص ومخصوص بدخول العلم فقد جاء أقضاكم علي من غرائب الكلام، لأنه إن أراد - كما هو ظاهر العبارة - أن هذا الباب - يعني الإمام عليه السلام - خاص ومخصوص بدخول العلم منه إلى

ص 199

المدينة، فبطلانه ظاهر جدا، وإن أراد أن الإمام عليه السلام خاص ومخصوص بدخول مدينة العلم لأخذ العلم، أي إن من أراد الدخول إلى مدينة العلم فلا بد أن يدخل من هذا الباب الخاص المخصوص. فهذا حق وصدق، لكن عبارته قاصرة عن أداء هذا المعنى، وهو حينئذ يبطل ما ذكره سابقا عن قائل مجهول، وكذا قوله هنا: ولكن لا يقتضي ذلك الحصر، اللهم إلا أن يقول بأن كل واحد من الأصحاب باب في صفة من الصفات، فأبو بكر في الرأفة، وعمر في الشدة... وإلى هذا الوجه يوحي استدلاله بقوله صلى الله عليه وآله: أقضاكم علي فيبطله وجوه: 1 - إن عبارته قاصرة عن أداء هذا المعنى. 2 - إن كون كل واحد من الأصحاب بابا في صفة من الصفات... ذكره العاصمي إستنادا إلى حديث موضوع، وقد تكلمنا عليه سابقا بالتفصيل، فراجع إن شئت. 3 - إن كون الإمام عليه السلام أقضى الأصحاب يستلزم كونه بابا لمدينة العلم في جميع علومها، وسيأتي مزيد بيان لهذا إن شاء الله تعالى. لا مظاهر لصفات النبوة إلا أهل البيت الثالث: وقوله: ولكل من الخيرات والمبرات والأنوار والأسرار التي أشرقت من شمس النبوة لها مظاهر ومجالي متعددة بل لا تعد ولا تحصى زعم فاسد، لأن مظاهر ومجالي ذلك كله هم أهل البيت المعصومون، لأنهم المخلوقون من نوره وطينته صلى الله عليه وآله كما تحقق في (قسم حديث النور) من (كتابنا)... ولو كان وراءهم من الأصحاب أحد له الأهلية لهذه المنزلة فهم أشخاص معدودون، فقوله: لا تعد ولا تحصى ساقط... على أن من حصل على ذلك فبواسطة أهل البيت عليهم السلام حصل، قال أمير المؤمنين عليه السلام: نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب ولا تؤتى البيوت إلا من

ص 200

أبوابها ... فهم أفضل من هؤلاء الأصحاب المعدودين قطعا. العلم أجل الصفات والرابع: إن العلم أجل الصفات وأعلاها، فمن كان مظهر العلم ومجلاه فهو أفضل من غيره الذي هو مظهر صفة من الصفات الأخرى، وهذا في غاية الوضوح. ثم إنه إن أراد عبد الحق: أن لكل واحد من الخيرات والمبرات والأنوار والأسرار مظاهر ومجالي متعددة بل لا تعد ولا تحصى، فلا يرتاب عاقل في بطلانه، إذ لم يتحقق لواحد من الأنوار والأسرار مظاهر ومجالي لا تعد ولا تحصى، فكيف بكل واحد واحد منها؟! نعم لما كان أهل بيته جميعا مظاهر ومجالي الخيرات والمبرات والأنوار والأسرار، وكانوا متعددين، أمكن إثبات المظاهر والمجالي لكل واحد واحد من الخيرات والمبرات... وإن أراد: أن لمجموع الخيرات والمبرات... من حيث المجموع مظاهر ومجالي لا تعد ولا تحصى... فهذا أقل شناعة من الفرض الأول، لكنه باطل كذلك قطعا، إلا أهل بيت الأطهار عليهم الصلاة والسلام، الذين لم يختلفوا عنه لا خلقا ولا خلقا... بالأدلة المتكاثرة من الكتاب والسنة المتواترة... والخامس: الشعر الذي استشهد به هو من أبيات البردة البوصيرية والمراد من الضمير في فإنه هو النبي صلى الله عليه وآله، وفي هم كواكبها هم الأنبياء عليهم السلام: قال الشيخ خالد الأزهري بشرحه: وكل آي أتى الرسل الكرام بها * فإنما اتصلت من نوره بهم فإنه شمس فضل هم كواكبها * يظهرن أنوارها للناس في الظلم (اللغة) أي جمع آية بمعنى علامة، وأتى أي جاء، والرسل جمع رسول وهو إنسان أوحي إليه بالعمل والتبليغ، والكرام جمع كريم، والاتصال ضد الانقطاع

ص 201

والنور ضد الظلام. (والإعراب) وكل مبتدأ، آي بمد الهمزة مضاف إليه، أتى فعل ماض، الرسل فاعل، الكرام نعت الرسل، بها متعلق بأتى، فإنما حرف حصر، إتصلت فعل ماض وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على آي، من نوره بهم متعلقان بإتصلت، فإنه شمس، إن واسمها وخبرها فضل مضاف إليه، هم كواكبها مبتدأ وخبر والضمير المضاف إليه الشمس، يظهرن بضم الياء التحتية وكسر الهاء فعل مضارع وفاعل والنون ضمير الكواكب، أنوارها مفعول يظهرن والضمير المضاف إليه للشمس، للناس في الظلم متعلقان بيظهرن. (ومعنى البيتين) أي جميع الآيات التي جاءت بها المرسلون إنما اتصلت بهم من نور النبي صلى الله عليه وسلم، لأن خلق نوره سابق عليهم، وهو صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى الفضل والشرف كالشمس والمرسلون كالكواكب، ونور الكواكب مستفاد من نور الشمس، فإن الكواكب تظهر أنوار الشمس للناس في الظلام، فإذا أظهرت الشمس لا يبقى للكواكب نور يرى بل تستتر عن العيون . وقال الشيخ إبراهيم الباجوري: قوله: وكل آي أتى الرسل إلخ. أي: وكل المعجزات التي أتى بها الرسل الكرام لأممهم فلم تتصل بهم إلا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، أو من نوره الذي هو أصل الأشياء كلها، فالسماوات والأرض من نوره، والجنة والنار من نوره، ومعجزات الأنبياء من نوره، وهكذا. فالآي بمعنى المعجزات جمع آية بمعنى المعجزة والرسل بسكون السين ويقال في غير النظم رسل بضمها جمع رسول، والكرام جمع كريم. وقوله بها متعلق بأتى والضمير راجع للآي، وإنما للحصر، والمراد بنوره معجزاته وسميت نورا لأنه يهتدى بها، ويصح حمله على النور المحمدي الذي هو أصل المخلوقات كلها، كما حمله عليه بعض الشارحين. ومن للابتداء والباء للالصاق. لا يقال: كيف تكون المعجزات التي أتى بها الرسل الكرام لأممهم من نوره صلى الله عليه وسلم، مع أنهم متقدمون عليه في الوجود؟ لأنا نقول: هو صلى الله

ص 202

عليه وسلم متقدم على جميع الأنبياء من حيث النور المحمدي. (قوله فإنه شمس فضل إلخ) هذا البيت تعليل للبيت قبله والمعنى على التشبيه أي: فإنه كالشمس في الفضل وقوله هم كواكبها أي الرسل كواكب الشمس والمعنى على تشبيه أيضا أي مثل كواكبها. ووجه التشبيه فيهما: إن الشمس جرم مضئ بذاته والكواكب أجرام غير مضيئة بذاتها لكنها صقيلة تقبل الضوء، فإذا كانت الشمس تحت الأرض فاض نورها من جوانبها فيطلب الصعود، لأن النور يطلب مركز العلو فيصادف أجرام الكواكب الصقيلة المقابلة له، فيرتسم فيها فتضئ في الظلمات وتظهر أنوار الشمس فيها للناس من غير أن ينقص من نور الشمس شيء. فنوره صلى الله عليه وسلم لذاته ونور سائر الأنبياء ممتد من نوره من غير أن ينقص من نوره شيء، فيظهرون ذلك النور في الكفر الشبيه بالظلم فلذلك قال المصنف: يظهرن أنوارها للناس في الظلم. وكما أن الشمس إذا بدت لم يبق أثر للكواكب، فكذلك شريعته صلى الله عليه وسلم لما بدت نسخت غيرها من سار الشرائع، كما يشير لذلك قوله في بعض النسخ: حتى إذا طلعت في الأفق عم هذا * ها العالمين وأحيت سائر الأمم وظاهر هذا البيت أنه صلى الله عليه وسلم مرسل للأمم السابقة لكن بواسطة الرسل، فهم نواب عنه صلى الله عليه وسلم، وبهذا قال الشيخ السبكي ومن تبعه أخذا ممن قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه) والذي عليه الجمهور: إنه صلى الله عليه وسلم مرسل لهذا الأمة دون الأمم السابقة، فالمسألة خلافية، والحق الأول . حديث النجوم موضوع وأما استدلاله بحديث أصحابي كالنجوم فلا يخفى على ذوي العلم ما فيه، لأنه حديث موضوع مختلق، كما ذكرنا في جواب الأعور فيما سبق، على أنه

ص 203

- إن صح - يدل على صدق الأصحاب في النقل والرواية كما ذكر المزني، وأين هذا عن كونهم مجالي ومظاهر الكمالات النبوية؟ هذا كله مع الغض عن اتصاف كثير من الأصحاب بمساوئ ومطاعن تتنافى وهذا المقام العظيم والمنزلة الرفيعة. وأما قوله: وفي الحقيقة... فكلام بارد، فإن حديث مدينة العلم يدل على حصر الأفضلية في الإمام عليه السلام، فلا ربط لما ذكره بالبحث... ولو فرض أن مراده من الفضيلة هو الأفضلية ففيه: إن محط الكلام هو الأفضلية المطلقة، لا الأفضلية من جهة من الجهات... فأين المخلص والمسلك !!... * * *

ص 204

(15) مع ولي الله في كلامه حول الحديث

 وقال شاه ولي الله الدهلوي ما معربه: لقد شاء الله تعالى أن ينتشر دينه في الآفاق بواسطة نبيه، وذلك ما كان يمكن إلا بسبب العلماء والقراء الذين أخذوا القرآن عنه صلى الله عليه وسلم، فأجرى الله على لسانه صلى الله عليه وسلم فضائل جماعة من الصحابة ترغيبا في أخذ العلم والقرآن منهم، فكانت تلك الفضائل بمنزلة الإجازات المتداولة بين المحدثين وتلامذتهم، ليعرف الأقوال بالرجال من لا يمكنه معرفة الرجال بالأقوال، وأن جميع علماء الصحابة مشتركون في هذه الفضائل كما يظهر من كتب الحديث، ومن هذا الباب: أنا مدينة العلم وعلي بابها، وأقرؤكم أبي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ (1). وهذا الكلام مخدوش بوجوه: أحدها: إن انتشار دين الله تعالى ممكن بواسطة خليفة النبي المنصوص عليه من قبل الله ورسوله، المعصوم والأفضل من جميع الخلائق، بل تحقق ذلك بواسطته أتم وأحسن من تحققه بواسطة العلماء وقراء القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والثاني: لو لم ينصب الخليفة المتصف بالصفات المذكورة لأجل رواية القرآن عن النبي صلى الله عليه وآله، فلا بد من بلوغ الرواة عنه حد التواتر وإن لم يكونوا من العدول، لا أن يكونوا رواة معدودين... وإن الأفراد الذين ذكرهم ولي الله رواة للقرآن عنه صلى الله عليه وآله لا يبلغون حد التواتر كما هو واضح... وقد نص على اشتراط بلوغ الحد المذكور ابن تيمية الحراني - الذي

(هامش)

(1) قرة العينين: 112. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الثاني عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب