ص 105
قوله: الحديث الرابع ما رواه أنس: إنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم طائر قد
طبخ له أو أهدي إليه، فقال: اللهم ائتني بأحب الناس إليك يأكل معي من هذا الطير.
فجاءه علي . تصرفات (الدهلوي) في الحديث وتلبيساته لدى نقله أقول: (للدهلوي) هنا
تسويلات وتعسفات نشير إليها: (1) من الواضح جدا أن علماء الإمامية، كالشيخ المفيد،
وابن شهر آشوب وأمثالهما، يثبتون تواتر هذا الحديث، ولهم في ذلك بيانات وتقريرات.
فكان على (الدهلوي) أن يشير إلى تواتر هذا الحديث - ولو عن الإمامية، ولو مع تعقيبه
بالرد - لكن إعراضه عن ذكر ذلك ليس إلا لتخديع عوام أهل نحلته، كيلا يخطر ببال أحد
منهم، ولا يطرق آذانهم تواتر هذا الحديث، حتى نقلا عن الإمامية.
ص 106
لكن ثبوت تواتره - حسب إفادات أئمة أهل السنة - بل قطعية صدوره ومساواته للآية
القرآنية في القطعية - حسب إفادة (الدهلوي) نفسه، كما عرفت ذلك كله - يكشف النقاب
عن تسويل (الدهلوي) وتلبيسه... والله يحق الحق بكلماته. (2) إن قوله: ما رواه أنس
تخديع وتلبيس آخر، إنه يريد - لفرط عناده وتعصبه - إيهام أن رواية هذا الحديث
منحصرة في أنس بن مالك، وأنه لم يرو عن غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن قد عرفت أن رواة هذا الحديث يروونه عن عدة من الصحابة عن الرسول الكريم صلى
الله عليه وآله وسلم، وهم: 1 - أمير المؤمنين عليه السلام. 2 - أنس بن مالك. 3 -
عبد الله بن العباس. 4 - أبو سعيد الخدري. 5 - سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم 6 - سعد بن أبي وقاص. 7 - عمرو بن العاص. 8 - أبو الطفيل عامر بن واثلة.
9 - يعلى بن مرة. ولا يتوهم: لعل (الدهلوي) إنما نسبه إلى أنس بن مالك فحسب،
لانتهاء طرق أكثر الروايات إليه، وليس مراده حصر روايته فيه. لأن صريح عبارته في
فتواه المنقولة سابقا أن مدار حديث الطير بجميع طرقه ووجوهه على أنس بن مالك
فحسب... (3) إنه بالإضافة إلى ما تقدم كتم كثرة طرق هذا الحديث ووجوهه عن أنس.
ص 107
(4) إنه - بالإضافة إلى كل ما ذكر - لم يذكر لفظا كاملا من ألفاظ الخبر عن أنس بن
مالك، المتقدمة في أسانيد الحديث. (5) إنه قد ارتكب القطع والتغيير في نفس هذا
اللفظ الذي ذكره... بحيث أنا لم نجد في كتاب من كتب الفريقين رواية حديث الطير بهذا
اللفظ... بل إن لفظه لا يطابق حتى لفظ الكابلي المنتحل منه كتابه... وهذه عبارة
الكابلي كاملة: الرابع: ما رواه أنس بن مالك: إنه كان عند النبي صلى الله عليه
وسلم طائر قد طبخ له فقال: اللهم ائتني بأحب الناس إليك يأكل معي. فجاء علي، فأكله
معه. وهو باطل، لأن الخبر موضوع، قال الشيخ العلامة إمام أهل الحديث شمس الدين أبو
عبد الله محمد بن أحمد الدمشقي الذهبي في تلخيصه: لقد كنت زمنا طويلا أظن أن حديث
الطير لم يحسن الحاكم أن يودعه في مستدركه، فلما علقت هذا الكتاب رأيت القول من
الموضوعات التي فيه. وممن صرح بوضعه الحافظ شمس الدين الجزري. ولأنه ليس بناص على
المدعى، فإن أحب الخلق إلى الله تعالى لا يجب أن يكون صاحب الزعامة الكبرى كأكثر
الرسل والأنبياء. ولأنه يحتمل أن يكون الخلفاء غير حاضرين في المدينة حينئذ،
والكلام يشمل الحاضرين فيها دون غيرهم، ودون إثبات حضورهم خرط قتاد هوبر. ولأنه
يحتمل أن يكون المراد بمن هو من أحب الناس إليك كما في قولهم فلان أعقل الناس
وأفضلهم. أي من أعقل وأفضلهم. ولأنه اختلف الروايات في الطير المشوي، ففي رواية هو
النحام، وفي رواية إنه الحباري، وفي أخرى إنه الحجل. ولأنه لا يقاوم الأخبار الصحاح
لو فرضت دلالته على المدعى . فقد أضاف (الدهلوي) جملة أو أهدي إليه . ونقص جملة
فأكله معه
ص 108
بتغيير فجاء علي إلى فجاءه علي . ثم إن (الدهلوي) وضع - تبعا للكابلي - كلمة
أحب الناس في مكان أحب الخلق ... فلماذا هذا التبديل والتغيير منهما؟ والحال
أنه لم يرد لفظ أحب الناس في طريق من طرق حديث الطير، لا عند السابقين ولا
اللاحقين... من أهل السنة... وتلك ألفاظهم قد تقدمت في قسم السند... كما لا تجده في
لفظ من ألفاظ الإمامية في شيء من موارد استدلالهم بحديث الطير على إمامة أمير
المؤمنين عليه السلام وخلافته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! ولعمري، إن
مثل هذه التبديلات والتصرفات والتحريفات، لا يليق بمثل (الدهلوي) عمدة الكبار، بل
هو دأب المحرفين الأغمار، وديدن المسولين الأشرار... والله الصائن الواقي عن
العثار. اختلاف الروايات في الطير غير قادح في الحديث قوله: واختلفت الروايات في
الطير المشوي، ففي رواية إنه النحام، وفي رواية إنه حبارى، وفي رواية إنه حجل .
أقول: لا أدري ماذا يقصد (الدهلوي) من ذكر اختلاف الروايات في الطير المشوي!! إن
أراد أن ذلك موجود في كلمات علماء الإمامية، فهو محض الكذب والإفتراء. وإن أراد
إفهام كثرة تتبعه في الحديث وإحاطته بألفاظ هذا الحديث بالخصوص، فهذا يفتح عليه باب
اللوم والتعيير، لأن معنى ذلك أنه قد وقف على الطرق الكثيرة والألفاظ العديدة لهذا
الحديث، ثم أعرض عن
ص 109
جميعها، عنادا للحق وأهله. وإن كان ذكر هذا الإختلاف عبثا، فهذا يخالف شأنه، لا
سيما في هذا الكتاب الموضوع على الاختصار والإيجاز، كما يدعي أولياؤه. لكن الحقيقة،
إنه قد أخذ هذا المطلب من الكابلي، كغيره مما جاء به، فقد عرفت قول الكابلي:
ولأنه اختلفت الروايات في الطير المشوي، ففي رواية هو النحام، وفي رواية إنه
الحبارى، وفي أخرى إنه الحجل . غير أن الكابلي ذكر هذا الاختلاف في وجوه الإبطال
بزعمه، وكأن (الدهلوي) استحيى من أن يورده في ذاك المقام، وإن لم يمكنه كف نفسه
فيعرض عنه رأسا. مجرد اختلاف الأخبار لا يجوز تكذيب أصل الخبر وعلى كل حال، فإن
الإستناد إلى إختلاف الروايات في الطير المشوي ، لأجل القدح والطعن في أصل
الحديث، جهل بطريقة علماء الحديث أو تجاهل عنها، فإنهم في مثل هذا المورد لا يكذبون
الحديث من أصله، ولا ينفون الواقعة التي أخبرت عنها تلك الأخبار، بل إنهم يجمعون
بينها بطرق شتى، منها الحمل على تعدد الواقعة... هذا الطريق الذي على أساسه الجمع
بين الروايات المختلفة في واقعة حديث الطير... ولا بأس بذكر بعض موارد الجمع على
هذا الطريق في كتب الحديث: قال الحافظ ابن حجر - بعد ذكر الأحاديث المختلفة في رمي
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجوه الكفار يوم حنين، حيث جاء في بعضها: أنه رماهم
بالحصى، وفي آخر: بالتراب، وفي ثالث: أنه نزل عن بغلته وتناول بنفسه، وفي رابع: أنه
طلب الحصى أو التراب من غيره. واختلفت في المناول، ففي بعضها: إنه ابن مسعود، وفي
آخر: إنه أمير المؤمنين علي عليه
ص 110
السلام - قال ابن حجر: ويجمع بين هذه الأحاديث: إنه صلى الله عليه وسلم أولا قال
لصاحبه: ناولني، فناوله، فرماهم. ثم نزل عن البغلة فأخذه بيده فرماهم أيضا، فيحتمل:
أنه الحصى في إحدى المرتين، وفي الأخرى التراب. والله أعلم (1). وقال الحافظ ابن
حجر بشرح قول البراء بن عازب: وأبو سفيان بن الحارث آخذ برأس بغلته البيضاء ،
وهو الحديث الثاني في باب غزوة حنين عند البخاري: وفي حديث العباس عند مسلم: شهدت
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث، فلم
نفارقه. الحديث. وفيه: ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم
يركض بغلته قبل الكفار. قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه
وسلم أكفها أرادة أن لا يسرع، وأبو سفيان آخذ بركابه . قال ابن حجر: ويمكن
الجمع: بأن أبا سفيان أخذ أولا بزمامها، فلما ركضها النبي صلى الله عليه وسلم إلى
جهة المشركين خشي العباس، فأخذ بلجام البغلة يكفها، وأخذ أبو سفيان بالركاب وترك
اللجام للعباس إجلالا له، لأنه كان عمه (2). وقال شهاب الدين القسطلاني (3) بشرح
قول البراء: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وهو
الحديث الرابع في باب غزوة حنين عند البخاري. قال: عند مسلم من حديث سلمة: على
بغلته الشهباء. وعند ابن
(هامش)
(1) فتح الباري - شرح صحيح البخاري 8 / 26. (2) فتح الباري - شرح صحيح البخاري 8 /
24. (3) وهو: أحمد بن محمد، المتوفى سنة: 923، الضوء اللامع 2 / 103. (*)
ص 111
سعد ومن تبعه: على بغلته دلدل. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لأن دلدل أهداها له
المقوقس، يعني لأنه ثبت في صحيح مسلم من حديث العباس: وكان على بغلة له بيضاء
أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي. قال القطب الحلبي: فيحتمل أن يكون يومئذ ركب كلا
من البغلتين إن ثبت أنها كانت صحبته، وإلا فما في الصحيح أصح (1). وقال الشامي
(2): السابع - البغلة البيضاء. وفي مسلم عن سلمة بن الأكوع: الشهباء التي كان
عليها يومئذ أهداها له فروة - بفتح الفاء وسكون الراء وفتح الواو وبالتاء - ابن
نفاثة - بنون مضمومة ففاء مخففة فألف فثاء مثلثة. ووقع في بعض الروايات عند مسلم
فروة بن نعامة - بالعين والميم - والصحيح المعروف الأول. ووقع عند ابن سعد وتبعه
جماعة ممن ألف في المغازي: إنه صلى الله عليه وسلم كان على بغلته دلدل. وفيه نظر،
لأن دلدل أهداها له المقوقس. قال القطب: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
ركب يومئذ كلا من البغلتين، وإلا فما في الصحيح أصح (3). وقال القسطلاني: حدثني
بالإفراد عمرو بن علي - بفتح العين وسكون الميم - ابن بحر أبو حفص الباهلي البصري
الصيرفي قال: حدثنا أبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد قال: حدثنا سفيان الثوري قال:
حدثنا أبو صخرة جامع بن شداد - بالمعجمة وتشديد الدال المهملة الأولى - المحاربي
قال: حدثنا صفوان بن محرز - بضم الميم وسكون الحاء المهملة وكسر الراء بعدها زاء -
المازني: قال: حدثنا عمران بن حصين قال:
(هامش)
(1) إرشاد الساري - شرح صحيح البخاري 6 / 403. (2) محمد بن يوسف الصالحي: المتوفى
سنة: 942، شذرات الذهب 8 / 250، كشف الظنون 2 / 978. (3) سبل الهدى والرشاد في سيرة
خير العباد 5 / 349. (*)
ص 112
جاء بنو تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: أبشروا - بهمزة قطع -
بالجنة يا بني تميم قالوا: أما إذا بشرتنا فأعطنا من المال، فتغير وجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فجاء ناس من أهل اليمن - وهم الأشعريون - فقال النبي صلى الله
عليه وسلم لهم: إقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم... قالوا: قد
قبلناها يا رسول الله. كذا ورد هذا الحديث هنا مختصرا، وسبق تاما في بدء الخلق،
ومراده منه هنا قوله: فجاء ناس من أهل اليمن. قال في الفتح: واستشكل بأن قدوم وفد
بني تميم كان سنة تسع، وقدوم الأشعريين كان قبل ذلك عقب فتح خيبر سنة سبع. وأجيب:
باحتمال أن يكون طائفة من الأشعريين قدموا بعد ذلك (1). وقال القسطلاني: حدثني
بالإفراد ولأبي ذر حدثنا محمد بن العلاء بن كريب الهمداني الكوفي قال: حدثنا أبو
أسامة حماد بن أسامة، عن بريد بن عبد الله - بضم الموحدة وفتح الراء - ابن أبي بردة
- بضم الموحدة وسكون الراء - عن جده أبي بردة عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس
الأشعري رضي الله عنه أنه قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أسأله الحملان لهم - بضم الحاء المهملة وسكون الميم - أي ما يركبون عليه ويحملهم،
إذ هم معه في جيش العسرة وهي غزوة تبوك. فقلت: يا نبي الله، إن أصحابي أرسلوني إليك
لتحملهم فقال: والله لا أحملكم على شيء، ووافقته، أي صادفته وهو غضبان ولا أشعر، أي
والحال أني لم أكن أعلم غضبه، ورجعت إلى أصحابي حال كوني حزينا من منع النبي صلى
الله عليه وسلم أن يحملنا، ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وجد في
نفسه، أي غضب علي، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم.
(هامش)
(1) إرشاد الساري - شرح صحيح البخاري 6 / 439. (*)
ص 113
فلم ألبث - بفتح الهمزة والموحدة بينهما لام ساكنة. آخره مثلثة - إلا سويعة، - بضم
السين المهملة وفتح الواو مصغر ساعة - وهي جزء من الزمان، أو من أربعة وعشرين جزء
من اليوم والليلة، إذ سمعت بلالا ينادي، أي عبد الله بن قيس، يعني يا عبد الله،
ولأبي ذر ابن عبد الله بن قيس: فأجبته. فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم
يدعوك، فلما أتيته قال: خذ هذين القرينين وهاتين القرينتين. أي: الناقتين. لستة
أبعرة. لعله قال: هذين القرينين - ثلاثا - فذكر الراوي مرتين اختصارا. لكن قوله في
الرواية الأخرى: فأمر لنا بخمس ذود. مخالف لما هنا. فيحمل على التعدد، أو يكون
زادهم واحدا على الخمس، والعدد لا ينفي الزائد (1). فالعجب من الكابلي المتتبع
النظار، كيف عرض الحديث للقدح والإنكار بمجرد اختلاف الروايات في الطير المشوي، ولم
يقف على دأب خدام الحديث النبوي، حيث أنهم حملوا اختلاف كثير من الأحاديث على تعدد
الواقعة، وجعلوه حجة نافية للشبهات قاطعة، فليت شعري هل يقف الكابلي عن مقالته
السمجة الشنيعة، ويتوب عن هفوته الغثة الفظيعة، أم يصر على ذنبه ويدع النصفة في
جنبه، فيبطل شطرا عظيما من الروايات والأخبار، ويعاند جمعا كثيرا من العلماء
والأحبار. بطلان دعوى حكم أكثر المحدثين بوضع الحديث قوله: وهذا الحديث قال أكثر
المحدثين بأنه موضوع .
(هامش)
(1) إرشاد الساري - شرح صحيح البخاري 6 / 450. (*)
ص 114
أقول: هذا كذب مبين وتقول مهين... فقد عرفت أن رواة هذا الحديث ومخرجيه في كل قرن
يبلغون في الكثرة حدا لا يبقى معه شك في تواتره وقطعية صدوره ووقوعه... وأيضا... قد
عرفت أن حديث الطير مخرج في صحيح الترمذي الذي هو أحد الصحاح الستة التي ادعى جمع
من أكابرهم إجماع السابقين واللاحقين على صحة الأحاديث المخرجة فيها... فيكون هذا
الحديث صحيحا لدى جميع العلماء الأعلام بل الأمة قاطبة... فهل تصدق هذه الدعوى من
(الدهلوي)؟ وهل من الجائز جهله برواية هؤلاء الذين ذكرناهم وغيرهم لحديث الطير، وهو
يدعي الإمامة والتبحر في الحديث؟ لكن هذا القول من (الدهلوي) ليس إلا تخديعا
للعوام، وإلا فإنه لم ينسب القول بوضع هذا الحديث إلا إلى الجزري والذهبي!! فياليته
ذكر أسامي طائفة من أكثر المحدثين القائلين بوضع حديث الطير!! بل الحقيقة، إنه
لا يملك إلا ما قاله وتقوله الكابلي... وقد عرفت أن الكابلي لم يعز هذه الفرية إلا
إلى الرجلين المذكورين فقط. لكن لماذا زاد عليه دعوى حكم أكثر المحدثين بذلك؟ وسواء
كان القول بالوضع لهذين الرجلين فحسب أو لأكثر أو أقل منهما فإنه قول من أعمته
العصبية العمياء، وتغلب عليه العناد والشقاء، فخبط في الظلماء وعمه في الطخية
الطخياء، وبالغ في الإعتداء وصرم حبل الحياء.
ص 115
حول نسبة القول بوضعه إلى الجزري قوله: وممن صرح بوضعه الحافظ شمس الدين الجزري
. أقول: في أي كتاب قال ذلك؟ أولا: في أي كتاب وأي مقام صرح الجزري بوضع الحديث
الطير؟ لم يفصح (الدهلوي) عن ذلك كي نراجع ونطابق بين الحكاية والعبارة. ولكن أنى
له ذلك وأين؟! فإن إمامه الكابلي أيضا قد أغفل وأجمل، وكل ما عند (الدهلوي) فمأخوذ
منه ومن أمثاله... كذب (الدهلوي) في نسبة القول بوضع حديث المدينة إليه وثانيا: لقد
عزا الكابلي القول بوضع حديث أنا مدينة العلم إلى الجزري، وقلده (الدهلوي) في
ذلك... مع أن الجزري روى حديث المدينة بسنده، ولم يحكم بوضعه بل نقل عن الحاكم
تصحيحه... وهذه عبارته: أخبرنا الحسن بن أحمد بن هلال - قراءة عليه - عن علي بن
أحمد بن عبد الواحد، أخبرنا أحمد بن محمد بن محمد - في كتابه من إصبهان - أخبرنا
الحسن بن أحمد بن الحسين المقري، أخبرنا أحمد بن عبد الله بن أحمد الحافظ، أخبرنا
أبو أحمد محمد بن أحمد الجرجاني، أخبرنا الحسن بن سفيان، أخبرنا عبد الحميد بن بحر،
أخبرنا شريك، عن سلمة بن كهيل، عن الصنابحي، عن علي - رضي الله عنه - قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: أنا دار الحكمة وعلي بابها.
ص 116
رواه الترمذي في جامعه عن إسماعيل بن موسى، حدثنا محمد بن رومي، حدثنا شريك، عن
سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحي، عن علي وقال: حديث غريب. وروى بعضهم
عن شريك ولم يذكروا فيه عن الصنابحي. قال: لا يعرف هذا الحديث عن واحد من الثقات
غير شريك، وفي الباب عن ابن عباس. إنتهى. قلت: ورواه بعضهم عن شريك، عن سلمة ولم
يذكر فيه عن سويد. ورواه الأصبغ بن نباتة، والحارث، عن علي نحوه. ورواه الحاكم من
طريق المجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: أنا مدينة العلم وعلي
بابها فمن أراد العلم فليأتها من بابها. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ورواه أيضا من حديث جابر بن عبد الله ولفظه: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد
العلم فليأت الباب (1). أقول: فمن يرى النسبة بلا تعيين للكتاب ولا نقل لنص
العبارة والكلام - ثم يرى كذب نسبة القول بالوضع في حديث أنا مدينة العلم - يقطع
بكذب النسبة في حديث الطير. لو قال ذلك فلا قيمة له وثالثا: ولو فرضنا جدلا وسلمنا
صدور مثل هذه الهفوة من الجزري، فلا ريب في أنه لا يعبأ ولا يعتنى به، في قبال
تصريحات أساطين الأئمة المحققين بثبوت حديث الطير وتحقق قصته... قال ابن حجر وغيره:
القول بوضعه باطل ورابعا: لقد تقدم قول السبكي في (طبقاته) بترجمة الحاكم: وأما
(هامش)
(1) أسنى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب: 69 - 71. (*)
ص 117
الحكم على حديث الطير بالوضع، فغير جيد وقول ابن حجر المكي في (المنح المكية):
وأما قول بعضهم: إنه موضوع، وقول ابن طاهر: طرقه كلها باطلة معلولة، فهو الباطل .
فلو كان الجزري قد قال بذلك كان باطلا. الجزري متهم بالمجازفة في القول وخامسا: إن
الجزري كان متهما لدى العلماء بالمجازفة في القول وبأشياء أخرى... كما لا يخفى على
من راجع ترجمته. فلو كان قد قال في حديث الطير ما زعمه الكابلي و(الدهلوي) فهو من
مجازفاته في القول. وإليك عبارة السخاوي بترجمته، المشتملة على ما ذكرنا: وقال
شيخنا في (معجمه)... خرج لنفسه أربعين عشارية لفظها من أربعين شيخنا العراقي، وغير
فيها أشياء ووهم فيها كثيرا، وخرج جزء فيه مسلسلات بالمصافحة وغيرها، جمع أوهامه
فيه في جزء الحافظ ابن ناصر الدين، وقفت عليه وهو مفيد. وكذا انتقد عليه شيخنا في
مشيخة الجنيد البلباني من تخريجه... ووصفه في (الإنباء) بالحافظ الإمام المقري...
ثم قال: وذكر أن ابن الخباز أجاز له، واتهم في ذلك، وقرأت بخط العلاء ابن خطيب
الناصرية: أنه سمع الحافظ أبا إسحاق البرهان سبط ابن العجمي يقول: لما رحلت إلى
دمشق قال لي الحافظ الصدر الياسوفي: لا تسمع من ابن الجزري شيئا. إنتهى. وبقية ما
عند ابن خطيب الناصرية: إنه كان يتهم في أول الأمر بالمجازفة، وأن البرهان قال له:
أخبرني الجلال ابن خطيب داريا: أن ابن الجزري مدح أبا البقاء السبكي بقصيدة زعم
أنها له، بل وكتب خطه بذلك، ثم ثبت للممدوح أنها في ديوان قلاقش. قال شيخنا: وقد
سمعت بعض العلماء يتهمه بالمجازفة في القول، وأما
ص 118
الحديث فما أظن به ذلك، إلا أنه كان راذا رأى للعصريين شيئا أغار عليه ونسبه لنفسه،
وهذا أمر قد أكثر المتأخرون منه، ولم ينفرد به. قال: وكان يلقب في بلاده: الإمام
الأعظم. ولم يكن محمود السيرة في القضاء... (1). حول نسبة القول بوضعه إلى الذهبي
قوله: قال إمام أهل الحديث شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي في تلخيصه
. أقول: تصريح الذهبي بأن للحديث طرقا كثيرة وأصلا أولا: قد عرفت سابقا تصريح
الذهبي بأن لحديث الطير طرقا كثيرة وأن له أصلا، بل إن الذهبي أفرد طرقه بالتصنيف،
وعرفت أيضا ذكر (الدهلوي) هذا في كتابه (بستان المحدثين)، وإقرار العقلاء على
أنفسهم مقبول وعلى غيرهم مردود. وعليه، فإن إقرار الذهبي بما ذكر يؤخذ به، ودعواه
وضع الحديث لا يعبأ بها، إذ ليست إلا عن التعصب والعناد، ويبطلها إقراره المذكور.
لكن العجب من (الدهلوي) كيف يحتج بكلام الذهبي الصادر عن البغض والتعصب، ويعرض عما
اعترف به في ثبوت الحديث وأن له أصلا؟ إنه ليس إلا التعصب والعناد... إذ يقبل كلام
الذهبي الباطل ولا يقبل كلامه الحق!!
(هامش)
(1) الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع 3 / 465. (*)
ص 119
رجوعه عن كلامه الذي استند إليه الدهلوي وسلفه وثانيا: لقد رجع الذهبي عما كان
يدعيه ونص على ذلك، فكيف أخذ (الدهلوي) بما قاله الذهبي في السابق، ولم يلتفت إلى
رجوعه وعدوله عنه؟ لقد قال الذهبي في (ميزان الاعتدال) ما نصه: محمد بن أحمد بن
عياض بن أبي طيبة المصري عن يحيى بن حسان. فذكر حديث الطير. وقال الحاكم: هذا على
شرط البخاري ومسلم. قلت: الكل ثقات إلا هذا، فإنه اتهمته به، ثم ظهر لي أنه صدوق.
روى عنه: الطبراني، وعلي بن محمد الواعظ، ومحمد بن جعفر الرافقي، وحميد بن يونس
الزيات، وعدة يروي عن: حرملة، وطبقته. ويكنى أبا علاثة. مات سنة 291. وكان رأسا في
الفرائض. وقد يروي أيضا عن: مكي بن عبد الله الرعيني، ومحمد بن سلمة المرادي، وعبد
الله بن يحيى بن معبد صاحب ابن لهيعة. فأما أبوه فلا أعرفه (1). فظهر أن الذي
قاله الذهبي - حول ما رواه الحاكم - كان قبل انكشاف حال محمد بن أحمد بن عياض -
عنده إذ رواته الآخرون ثقات، فلما ظهر له حاله وأنه صدوق - ورأس في الفرائض وهو نصف
الفقه - رفع اليد عما قاله، فالحديث عنده صحيح والحق مع الحاكم. فسقط اعتماد
الكابلي (والدهلوي) على كلام الذهبي السابق. قال السبكي وغيره: الذهبي متعصب متهور
وثالثا: ولو فرضنا أن الذهبي لم يعترف بالحق والأمر الواقع الصحيح في
(هامش)
(1) ميزان الاعتدال في نقد الرجال 3 / 465. (*)
ص 120
باب حديث الطير، وأنه ليس بين أيدينا إلا حكمه بوضعه... فالحقيقة أنه لا تأثير
لكلامه ولا قيمة له حتى يعتمد عليه في مقام رد هذا الحديث، لأن كبار المحققين من
أهل السنة لم ينظروا إلى كلامه في موارد كثيرة من الجرح والتعديل بعين الاعتبار،
لفرط تعصبه، حتى خشي عليه بعض تلامذته يوم القيامة من غالب علماء المسلمين... وإليك
شواهد من كلماتهم في هذا الباب: قال السبكي بترجمة أحمد بن صالح المصري: ومما
ينبغي أن يتفقد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح،
فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة فجرحه لذلك، وإليه أشار الرافعي بقوله:
وينبغي أن يكون المزكون برآء من الشحناء والعصبية في المذهب، خوفا من أن يحملهم ذلك
على جرح عدل أو تزكية فاسق، وقد وقع هذا لكثير من الأئمة، جرحوا بناء على معتقدهم
وهم المخطئون والمجروح مصيب. وقد أشار شيخ الإسلام، سيد المتأخرين تقي الدين بن
دقيق العيد في كتابه (الإقتراح) إلى هذا وقال: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار،
وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكام. قلت: ومن أمثلته قول بعضهم في
البخاري: تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ، فيالله والمسلمين! أيجوز
لأحد أن يقول: البخاري متروك؟ وهو حامل لواء الصناعة ومقدم أهل السنة والجماعة، ويا
لله والمسلمين! أتجعل ممادحه مذام؟! فإن الحق في مسألة اللفظ معه، إذ لا يستريب
عاقل من المخلوقين في أن تلفظه من أفعاله الحادثة التي هي مخلوقة لله تعالى؟ وإنما
أنكرها الإمام أحمد لبشاعة لفظها. ومن ذلك قول بعض المجسمة في أبي حاتم ابن حبان:
لم يكن له كثير دين! نحن أخرجناه من سجستان لأنه أنكر الحد لله. فليت شعري! من أحق
بالإخراج؟ من يجعل ربه محدودا أو من ينزهه عن الجسمية!
ص 121
وأمثلة هذا تكثر. وهذا شيخنا الذهبي من هذا القبيل، له علم وديانة، وعنده على أهل
السنة تحامل مفرط، فلا يجوز أن يعتمد عليه. ونقلت من خط الحافظ صلاح الدين خليل بن
كيكلدي العلائي رحمه الله ما نصه: الشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي لا شك في دينه
وورعه وتحريه فيما يقوله في الناس، ولكنه غلب عليه مذهب الإثبات ومنافرة التأويل
والغفلة عن التنزيه، حتى أثر ذلك في طبعه انحرافا شديدا عن أهل التنزيه وميلا قويا
إلى أهل الإثبات، فإذا ترجم واحدا منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن،
ويبالغ في وصفه ويتغافل عن غلطاته ويتأول له ما أمكن، وإذا ذكر أحدا من الطرف الآخر
كإمام الحرمين والغزالي ونحوهما لا يبالغ في وصفه، ويكثر من قول من طعن فيه، ويعيد
ذلك ويبديه ويعتقده دينا وهو لا يشعر، ويعرض عن محاسنهم الطافحة فلا يستوعبها، وإذا
ظفر لأحد منهم بغلطة ذكرها. وكذا فعله في أهل عصرنا إذا لم يقدر على أحد منهم
بتصريح يقول في ترجمته: والله يصلحه. ونحو ذلك. وسببه المخالفة في العقائد. إنتهى.
والحال في شيخنا الذهبي أزيد مما وصف، هو شيخنا ومعلمنا، غير أن الحق أحق أن يتبع.
وقد وصل من التعصب المفرط إلى حد يسخر منه، وأنا أخشى عليه يوم القيامة من غالب
علماء المسلمين وأئمتهم، الذين حملوا لنا الشريعة النبوية، فإن غالبهم أشاعرة، وهو
إذا وقع بأشعري لا يبقي ولا يذر، والذي أعتقده أنهم خصماؤه يوم القيامة عند من
أدناهم عنده أوجه منه. فالله المسؤول أن يخفف عنه، وأن يلهمهم العفو عنه، وأن
يشفعهم فيه. والذي أدركنا عليه المشايخ النهي عن النظر في كلامه، وعدم اعتبار
قوله... فلينظر كلامه من شاء ثم يبصر، هل الرجل متحر عند غضبه أو غير
ص 122
متحر، وأعنى بغضبه وقت ترجمته لواحد من علماء المذاهب الثلاثة المشهورين من الحنفية
والمالكية والشافعية، فإني أعتقد أن الرجل كان إذا مد القلم لترجمة أحدهم غضب غضبا
مفرطا، ثم قرطم الكلام ومزقه وفعل من التعصب ما لا يخفى على ذي بصيرة. ثم هو مع ذلك
غير خبير بمدلولات الألفاظ كما ينبغي، فربما ذكر لفظة من الذم لو عقل معناها لما
نطق بها، ودائما أتعجب من ذكره الإمام فخر الدين الرازي في كتاب (الميزان) وفي
(الضعفاء). وكذلك السيف الآمدي وأقول: يا لله العجب، هذان لا رواية لهما، ولا
جرحهما أحد، ولا سمع عن أحد أنه ضعفهما في ما ينقلانه من علومها، فأي مدخل لهما في
هذين الكتابين. ثم إنا لم نسمع أحدا سمى الإمام فخر الدين بالفخر، بل إما الإمام
وإما ابن الخطيب، وإذا ترجم كان في المحمدين، فجعله في حرف الفاء وسماه الفخر، ثم
حلف في آخر الكتاب أنه لم يتعمد فيه هوى نفس، فأي هوى نفس أعظم من هذا؟ فإما أن
يكون ورى في يمينه، أو استثنى غير الرواة. فيقال له: فلم ذكرت غيرهم. وإما أن يكون
اعتقد أن هذا ليس هوى نفس، وإذا وصل إلى هذا الحد - والعياذ بالله - فهو مطبوع على
قلبه (1). وقال السبكي بترجمة أحمد بن صالح: قاعدة في المؤرخين نافعة جدا، فإن
أهل التاريخ قد وضعوا من أناس أو رفعوا أناسا، إما لتعصب، أو لجهل، أو لمجرد اعتماد
على من لا يوثق به أو غير ذلك من الأسباب. والجهل في المؤرخين أكثر منه في أهل
الجرح والتعديل. وكذلك التعصب قل أن رأيت تاريخا خاليا من ذلك. وأما تاريخ شيخنا
الذهبي - غفر الله له - فإنه على جمعه وحسنه، مشحون بالتعصب المفرط، لا واخذه الله،
فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين، أعني
(هامش)
(1) طبقات الشافعية 2 / 12 - 15. (*)
ص 123
الفقراء الذين هم صفوة الخلق، واستطال بلسانه على كثير من أئمة الشافعيين
والحنفيين، ومال فأفرط على الأشاعرة، ومدح فزاد في المجسمة، هذا وهو الحافظ المدره
والإمام المبجل، فما ظنك بعوام المؤرخين (1). وقال السبكي - بترجمة الحسين
الكرابيسي، بعد الكلام في مسألة اللفظ -: فإذا تأملت ما سطرناه ونظرت قول شيخنا
في غير موضع من تاريخه: أن مسألة اللفظ مما ترجع إلى قول جهم، عرفت أن الرجل لا
يدري في هذه المضايق ما يقول، وقد أكثر هو وأصحابه من ذكر جهم بن صفوان، وليس قصدهم
إلا جعل الأشاعرة - الذين قدر الله لقدرهم أن يكون مرفوعا، وللزومهم للسنة أن يكون
مجزوما به ومقطوعا - فرقة جهمية. واعلم أن جهما شر من المعتزلة كما يدريه من ينظر
الملل والنحل، ويعرف عقائد الفرق، والقائلون بخلق القرآن هم المعتزلة جميعا، وجهم
لا خصوص له بمسألة خلق القرآن، بل هو شر من القائلين بالمشاركة إياهم فيما قالوه
وزيادته عليهم بطامات. فما كفى الذهبي أن يشير إلى اعتقاد ما يتبرأ العقلاء عن قوله
من قدم الألفاظ الجارية على لسانه، حتى ينسب هذه العقيدة إلى مثل الإمام أحمد بن
حنبل وغيره من السادات، ويدعي أن المخالف فيها يرجع إلى قول جهم؟ فليته درى ما
يقول! والله يغفر لنا وله، ويتجاوز عمن كان السبب في خوض مثل الذهبي في مسائل هذا
الكلام، وإنه ليعز علي الكلام في ذلك، ولكن كيف يسعنا السكوت، وقد ملأ شيخنا تاريخه
بهذه العظائم التي لو وقف عليها العامي لأضلته ضلالا مبينا. ولقد يعلم الله مني
كراهية الإزراء بشيخنا، فإنه مفيدنا ومعلمنا، وهذا
(هامش)
(1) طبقات الشافعية 2 / 22. (*)
ص 124
النزر اليسير الحديثي الذي عرفناه منه استفدناه، ولكن أرى أن التنبيه على ذلك حتم
لازم في الدين (1). وقال السبكي: زكريا بن يحيى بن... الساجي الحافظ، كان من
الثقات الأئمة... روى عنه الشيخ أبو الحسن الأشعري. قال شيخنا الذهبي: وأخذ عنه
مذهب أهل الحديث. قلت: سبحان الله، هنا تجعل الأشعري على مذهب أهل الحديث، وفي مكان
آخر - لولا خشيتك سهام الأشاعرة - لصرحت بأنه جهمي، وما أبو الحسن إلا شيخ السنة
وناصر الحديث وقامع المعتزلة والمجسمة وغيرهم (2). وقال السبكي - بترجمة الأشعري
-: وأنت إذا نظرت بترجمة هذا الشيخ - الذي هو شيخ السنة وإمام الطائفة - في تاريخ
شيخنا الذهبي، ورأيت كيف مزقها وحار كيف يضع من قدره، ولم يمكنه البوح بالغض منه
خوفا من سيف أهل الحق، ولا الصبر عن السكوت لما جبلت عليه طويته من نقصه، بحيث
اختصر ما شاء الله أن يختصر في مدحه، ثم قال في آخر الترجمة: من أراد أن يتبحر في
معرفة الأشعري فعليه بكتاب تبيين كذب المفتري لأبي القاسم ابن عساكر، اللهم توفنا
على السنة، وأدخلنا الجنة، واجعل أنفسنا مطمئنة، نحب فيك أولياءك ونبغض فيك أعداءك،
ونستغفر للعصاة من عبادك، ونعمل بمحكم كتابك، ونؤمن بمتشابه ما وصفت به نفسك.
إنتهى. فعند ذلك يقضي العجب من هذا الذهبي، ويعلم إلى ماذا يشير المسكين، فويحه ثم
ويحه، وأنا قد قلت غير مرة: إن الذهبي استادي، وبه
(هامش)
(1) طبقات الشافعية 2 / 119 - 120. (2) طبقات الشافعية 3 / 299. (*)
ص 125
تخرجت في علم الحديث، إلا أن الحق أحق أن يتبع، ويجب علي تبيين الحق، فأقول...
(1). وقال السبكي - بترجمة إمام الحرمين الجويني، بعد كلام عبد الغافر الفارسي -:
إنتهى كلام عبد الغافر، وقد ساقه بكماله الحافظ ابن عساكر، في كتاب التبيين. وأما
شيخنا الذهبي - غفر الله له - فإنه حار كيف يصنع في ترجمة هذا الإمام، الذي هو من
محاسن هذه الأمة المحمدية، وكيف يمزقها، فقرطم ما أمكنه، ثم قال: وقد ذكره عبد
الغافر وأسهب وأطنب... فيقال له: هلا زينت كتابك بها، وطرزته بمحاسنها، فإنها أولى
من خرافات تحكيها لأقوام لا يعبأ الله بهم... وقد حكى شيخنا الذهبي كسر المنبر
والأقلام والمحابر، وأنهم أقاموا على ذلك حولا، ثم قال: وهذا من فعل الجاهلية
والأعاجم، لا من فعل أهل السنة والأتباع. قلت: وقد حار هذا الرجل ما الذي يؤذي به
هذا الإمام، وهذا لم يفعله الإمام، ولا أوصى به بأن يفعل، حتى يكون غضا منه، وإنما
حكاه الحاكون إظهارا لعظمة الإمام عند أهل عصره، وأنه حصل لأهل العلم - على كثرتهم،
فقد كانوا نحو أربعمائة تلميذ - ما لم يتمالكوا معه الصبر، بل أداهم إلى هذا الفعل،
ولا يخفى أنه لو لم تكن المصيبة عندهم بالغة أقصى الغايات لما وقعوا في ذلك. وفي
هذا أوضح دلالة لمن وفقه الله على حال هذا الإمام - رضي الله عنه - وكيف كان شأنه
بين أهل العلم في ذلك العصر المشحون بالعلماء والزهاد (2).
(هامش)
(1) طبقات الشافعية 5 / 182. (2) طبقات الشافعية 6 / 203. (*)
ص 126
وقال السبكي بترجمة أبي حامد الغزالي: ذكر كلام عبد الغافر: وأنا أرى أن أسوقه
بكماله على نصه حرفا حرفا، فإن عبد الغافر ثقة عارف، وقد تحزب الحاكون لكلامه
حزبين، فمن ناقل لبعض الممادح وتال لجميع ما أورده مما عيب على حجة الإسلام، وذلك
صنيع من يتعصب على حجة الإسلام، وهو شيخنا الذهبي، فإنه ذكر بعض الممادح نقلا معجرف
اللفظ محكيا بالمعنى، غير مطابق في الأكثر، ولما انتهى إلى ما ذكره عبد الغافر مما
عيب عليه استوفاه، ثم زاد ووشح وبسط ورشح، ومن ناقل لكل الممادح، ساكت عن ذكر ما
عيب به، وهو الحافظ أبو القاسم ابن عساكر... (1). وقال السبكي - بترجمة الخبوشاني
-: وكان ابن الكيزاني - رجل من المشبهة - مدفونا عند الشافعي - رضي الله عنه -
فقال الخبوشاني: لا يكون صديق وزنديق في موضع واحد، وجعل ينبش ويرمي عظامه وعظام
الموتى الذين حوله من أتباعه، وتعصبت المشبهة عليه ولم يبال بهم، وما زال حتى بنى
القبر والمدرسة، ودرس بها، ولعل الناظر يقف على كلام شيخنا الذهبي في هذا الموضع من
ترجمة الخبوشاني فلا يحتفل به وبقوله في ابن الكيزاني أنه من أهل السنة، فالذهبي -
رحمه الله - متعصب جدا، وهو شيخنا وله علينا حقوق، إلا أن حق الله مقدم على حقه.
والذي نقوله: إنه لا ينبغي أن يسمع كلامه في حنفي ولا شافعي، ولا تؤخذ تراجمهم من
كتبه، فإنه يتعصب عليهم كثيرا... (2). وقال اليافعي في سنة 595: قال الذهبي:
وفيها كانت فتنة الفخر الرازي صاحب التصانيف، وذلك
(هامش)
(1) طبقات الشافعية 6 / 203. (2) طبقات الشافعية 7 / 14. (*)
ص 127
وحميت الفتنة، فأرسل السلطان الجند وسكنهم، وأمر الرازي بالخروج. قلت: هكذا ذكر من
المؤرخين من له غرض في الطعن على الأئمة وفي طائر جاءت به أم أيمن شعر بيان لمن
بالحق يرضى ويقنع. ثم أتبع ذلك بقوله: وفيها كانت بدمشق فتنة الحافظ عبد الغني،
وكان أمارا بالمعروف، داعيا إلى السنة، فقامت عليه الأشعرية، وأفتوا بقتله، فأخرج
من دمشق مطرودا. انتهى كلامه بحروفه في القصتين معا، ومذهب الكرامية والظاهرية
معروف، والكلام عليهما إلى كتب الأصول الدينية مصروف، فهنالك يوضح الحق البراهين
القواطع، ويظهر الصواب عند كشف النقاب للمبصر والسامع (1). وقال السيوطي في (قمع
المعارض في نصرة ابن الفارض): وإن غرك دندنة الذهبي، فقد دندن على الإمام فخر
الدين ابن الخطيب ذي الخطوب، وعلى أكبر من الإمام، وهو أبو طالب المكي صاحب قوت
القلوب، وعلى أكبر من أبي طالب، وهو الشيخ أبو الحسن الأشعري، الذي يجول ذكره في
الآفاق ويجوب، وكتبه مشحونة بذلك: الميزان، والتاريخ، وسير النبلاء، فقابل أنت
كلامه في هؤلاء، كلا والله لا يقابل كلامه فيهم، بل نوصلهم حقهم ونوفيهم . أقول:
وإذا كان هذا حال تعصب الذهبي بالنسبة إلى من خالفه في العقيدة من أهل السنة، فما
ظنك بحاله بالنسبة إلى من روى منهم شيئا في مناقب أهل البيت؟ وما ظنك بحاله بالنسبة
إلى علماء الإمامية؟ وما ظنك بحاله بالنسبة إلى الأئمة من العترة الطاهرة؟ من
تعصباته ضد أهل البيت ومناقبهم فلقد أورد في كتابه (ميزان الاعتدال في نقد الرجال)
الإمام جعفرا
(هامش)
(1) مرآة الجنان - حوادث 595. (*)
ص 128
الصادق، والإمام موسى الكاظم، والإمام علي بن موسى الرضا، عليهم السلام، وعددا
كبيرا من أبناء أهل البيت وذرية العترة الطاهرة... بل لقد جرح الرجل من أهل البيت
لا لشيء، بل لمجرد روايته الفضيلة من فضائل جده أمير المؤمنين عليه السلام...
فاستمع إلى قوله: الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله بن الحسين
ابن زين العابدين علي ابن الشهيد الحسين العلوي، وابن أخي أبي طاهر النسابة، عن
إسحاق الدبري، روى بقلة حياء عن الديري، عن عبد الرزاق بإسناد كالشمس: علي خير
البشر. وعن الدبري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن محمد بن عبد الله بن الصامت، عن أبي
ذر مرفوعا قال: علي وذريته يختمون الأوصياء إلى يوم القيامة. فهذان دالان على كذبه
ورفضه، عفا الله عنه (1). بل الأشنع والأفظع من هذا: ترجمته يزيد بن معاوية، من
غير أن يذكر ما ارتكبه بحق سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وريحانته،
الإمام الحسين الشهيد وأهل بيته عليهم السلام، فقد أعرض عن ذلك وكأنه لم يكن. أو
كأنه من الأمور السهلة والقضايا الجزئية التي لا تستحق الذكر... إنه قال في كتابه
(تذهيب التهذيب) ما نصه: يزيد بن معاوية، أبو شيبة الكوفي، عن عبد الملك بن عمير،
وعنه سعيد بن منصور. ذكر للتمييز. قلت: ويزيد بن معاوية الأموي، الذي ولي الخلافة
وفعل الأفاعيل سامحه الله. وأخباره مستوفاة في تاريخ دمشق، ولا رواية له. مات في
نصف ربيع الأول سنة 64 وخلافته أقل من أربع سنين، وعمره 39 سنة. قال نوفل بن
(هامش)
(1) ميزان الاعتدال في نقد الرجال 1 / 521. (*)
ص 129
أبي الفرات: كنت عند عمر بن عبد العزيز فذكر رجل يزيد بن معاوية فقال: قال أمير
المؤمنين يزيد. قال عمر: تقول أمير المؤمنين يزيد! وأمر فضرب عشرين سوطا. رواها
يحيى بن عبد الملك بن أبي عتبة أحد الثقات عن نوفل. ذكرته للتمييز (1). وأما طعنه
في الرجال والمحدثين الكبار من أهل السنة بسبب رواية مناقب أهل البيت عليهم السلام
فالشواهد عليه كثيرة... الأمر الذي جعل العلماء منهم إذا حقق فضيلة من فضائل أمير
المؤمنين عليه السلام نبه على أنه من أهل السنة، وأكد براءته من الشيعة والتشيع،
لئلا يرمى بالتشيع ويتهم بالخروج عن طريقة أهل السنة... ونحن هنا نكتفي بذكر كلام
العلامة الشيخ محمد معين السندي بعد إثبات عصمة أئمة أهل البيت عليهم السلام:
ومما يجب أن أنبه عليه أن الكلام في عصمة الأئمة إنما جرينا فيها على ما جرى الشيخ
الأكبر - قدس سره - فيها في المهدي رضي الله تعالى عنه، من حيث أن مقصودنا منه أن
قوله صلى الله عليه وسلم فيه: يقفو أثري، لا يخطأ لما دل عند الشيخ على عصمته،
فحديث الثقلين يدل على عصمة الأئمة الطاهرين رضي الله عنهم، كما مر تبيانه. وليست
عقدة الأنامل على أن العصمة الثابتة في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام توجد في
غيرهم، وإنما أعتقد في أهل الولاية قاطبة العصمة بمعنى الحفظ وعدم صدور الذنب، لا
إستحالة صدوره، والأئمة الطاهرون أقدم من الكل في ذلك، وبذلك يطلق عليهم الأئمة
المعصومون. فمن رماني من هذا المبحث باتباع مذهب غير السنة مما يعلم الله سبحانه
براءتي منه فعليه إثم فريته، والله خصيمه. وكيف لا أخاف الاتهام من هذا الكلام، وقد
خاف شيخ أرباب السير في السيرة الشامية من الكلام على طرق حديث رد الشمس بدعائه صلى
الله عليه
(هامش)
(1) تذهيب التهذيب - مخطوط. (*)
ص 130
وسلم لصلاة علي رضي الله عنه، وتوثيق رجالها، أن يرمى بالتشيع، حيث رأى الحافظ
الحسكاني في ذلك سلفا له، ولننقل ذلك بعين كلامه. قال رحمه الله تعالى لما فرغ من
توثيق رجال سنده: ليحذر من يقف على كلامي هذا هنا أن يظن بي أني أميل إلى التشيع،
والله تعالى أعلم أن الأمر ليس كذلك. قال: والحامل على هذا الكلام - يعني قوله:
وليحذر إلى آخره - أن الذهبي ذكر في ترجمة الحسكاني أنه كان يميل إلى التشيع، لأنه
أملى جزء في طرق حديث رد الشمس. قال: وهذا الرجل - يعني الحسكاني - ترجمه تلميذه
الحافظ عبد الغافر الفارسي في ذيل تاريخ نيسابور، فلم يصفه بذلك، بل أثنى عليه ثناء
حسنا، وكذلك غيره من المؤرخين، ونسأل الله تعالى السلامة من الخوض في أعراض الناس
بما لا نعلم والله تعالى أعلم. إنتهى. أقول: وهذا الجرح في الحافظ الحسكاني إنما
نشأ من كمال صعوبة الجارح وانحرافه من مناهج العدل والإنصاف، وإلا فالحافظ من خدمة
الحديث، بذل جهده في تصحيح الحديث وجمع طرقه وأسناده، وأثبت بذلك معجزة من أعظم
علامات النبوة وأكملها، مما يقر بصحته عين كل من يؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله
عليه وسلم. وكيف يتهم ونسب إلى التشيع بملابسة القضية لعلي رضي الله عنه؟ ولو صحح
حافظ حديثا متمحضا في فضله لا يتهم بذلك، ولو كان كذلك لترك أحاديث أهل البيت رأسا.
ومن مثل هذه المؤاخذات الباطلة طعن كثير من المشايخ العظام. ومولع هذا الفن الشريف
إذا صح عنده حديث في أدنى شيء من العادات كاد أن يتخذ لذلك طعاما فرحا بصحة قول
الرسول صلى الله عليه وسلم عنده، وأين هذا من ذاك؟ ولما اطلع هذا الفقير على صحته
كأنه ازداد سمنا من سرور ذلك ولذته. أقر الله سبحانه وتعالى عيوننا بأمثاله. والحمد
لله رب العالمين (1).
(هامش)
(1) دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب - مبحث العصمة. (*)
ص 131
قوله: نقلا عن الذهبي: لقد كنت زمنا طويلا أظن أن هذا الحديث لم يحسن الحاكم أن
يودعه في مستدركه، فلما علقت هذا الكتاب رأيت القول من الموضوعات التي فيه . أقول:
أولا: نقول (للدهلوي) الجسور: لقد صحفت لفظ لم يجسر بلفظ لم يحسن فأسأت
الفهم ولم تحسن النقل، وهذا دليل على طول باعك!! وثانيا: نقول للذهبي: إن قولك: لقد
كنت زمنا طويلا... اعتراف منك بأنك قد تهت زمنا طويلا في مهامة الجهل، ولم تقف على
كتاب المستدرك السائر في البلدان والأمصار، والمتداول بين خدمة الأخبار والآثار،
فلم كنت مع جهلك تزعم أن إدخال حديث الطير في المستدرك جسارة، وهل هذا الزعم منك
إلا خسارة وأي خسارة؟! ومع ذلك: فكيف تحكم وقت التعليق بالوضع على هذا الحديث
الشريف، ولا تأخذ بطرف من التحقيق، ولا تقبل قول الحاكم، ولا تحتفل بأنه من مرويات
الأساطين وأجلة المحدثين؟ كيف رميت الحديث بالوضع من غير دليل، فأرديت أتباعك
بالاضلال والتضليل؟ ولكن - لله الحمد - حيث أفقت من سكر التعصب والشنآن وغلبة البغي
والعدوان، فاعترفت في كتاب (الميزان) بالحق الصريح الواضح البرهان، كما اعترفت في
(تذكرة الحفاظ) بأن طرق هذا الحديث كثيرة جدا حتى أفردتها بمصنف مجدا. وثالثا: نقول
لأساطين العلم ومراجيح الحلم: أنظروا بعين الإنصاف تاركين للاعتساف، كيف سفر الحق
غاية السفور، ووضح نهاية الظهور، وبانت الطريقة الواضحة، واستنارت المحجة اللائحة،
حيث أقر مثل هذا الجاحد بتفريطه في أمر هذا الخبر الرفيع الأثير، وظهر الصدق قوله
تعالى *(فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير)*.
ص 132
كلام (الدهلوي) في الحاشية

وإذ عرفت بطلان ما قاله (الدهلوي) في متن (التحفة)
فلنبطل كلامه في الحاشية في هذا الموضع... قال في الحاشية: قالت النواصب: لقد كذب
أنس ثلاثا في قوله لعلي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم على حاجة... على ما في
كتاب المجالس للشيخ المفيد، فكيف يجوز قبول روايته لهذا الحديث؟ . وجوه الجواب عن
هذا الكلام أقول: قبل كل شيء: هل هذه الشبهة التي نقلها عن النواصب صحيحة وواردة
عند (الدهلوي) أو باطلة مردودة؟ إن قال بصحتها فقد قلد النواصب وألقى بنفسه وأتباعه
في دركات أسفل السافلين، وتلك عاقبة الذين ظلموا آل محمد ونصبوا لهم العداء إلى أبد
الآبدين... والمتيقن هذا الشق، لأن نقل القول والسكوت عليه دليل التسليم والقبول...
كما ذكر (الدهلوي) وتلميذه (الرشيد)... ويشهد بذلك جده وجهده في متن (التحفة) لأجل
رد حديث الطير ودعوى وضعه. وإن قال ببطلانها فلماذا ذكرها ولم يجب عنها؟ ثم إن
الأصل في هذه الشبهة هو الأعور الواسطي فإن كان مراد (الدهلوي) من النواصب
هو الأعور فمرحبا بالإنصاف وحبذا الائتلاف - ولا مانع من إطلاق النواصب
بصيغة الجمع عليه، لشدة عداوة الأعور ونصبه -.
ص 133
وكيف كان... فالشبهة - هذه - مندفعة بوجوه: كذب أنس موجود في روايات أهل السنة
الأول: إن كذب أنس في قصة حديث الطير ثلاث مرات لا اختصاص له بروايات الإمامية
للقصة، بل موجود في روايات أهل السنة أيضا كما عرفت في قسم السند... واعترف به
(الدهلوي) في (فتواه) المذكورة سابقا، وقد روى العيدروس اليمني قائلا: روي عن أنس
قال: كنت أحجب النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعته يقول: اللهم أطعمنا من طعام الجنة،
فأتي بلحم طير مشوي، فوضع بين يديه فقال: اللهم ائتنا بمن نحبه ويحبك ويحب نبيك.
قال أنس: فخرجت فإذا علي بالباب، فاستأذنني فلم آذن له، ثم عدت فسمعت النبي صلى
الله عليه وسلم مثل ذلك، فخرجت فإذا علي بالباب، فاستأذنني فلم آذن له - أحسب أنه
قال: ثلاثا - فدخل بغير إذن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما الذي أبطأ بك يا
علي؟ قال: يا رسول الله جئت لأدخل فحجبني أنس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لم حجبته؟ فقلت: يا رسول الله، لما سمعت الدعوة أحببت أن يجئ رجل من قومي فتكون له.
فقال صلى الله عليه وسلم: ما يضر الرجل محبة قومه ما لم يبغض سواهم. أخرجه ابن
عساكر (1). استدلال الإمامية بروايته من باب الإلزام والثاني: إن رواية أنس
مقبولة لدى أهل السنة، واحتجاج الإمامية بروايته إلزاما عليهم وإفحاما لهم صحيح
وتام... ولا يضر بذلك كونه عندهم فاسقا كاذبا... كما هو واضح...
(هامش)
(1) العقد النبوي والسر المصطفوي - مخطوط. (*)
ص 134
الفضل ما شهدت به الأعداء والثالث: إنه لا ريب في عداء أنس لأمير المؤمنين عليه
السلام، والشواهد على ذلك عديدة، منها موقفه منه عليه السلام في قصة الطائر - فإذا
روى شيئا في فضله ومنقبته قبل، لأن الفضل ما شهدت به الأعداء... ومن الواضح أنه لو
روى هذا الحديث عمر بن الخطاب أو أبو بكر لكان اعتباره أكثر والاعتماد عليه أشد،
وكان أدخل في الإلزام والإفحام. قال الشيخ رحمة الله السندي في بيان أمارات الحديث
الموضوع: منها إقرار واضعه به، وليس هذا قبولا لقوله مع فسقه، وإنما هو مؤاخذة
بموجب إقراره، كما يؤخذ بالاعتراف بالزنا أو القتل، ولذا جعل إقراره أمارة، لأنا لا
نقطع على حديثه بالوضع، لاحتمال كذبه في إقراره بفسقه، نعم إذا انضم إلى إقراره
قرائن تقتضي صدقه فيه قطعنا به، سيما بعد التوبة (1). رواية غير أنس من
الصحابة الرابع: إنه لم ينفرد أنس برواية هذا الحديث ليقال: كيف تعتمدون على رواية
الفاسق الكاذب. بل لقد رواه جمع غيره من الصحابة، وعلى رأسهم سيدنا أمير المؤمنين
عليه السلام. ومن رواته منهم: ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وسفينة مولى النبي، وأبو
الطفيل، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص، وأبو مرازم يعلى بن مرة... إذن، لقد
رواه غيره من الصحابة. بل إن رواية الأمير كافية للاحتجاج والاستدلال وقاطعة للسان
القيل والقال. * * *
(هامش)
(1) مختصر تنزيه الشريعة - المقدمة. (*)
ص 135
كلام آخر له في الحاشية وذكر (الدهلوي) في الحاشية وجها آخر لإبطال حديث الطير،
نتعرض له ونجيب عنه، لئلا يبقى شيء من ناحيته لم يتبين فساده في هذا المقام... لقد
قال (الدهلوي) في الحاشية هنا: قال السيد الحميري: - وفي طائر جاءت به أم أيمن *
بيان لمن بالحق يرضى ويقنع. - وقال الصاحب ابن عباد: - علي له في الطير ما طار ذكره
* وقامت به أعداؤه وهي تشهد - هذه الرواية تكذبها رواية أبي علي الطبرسي في كتاب
الاحتجاج عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام: إن الطير جاء به جبرئيل إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم حين كان جائعا، ودعا الله أن يشبعه انتهى. وجوه الجواب
عن هذا الكلام وهذا الوجه كسابقه - وكسائر كلمات (الدهلوي) - مردود... وبالرغم من
وضوح بطلانه وسقوطه لدى أولي الألباب وأصحاب الأنظار فإنا نفصل الكلام في رده وبيان
وهنه في وجوه: هذا الاعتراض يتوجه إلى روايات أهل السنة أيضا الأول: إنه لما كان
أهل السنة يروون هذا الحديث، وينص كبار علمائهم على صحته أو حسنه ويجعلونه حجة، فإن
عليهم الجواب عن هذا الاعتراض، لأن الإختلاف الذي أشار إليه (الدهلوي) موجود في
رواياتهم،
ص 136
ففي بعضها: أن الطير أرسلته أم سليم، وفي آخر: إنه أرسلته أم سلمة رضي الله عنها،
وفي ثالث: أنه جاءت به أم أيمن، وفي رابع: أنه جاء من الجنة... بل إن (الدهلوي) لما
ذكر الحديث قال: كان عند النبي صلى الله عليه وسلم طائر قد طبخ له أو أهدي
إليه... . وبالجملة، فإن روايات أهل السنة في كيفية مجئ الطائر إلى رسول الله -
صلى الله عليه وآله وسلم - وحضوره عنده مختلفة... وكما أن هذا الاختلاف غير قادح في
ثبوت الحديث لدى رواته ومصححيه ومثبتيه... من أهل السنة... فكذلك الإمامية. مقتضى
القاعدة الجمع كما في نظائر المقام وثانيا: إن هذا الإعتراض من (الدهلوي) يكشف عن
جهله بفنون الحديث وعلومه وقواعده، هذا الجهل الذي أدى به إلى الحكم بوضع الحديث
بمجرد اختلاف ألفاظه... لكن هذا لا يختص بهذا الحديث أو ببعض الأحاديث الأخرى، فإن
الاختلاف موجود في مئات الأخبار الحاكية للقضايا والحوادث والخصوصيات، ولا يقول أحد
ببطلان جميع تلك الأحاديث وكذب كل تلك الحوادث، بل يجمع بينها مهما أمكن على تعدد
الواقعة وأمثال ذلك من طرق الجمع، كما عرفت سابقا من تصريحات أساطين القوم. وهذا
الجمع المشار إليه ممكن هنا، بأن تكون الواقعة متعددة، فمرة جاء جبرئيل عليه السلام
بالطائر من الجنة، ومرة قدمته أم أيمن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. لا
منافاة بين مفادي شعر الحميري ورواية الاحتجاج وثالثا: لا منافاة بين مجئ أم أيمن
بالطير وقت الأكل، وبين مجئ جبرئيل عليه السلام به، إذ من الممكن أي يكون النبي صلى
الله عليه وآله وسلم سلمه
ص 137
إياها بعد مجئ جبرئيل عليه السلام به، ثم جاءت به إليه بعد ذلك. وأما ما وقع في
رواية المستدرك للحاكم من أن أم أيمن لما سألها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عن الطير قالت: هذا الطائر أصبته فصنعته لك فليس بمناف لما ذكرنا، لأن كلامنا
مسوق للجمع بين ما ورد في طرق أهل الحق، لا للجمع بين ما ورد من طرق أهل الخلاف ولم
يقع في رواية من روايات أهل الحق أن الطائر صنعته أم أيمن. إنتهى. قاله السيد محمد
قلي طاب ثراه. خلط وخطأ للدهلوي في المقام ورابعا: إنه لا دخل لشعر الصاحب ابن عباد
الذي ذكره بعد شعر السيد الحميري بالإختلاف، إذ لم يتعرض الصاحب في هذا البيت إلى
كيفية مجئ الطائر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليكون مدلوله مخالفا لشعر
الحميري أو لرواية الطبرسي في الاحتجاج. ومن هنا يظهر اختلاط الأمر على (الدهلوي)
مع أنه قد أدعى متانة بحوثه في هذا الكتاب في مقابلة أهل الحق. نتيجة البحث: سقوط
دعوى الوضع وقد تحصل إلى هنا - حيث تعرضنا لما ذكره (الدهلوي) في متن (التحفة)
وحاشيتها - سقوط دعوى وضع حديث الطير، وقد عرفت التنصيص من ابن حجر المكي وغيره على
بطلان هذه الدعوى. وهذا تمام الكلام مع (الدهلوي) في هذا المقام. والحمد لله وحده.
* * *
ص 139
مع العلماء الآخرين في أباطيلهم حول حديث الطير

ص 141
سقوط دعوى ابن طاهر

بطلان طرقه وكما بطل دعوى وضع حديث الطير، فقد بطل دعوى بطلان
طرقه كما عن ابن طاهر ومن تبعه... قال ابن حجر المكي في (المنح المكية): أما قول
بعضهم: إنه موضوع وقول ابن طاهر: طرقه كلها باطلة معلولة، فهو الباطل، وابن طاهر
معروف بالغلو الفاحش . والحمد لله الذي أظهر بطلان ما قاله ابن طاهر على لسان ابن
حجر الذي هو من كبار المتعصبين ضد الحق وأهله، لأنه المدافع عن معاوية والقائل
بخلافته والمؤلف في فضائله ومناقبه الأحاديث الموضوعة كتاب (تطهير اللسان والجنان).
وهو أيضا صاحب (الصواعق المحرقة) المشتمل على التعصب والعناد لأهل البيت وأتباعهم،
كما اعترف الشيخ عبد الحق الدهلوي، ورشيد الدين صاحب (إيضاح لطافة المقال) بذلك.
وبالجملة، فإن ما ذكره ابن طاهر باطل مردود، حتى لدى المتعصبين من أهل نحلته
وطائفته.
ص 142
ترجمة محمد بن طاهر المقدسي وكما وصف ابن حجر المكي محمد بن طاهر المقدسي بالغلو
الفاحش فقد أورده الذهبي في كتاب (المغني في الضعفاء) حيث قال: محمد بن طاهر
المقدسي الحافظ ليس بالقوي، فإن له أوهاما في تواليفه. وقال ابن ناصر: كان لحنة
وكان يصحف. وقال ابن عساكر: جمع أطراف الكتب الستة، رأيته بخطه وأخطأ فيه في مواضع
خطأ فاحشا (1). وفي (ميزان الاعتدال) بعد أن ذكر ما تقدم عن (المغني): قلت: وله
انحراف عن السنة إلى تصوف غير مرضي، وهو في نفسه صدوق لم يتهم، وله حفظ ورحلة واسعة
(2). وقال الحافظ ابن حجر: قال الدقاق في رسالته: كان ابن طاهر صوفيا ملامتيا،
له أدنى معرفة بالحديث في باب شيوخ البخاري ومسلم، وذكر لي عنه حديث الإباحة. أسأل
الله أن يعافينا منها، وممن يقول بها من صوفية وقتنا. وقال ابن ناصر: ابن طاهر يقرأ
ويلحن، فكان الشيخ يحرك رأسه ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وقال ابن عساكر: له
شعر حسن مع أنه كان لا يعرف النحو (3). وقال السيوطي: كان ظاهريا يرى إباحة
السماع والنظر إلى المرد، وصنف في ذلك كتابا، وكان لحنة لا يحسن النحو (4).
(هامش)
(1) المغني في الضعفاء 2 / 28. (2) ميزان الاعتدال في نقد الرجال 3 / 587. (3) لسان
الميزان 5 / 207. (4) طبقات الحفاظ: 452. (*)
ص 143
كذب قول جماعة: ذكره ابن الجوزي في الموضوعات ومن العجائب أن جماعة من أعلام القوم
يعزون إلى ابن الجوزي إيراد حديث الطير في كتاب (الموضوعات): قال الشعراني: البحث
الثالث والأربعون، في بيان أن أفضل الأولياء المحمديين بعد الأنبياء والمرسلين: أبو
بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - وهذا الترتيب بين هؤلاء
الخلفاء قطعي عند الشيخ أبي الحسن الأشعري، ظني عند القاضي أبي بكر الباقلاني. ومما
تشبث به الرافضة في تقديمهم عليا - رضي الله عنه - على أبي بكر رضي الله عنه حديث:
إنه صلى الله عليه وسلم أتي بطير مشوي فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي
من هذا الطير، فأتاه علي رضي الله عنه. وهذا الحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات،
وأفرد له الذهبي جزء وقال: إن طرقه كلها باطلة. واعترض الناس على الحاكم حيث أدخله
في المستدرك (1).
(هامش)
(1) فرية الشعراني على ابن الجوزي وفي هذه العبارة من الكذب والإفتراء والتدليس ما
لا يخفى: أما أولا: فإن الشعراني قد افترى على ابن الجوزي إيراد هذا الحديث في كتاب
الموضوعات، وهذه فرية قبيحة وكذبة واضحة، فإنه - بغض النظر عن عدم وجدان هذا الحديث
الشريف في هذا الكتاب رغم التفحص التام والتتبع
(هامش)
(1) اليواقيت والجواهر - المبحث الثالث والأربعون. (*)
ص 144
الدقيق في نسخته الخطية العتيقة - قد نص الحافظ العلائي وابن حجر المكي على أن ابن
الجوزي لم يذكر هذا الحديث في الموضوعات. فلو فرضنا أن الشعراني لم يراجع كتاب
الموضوعات، ولم ير عبارة العلائي، فهلا اعتمد على ابن حجر المكي الذي بالغ في مدحه
والثناء عليه في (لواقح الأنوار) كي لا يقع في مثل هذه الورطة؟! فرية على الذهبي
وأما ثانيا: فإنه قد افترى على الذهبي حيث نسب إليه القول بأن طرق هذا الحديث كلها
باطلة، لأن الذهبي ذكر أنه قد جمع طرقه وأنها تدل على أن للحديث أصلا، وقد تقدم نقل
عبارة الذهبي هذه عن (تذكرة الحفاظ) و(مقاليد الأسانيد) و(بستان المحدثين). وأيضا:
قد عرفت أن الذهبي في (ميزان الاعتدال) يصرح بأن رجال رواية الحاكم ثقات. تدليس
وتلبيس من الشعراني وأما ثالثا: فإن الشعراني ذكر اعتراض الناس على الحاكم حيث
أدخله في المستدرك، ولم يتعرض لوجه الإعتراض والجواب عنه. وقد عرفت أن أول
المعترضين هو الذهبي في (تلخيص المستدرك) ومنه أخذ من بعده... وكان وجه الإعتراض
اتهامه محمد بن أحمد بن عياض ... لكن الذهبي رجع عن هذا الاتهام في (ميزان
الإعتدال) وظهر له صدق الرجل مع تنصيصه على وثاقة غيره من رجال الحديث عند الحاكم،
فيكون قد صحح الحديث ورفع اليد عن اعتراضه... وكل هذا لم يتطرق إليه الشعراني، فهل
كان قد جهله؟! أو تجاهله ولم يشأ أن يتطرق إليه؟
ص 145
فرية محمد طاهر الفتني على ابن الجوزي وقال محمد طاهر الكجراتي الفتني: في
المختصر: اللهم ائتني بأحب الخلق إليك يأكل معي هذا الطير. له طرق كثيرة كلها
ضعيفة. قلت: ذكره أبو الفرج في الموضوعات (1). وهذه فرية... إذ أنه غير مذكور في
(الموضوعات). والعجيب أيضا: أن الفتني ينسب هذا إلى ابن الجوزي ليعتمد عليه في رد
هذا الحديث؟ وهو القائل عن ابن الجوزي في صدر كتابه ما نصه: ولعمري إنه قد أفرط
في الحكم بالوضع، حتى تعقبه العلماء من أفاضل الكاملين، فهو ضرر عظيم على القاصرين
المتكاسلين. قال مجدد المائة السيوطي: قد أكثر ابن الجوزي في الموضوعات من إخراج
الضعيف بل ومن الحسان ومن الصحاح... . فظهر أن النسبة كاذبة من أصلها. وعلى فرض
الصحة فإنه يرى ابن الجوزي مفرطا في الحكم بالوضع، وأن كتاب الموضوعات فيه أحاديث
صحاح أيضا. بل، لقد تعقب الفتني الهندي ابن الجوزي في بعض ما حكم بوضعه بأن الحديث
مما أخرجه الترمذي، فلا يحكم عليه بالوضع وإن ضعفه... فلو فرض ذكر ابن الجوزي حديث
الطير في الموضوعات لكان على الفتني أن يتعقبه، لكونه من أحاديث الترمذي في صحيحه،
لا سيما وأن الترمذي لم يحكم عليه بالضعف؟! فما الذي حمل الفتني على هذا الموقف من
الحديث غير التعصب؟!
(هامش)
(1) تذكرة الموضوعات: 95. (*)
ص 146
فرية القاري على ابن الجوزي وقال الشيخ علي القاري: رواه الترمذي وقال: هذا حديث
غريب. أي إسنادا أو متنا، ولا منع من الجمع. قال ابن الجوزي: موضوع (1). وهذه
فرية على ابن الجوزي، ولا يخفى أنه لم يقنع بدعوى ذكره إياه في الموضوعات بل نسب
إليه القول بأنه موضوع ... لكن أين؟ وفي أي كتاب؟! فرية الصبان على ابن الجوزي
وقال الشيخ محمد الصبان المصري مقتفيا أثر الشعراني: وأما ما أخرجه الحاكم في
مستدركه من أنه صلى الله عليه وسلم أتي بطير مشوي فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك
يأكل معي من هذا الطير، فأتاه علي. فهو - وإن كان مما تشبث به الرافضة في تفضيلهم
عليا - حديث باطل. ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وأفرده الحافظ الذهبي بجزء وقال:
إن طرقه كلها باطلة. واعترض الناس على الحاكم حيث أدخله في المستدرك (2). ويرد
عليه ما ورد على الشعراني، لكنه زاد عليه الحكم ببطلان الحديث، وهذا جزاف محض وعناد
بحت،.... فرية الشوكاني على ابن الجوزي وقال الشوكاني: اللهم ائتني بأحب الخلق
إليك يأكل معي هذا الطير. قال في المختصر: له طرق كثيرة كلها ضعيفة. وقد ذكره ابن
الجوزي في
(هامش)
(1) مرقاة المفاتيح - شرح مشكاة المصابيح 5 / 569. (2) إسعاف الراغبين في مناقب
النبي وأهل بيته الطاهرين: 169. (*)
ص 147
الموضوعات. وأما الحاكم فأخرجه في المستدرك وصححه واعترض عليه كثير من أهل العلم
ومن أراد استيفاء البحث فلينظر ترجمة الحاكم في النبلاء (1). ويرده ما ذكرناه في
الجواب عن كلمات من تقدمه. والحاصل: إن نسبة إيراد هذا الحديث في كتاب (الموضوعات)
أو الحكم بوضعه إلى ابن الجوزي لا أساس لها من الصحة، والذي أظن: أن هؤلاء لما
كانوا في مقام الطعن في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام مهما أمكنهم ذلك، عنادا
ولجاجا وتعصبا، وكانوا يعلمون أن ابن الجوزي قد أورد طرفا كبيرا من مناقب أمير
المؤمنين والعترة الطاهرة في كتاب (الموضوعات) فقد نسبوا إليه إيراد هذا الحديث في
الكتاب المذكور، رجما منهم بالغيب من دون مراجعة كتابه. لكنك قد عرفت أن الحافظ
العلائي وابن حجر المكي ينفيان أن يكون ابن الجوزي قد ذكر حديث الطير في
موضوعاته... مضافا، إلى أن هذا الكتاب موجود بين الأيدي، فمن يدعي فليثبت؟. حديث
الطير في كتاب العلل المتناهية نعم، لقد أورد ابن الجوزي حديث الطير في كتابه
(العلل المتناهية) وموضوعه الأحاديث الضعيفة بحسب السند - بزعم ابن الجوزي - والتي
لا دلالة لألفاظها على كونها كاذبة... أورده بطرقه الكثيرة وتكلم عليها... لكن هذا
لا يضر بمطلوب أهل الحق لوجوه: الأول: إن ابن الجوزي متعصب مفرط في أحكامه... وهذا
أمر ثابت من كلمات أكابر علماء أهل السنة. الثاني: إن ابن الجوزي لم يناقش في بعض
الطرق التي ذكرها. وإذا
(هامش)
(1) الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: 282. (*)
ص 148
كان طريق البحث والنقاش في بعض الطرق مسدودا على مثل ابن الجوزي كان إيراده هذا
الحديث في كتابه المذكور مجازفة، لأن الحديث حينئذ لا يكون مما يناسب الكتاب
موضوعا. والثالث: إن كثيرا من مناقشاته في رجال طرقه مردودة. والرابع: لو سلمنا
جميع مناقشاته، كان الحديث ضعيفا سندا، لكنك قد عرفت سابقا من كلمات أئمة القوم أن
اجتماع الطرق الضعيفة على حديث واحد يوجب تقوي بعضها ببعض، وبذلك يرتقي الحديث إلى
درجة الحسن... وعلى هذا، فإن مجرد هذه الطرق الكثيرة التي ذكرها ابن الجوزي وخدش
فيها - هي وحدها مع قطع النظر عن غيرها - تقتضي أن يكون الحديث حسنا لا ضعيفا.
الخامس: إن الوجوه السابقة التي ذكرناها لإثبات صحة حديث الطير وحسنه إذا انضمت إلى
هذه الطرق الكثيرة - المفروض ضعفها - بلغت بالحديث إلى مرتبة القوة والاعتبار. (*)
ص 149
خلاصة البحوث

ويتلخص البحث إلى الآن في نقاط: 1 - إن القول بوضع حديث الطير باطل،
أيا من كان قائله. 2 - دعوى قول أكثر المحدثين بوضعه لا أساس لها من الصحة. 3 -
دعوى قول ابن الجزري بوضعه لا يعبأ بها. 4 - دعوى قول الذهبي بوضعه كاذبة. 5 - دعوى
بطلان طرقه كما عن ابن طاهر ومن تبعه باطلة. 6 - دعوى جماعة ذكر ابن الجوزي إياه في
(الموضوعات) كاذبة. 7 - إيراد ابن الجوزي إياه في (العلل المتناهية) لا يضر بمطلوب
الإمامية.
ص 150
مع ابن تيمية الحراني

ولابن تيمية خرافات وأباطيل في تكذيب هذا الحديث الشريف نتعرض
لها بالتفصيل... لقد قال ابن تيمية المشهور بالعناد والعصبية في جواب العلامة الحلي
ما نصه، قال: الجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بتصحيح النقل. وقوله: روى الجمهور
كافة. كذب عليهم، فإن حديث الطير لم يروه أحد من أصحاب الصحيح، ولا صححه أئمة
الحديث. ولكن هو مما رواه بعض الناس كما رووا أمثاله في فضل غير علي. بل قد رووا في
فضائل معاوية أحاديث كثيرة، وصنف في ذلك مصنفات، وأهل العلم بالحديث لا يصححون هذا
ولا هذا . جواب قوله: لم يروه أحد من أصحاب الصحيح! وهذا الكلام كله أكاذيب
وأباطيل: إنه يقول: إن حديث الطير لم يروه أحد من أصحاب الصحيح فنقول له: إن
حديث الطير مخرج في صحيح الترمذي، وصحيح الحاكم، وصحيح النسائي - بناء على أن
الخصائص من سننه - فكيف يقال: لم يروه أحد من أصحاب الصحيح؟! جواب قوله: ولا صححه
أئمة الحديث ويقول ابن تيمية: ولا صححه أئمة الحديث. وهذا كذب وإنكار
ص 151
للحقيقة، لأن المأمون العباسي، وقاضي القضاة يحيى بن أكثم، وإسحاق بن إبراهيم بن
حماد بن يزيد وأربعين - أو تسعة وثلاثين - من كبار علماء عصر المأمون. وكذا أبو عمر
أحمد بن عبد ربه القرطبي، وأبو عبد الله الحاكم، وقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد،
وأبو عبد الله الكنجي الشافعي... يصححون - أو يسلمون تصحيح - حديث الطير... وهؤلاء
علماء متبحرون في علم الحديث... وهل ينكر ابن تيمية أن يكون هؤلاء من أئمة
الحديث؟!... نعم: إن من يقول الحق ويعترف بما ينفع أهل الحق لا يكون من أئمة الحديث
عند ابن تيمية وأمثاله من المتعصبين المعاندين للحق!! جواب قوله: ولكن هو مما رواه
بعض الناس ثم يقول: ولكن هو مما رواه الناس ... وكأنه يريد إيهام أن رواة حديث
الطير ومخرجيه شرذمة شاذة من آحاد الناس والعوام الجهلة... لكنا نسائل أهل العلم
والإنصاف، هل أن أمثال: أبي حنيفة، إمام المذهب الحنفي. وأحمد بن حنبل، إمام المذهب
الحنبلي. وعباد بن يعقوب الرواجني. وأبي حاتم الرازي. وأبي عيسى الترمذي. وأحمد بن
يحيى البلاذري. وعبد الله بن أحمد بن حنبل. وأبي بكر البزار. وأحمد بن شعيب
النسائي. وأبي يعلى الموصلي.
ص 152
ومحمد بن جرير الطبري. وأبي القاسم البغوي. ويحيى بن صاعد البغدادي. وابن أبي حاتم
الرازي. وأبي عمر ابن عبد ربه. والقاضي حسين المحاملي. وأبي العباس ابن عقدة. وعلي
بن الحسين المسعودي. وأحمد بن سعيد الجدي. وأبي القاسم الطبراني. وابن السقا
الواسطي. وأبي الليث الفقيه. وابن شاهين البغدادي. وأبي الحسن الدارقطني. وابن
شاذان السكري الحربي. وابن بطة العكبري. وأبي بكر النجار. وأبي عبد الله الحاكم
النيسابوري. وأبي سعد الخركوشي. وأبي بكر ابن مردويه. وأبي نعيم الأصبهاني. وأبي
طاهر ابن حمدان. وابن المظفر العطار. وأبي بكر البيهقي.